%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال لا للخصخصة لا للفيدرالية لا للعولمة والتبعية |
|||
---|---|---|---|---|
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين |
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |
مظفّر النوّاب : (11)
العالمية تبدأ من معاناة الإنسان العراقي
د. حسين سرمك حسن
يقول الشاعر الصيني " وو كياد " في توضيح الفرق بين الشعر والنثر ، معبرا عن ذلك بالبلاغة البوذية المركزة والمكثفة ، وبفن التشبيه المعروف الذي يشتق من حكمة الطبيعة التي تغنيها عن الكثير من الإطالات التفسيرية والاستطالات الكلامية :
" إن رسالة الكاتب مثل الأرز ، عندما تكتب نثرا فإنك " تطبخ " الأرز، وعندما تكتب الشعر فإنك تحول الأرز إلى نبيذ . طهو الأرز لا يغيّر شيئا من شكله ، لكن تحويله إلى نبيذ يغير شكله وخصائصه . الأرز المطبوخ يجعل المرء يشبع ، ويحيا حياة كاملة . النبيذ من جهة أخرى يجعل المرء ثملا ، ويجعل السعيد حزينا والحزين سعيدا . إن أثره ، وبكل رفعة ، يقع خارج الشرح " . ومظفر النواب هو من صنف الشعراء الذين يحوّلون الأرز إلى نبيذ ؛ إلى خمرة كونية تجعل الحزين سعيدا في كل حال لكنها عندما تفرط في همّها الذاتي تجعل السعيد حزينا في أقل الأحوال . لكن حتى في أشد حالات الإفراط يكون هذا الحزن راتعا وسط واحة من الفرح والبهجة التي تتعدى في كثير من الحالات نطاق الوجود الفردي لتشمل حركة الكون ومفردات الطبيعة . والنواب يبذل جهدا هائلا في الصبر ليس على " تخمير " القصيدة مبنى ومعنى حسب ، بل على تخمير المفردة الواحدة ، وأحيانا الحرف الواحد . وهذا الصبر المتطاول المحسوب ، ينتج لنا أروع أنواع الخمور الشعرية الساحرة ؛ خمور مذهلة ترفعنا إلى سماوات قصية من النشوة الصوفية المترفعة عما هو يومي يحاول الإمساك بأذيال وجودنا وسحبنا إلى منخفضات الأرضي المبتذل . قبل النواب لم يكن أي شاعر ينظر إلى القصيدة على أساس أنها نوع من الاحتفاء الكوني ؛ عيد كوني ؛ أو غبطة كونية حسب تعبير الشاعر " أوكتافيو باث " الذي قال في كتابه " الشعر ونهايات القرن " :
( لا شيء أكثر جاذبية لبعض العقول من التلخيصات الشاملة والتفسيرات العامة للعلم ، كما قال ماركس ، وكان يومها يتحدث عن الدين ، دون أن يعرف أنه كان يتنبأ بما سيؤول إليه مذهبه ذاته في القرن العشرين ، ولكنها ليست المرة الأولى في التاريخ التي يتعرض فيها الشعر للتشويه والبتر على يد الاطلاقية الحسابية للأصولية . إن " شيه شينغ " المختارات الشعرية العظيمة التي تنسب إلى كونفشيوس تحتوي العديد من قصائد الحب التي كثيرا ما تجعل الشعر الإسباني الحسي ( الإيروتيكي ) التقليدي يرد إلى الذهن . لكن ناشري الأدب الصيني حولوا هذه القصائد التي تغني العاطفة النزوية غير العادية إلى رمزيات سياسية جامدة وطرفات ذات مداليل أخلاقية . ومحل روابط العاطفة التي توحد المحبين أو تفرق بينهم ، فرض التفسير الرسمي حسب القانون الذي يحكم العلاقة بين الحاكم ووزرائه ( ..... ) فبعض الأساتذة الجامعيين مصرون على أن يروا في " الأنشودة الروحية " لسينت جون ، قصيدة حب مدنسة . إن تفسيرا كهذا ليس إلا تفسيرا ساذجا وسطحيا جدا ، فهو يتجاهل غموض تلك القصائد وتأرجحها الدائم بين المقدس والمدنس ، بين الروحي والحسّي ، بين الذهني والجسدي ... ومسألة أن يستخدم سينت جون صورا إيروتيكية ، كثير منها مأخوذ من الشعر المحفوظ أو من الأغاني الشعبية ، مسألة طبيعية تماما . ولكن سينت جون يبدو متحفظا إذا ما قورن بالنصوص التانتارية ( مذهب بوذي هندوسي ) . ففي هذه النصوص ، مثلا تستخدم كلمة " سوركا " - " المني " – لتعني الكشف التنويري المفاجيء (بودهيشيتا) ، ولا يمكن التمييز بين الذروة الجنسية والنشوة الروحية ، فالحالتان تسميان " ماهاسوكا " أي " الغبطة الكبرى " . فإن لم تكن هناك غبطة تعادل غبطة الحب الإنساني والمكتفي والمشبع ، ولا تعاسة أكبر من الحب المرفوض ، فلماذا لا نقارنه بالحب الصوفي ؟ إن كلا منهما تعبير عن الطاقة الحيوية ذاتها ... )) ( 1 )
ويقول باث أيضا : ( إن طبيعة قصيدة ما مشابهة لطبيعة عيد هو ، علاوة على كونه تاريخا في الروزنامة ، قطع في سياق الزمن وانبثاق حاضر يعود دوريا بلا ماض أو غد ، كل قصيدة عيد : تقطّر في زمن محض . إن العلاقة بين البشر والتاريخ هي علاقة تبعية وعبودية . فإذا كنا نحن شخصيات التاريخ الوحيدين ، فنحن أيضا مادته الخام وضحاياه ، فالتاريخ لا يتحقق إلا على حسابنا ، الشعر يغيّر هذه العلاقة تغييرا جذريا ، فهو يتحقق على حساب التاريخ ، ذلك أن كل نتاجاته - البطل ، القاتل ، العاشق ، القصة الرمزية – allegory ، النقش المقطعي ، اللازمة ، القسم ، الاستغراب التلقائي على وجه طفل في أثناء اللعب ، على محيّا محكوم بالإعدام ، على فتاة تمارس الجنس للمرة الأولى ، فقرة تحملها الريح ، خرقة صراخ – كل هذه ، مع التعابير المهجورة والمحدثة والاقتباسات ، لن تستسلم للموت أو إلى أن تُضرب عرض الحائط )) ( 2 ) .
والقصيدة لدى النواب ليست عيدا كبيرا كما قال " اوكتافيو باث " حسب بل هي غبطة كونية ؛ عيد كوني هائل يكتسح برعشته كل حدود وجود الفرد ، يكتسحها بهدوء ومكر موجع ، ليلتحم الفرد بالطبيعة وموجوداتها ، لكي يعود إلى تلك النشوة " الصوفية " البدائية حينما كان الإنسان لاشعورا عاريا لا تفصل كينونته الداخلية عن ذات الطبيعة الخارجية سوى الطبقة " الجلدية " الاعتبارية . كان الإنسان ملتحما بالطبيعة والموجودات التي تحيط به . كان " إحيائيا " يتعامل مع كل شيء على أنه شيء حي ، له روح وله أحاسيس ومشاعر .. مشاعر يحرص عليها كل الحرص ويعمل على أن يتجنب إصابتها بأذى . كانت حياته " شعرية " إذا جاز التعبير ، ولم تكن هناك فاصلة واسعة بينه وبين ما يحيط به من أشجار وطيور ومياه وأقمار . وهذه الحالة ؛ حالة الإنسان ذي اللاشعور العاري هي الحالة التي يصبح عليها الشاعر لحظة الخلق ، حيث يتخفف من ضغوطات الوعي الصارمة المحكومة باشتراطات " العملية الثانوية - secondary process " التي تنظر بعين التحسب والمهادنة إلى متطلبات المحيط الاجتماعي ونواهيه .. الشعور يخضع لمبدأ الواقع - reality principle القاسي الذي يلجم انطلاقة العواطف ويكف إشباع الرغبات ويجعل الأنا في حالة توقع وتوتر دائمين لأن الأخير بحاجة ماسة لأن يختبر الواقع المحيط به باستمرار . إن الأنا هو مركز الشعور والإدراك والحكم والتبصّر المنطقي الذي تُضعف أداءه النظرة الشعرية المجازية إلى شؤون الحياة والعلاقات مع الآخرين . ومن المستحيل أن يقر وصفا تعبيريا كالذي يصوغه النواب حين يقول : " نگّضني النهد شايل ثگل شامة " ، فهو محكوم بمسلمات " منطقية " مشتركة شديدة الرسوخ عن الكتلة والثقل والتحمّل وعلاقة السبب بالنتيجة والعلة بالمعلول ، مسلمات تأسست عبر قرون وقرون حتى صارت مشتركات جمعية معلنة يعد خرقها أو نقضها ، بل حتى محاولة التشكيك فيها نوعا من الهلوسة أو الاضطراب العقلي . مثل هذه الأفكار " الجنونية " هي من مسؤولية اللاشعور الذي يقوم فعله على أساس" العملية الأولية process - primary " التي من أهم ركائزها هو أنها لها "منطقها " الخاص " اللامنطقي" الذي لا يخضع لأحكام الزمان أو المكان ولا يقيم لتعارض المتناقضات وزنا حيث تتعايش وتزدهر في وحدة صراعية جدلية ، وتفكيره هو تفكير صوري بصورة رئيسية . كما أنه يقفز فوق كل هذه الحواجز لأنه يخضع لمبدأ مناقض للمبدأ الذي يحكم الأنا - الشعور وهو " مبدأ اللذة – pleasure principle " الذي لا يعرف التأجيل لأي سبب ويتطلب الإشباع الفوري للرغبات اللائبة دائما . وهنا يقع عبء لا يوصف ثقله على ظهر الأنا في لجم هذه الاندفاعات النزوية من جهة وفي محاولة إشباعها من جهة أخرى . وكلما كان الواقع متزمتا كلما قلت فرص إشباع رغبات " الهو " ، وهنا يأتي دور الشعر كمنفذ " شرعي " للكثير من هذه الرغبات كي تتمظهر بصورة جمالية ساحرة وكي يُحتفى بها وهي في شكلها المموه الماكر الذي يصل أعلى مراحله في انفلاتة هذه البهجة التي تتصاعد لتأخذ شكل غبطة كونية غامرة . وقبل النواب لم يكن الشاعر الذي يكتب باللغة العامية مهتما بهذه الغبطة الكونية . لم يكن مدركا لأهمية " الفضاء " المحيط به .. وبقصيدته .. الفضاء بكل موجوداته الحية والجامدة . لم يكن قادرا ، لا معرفيا بسبب محدودية ثقافته وضعف تلاقح مكوناته الرؤيوية الشعرية مع الأطروحات الشعرية الأجنبية الوافدة عبر الترجمة كما حصل في نهضة الشعر الحديث ، ولا نفسيا بفعل التزمت الذي تفرضه البيئة الاجتماعية وينعكس على انفتاح النظرة الإبداعية التي تتطلب التخفف من أسر الكثير من القيود والنواهي - رغم أن أقسى الروادع الدينية لم تمنع الشعراء الذين " يتبعهم الغاوون " من " تمرير " أشد النصوص جرأة ، بل أن الروح الشعرية التعرضية انسربت تحت أغطية النصوص الدينية نفسها - على خلق " طبيعة " داخلية و" كون " داخلي شعريان في ساحة القصيدة يوازيان الطبيعة والكون الخارجيين . ولم يكن يدرك أن القصيدة هي بحد ذاتها طبيعة صغيرة وكون صغير ، فكيف ينطلق بثقة لجعلها كونا أكبر ؟. لكن النواب لم يخلق طبيعة داخلية في القصيدة من خلال توظيف رموز الطبيعة الأم حسب بل طوّعها ليشكّل كونا شعريا لا يوازي الأصل فقط ولكنه يفوقه من خلال العلاقات الجديدة التي كان يؤسسها بين موجودات كونه الداخلي المحيطة ببؤرة إبداعه المركزية وهو الإنسان ، وفي خدمة الإنسان جماليا ونفسيا . فلا شيء في كون النواب الشعري يعادل الإنسان - وتحديدا - الإنسان العراقي قيمة وحضورا . كل شعر مظفر العامي موظّف لمعاناة الشعب العراقي المسحوق والغارق في معاناته الدائمة منذ فجر التأريخ . في أقصى الموجات حماسة للفكر الماركسي والإنحياز للمعسكر الشيوعي لم يكتب النواب ، رغم ولائه للفكر الماركسي وكونه شيوعيا آنذاك ، أي قصيدة تتناول همّا أمميا ، كان مركز انشغاله واشتغاله الشعري والسلوكي اليومي الملتهب هو محنة الإنسان العراقي وتعزيز إرادته للنهوض والمقاومة الباسلة ، في الوقت الذي جعل الشعراء الماركسيون الآخرون ، وخصوصا من الجيل الذي أعقب النواب ، الهمّ الأممي هو المركز الذي يتفرع عنه الهم المحلي ، بل أن بعضهم أهمل الأخير إلى حدّ كبير حتى اضطر أحد الشعراء القدامى إلى تناول هذه الظاهرة في قصيدة قال في مقطع منها :
( تريد أبچي على فيتنام ..
وآنه النايحة ابّيتي ؟ ..
دا خلّي أفرغ ..
أبچيلك على اللّي مات ..
وعلى الما مات ..
وعلى اللّي يموت ..
وعلى الماعنده نيّه يموت ) .
صحيح أن المعاناة الإنسانية مشتركة وتنطوي على أهداف مشتركة وإضعاف الإمبريالية آنذاك - المصيبة أن جناحا من الشيوعيين العراقيين الآن تعاون مع الامبريالية الأمريكية التي غزت بلادنا الحبيبة ودمرتها - لكن حرارة التشخيص والتجسيد في القصيدة تأتي من التحام المبدع بالناس الذين يعيش بينهم ويكتوي بنيران انذلالهم ومهانتهم لينتصر لمعاناتهم ويستنهض إرادتهم على الكفاح لضمان مستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة ، إن " المسافة المحسوبة " كما أفضل تسميتها ، المكانية والزمانية ، بين المبدع وموضوعه تلعب دورا عظيما في تحديد قدرته على الإحساس بالمتغيرات العاصفة التي تمر بها بلاده وتمثّلها وتصويرها . طبعا هذا لا يعني تبعية الشاعر لتلك المتغيرات وانقياده المستسلم لها وذوبانه في أتون جحيمها . إن المعادلة الصحيحة التي تُرسم هذه العلاقة وفقها تشبه عمل المصور الفوتوغرافي الذي يحاول التقاط صورة لمنظر معين ، فالصورة لن تكون شاملة إذا اقترب من المنظر بصورة مفرطة أو إلى حد الإلتصاق به ، كما أن تفاصيلها تشحب إذا ابتعد بصورة كبيرة أيضا ، يجب أن تكون هناك " مسافة محسوبة " لبعده عن المنظر لتقديم أفضل لقطة . وحاله في ذلك أيضا يشبه حال الملاكم الذي لن يستطيع إصابة خصمه بصورة مؤثرة إذا التحم به جسديا أو إذا ابتعد عنه بحيث لا تصله قبضته ( 3 ) .
إن الشرط الحاسم الذي أمسك به النواب هو أنه نتاج هذا التراب المقدس الطهور ؛ شاعرا وإنسانا ، وأن عليه أن يعلن ولاءه المطلق له ؛ ولاء مصيري لا يعرف المهادنة ولا المساومات ، وهو القائل عن نفسه : " أعتقد أن من قضى هذه المسيرة الحياتية الطويلة لا يمكن أن يساوم ، لم يبق شيء يستحق أن نساوم من أجله " . وعلى أساس هذا الولاء الأمومي بطبيعته تشتق الولاءات الأخرى للإنسان في كل مكان وليس العكس . أي أمّ ستصاب بصدمة مروعة حين ترى ابنها المبدع يتغنى بآلام المخاضات العسيرة لأم أخرى مهما كانت تلك المخاضات مدمرة ، ناسيا أو مؤجلا التغني بالموت الذي خاضت أهواله من أجله ، كي تنجبه . ووصف الموت هذا لعملية الإنجاب اعتمادا على إجابة للإمام (علي بن أبي طالب ) على تساؤل الذين سألوه : صف لنا الموت ؟ فقال : انظروا إلى المرأة وهي تلد .
د. حسين سرمك حسن
إقرأ للكاتب أيضا :
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|