%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال لا للخصخصة لا للفيدرالية لا للعولمة والتبعية |
|||
---|---|---|---|---|
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين |
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |
مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :
بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :
إنانا الحكاية العربية الجديدة (10)
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة - 21/4/2014
وكملاحظة عرضية لكن مهمّة يهمني القول هنا أن مجموعة من الباحثين – وبعضهم ذكرت أسماءهم قبل قليل – قد "سطوا" على رأي كريمر السابق الذي يشير إلى أن دموزي لم يكن في العالم الأسفل عند هبوط عشتار ولم يشيروا إلى صاحب الإكتشاف وهو كريمر . كما حصلت عملية "سطو" أخرى من قبلهم حيث باتوا يتنادون بأن الإله دموزي ليس إله الخصب الفعلي بل هي الإلهة إنانا (عشتار) ، وهذا الإكتشاف للطبيب الفرنسي وعالم الآثار "جورج رو" في كتابه الشهير "العراق القديم" (30).
المهم ، قد يعترض السادة القرّاء على الإفاضة السابقة في مناقشة أسطورة الهبوط ، ويرون أنّ هذه التوضيحات بالرغم من أهميتها فإنها قد أسهمت في إبطاء الزخم النفسي للنص النقدي من ناحية وللحكاية نفسها من ناحية أخرى . وهذا ما أراه أيضا ، وقد تعمّدتُ تقديم تلك الشروحات لأنها من واجبي أولا لأنني أؤمن – وليس كما يريد النقّاد "الحداثويون" – أن الواجب الرئيسي – من بين واجبات كثيرة أخرى طبعا – للناقد هو أن يكون "مفسّراً" للنص من جانب ، وأن يقود القاريء إلى مواضع الجمال في النص المطروح للتحليل من جانب آخر . بترافق هاتين المهمّتين ، وتعاضدهما ، تتشكّل فلسفتي النقدية المتواضعة . وثانيا أردتُ أن أؤكّد على أنّ الكاتبة حين أوغلت في تناول اسطورة الهبوط ، وأفرطت في التماهي مع الإلهة إنانا ، قد أصابت حرارة حكاية انثكالها التي مزّقت أرواحنا بالبرود ، نعم الإبداع يُكتب من القلب إلى القلب .. القلب يكتب بمعنى اللاشعور بتلقائيته و"براءة" اندفاعاته واحتدام رغباته . نعم ، هذه التلقائية والاندفاعة واحتدام الرغبات تتطلّب تدخّل الشعور من أجل "ضبط" الشكل وتحقيق "المخادعة" الموضوعية بتمريرها بصورة "منطقية" . إنّ محنة عائشة أعظم بكثير من محنة إنانا التي تحوّلت إلى عمل ذهني عبر تراكمات التعامل المعرفي معها . محنة هبوط إنانا للعقل ، أمّأ محنة هبوط عائشة التي نحياها ونمسك بحمرتها المستعرة منذ بداية الحكاية بالرغم من أنها سوف تمارسها في القسم الأخير منها ، فهي محنة للقلوب المكلومة والأرواح المهجورة المعذّبة . محنة إنانا لعصور السومريين والعصور الأخرى القديمة على الرغم من بلاغة دروسها .. لكن محنة عائشة لهذا العصر ، فهي بحق (إنانا هذا العصر) كما تصف نفسها في خاتمة الرواية (ص 225 ، الصفحة الأخيرة) . إنّ االعمل الذهني والمعرفي مطلوب للرواية لأنها حكاية الوجود (وأفضل أمثلتها مناقشات دستويفسكي عن العدالة والنبي محمد والضمير ودوافع الموت والله .. وغيرها الكثير في الجريمة والعقاب والأخوة كرامازوف وغيرها من أعماله) لكنها – حتى لدى دستويفسكي – يجب أن تأتي مسلّحة بمفاتح القلوب ونفحاتها الحارقة ، ولهذا كان دستويفسكي في بعض تناولاته مملّاً و"عقلانيا" أكثر مما يتطلبه حديث حكاية ينطلق من القلب إلى القلب . لو أردنا مناقشة المفاهيم الفلسفية والأسطورية فليس هناك أفضل من الفلاسفة أو الباحثين الأسطوريين يقدّمونها بأفضل صورة . أليس كذلك ؟ لكنهم لن يستطيعوا جعلها مادة لأرواحنا إلّأ إذا انسنوها وشخصنوها ونفخوا فيها روحا شعريّة .. وهنا تُصبح "حكاية" وليس بحثا فلسفيا أو أسطورة .
المهم ، أن عائشة قد قطعت الآن شوطا بعيدا على طريق النضج ، حتى أنها صارت تحلّل أكثر من المحللين وتضع الفروض والنظريات أكثر من الباحثين المختصين . وبالمناسبة فإذا أردنا الحقيقة المعرفية العارية فإن الفضل في تطوّر حتى العلم يعود إلى الفن .. إلى الروح المبدعة حين تشتغل تحت هداية اللاشعور .. وكلما كان العالِم "عقلانيا" صلبا متيبّسا كلما جفت ينابيع إبداعه بصورة مبكرة . وأغلب نظريات التحليل النفسي وعلم النفس أمسك بشذراتها البارقة ونواها الأولى المبدعون ، ثم صبّها العلماء في صيغ قواعد وقوانين . كان معلّم فيينا يقود ضيفه إلى مكتبته ويشير إلى قسمها الأدبي ويقول : هؤلاء اساتذتي ! سوفوكل وشكسبير ودستويفسكي وغوته وابن الرومي والحريري – باعتراف فرويد نفسه – التقطوا الكثير من خيوط اللاشعور لأن المبدع من خبراء النفس البشرية المجرّبين ، مادام قادرا على أن "يهبط" إلى ظلمات لاشعوره بقوة وجسارة ليكشف صراعاته الدفينة التي نتستر عليها نحن ونمرض بسببها ، يكشفها بلا تردّد أمام أعين الملأ من القرّاء . وعائشة من هذا النوع المبدع التعرّضي المجرّب . لا تتردّد الآن في أن تكشف "عيوب" استجابتها المدوّخة التي شلّت إرادتها ومحقت روحها وحصرت وعيها في "ثقب" الموت الأسود . أوقعتها في عزلة خانقة وانفصال مرير وغير مُقنع عن الناس والواقع والحياة . كان مجرد طرح فكرة نسيان فاجعة ابنها واعتبارها "حدث" ، وتحديد خطٍ للأسى الهادر المدمّر يعدّ جريمة كبرى وإثما لا يُغتفر .. بموت ابنها عزيز ختمت على حياتها بالشمع الأسود و"هبطت" .. لكن إلى غياهب الحداد المجلّل بالإثم . ولكنها – وبفعل الوعي الحاد الجديد الذي شحذت ممكناته طعنات سكاكين المثكل – أدركت "الآن" معنى "الهبوط" الصحيح مشفوعة ومحفوزة بالمخزون الأسطوري الذي فجّرته التجربة الأعظم في تاريخ البشرية : هبوط إنانا ملكة السماء كما يعني اسمها باللغة السومرية إلى عالم الظلمات . أدركت أن الأسطورة ليست تفسيرا للظواهر الكونية الفلكية ، والبيولوجية حسب ، بل هي أيضا خارطة مثالية للمسيرة الروحية للإنسان لكي يخلّص ذاته من تمزّقه بين فوق وتحت ، هي رحلة لاكتشاف حدوده وممكناته وعمقه ، والتحرّر من آلامه ، كي يحتوي ذلك الجزء الكامن في الظلام ، الجزء الذي طالما أنكره ، ولا يصحّ شفاؤه إلّا باحتوائه (ص 146) . لم تعد "تعرف" معنى الهبوط الصحيح ودلالاته ، بل تدرك أنه "ضرورة" للسلامة النفسية .. للخلاص والإنعتاق والتحرّر .. ضرورة ليست فردية تهمها كامرأة مثكولة ، بل ضرورة جمعية لكلّ إنسان . وهذا ما نادى به كارل غوستاف يونغ في ريادته في كشف الضرورات النفسية الصحّية للأسطورة في اللاوعي الجمعي البشري لأنها تعرّفنا على المواطن المظلمة من لاشعورنا وتصالحنا معها . تقول عائشة :
(نزولنا إلى العالم السفلي ليس شططاً ولا تطرّفا ولا مبالغة في المغامرة ، بل هو ضرورة نفسية لخلاص كل إنسان .. إنانا لم تكن تفتدي العالم بموتها ، بل كانت تتمّم به وجودها هي) (ص 146) .
نسيت حتى الجلوس مع جماعة .. مع عائلتها مثلا ، وها هي "تتدرّب" - من جديد - على الجلوس معهم .. صارت تدرك الحقائق عن حالها من أبسط الناس حولها من الذين لا يجيدون "الكتابة" الإبداعية مثلها مثل أختها "إسراء" التي شخّصت حالتها مثلما فعل الطبيب النفسي حين قالت لها (فاقد الحب لا يعيطه) (ص 159) . هذه الإشارة تدفعها إلى حلم "مصنوع" ومرسوم – من جديد – بعقل الكاتبة الذكي المُتخم بالمعرفة ، فتتصوّر نفسها تصغر ، لتصبح طفلة ، فرضيعة في القماط ، مرميّة على الأرض لا يلتفت إليها العابرون المُسرنمون ، سوى واحدٍ منهم يتعرّف عليها ، وإذا به الطبيب النفسي الذي قال لها تلك الجملة ! (ص 163 و164) . وهو حلم زائد ومصنوع ، ولا يحتاج إلى تعليق ، والأمر نفسه يُقال عن الحلم "الإنتقالي" الذي جاء في ذكريات (17 أبريل 2011 الساعة : 12:04 مساءً) حينما حلمت بأنها تجلس مع أهلها على شاطيء البحر الذي كان ملوّنا فتتساءل : إذا كان البحر مصنوعا من ضوء ، فممّ صُنعت الشمس ؟ . وهو سؤال ذهني وثقافي ليس من مسؤولية الأحلام . وفي الحلم كانت هناك هالات ملوّنة تغلّف حضور كلّ منهم والسبب معروف .. ثم تشاهد امرأة جميلة تجلس بينهم فتعتقدها أختها إسراء لكن المرأة تقول لها : إنانا !! ... إلخ .. (ص 206 و207) .. وكذلك الحديث عن الحزن والألم والأغنية (ص 211) .. فقد أُتخمت الحكاية – في هذه المواقف البسيطة فقط - بالعمل العقلي بالرغم من أغطيته الشعريّة .
ولكن الإنجاز العظيم في هذه الرواية الذي لا يقل قيمة وفرادة عن كل إيجابياتها السابقة هو حين تقرّر عائشة (الآن) ؛ أي على محور زمانها الحاضر وليس مثبتتة تجتر ضربات زمانها الماضي كما حصل لها منذ بداية الحكاية ، تقرّر أن تنزل إلى الأسفل العظيم وفق قراءتها لاسطورة هبوط إنانا وقناعاتها التي تأسست على ركائز تلك القراءة . وهنا يأتي الإنجاز العظيم الذي طال انتظاره ، وهو خلق الكاتبة لـ "أسطورتها" الخاصة الراهنة من خلال توظيف أسطورة إنانا "القديمة" . فليس مهمّاً أن تقرأ الأسطورة قراءة جديدة – هذا في جانبه الأكير من اختصاص الباحثين – لكن أن تخلق ، كمبدع ، أسطورتك . لقد قرأ السيّاب العظيم الكثير من الأساطير ووظّفها في شعره ، لكنه لم يضع بصمته على جسدها إلّا عندما خلق أسطورته الشخصية حين احتضنه المثكل في لندن ، ثم في الكويت ، وهو في أيامه الأخيرة . صنع السيّاب أسطورته التي ستوضع في مصاف الاساطير "القديمة" العظمى بعد قرون حين يُعثر على أسطورته على رقيم ألكتروني . وهذا ما نعنيه بالتوظيف الخلّاق للأسطورة ، وليس اجترارها . لم أحب التوظيف الأسطوري في "ألأرض اليباب" لإليوت – واعذروني - لأنه توظيف مصنوع ذهنيا أكثر منه تجربة روح تمزّق ووجود شخصي يُحطّم فينشد الخلاص من خلال مكنونات لاوعيه الجمعي . هذا ما أقصده من كل مداخلاتي السابقة .
الآن ، تصنع عائشة أسطورتها الخاصة ، وتبدؤها بنصّ شعري ذي مسحة اسطورية (ذكريات يوم 17 أبريل الساعة 7:04 مساءً ، أي قبل يوم واحد تقريبا من موعد رحيلها النهائي في ذكرى وفاة ابنهافي 18 أبريل) . والنصّ مكتوبٌ بصوت "الأنا" وهو الوحيد القادر على وصف مرارات التجربة الفردية وظفرها ، لا بصوت "الغائب" كما هو الحال في أسطورة إنانا :
(من الأعلى العظيم تاقت روحي إلى الأسفل العظيم
روحي هجرت السماء وتركت الأرض
إلى العالم قد هبطت [= روحي]
تركتْ الزوج والأم والأخ
شدّت إلى وسطها
جرحا له وجه طفل [= عزيز]
وعلى قمّة رأسها
يلمعُ سؤال
.................
..................
روحي تاقت إلى بعضها المُعتم
فإذا ما بلغتُ العالم السفلي
فالأمر إليكِ
املئي السماء صراخا
إن شئتِ
أو صمتا
إن أحببتِ
وهو الأجدر بكِ
............
إمضِ يا إنانا
ليس عندي رغبة أخيرة سوى المضيّ
هذه الخطوات السبع الأخيرة
لي وحدي
إنّي لهابطة إلى العالم السفلي
إنّي لهابطة إلى العالم السفلي
فأين بواباته السبع ؟) (ص 214 و215)
وإذا كانت إنانا قد "أمرتْ" رسولتها "ننشابور" أن تملأ الكون صراخا وتتوسل الآلهة كي تتدخل لتفرج عن إنانا إذا لم تعد من العالم السفلي بعد ثلاثة أيام ، فإن عائشة قد "خيّرت" إنانا بين أن تملأ السماء صراخا أو أن تصمت ، مفضّلة الصمت ، ليس لأنه أجدر بإلهة حسب ، بل لأن التجربة كلها - الآن – "شخصية" ومسؤوليتها فرديّة .. روح عائشة تاقت إلى بعضها المُعتم . ولاحظ أن الوقع الدلالي النفسي لا يأخذ مداه حين نقول "نفسي تاقت إلى الأسفل العظيم" في حين يتضخّم صداه في الأعماق حين نستخدم مفردة "روحي" .. إنّه نزولٌ روحي . وكل نزول روحي لا يكافيء تضحياته إلّا إذا كان عن المصير ومن أجل المصير وفي حضرة المُثكل . لكنها فرضيّة عائشة تثبت من خلالها أن أفكارنا ونظرياتنا وفلسفاتنا لا يمكن أن تنفصل عن مكبوتات لاشعورنا وعن العوامل الذاتية الحاكمة في شخصياتنا ، وأن المؤلف لا يمكن أن يموت إلّا إذا مات النص نفسه . هذه الفرضية المتفرّدة التي طلعت علينا بها عائشة لا يمكن العثور على جذورها إلّا في مكبوتات عائشة نفسها وتجليّاتها في لاوعيها الشخصي . عائشة تحديدا هي التي تحتاج إلى هذا التأويل وإلى جعل أسطورة الهبوط ضمن دائرة هذه الدلالات لأنها تمثّل التأويل النابع بحرارة من تربة إحباطاتها ، وسقت بذورها بدم معرفتها .. عائشة هي التي تحتاج هذا التأويل .. وترميم نفسها – ومن ثمة روحها – هو الذي يتطلب نزولا يخلّص ذاتها من تمزّقها بين فوق وتحت .. لكي تحتوي ذلك الجزء الكامن في الظلام الذي كانت تنكره ، ولن تتجاوز محنتها .. ولن تُشفى إلّا إذا نظرت في عمق ظلامه ، بعينين مفتوحتين . هذا النزول .. وبهذه الرؤيا – التعرّف على الجانب المظلم والإلتحام به مهما كانت محتوياته - هو الذي تحتاجه عائشة ، وليس السيّدة إنانا .
لقد هبطت الإلهة إنانا عبر سبع بوّابات هي بوابات العالم السفلي المرعب ، وكان الشياطين عند كل بوابة يقومون بخلع شيءٍ من رموزها الملوكية وثيابها وحليّها حتى أصبحت عارية تماماً :
(لدى دخولها من البوابة الأولى
خلع عن رأسها الشوجار تاج السهول
ــ ما هذا الذي تفعلون؟ــ أي إنانا لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ولدى دخولها من البوابة السابعة
رُفعت عنها جميع أثواب السيادة والسلطان
ــ ما هذا الذي تفعلون ؟
ــ أي إنانا لقد صيـغت قوانـين العـالم الأسفـل بعناية وأكتمالفـلا تـنـاقـشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل)
هكذا يكون الموت رمزيا ، وفي العمل الحلمي ، حيث تتساقط أغطية الجسد وزينته قطعة قطعة حتى يعود الفرد عارياً كما جاء إلى الدنيا . عملية هبوط إنانا هي عملية غير مسبوقة في حياة البشرية آنذاك .. عملية تحرّشية جسور بسلطات العالم السفلي قامت بها إلهة بكل طاقاتها . جاءت كما تقول من (المكان الذي تشرق فيه الشمس) .. ولكن في أسطورة بثينة العيسى "يهبط" إنسان لا إله ، هو عائشة ، الأمر الذي يجعل الفعل أقرب إلى الحلم الشخصي – والحلم في حقيقته هو أسطورتنا الشخصية – منه إلى الأسطورة بمعناها الإجرائي المعروف . جاءت عائشة كما تقول – ومثل إنانا – من مملكة الأعالي "ذلك المكان الذي تشرق فيه الشمس" ، وعند كل بوابة تقوم إنانا بالطلب منها ان "تخلع" شيئا معنويا أو ماديا من وجودها ، فتحتجّ مثل إنانا الأسطورة :
(ما هذا الذي تفعلين؟ )
لترد عليها إنانا – وليس الشياطين – فالأسطورة الآن أسطورة "حياة" وبحث في الأعماق وتسوية بين مكوّنات النفس :
(أي عائشة ! لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال
فلا تناقشي يا عائشة شعائر العالم الأسفل) (ص 218)
هكذا يتكرّر المشهد عند كل بوّابة : أمرٌ من إنانا ؛ حارسة البوابة التي صارت معلّمة ومشرفة على مراحل هبوط الخلاص النفسي ، فاحتجاج من عائشة ، ثمّ إذعان منها ورضوخ للأمر بعد أن تسمع المبرّرات من إنانا التي توضح لها الخطوة العلاجية التي ستستفيد منها :
# عند البوابة الأولى :
الأمر : (إخلعي عنكِ جلد المكان)
المبرّر : (المكان هو جغرافيا الذاكرة وعنوان عزلتكِ ، جرحك يفيض من وجه المكان ، ويعبّيء ملامحه بالمالح من الكلام والحار من الدمع)
وفعلاً فإن أول عوامل تثبّت عائشة على محنتها ، هو التصاقها بالمكان كوعاء لذكرياتها مع ابنها الفقيد . يحاصرها المكان من كل جانب بتفاصيل الفقدان والكنز الضائع .
الوسيلة : (انفضي عنك المكان .. حلّقي خارج الخارطة .. كوني خارج البرواز .. أكسري الإطار)
الهدف (الخطوة العلاجية) : (من أنتِ الآن ؟ الروح في عريها . جوهرٌ وشيك) (ص 218)
# عند البوابة الثانية :
الأمر : (انتزعي من روحك حسّك بالزمن)
وهذا شرط أساسي للسيطرة على المحنة ، أن لا تتثبّت أيضا بالزمان ، فيصبح الفناء وعياً ، ونجلد أنفسنا بسياط لحظات الزمان الذي صار يمثل "عقرب" الزوال .
الوسيلة : (إخلعي الزمن . تذوّقي أكسير الأبدية قليلا واكسري دائرة الأيام وكوني ذاتك، خارج المكان/خارج الزمان/ خارج العالم.
الهدف : (من أنتِ الآن ؟ جوهرٌ أصفى) (ص 219)
# عند البوابة الثالثة :
الأمر : (إخلعي عنك أمّك وأبيك)
ولعل واحداً من أخطر عوامل هذا السلوك النكوصي الذي تعانيه عائشة في الموقف من الموت هو أنه مكافيء – في طبقات اللاوعي – لقلق الإنفصال الحارق عن الأبوين خصوصا أبوها الذي كان حضنها الحاني أكثر من أمها . أثّر استمرار وجه أبيها في حاضرها الوجداني حتى على علاقتها بزوجها . المثبّتون نفسياً على أمّهاتهم وآبائهم لن يقوموا باختيارات صحيحة للحاضر بل للوفاء للماضي ، ولن يستطيعوا تحقيق الإستقلال الناجز وبناء الشخصية السليمة.
الوسيلة : (مزّقي كلّ ما يحول بينك وبين أن تكوني شمسك الخاصة .. قطرات الحليب الأولى هي بداية الوعي ، ولكن حتى تبلغي نهايته يجب أن تكفري بتلك البدايات .. وأن تتخفّفي ، كوني أنت فقط)
الهدف : (من أنتِ الآن ؟ جوهرٌ أشفّ)
# عند البوابة الرابعة :
(إخلعي عنكِ أخاك وأختيكِ)
# البوابة الخامسة :
(انتزعي عنكِ زوجك)
# البوابة السادسة :
(إخلعي الكتابة)
# البوابة السابعة :
الأمر : (إخلعي عنكِ جرحك الصريح – ولدك وذكراه)
الآن تعود عائشة – ومن دون أن تدري – إلى الإضطلاع بالمهمة الأساسية التي نذرت إنانا هبوطها المرعب لها ، وهو النظر في عيني العدم للسيطرة على قلق الموت الذي خرّب وجودها ، بعيدا عن الغوص في ظلمات النصف الأسفل منّا ، فهذه مهمّة يمكن أن تجري في "الأعلى" ولا تتطلّب نزولا بهذه الجسامة ، و"أنصاف" إنانا كانت معها فوق فهي إلهة الموت والمعارك والجنس والمومس المقدّسة . لقد عادت عائشة – أو أعادها لاوعيها – إلى ساحة المواجهة الحقيقية لتتصدّى للفزع الأكبر . وهذا ما تلخّصه إنانا لها بكل دقّة :
(ولدكِ هو ألمك . ألمك هو أنتِ . الجرح بات له وجهك واسمك ولهاث أنفاسك . لا يعرف الناظر إليكِ أين يبتديء جرحك وأين تنتهي صرختكِ . تتشبّثين بأحبال دموعك كما لو كانت خلاصك . تتسربلين بحزنك الأبدي . وتؤلمين العالم بألمك. ليس بوسع الكون أن يكون ضحيّتك يا عائشة . اخلعي جرحك ، قبّليه بين عينيه وأطلقيه ، حرّريه ، الثمي طيفه واسمحي له بالرحيل . مع كل بوّأبة كنتِ تتخفّفين منك وتتخلّين عن بعضكِ . كل العلائق التي تركتها في البوابات الست السابقة كانت لأجل تهيئتك لهذه ، كلّها لا تضاهي هذه في الثقل والكثافة . لن يُكتب لك الخلاص إلّأ بتجاوزك لنفسك ، امتلئي محبة يا عائشة واطلقي روحه حرّة )
الهدف النهائي والأسمى : (ماذا أنتِ الآن ؟ روحٌ محضة) (ص 222 و223) .
وهذا هو الهدف الأسمى من الحكابة أي حكاية .. ومن الإبداع مهما كان . أن يكون وسيلة لمقاومة الفناء والعصيان على الموت . ستكون هناك عودة وانبعاث ، ولن تتركنا عائشة هناك .. سنعود لنُبعث معها من جديد .
د. حسين سرمك حسن
إقرأ للكاتب أيضا :
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|