%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال لا للخصخصة لا للفيدرالية لا للعولمة والتبعية |
|||
---|---|---|---|---|
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين |
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |
رواية "عصر واوا" للروائي "فؤاد قنديل" :
إستشراف الهدير .. في ميدان التحرير
(3)
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة
21/9/2014
(5)
في الفصل الخامس ، "ينظّفنا" فؤاد قنديل تماماً من أي تاثيرات أو بقايا لفصول المحنة الإفتتاحية ، ويغوص بنا بعيداً في مياه الطمأنينة والسعادة الباردة المُنعشة ، ويضرب بأنامل رهيفة ورشيقة وحنون على أوتار الدافع الأعظم الذي يغشي كلّ ذكرى أليمة .. أوتار الغريزة الجنسية متمظهرة الآن في شكلها الأنقى والأروع وهو الحبّ الحيي الذي يرسم فؤاد مشهداً من أبدع مشاهده بين بطليه البسيطين : شريف وزوجته الحبيبة سلوى ، لم يعد روائيو الحداثة – داخلا وخارجا – قادرين على تصوير مشاهد الحب دون أن يُشركوا النصف الاسفل الوحشي من جسد الإنسان ، والمرأة كلّها – وهذه محنة يعاني منها الأخوة الإسلاميون الأصوليون – عورة !! وفي الغرب يسمّون مشاهد الجنس ممارسة الحب .. في حين أن ممارسة الحب لدى فؤاد قنديل كما يعرضها الآن أن يتعرّى القلب لا الجسد – الجسد الذي عليه أن يتحضّر ، طبعاً ، كما فعل شريف وسلوى حين أخذا حماماً جعل جلودهما زلقة وحساسة لأي لمسة مُكهربة تنغرز في القلب أوّلا - .. هذا الحبّ البسيط هو الذي افتقدناه في حياتنا فصار حتى حبّنا "غربيّاً" مادّياً وبلا مقدّمات .. وساعد على ذلك القهر والتعويز والهرولة حول حاجات البقاء الذي يحوّل الإنسان إلى أنبوب يمتد من المطبخ إلى المرحاض ، فينسى أعظم هبّة كرّم الله بها الإنسان وميّزه بها عن الحيوان وهي : الحبّ . نعم فارق الإنسان عن الحيوان هو أنّه يحبّ .. الإنسان حيوان رومانسي .. حيوان يُقبّل ويُغازل .. ويعتني بلذّته التمهيدية بدرجة أعظم من لذّة الذروة النهائية ، وحين يركّز على الذروة النهائية فإنه يهبط إلى منحدر العلاقة الحيوانية . وفؤاد هنا يعرض الحب البسيط العذب المباشر الحيي لناس – مثلنا – لم يتعلموا الحب "المتطوّر" .. حبّ بين إنسانين بسيطين : شريف وسلوى ، في حيّ بسيط من الأحياء العربيّة ، وليس حبّ الأفلام .. إنّه الحبّ "الطبيعي" لا "المصنّع" .. وتعاطف فؤاد يجعلك تعتبر حتى تعليقاته الوصفية الساخرة موقفاً حيادياً وحتى "مُنحازاً" لبطليه ، فقد دلّك شريف ظهر سلوى حتى اشتعل بالدم ، ودلّكت ظهره مطمئنة على عظام ظهره البارزة التي يمكن عدّها بالواحدة (ص 39) .. ارتدى شريف الملابس التي ارتداها ليلة الدخلة والتي لا يرتديها ابداً في غير هذا اليوم حتى لو اتسخت ملابسه .. وارتدت هي قميص نوم شفاف .. والإشارات خجول ، ولكنها مثيرة ، ولا يفهم الكثير من الكتّاب أنّ الإثارة تشتعل بلعبة "الإخفاء" لا "الكشف" :
(خرجت من الحمّام ترفل في ثوب شفاف ، لم يستطع أن يُخفي شيئاً مما تحته ، ولم يكن تحته غير قطعة واحدة مشهورة ، ما عدا ذلك اللحم الأبيض المتوهّج الذي يكاد يضيء) (ص 39) .
وشريف ينتظر قدوم سلوى يجلس مسترخياً في الشرفة ، ويشعل سيجارة ، فيجعل قنديل الطبيعة وحركة الأشياء تسترخي معه ، ويتعمّد أن يُلحم مظاهر انتعاشته النرجسية الفرديّة بأحاسيس غائرة عن نرجسية جمعيّة كامنة عصيّة على التعريف وعلى الفناء بالرغم من كلّ عوامل الخراب والدمار والتفسّخ . ويبدو أّن مشاعر الرهاوة في "الحبّ" على المستوى الفردي .. أي مشاعر الإنسان وثقته بأنه محبوب ، ويُحبّ ، من قبل "آخر" ، لها دور في إنعاش وديمومة حبّ الإنسان لبلاده ، وفي نظرته إلى ما يحيط به من مكوّنات الحياة اليومية خصوصا في الليل عندما يعود الفرد والجماعة والمدينة إلى "أرحامهم" بعد عراء النهار "الأبوي" الكاشف :
(جلس شريف مسترخياً في الشرفة وأشعل سيجارة .. أطلق نظراته على القاهرة الممتدة بلا نهاية ، وبدون صخب ، وهذا ما جعله سعيداً ببيته الذي يقع على أعلى قمة في القاهرة المسكونة .. "القلعة" حيث عبق التاريخ وأحداثه الجسام ، ومن بينها تتصاعد أنفاس العظماء ، ولازال وقع خطواتهم يتردّد في أبهاء النماذج المتألّقة للعمارة والحضارة الإسلامية .. أخذ شريف نفساً عميقاً وأحسّ بالزهو ... مساكين .. وجديرون بالشفقة أبناء الشعوب الوليدة ، لأنهم بلا جذور ولا تاريخ ولا مواقف شامخة ولا فنّ رفيع في الأدب والعمارة .. أمّا أبناء الشعوب التي تملك قدراً وفيراً من ذلك فإنهم يتدلّلون وينامون قريري العيون ويفشلون وهم مطمئنون إلى أّنه عند المنافسة سيتلاشى الجميع أمام الميراث الحضاري الضخم.
ها هي القاهرة عملاق يخور بعد أن آب للسكون والدعة .. بحر من الهياكل المُعتمة وقد طرّزتها الأضواء .. السيارات تدور وراء بعضها في الميدان بلا توقّف) (ص 40) .
حتى مراجعة شرف لعُقمه الذي حرمه من الأطفال ينظر إليه الآن بلا مرارة .. إنّ عقمه هو الـ "لكن" التي جعلها الله دودة في كلّ حياة ، وفي كلّ شعب ، وفي كلّ قرار ، وفي كلّ قمة ، لكي تبدأ على أساسها رحلة النهاية ... طالت أم قصرت . إنّه يهادنها بعد أن تأكّد أن العيب منه وجرّب كلّ شيء ، فألقى الوزر على إرادة الله .. هي شكل من أشكال الـ "لكن" صُمّمت لحياته لتخز سعادته وتمنع اكتمالها لأن الكمال من اختصاص الله . الكمال موصل إلى الموت . وتهون الطعنة على كبرياء ذاته الجريحة لأن الأطباء شخّصوا إصابة سلوى بتضيّق في الشريان التاجي الذي قد يتسبّب في موتها عند الحمل والولادة ! وهو لا يريد فقدان هذه الإنسانة الغالية ، الإنسانة التي سبقتها الآن رائحتها وهي تهفو كملاك وتضع يديها على عينيه :
(قالت : من ؟
قال : عم فريد ..
ضحكت وعانقته .. لقد جاءت بالضبط عندما كان يناقش أو على الأصح لا يناقش للمرة الألف قيمتها عنده ثم يعلن بإجماع كلّ أصواته تفضيلها على الدنيا كلّها .
أخذ عدّة أنفاس متلاحقة من سيجارته ليتفرّغ للسيجارة الكبرى ؛ السيجارة التي لا يملّ من تنفّسها والإستمتاع بدخانها) (ص 42) .
الآن جلست على فخذيه وأطلّت في عينيه ، فألفت قلبه ينتظرها على باب حبّه ، وحبّه قصر اسطوري يستعد لاستقبالها ويُغلق إلى الأبد عليها أبوابه ..
وإذا كان جدّنا جلجامش قد قال بأنّ الأمير والفقير يتساويان في حضرة الموت ، فإنّ هناك حالة واحدة مكمّلة يتساوى فيها الطرفان وهي : حضرة الحبّ .
وبدو أنّ مشاعر الفخامة والإنتعاش النرجسي مرافقة لصحوة موجات الحبّ والإحساس بالأفضلية في أحضان المرأة الأم المطمئنة التي تهب بلا حدود ، فالأصل الأنموذج لكلّ حالة حبّ في الكون هي محبة الأم لطفلها .. وهذا الطفل يستعيد تلك النومة المسترخية التي لا تليق إلّا بأمير وسط مويجات الرحم الأمومي المُنعم . لكن في الحقيقة فإن في حضرة الحبّ التي يعرضها فؤاد قنديل يكون كلا الطرفين "فقيرين" .. وما الإحساس بالإمارة إلّا انعكاس لغيبوبة تتكفّل بها تلك النشوة الغامرة التي توحّد الوجودين وتلغي الفواصل كافة مهما كان نوعها . و "نوع" الحبّ الذي يضمن هذا الإحساس بالوحدة والتساوي مع انتفاخ المشاعر النرجسية والذي يعرضه فؤاد قنديل هو – كما قلت – "الحب البسيط" قبل أن تخرّبه المدنيّة وعواء الأجساد في ظلّ العولمة . لاحظ – من جديد - كيف تكون حتى الإحالات المشوبة بالتهكّم الخفيف وكأنّها جزء من جماليات التجربة يُعتد بها وتكتمل عن طريقها الصورة المُحبّبة للممارسة الحبّية الدافئة . ولنبدأ بمقارنة الشفاه :
(تأمّل شفتيها . كانتا كقلب عاشق مضغوط ، تصوّر أن شفتها العليا ذات أجنحة وأنها توشك أن تطير . تأمّلت شفتيه كي تهجم عليه وتقبله ، لعلها ترفع درجة حرارته التي لا تزال اقل من المعدّل المناسب في عصر ما بعد رؤيتها مزيّنة ومعطّرة . كانت شفتاه رفيعتين جدّاً كشقّ فتحه الطبيب تحت أنفه ، لكنها تحبهما وتشتاق إليهما ، وترى أنّهما شكل مُبتكر من أشكال الشفاه) (ص 44) .
كل نقص يغفره ، بل يصحّحه ، الإحساس بالإمتلاك والإطمئنان والتحكّم والتكامل . وحال الأنف مثل حال الشفاه ، يعطّل ليشعل ويطيل التأمّل واللهفة ، يؤنسنه الكاتب في إهاجته كرمز للّقاء العاصف المؤجّل خصوصاً حين نعلم أن الأنف له نفس التركيب النسيجي التشريحي الذي للقضيب كما أثبت ذلك العلم ، ويجسّده حين يلعب على مكوّن "جيوبه" ليوهمنا بحساب تقليدي لـ "جيوب" أخر :
(قبّلته متفادية بمهارة أنفه الطويل الذي كان يتدخّل دائماً للحيلولة دون وقوع أي لقاء من هذا النوع ، لأنه فيما يبدو كان يدرك مسبقاً ما الذي سيحدث له ولصاحبه بعد هذه اللمسة السحرية ... كان يعلم بفضل إلهامات فطريّة كإلهامات النساء أن الأنف هو الذي يدفع ثمن هذه اللحظات .. لا الجيوب كما يُشاع) (ص 43) .
ثم يقدّم لنا قنديل الحكمة الخلاصة في مجال الحبّ البسيط القادر على حفظ توازن الكرة الأرضية لو وفّرنا له الديمومة ورعيناه ، وذلك حين تضع سلوى رأسها على صدر شريف وتشمّ رائحة رجولته وتسأله إن كان يعرف ما هو المهر الحقيقي للمرأة ، وحين يجيبها بالنفي ، تعلن حكمتها العظيمة :
(أن يكون الزوج باعثاً على الطمأنينة ، قادراً على تحقيق الأمان ..
هذا هو ما يُسعِد امرأة الخفير وامرأة الأمير ) (ص 43) .وهنا أيضاً يُدخل قنديل طرف المعادلة المرعب والأثقل القادر بإيحاءاته فقط ، وليس بحضوره الفعلي ، على تنغيص أي متعة بشريّة ، وعلى إفساد لحظات الأمان الإنسانية كلّها : الموت . فها هي سلوى تتنهّد ، وقد شعرت براحة لا متناهية لهذا الأمان الإنساني اللذيذ ، والذي تتوجّس من عمره القصير . في ذروة الضحك المدوّي يتذكّر الإنسان ويتحسّب وكأنّه أخطأ فيدعو الله أن يجعل هذه النوبة المفرحة الصاخبة تمرّ بخير .. وكأنّه قد ارتكب إثماً كبيرا ! الأديان كلّها تحذّر من الضحك والمزاح بل حتى من الفرح وكأنّ الإنسان يقترف ذنباً هائلاً لا يُغتفر ! في أحشاء كل لحظة سعادة يتمطّى اللاشعور ويشهق متسيّداً بدوافعه المعروفة التي لا تعرف لجاماً .. هل تذكّرنا لحظات الفرح الشديد بلحظة الظفر الأولى والأصل في تأريخنا التي انتزعها آدم وحوّاء عندما تفتّحت عيونهما وأكلا من الثمرة المحرّمة ؟! هل أنّ الفرح الغامر ينسي الإنسان "الغاية" الوجودية الكبرى والوحيدة التي خُلق من أجلها وهي أن يموت ؟! إلهذا نتوجّس الآن مع سلوى من الفرح لأن عمره قصير ؟ ولأنّه يبعدنا عن الإرادة المرجعية الحاكمة التي – كما تقول " سيدوري " (صاحبة الحانة) - عندما خلقت البشر وزّعت الأنصبة فكتبت على الإنسان الموت وللآلهة الخلود ؟! هذه المراوحة الأليمة يزج بها قنديل عفويّاً ليثبت أنّ "التفلسف" الحقّ منبعه ليس دماغ الفلاسفة الثخين بل مخاوف القلوب المُحبّة القلقة وتحسّبات الأرواح الهشّة ، ويفلح في التعبير عنها ليس بالحكم والأقوال والمأثورات والتعبيرات الشعرية " الماركيزية " الطويلة والعريضة عن أسرار الكون وأبعاد المصير ، ولكن عبر ملاحقة المتغيّرات البسيطة في الطبيعة والمحيط المباشر ، فإذ يستمتع شريف وسلوى بتأمل المساء الذي صفا وتطهّر بسرعة من أدران الهياج البشري ، تلوح لهما في الأفق البعيد بعض النجوم وهي تحاول أن تخفي سقوطها السريع (ص 44) .. وحين يتذكر إصابة عينيه وذراعه اليسرى في معركة الخبز ، يكبر البدر الصغير وتتيح له الغيوم فرصة كي ينير ليلة من يتعطشون للضوء المسائي الشاحب .. هكذا يرسم صورة الصراع الكوني بين إرادة الموت وإرادة الحياة من خلال هذا الإنصهار المُبارك بين قلبين صغيرين وبسيطين . وكلّما كانت الحركة الحبّية والتقرّب الحسّي بسيطاً كلّما كانت حرقة الفقدان أعلى وطعنتها أمضى :
(وقف شريف بنظراته على خدّيها المتوترين بالشوق .. قبّل الخدّ الأيمن وتوقف ليتذوّق ، فأشارت له على خدّها الأيسر :
-هذا سوف يغضب.
قبّله بعناية خاصة حتى لا يغضب حقيقة . ثم عاد وقبّل الأيمن حتى يتحقّق العدل) (ص 44) .
وليس عبثاً أنّ الفيلسوفة "سيدوري" وهي فيلسوفة بحقّ قد دعت جلجامش إلى أن يدع رحلة البحث عن الخلود ، ويترك القلق من الموت ، ويعود ليحتضن زوجته .. الحبّ والزواج هو أعظم البلاسم التي تقدّمها الحياة لمواجهة قلق الموت وتأمين الإمتداد الخلودي الذي جعل الإنسان يخطىء في الفردوس الأول وهو تحت أنظار خالقه وبالرغم من تحذيراته . حينما يجد الأنا "أناه" في "أنا" الآخر تنطفىء – وإلى حدّ كبير كل نيران الخوف من الفناء ، وتتعزّز في الروح إرادة البقاء :
(سألته بوله : هل يمكن أن نعيش العمر كلّه هكذا يا "أنا" ؟
أجابها شريف متطلّعاً إلى السماء :
لن يسمح الله بذلك يا "أنا"
سألته : وماذا سيفعل ؟
قال : سيأمر النهار بالطلوع .
تململت قائلة : أنا لا أحبّ النهار .. الليل أجمل .
شرد قليلاً ثم قال :
-كانت كلمة الخلود إلى وقت قريب كلمة وهمية أو مجازية لكن حينما يجمعنا الليل معاً في مثل هذه الأوقات أشعر شعوراً عميقاً بطعم الخلود) (ص 44 و45) .
ولكي لا يُتّهم فؤاد بالتعالي الثقافي ، وأنّه "يتثاقف" على العالمين وهو المرض السردي الحداثوي الذي حذّرنا منه قبل قليل (ولاحظ عبقرية اللغة العربية المظلومة : فثقِفَ الخلُّ اشتدت حموضته وصار حرّيفاً لاذعاً ) ، فإنه يلتفت هو نفسه إلى المأزق الذي وضع فيه بطلته الإنسانة المصريّة البسيطة "سلوى" فيسارع إلى القول وبعفوية منسابة مع تيّار النصّ الهادىء ويقول :
(ارتاحت بإحساسها فقط لكلماته ، دون أن تعي تماماً مدلولها ، أمّا هو فكان يحسّ أنّه لا يملك معها إلّا أن يكون رومانسياً رقيقاً يحمل قلبه دائماً على كفّه ويقرأ لها منه) (ص 45) .
ومن جديد يراوغ فؤاد قنديل بمكر في التعبير عن الحقائق الوجودية الكبرى من خلال التصرّفات العاديّة وحتى الساذجة لبطليه ، ليمرّر خلف استار هذه الأفعال البريئة التي تعبّر عن غفلة القلوب العاشقة وإصرارها العذب على نسيان أو تناسي الملثّم المكروه الرابض خلف الباب ، نزوعنا اللاهث والأبدي نحو الثبات والبقاء والعصيان على الفناء . يتجلّى ذلك – ودون أن نعلم – في أدقّ سلوكياتنا التي قد تأخذ شكل اللعب الطفلي الذي بلا طائل بالرغم من مظاهر رشدنا وتنفّجاتنا نضجنا العقلي . ففي حديقة الحرّية ذكّر شريف سلوى بالشجرة التي حفر عليها اسميهما أيام الخطوبة والحب ، ثمّ عادا بعد شهرين ليجدا
(أن المسؤولين عن الحديقة قد اجتثوا الشجرة وأخفوا كل آثار الخطوط النزقة وأقاموا مكانها نافورة .. فحاول لاشعورهما الإلتفاف على ضربة المُثكل المُصنّعة فـ "تأمّلا النافورة وهما يتصوّران اسميهما بذرّات الماء الفضّية) (ص 45) .
وللأسف ، لا يدرك الناس عندنا بسبب انرباطهم إلى طاحونة البقاء الحجرّية المدوّخة أن حياتهم كلّها ما هي إلّا هذا الصراع الدائب الهادىء والعنيف ، المستتر والمعلن ، الباطن والظاهر ، بين الموت والحياة ، وأنّ الطغيان ما هو إلّا ممثل للموت والخراب . بعد أن تأكّد شريف أنّ الشجرة – إبنة الطبيعة ورمز الإلهة الأم كما يصفها الباحثون الأسطوريون – ما هي إلّا أداة هشّة غير قادرة على الدفاع عن نفسها ، ولا حفظ اسميهما "الخالدين" ، لجأ إلى "الحديد" .. فأي حديدة الآن في ظل حضارتنا "العظيمة" هي أكثر خلوداً وعصياناً من أي مكوّن طبيعي .. لا شجر ولا نهر ولا جبل يقف أمام الهياج التحضرّي البشري المزعوم . قرّر شريف – كما يقول لسلوى - أن يسجّل اسميهما على شيء "لا يستطيعون هدمه أبداً ولا حذفه" ! .. قرّر أن يخطّ اسميهما على حديد الجسر ، مستخدماً ملقاط شعر حبيبته . ويصمّم الروائي نوعاً من الإحتفاء الجمعي المبسّط للإحتفاء بهذه الخطوة التي سيقدم عليها شريف .. إحتفاء تشارك فيه الطبيعة والبشر في إحساسهما بالقدرة على الديمومة والنماء ، فقد كانت تحيط بهما وهما يتهاديان في موكب البهجة على كوبري قصر النيل ، النسمات العفيّة التي تشرب من النهر ، وتهجم على المارّة فترفع ثياب النساء ، وتقضم آذان الرجال ، وتحمل الأطفال حملاً على العدو والفرح (ص 46) . ووسط هذا الإحتفاء الكوني المصغّر بالولادة المتجدّدة ، وثبات "الإسم" – والإنسان بلا إسم محض وجود "لحمي" ، والإسم هو الذي "يقولبه" ويمنحه ملامحه الشخصية – قام شريف :
(بحفر الإسمين داخل قلب واحد وسهم كيوبيد يمرّ به ، والحبّ يسيل قطرة قطرة ولكنه كفيل بإغراق الآخرين) (ص 46) .
فمن قال بأن جريان الدم رمز للموت دائماً ؟! إنّه "فداء" الحياة وأضحية النزوع الحمايوي الذي نلهث خلفه طوال أعمارنا .
ولكن حتى هذا الإجراء "الحديدي" المُتحسّب لم يكن فاعلاً في تأمين الحماية للإسمين / الوجودين ، في التحامهما الناجز . فبعد شهر حملهما التسكّع والبحث فوق النيل إلى أن يمرّا على سجل الخلود الذي نقشا فيه اسميهما :
(فلم يستطيعا تحديد مكان الصفحة الحديدية التي ستذكّر القرون القادمة بعاشقين تعاهدا بكل عمق الحبّ على مقاومة الزمن والظروف ، والحياة إلى الأبد برغم الحياة والموت) (ص 46) .
لكن يد الفناء القاسية امتدت من جديد ، ومسحت أثر وجوديهما الصغير ؛ كان لون الكوبري أخضر والآن هو أحمر . لم يعثرا أبداً على الإسمين ولا على القلب ولا حتى على سهم كيوبيد .. أُعيد طلاء الكوبري وتغطّى تماماً كلّ ما كان به من ندوب أو خدوش أو قلوب تبحث عن نافذة وهميّة لحياة مختلفة (ص 47) . هكذا هي حياتنا .. ضربة ألم وتربيتة وداعة وحنان .. دمعة وابتسامة .. حزن وفرح .. صرخة عذاب وتنهيدة شوق .. شهقة احتضار وزعقة وليد .. صراع الفناء ضد الخلود .. قلق وأمان .. وأعظم تعريف للحرّية الإنسانية هو " الحياة بلا قلق " .. وفي مجتمعاتنا الحقيرة القائمة على القهر والإستلاب والتغريب والمهانة لا يوجد مكان تستطيع التمتّع به بحريّتك الشخصية وتحيا بلا قلق غير غرفة النوم أو المرحاض .. وحتى هذه بدأ رجال الدين الجُدد الأشاوس يدخلونها معنا كي يعلموننا كيف " ننيك " زوجاتنا "على الطريقة الإسلاميّة" !
فلسفة غرفة النوم التي أوصلنا فؤاد إليها الآن هي فلسفة الحياة .. فلسفة سيدوري .. فبعد أن استعرض شريف أمامنا فشل كلّ محاولات حفظ "ذكرى" قلبين وخلودهما على الخشب والحديد ، قال في حركة إيهامية توريطيّة تبدو لك وكأنها تجري أمام الناس على الكوبري :(نهضا وتعانقا أمام العالم ، ثم مضيا إلى الداخل .....
هي إلى المطبخ ، وهو إلى حجرة النوم) (ص 47) .
جاءت بالموز واليوسفي ، وأسعدها أن تجده قد عثر على اللحن الذي يتسق مع لحظات خالية من الزمن .
وقفة :
------
لقد قال جلجامش لسيّدة الحانة وقد سألته عن سرّ (الحزن الذي يغمر قلبه وعن خدّيه الغائرين ، ووجهه الذي هو كوجه مسافرٍ آتٍ من بعيد ، يعاني البرد والحر في ملامحه ؟!) :
(صديقي ،
الذي أحبّه تحوّل إلى طين ،
فهلّا يكون عليّ أيضاً أن أرقد مثله ،
بحيث لا أقوم بعد ذلك إلى الأبد وأبد الأبد ؟ (...)
منذ أن ذهب لم أجد الحياة،
فرحتُ اتجوّل كصيادٍ وسط السهوب .
والآن أيتها السيّدة ، وقد رأيتُ وجهكِ ،
لا تدعيني أرى الموت الذي أرتاع منه)
وتجيبه المرأة الساقية ، واسمها كما هو معروف "سيدوري" (أي "الشباب الدائم" ولاحظ عبقرية المؤلّف)، تجيب جلجامش :
(إلى أين تهيم يا جلجامش ؟
فالحياة التي تبحث عنها لن تجدها .
لأن عندما خلقت الآلهة جنس البشر ،
وضعوا إلى جانب البشر الموت ،
وأبقوا الحياة في أيديهم لهم هم ،
أمّا أنتَ يا جلجامش فاملأ أحشاءك ،
إجعل كلّ يوم من أيّأمك عيد فرح .
إغسل رأسك ، ونظّف بدنك بالماء .
أعطِ اهتمامك للطفل الممسك بيدك .
واجعل زوجتك تتمتع في أحضانك .
ذلك هو قدر الجنس البشري )
وهو (طرح فلسفي عميق ، يصلح لكل العصور والمجتمعات ، فهل هناك خلاص من عبثية الموت ، عبثية الموت كقدر لكل الناس ؟ لقد أجابت المرأة بحكمة وواقعية . وجوابها كان لسان حضارة كاملة ينطق من فم وعي التجربة الإنسانية . وقد ضخّم مؤلّف الملحمة المشاق والدوافع التي واجهت جلجامش ليبرز أهمية هذا الجواب البسيط الذي يكون بمتناول كل إنسان على السواء : "إنّه قدر الجنس البشري") (3) .
د. حسين سرمك حسن
إقرأ للكاتب أيضا :
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
|
---|