<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية : بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" : إنانا الحكاية العربية الجديدة  (5)

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

 

بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

 

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (5)

 

 

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة - 21/4/2014

 

في الساعة 9:14 من صباح يوم الإنتظار القاتل (الحادي عشر من أبريل) تستعيد عائشة ذكريات حادثة "الوفاة" الأولى ؛ الميتة الأولى ، وكانت قد نتجت عن الصعق الكهربائي . كان ذلك في ذكرى وفاة ولدها الأولى :

(وفي خضم الكآبة الزرقاء الضبابية التي أغرقت العالم ، وقلبي الذي صار ثقيلا وصدئا كالأقفال المهجورة ، والمفاتيح المتآكلة ، والحكايات القديمة المؤثثة بالدموع ، أخرجتُ صوره [= ولدها عزيز] من الألبوم ، وكنتُ بصدد أن أغرس قابس الضوء في فتحة الحائط ، عندما علقتُ بالتيار، وأصبحت جسرا لتلك القوّة الغريبة التي أخذت ترتشف روحي على مهلها ، وصارت تسحبني ببطء نحو الجدار) (ص 46) .

وفي هذه الحالة ، كما هو الأمر في الحالتين الأخريين كما ستخبرنا - كان جوهر التجربة واحدا ، فقد شعرت وكأنها تطير ، خفيفة ، فوق ألبومات الصور والشموع ، وترفرف فوق حياتها البائسة (ص 46) .. بعد أن تمّ إنقاذها كانت تتذكر "جمال الموت" فقط ، وكثافة الجسد الذي قُيدت روحها إليه بسلاسل من لحم وعظم (ص 48) .

أمّا عن حادثة الموت الثانية فقد بدأت بما يشبه التسمّم الغذائي وهي تتناول الطعام مع زوجها في أحد المطاعم . أكلا من نفس الطعام ولكنها انتكست ، في حين أن زوجها لم يُصب بشيء ، وهذا يؤكّد أننا لكي نُصاب بالمرض يجب أن يكون لدينا "استعداد" له . لقد شعرت بأمعائها تتقطّع ، وما تخبرنا به من أعراض لا يُعطي الصورة الطبّية السريرية الكاملة للتسمّم الغذائي . ولكنها حين نُقلت إلى المشفى لإسعافها بغسيل المعدة الروتيني سبّب لها أحد الأدوية صدمة حساسية مميتة ، فقد تورّم حلقها ولم تستطع التنفس بعد فأجروا لها فتحة في الرغامي لإنقاذها في اللحظة الأخيرة . وفي تلك اللحظات وقفت في حضرة الموت :

(كان إحساساً بالألفة اللانهائية يغمرني غمرا ، وبدأ المكان يفقّد ماديّته ، وصار ضوءا وألوانا ذات بريق ، وأحسستُ بالسلام الأبدي ، وبأنني أتماهى مع النور وانسجم في الغيب .. وآمنتُ بأنني في وطني ، بأن المادة / اللحم هي الوجود العارض ، وبأن هذا الشكل الأثيري للروح هو الحقيقة . وأنا ، كنتُ اصافح الحقيقة ... كنتُ الحقيقة) (ص 81) .

وهاتان التجربتان الموتيّتان – وثالثتهما اللاحقة حين دُهست بسيارة وهي تسير بين أمها واختها ! – والمشاعر والأحاسيس والأفكار التي عاشتها عائشة وروتها لاحقا بعد أن "عادت" إلى الحياة هي مما نسمّيه علميّاً بـ "تجربة الإقتراب من الموت" أو "تجربة الموت الوشيك" أو "near death experience" ، وهي ظاهرة غير طبيعية ونادرة الحدوث تتلخص ماهيتها في أن البعض ممن تعرضوا لحوادث كادت تودي بحياتهم قد مرّوا بأحداث وأماكن مختلفة منهم من وصفها بالطيبة والجميلة ، ومنهم من وصفها بالشرّ والعذاب . من أكثر التشابهات التي رُويت في تلك الحوادث مرور الشخص بنفق ، إما أبيض وإما مظلم ، حتى يصل إلى نور أبيض . لا يوجد تفسير علمي للظاهرة ولكن بعض العلماء حاول تفسيرها على أن العقل الباطن هو الذي يفتعل تلك الأحداث وتلك الأماكن لتسهيل عملية الموت .

وما يحدث في النمط التقليدي لتجارب الاقتراب من الموت ، هو عملية خروج للجسد الأثيري من الجسم الفيزيائي ، بعد ذلك تبدأ عملية اجتياز لنفق مظلم في نهايته نور أبيض ساطع ، ويُخيّل لصاحب التجربة أنه في الجنة حيث يلتقي بأحبائه من الموتى ؛ فيرغب في البقاء كارها العودة إلى جسمه المادي ، لكنه يسمع صوتا ما أو يخبره أحد أحبائه الموتى أنّ عليه العودة ، وأن ساعته لم تحن بعد ، أو ما يزال هناك الكثير من المهام التي يجب عليه القيام بها (7) .

لكن هذه التجارب الثلاث التي مرّت بها عائشة وغيرها ممن عاشوا تجربة الإقتراب من الموت لن تكون من ضمن سمات إدراك الموت كإشكال . فالموت – كما أسلفنا – حادث كلّي كلّية مطلقة من ناحية ، جزئي شخصي جزئية مطلقة من ناحية أخرى : فالكل فانون ، ولكن كلّاً منا يموت وحده ، ولابدّ أن يموت هو نفسه ، ولا يمكن أن يكون واحدا آخر بديلا عنه . وهذا عين مصدر الإشكال من ناحية المعرفة : إذ لا سبيل إلى إدراك الموت مباشرة بوصفه موتي أنا الخاص ، لأنني في هذه الحالة – حالة موتي أنا الخاص – لا أستطيع الإدراك . ومعنى هذا أيضا أنني لا أستطيع إدراك الموت إدراكا حقيقيا ، لأن إدراكي للموت سينحصر حينئذ في حضوري موت الآخرين ومشاهدة الآثار الخارجية التي يحدثها هذا الموت . ومثل هذا الإدراك ليس إدراكا حقيقيا للموت كما هو في ذاته ، بل هو إدراك للموت في آثاره . ولا أستطيع أن أقول هنا أنني عند محاولتي إدراك الموت أضع نفسي موضع الآخرين الذين يموتون ، لأن المرء لا يمكن أن يحمل عبء الموت عن غيره . هذا إلى أنه لو سلّمنا جدلا بإمكان إدراك موقف المرء بالنسبة إلى الموت ، فإن هذا لا يفيدني شيئا في معرفة حالة الميّت نفسه ، وإنما يخبرني عن حالة "المُحتضَر" فحسب ، لا عن حالة الموت نفسها) (8).

أي – وباختصار – إنني لا أستطيع أن أصف تجربة موتي لأنني لا أستطيع – معرفيّاً ووجوديّاً – أن أعبر عن تجربتي بالقول : "لقد متُّ" ! طريق الموت حسبما كان يقول عنه أجدادنا السومريون : الطريق الذي لا رجعة منه . وعليه فكل تلك التجارب التي نتحدّث عن أنها تمثل الإقتراب الشديد جدا من الموت لا تمتّ للموت الحقيقي بصلة . إن تجربة موتك الحقيقية تعني فناءك الأبدي ، وكل ما عدا ذلك من اقتراب وشيك وذهاب وعودة وغيرها هي تجارب أخرى غير الموت بصورة مؤكّدة . تجارب قد تتكفّل بها دفاعات عقولنا اللاواعية وإصرارها المستميت على البقاء وعدم اعترافها بفنائنا الشخصي . محاولة عزوم للعودة من "يقظة الموت" (وأصحاب تلك التجارب يتحدثون عن يقظة ووعي حاد ) إلى "نوم الحياة" حسب نظرية علي بن ابي طالب .

ولنفس السبب فإن عقلنا الواعي مستعدّ مسبقا للتشكيك في أي تجربة لا تعني الموت حقّا وفعلا . ومع ذلك - وحتى عندما يموت الإنسان فعلا - فإنه لن يعرف الموت حقّا ! كما تقول عائشة :

(ينتظر الإنسان أن يموت حقا حتى يعرف الموت ، ولكنه لن يعرفه تماما ، مثلما أن الحي لن يعرف الحياة حقا ، والموجود لن يفهم الوجود تماماً . يقول كونفوشيوس : إننا لا نعرف أي شيء عن الحياة ، فكيف نستطيع أن نعرف شيئا عن الموت) (ص 85) .

وأعتقد أنّ إزاحة الثقافة الذكورية للموقع الأنثوي والإستخفاف بثقافتها وقدرتها على معرفة الأسرار الوجودية والكونية هو واحد من أهم الاسباب – وقد يكون السبب الوحيد – وراء موقفنا المنحطّ والملتبس من الموت كشيء خارجي عن الحياة أو كعقاب أو كشرّ وخطيئة . الأنثى هي المؤهّلة لفهم إشكالية الموت ومشكلته أكثر من الذكور . وليس شيئا بسيطا من الناحية الفلسفية والوجودية أن يُسأل علي بن ابي طالب : صف لنا الموت يا أبا الحسن ؟ فيجيب : أنظروا إلى المرأة حين تَلِد . ثم يأتي العلم الحديث ليخمّن أن كل صرخة ألم من صرخات الأم بسبب آلام الطلق عند الولادة تعادل تكسّر مئة عظم من عظام الجسم !! ليس هذا فحسب .. فهناك القدرة الخالقة .. من يعرف كيف يخلق يعرف كيف يحصل الموت .. ولا يخيفه الموت أبدا . يتساءل الكثيرون لماذا لا توجد "فيلسوفات" بكثرة الفلاسفة الذكور ؟ لأن الذكور منشغلون بالموت ومنهمّون به ، والفلسفة كما يقول أفلاطون تنشأ من تأمّل الموت (بالرغم من أن أفلاطون قد اعتُبِر خطأ من الذين عدّوا الموت موضوعا رئيسا للتفكير الفلسفي) . في حين أن الأنثى التي تعرف سرّ الحياة وتحنو عليه في رحمها المكين لا تنشغل بهذا الموضوع الذي يقلق الذكور . وعائشة "انحرفت" نحو جادّة الإنشغال بالموت بسبب صدمة الفقد الرهيبة لابنها بفعل تقصيرها الفادح . ولو سار حملها وولادتها وعلاقتها بطفلها بصورة طبيعية لما شغلت نفسها بهذا الأمر . إنّها لا يشغلها الموت نفسه كآلية وعمليّأت وما الذي يجري فيه .. ما يشغلها - بالإضافة إلى انهمامها البليغ بالحياة - هو فكّ "سرّه" .. معرفة "ما هيّته" و "ما بعده" .. لأنها "سيّدة الأسرار" . ولهذا جاءت أعظم أسطورة عن الموت في تاريخ الخليقة على يدي الإلهة الأنثى إنانا التي صارت تتجلى لعائشة في أحلامها وتحاصرها في قراءاتها حتى صارت رفيقة نومها وزميلة يقظتها . ولهذا - أيضا - تجد عائشة  مقتربها إلى الموت من خلال أهم رموز الحياة - وهو أنثوي بطبيعته - ألا وهو القمر .. وحاملة هذا الرمز الإلاهة إنانا :

(القمر هو أحد تجليات الأنثى ، واهبة الحياة وسيّدة الموت ، الأنثى إياها التي تتفجّر من رحمها حيوات الكائنات ، في تجلّيها القمري الذي تيلّإ للإنسان حقيقة الموت ، والحياة بعد الموت . الأنثى التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بكل معاني الخصوبة والمحبة والحياة ، هي ذاتها تمثل في المثيولوجيا القديمة بصفتها سيدة العالم السفلي . بصفتها سيّدة عالم الموت . من يمتلك سرّ الحياة لابدّ وأن يمتلك حقيقة الموت ايضاً ، هل هذا أحد أسرار الأنوثة التي نجهلها ؟) (ص 88) .

لكن أفظع ما قام به العلم والفلسفة المادية الغربية خصوصا هو أنّها ألغت الجانب السرّاني من الحياة الإنسانية وخصوصا ما يرتبط بلغز الأنوثة وسعيها الدائب إلى فكّ الأسرار على المستوى الروحي . لقد شيّئوا آخر إمكانات الألوهة في الحياة البشرية ، وترتب على ذلك انتفاخ العقل على حساب النفس ، والمختبري على حساب التأمّلي . لم يعد العلم يحترم وجود أي "سرّ" في الكون حتى سرّ الله . فكّوا أسرار شجرتنا الوراثية .. ثم فكّوا أسرار الخلق . وفي التخصيب الوراثي تلاعبوا بأسرار الحياة ولم يبق من لغز لدينا سوى "الموت" ، وهو الوحيد الذي ظلّ من امتياز الله . لقد تجاسر العلم على كل شيء ولم يعد يخاف إلّا من الموت :

(وليس الخوف من الموت مجرد خوف من الفناء بصفة عامة ، بل هو خوف من انسحاب الفناء على تلك "الإنّية" المعينة التي يمتلكها كل فرد ما بوصفه شخصا قائما بذاته . ومن هنا فإن فناء الحيوان لا ينطوي على أية مشكلة ، لأن الحيوان لا يملك أية فردية خاصة تميزه عن غيره من أبناء جنسه ، وإنما هو مجرد حامل للنوع أو أداة لانتشاره . وأمّا الإنسان فهو الموجود الوحيد الذي يتميّز بالفردية ، والشخصية ، والوعي ، والتفكير ؛ أعني أنه الكائن الوحيد الذي لا يمكن حسبانه مجرد حامل للنوع أو أداة لانتشاره ؛ ولهذا فإن موته ينطوي على مشكلة عميقة ، بل سرّ مستغلق ، لا سبيل إلى تفسيره بالتحدّث عن بقاء النوع البشري أو استمراره . وليس يكفي أن نقول  إن الإنسان هو الموجود الوحيد الذي "يموت" ، وإنما ينبغي أيضا أن نقول إنه الموجود الوحيد الذي يملك يقينا مزعجا عن حقيقة الموت ؛ وقد نجد أنفسنا مدفوعين أحيانا إلى أن نخفي عن أنفسنا حقيقة موتنا ، ولكن سرعان ما تمرّ بنا بعض التجارب السلبية العنيفة ، فلا نلبث أن نقول مع الفيلسوف الرواقي سينيكا : "إذا أردت ألا تخشى الموت ، فإن عليك ألّا تكف لحظة عن التفكير فيه" ، والواقع أنه إذا كان الحيوان – كما يقول "شوبنهور" – يحيا دون أن يعرف الموت ، فذلك لأن الفرد الواحد في داخل النوع الحيواني يتمتع تمتعا مباشرا بكل ما للنوع من ثبات ودوام ، ومن ثم فإنه ليس لديه شعور بذاته الّلهم إلا بوصفه موجودا مستديما لا نهاية له . وأمّا لدى الإنسان فإن انبثاق العقل قد اقترن بالخوف من الموت ، فأصبح لدى الإنسان يقين مزعج عن حقيقة الفناء ، وإذن فإن الشعور بالموت والخوف من الموت إنما هما عرضان من أعراض ذلك الموجود البشري الذي لا يرتد بأسره إلى النوع ، وإنّما يتميّز دائما بفردية نوعية خاصة . وإذا كان الإنسان هو "الحيوان المريض" – على حد تعبير "هيجل" – فما ذلك إلّا لأنه الحيوان الوحيد الذي يعرف أنّه لا محالة ذائق الموت ، والذي لا يريد أن يكون فريسة للنوع ، بل يريد أن يكون البقاء له باعتباره فرداً) (9).

وفي صباح هذا اليوم ، الحادي عشر من أبريل نفسه ، (الساعة 10:55) ، تحاول عائشة أن تتذكّر كم مرّة أخطأت في حياتها ؛ تحاول أن تحصي أخطاءها الماضية . المرة الأولى حينما حاولت التدخين مع بنات عمّها الثلاث لمجرد التمرّد وهربا من خواء هذا العالم (ص 49) . المرة الثانية عندما حاولت تجريب (غرف الدردشة) طلبا للإثارة التي تتنعم بها ابنة عمها حين تمارسها (ص 49 و50) . أما المرة الثالثة فهي مرة يتيمة وضعت فيها أحمر الشفاه على شفتيها قبل دخول الكلية (ص 50) .. تستعيد تلك الأخطاء الثلاثة لترسم لنا صورة عن براءتها وكونها "خام" كما وصفها عدنان وقت خطبتهما . تلخّص حالتها النفسية السلوكية العامة بالقول :

(إنّني أحاول حصر أخطائي فقط .. ولا أتذكّر شيئا ذا قيمة ، لا شيء حتى خطيئتي الأخيرة : أمومتي) (ص 51) .

إنها محاولة دفاعية لم يطلبها منها أحد . محاولة لا تسمح فيها الذاكرة الواعية المتحالفة مع نرجسيتنا والموظّفة لخدمتها بطفو أي ذكرى ترتبط بآثامها الماضية . ذاكرتنا لا تتيح لذكرياتنا بأن تهدّد نرجسيتنا وتهزّ تماسكنا النفسي والإجتماعي . إن ذاكرتنا انتقائية .. ونسياناتنا انتقائية أيضا .. وكلها تجري بما يخدم مصالحنا النفسية الواعية . إن عائشة تنسى أنّها – على سبيل المثال لا الحصر – قد تساءلت قبل قليل لماذا لم ينجح عدنان الذي تزوجها ، لأنها بريئة و"خام" ، في تشكيلها ، وفي تطويعها ، وفق هواه كما يُتوقع من أي طينة طريّة . ولكن أعظم الخطايا التي ارتكبتها عائشة هي "الكتابة" .. الكتابة هي الإثم .. هي الخط الأحمر الذي إذا عبره الفرد وعرف أسرارها تفتّحت عيناه على كل الممكنات "الشيطانية" في الحياة البشرية . ولا أدري ما يعنيه الكثير من النقاد حين يصفون المبدع بالنبوة وأنّه "رسول" الطيبة والبراءة . النبوة خُتمت ، ولم تعد البشرية – بوضعها الجحيمي الحالي - بحاجة إلى أنبياء ، بل إلى شياطين تستطيع اقتحام مجاهيل لاوعيها الجمعي والشخصي وتفجيره أمام أعينها . مع "الكتابة" فقط تشعر المرأة بوجودها .. أي امرأة لن تحقق وجودها إلّا إذا "كتبت" حكايتها . الكتابة هي الدفاع الأصعب – من بين الدفاعات الخمس التي ذكرناها – ضد الموت الذي يتطلّب اشتراطات عميقة لم يستطع لا العلم ولا الفلسفة تحديدها حتى اليوم . ها هي عائشة – كما تستعيد هذه الذكرى في الساعة 11:10 من اليوم نفسه – تسائل الأمهات عن السبب الذي دفعهن للإنجاب .. فيحِرْنَ ويندهشن ، فهنّ – وبرغم كل التبريرات التي لم تقنعها – يمارسن وظيفتهن الأعظم التي نُذرن لها بصورة تلقائية .. والتي تشرّفهن ، وتشرّف الكون بأسره .. الغريب أنّ هذه المهمة الكونية المشرّفة صارت "سُبّة" تحاول التيارات النسوية ما بعد الحداثية مقاومتها . ولا أعلم إذا سار العالم وفق الإنجاز الما بعد حداثوي الجديد المتمثل بالزواج المثلي وعائلة الجنس الواحد .. ما الذي سيحصل ؟ ستخلص الأرض المسكينة منّا نحن البشر الثقلاء التافهين الذين داسوا أشرف مهمة شرّفتهم بها الطبيعة والله . إنّ عائشة غير مقتنعة بالمبررات "التقليدية" للأمومة . إنّها ترفض حتى أن تكون الأمومة فطرة .. فباسم هذه الفطرة - كما ترى - حكمنا على أرواح بريئة بأن تدخل هذا الجحيم الذي يُسمّى الحياة .

وأنظر الآن إلى الطريقة الغير اعتيادية التي تفكّر بها عائشة في الأمومة .. إلى المنظور "الشيطاني" الذي تفتّش فيه عن النواقص التقليدية "المشينة" إذا جاز الوصف في الإجابات التي طرحتها الأمهات اللائي سألت كل واحدة منهن : لماذا قررتِ أن تنجبي ؟ وذلك قبل أن تحبل بعزيز :

(والآن ، وقبل أن أفكّر بأن أزجّ في هذا الوجود روحا إنسانية ، وأتعاطى مع الأمر ببساطة لأنه - كما يقولون - غريزة وبداهة ، كالأكل والجنس والموت ، حريّ بي بأن أفتش عن مبررات أكثر أصالة وحقيقية وإقناعا ، وأنا إلى الآن لم أتوصّل إلى أيّ منها ، لأن عقلي يبحث عن أسباب تتجاوز تلك التي تدفع العنزة إلى إنجاب سبع عنزات من أجل حكاية أخرى) (ص 53) .

إنّ عائشة تفتّش عن سبب للأمومة .. تبحث عن سبب لوجودها ولبقائها .. عن وظائف أخرى للرحم العظيم الذي وهبتها إيّاه العناية الإلهية .. عن سبب للعقل .. للعينين .. للأنف والأذنين . وكأنها تريد استكشاف وظيفة لرحمها غير التي يعرفها البشر منذ ملايين السنين . وهذا تفتيش عصابي لأنه يتضمن – بين ما يتضمن – رفض الأنوثة عبر التشكيك في وظيفتها الأصلية : الأمومة . إنّ ما تقوم به من بحث وما تصل إليه الآن من نتائج يمكن أن تشكل أساسا لأيديولوجيات ونظريات وفلسفات لا يستطيع كل فرد من هذه الحشود المتبلّدة الوصول إليه ، من يصل إليه هو الذي لا يرى في كل ما حوله من حركة خلق وتناسل شيئا مقنعا ومبررا .. هؤلاء هم الأبالسة المبدعون الذين يثيرون بروحهم التعرّضية مثل هذه الإعتراضات على ما هو بدهي في حياتنا ، فيقلقوننا ، ويخلخلون اتفاقاتنا الجمعية المتواطئة !! لنستمع إلى هذا النداء الثوري من بثينة العيسى :

(وهكذا .. أيها الإنسان ، أيها المخايل قليل الحيلة ، لقد أصبحتَ اليوم – بفضل تطوّرك وتفوّقك – بحاجة إلى أسباب للحياة ، ويقع العبء الأعظم عليكِ أيتها المرأة ، أيتها الأم الكونية ، يا سيّدة الخصب ، يا أرض الميلاد ، لكي تعثري على تلك الأسباب ! مبروك ، لقد آن الأوان لكي تتدخّل الثقافة في الغريزة ، لأن نسائل البداهة المزعومة الكامنة في الأشياء ، إفرازات النسق الفحولي الذي جعل المرأة فقّاسة بيض ، الإمبريالية الإجتماعية المهووسة في مدّ النفوذ من خلال التكاثر . آن الأوان لكي نسائل كلّ هذا ، ونتساءل قليلا : ما هي الأمومة ؟ ) (ص 53) .

إنّ عائشة هي التي تحاول إدخال العقل البحثي القلق في شؤون الفطرة المُستقيمة المُطمئنة . ومن وجهة نظري إنّ واحدا من أهم الأسباب على المستوى النفسي التي تدفعنا لـ "البحث" العميق في ما هو مقرّر هو "القلق" .. القلق من الشيء المبحوث نفسه .. الخوف من الوقوع فيه .. وحقّ لعلي بن أبي طالب – من جديد – أن يقول : "إذا هِبتَ أمراً فقعْ فيه" . إنّ وعينا القلِق وكأنه يريد أن يبعد عنه مصادر القلق عن طريق تعطيل الوقوع فيها بمسافة البحث وفواصله الزمنية التي يمكن أن تتطاول إلى أشواط لا تُحدّ مثل تلك المباحث الفلسفية التي لم تصل شواطيء القناعة المستقرة منذ آلاف السنين . وهذا السبب نفسه – مع توسيع النظرة وأعماقها – هو الذي جعل عزيز يأتي صحيحا ولكن بلا عافية كما تقول أمّه (ص 54) . كان سليما تماماً من كلّ مرض ، ولكنه كان في الوقت نفسه أضعف مما يجب . في عامه الأول كان بالكاد يتحرّك ، لا يعرف كيف يأكل ، ولا يرضع ، وإذا رضع فإنه يتقيّأ كل شيء خلال دقائق . كان يشحب ويصفر ويجفّ . وحين كانت تحمله إلى المشفى ليضعوا له محلولا مغذّيا ينقذ حياته لأنه لم يتناول شيئا منذ يومين ، كانت تُقابل دائما بدهشة الطاقم الطبي الذي لا يفهم كيف يمكن أن تغدو مهمة إطعام طفل بهذه الصعوبة (ص 54) .

وفوق ذلك كانت هناك ظاهرة نوبات العناد .. بل العناد الدائم في سلوكه . وبسبب هذه النوبات اللامتناهية التي واجهتها عائشة ، وحيدة ، بعد أن خذلها الجميع حتى زوجها ، استشارت طبيباً نفسيّاً عن اضطراب سلوك طفلها ، وأخبرته بأن ولدها لا يطمئن لها ويرفض كل ما تقدّمه له . أخبرته بأن الأطباء كانوا قد شخّصوا مرضه بأنه فشل في النمو – failure to thrive ، ويعني تعثّر وزن الطفل ونقصه وتخلّفه عن عمره ، ويحصل لأسباب كثيرة منها ما هو عضوي ومنها ما هو نفسي واجتماعي . لكن الطبيب النفسي أضاف إلى ذلك لفتة تشخيصية مهمة جداً حين أخبرها بأنّ الأطفال الذين يعانون من فقدان النمو يعانون أيضا ممّا سمّاه "الإتصال القلق" عند الأطفال والذي سخرت منه بلطف حين قالت :

(وراح يعيد المصطلح عليّ مراراً كما لو كان يتباهى به) (ص 58) .

وأعتقد أن التعبير الدقيق في الطب النفسي ، هو اضطراب الإرتباط أو التعلّق بين الطفل وأمّه بشكل خاص .  العلاقة الحميمة والدافئة بين الطفل وأمّه أساسية حتى للرضاعة . بعض الأطفال المولودين حديثا يمتنعون عن التقام ثدي الأم ويرفضون الرضاعة حتى الموت . وأعتقد أن هناك عاملا خفيّا لا يُنتبه إليه عادة ، وهو تقبّل الأم لرضيعها منذ المراحل المبكرة للتفكير في الإنجاب .. أي الإستعداد النفسي لدى الأم للأمومة قبل الحبل . قام عالم أمريكي بوضع بيض للبطّ في حاضنة اصطناعية للتفقيس ، وكان يكلّم البيض يوميا بصوته وبلغتنا البشرية . بعد التفقيس كان صغار البط تنجذب نحو صوته وتسير خلفه . التجارب التي أُجريت على صغار القردة أثبتت أن الارتباط غير مبني على أساس الحاجة للتغذية. فقد تُرك قرد صغير في قفص مع دمية قردة أمّ مصنوعة من أسلاك ومزودة بأثداء صناعية ، لكنه كان يتركها بعد الرضاعة ويتعلق بدمية أخرى مغطاة بجلد قرد طبيعي (10) . هناك مجسات لدى الطفل الصغير يستشعر بها طبيعة ردود فعل الأبوين – الأم خصوصا – وهل يَقبَلانه بدفء وشغف حقيقي أم لا . تنتقل هذه المشاعر عبر الإحتضان والملامسة الجلدية . لكن ما حصل لعزيز هو أنه "أحسّ" بأنه غير مقبول من أمّه . أمّه لم تكن تحمل النظرة الصحيحة إلى الأمومة ولا إلى معاني الطفل الوليد كما أسلفنا . كانت – فوق ذلك - مُحبطة في علاقتها الزوجية . والأخطر أنّها كارهة لذاتها بالرغم من أنّها كانت مدلّلة أبيها في طفولتها ؛ الأب الحنون الذي مات وهي طفلة صغيرة فجاء ردّ فعلها غريبا وذا معان رمزية شديدة الإيحاء ، فقد اختفت يوم مات أبوها ثم عثر عليها أخوتها مختبئة أعلى شجرة السدر . لقد اختُزن هذا الخذلان الأبوي المبكر كجرح عميق في النفس الغضة وظلت ندبته حسّاسة استثيرت بعد الزواج حيث لم تجد تعويضا له بعدنان ، حيث يكون الزوج بديلا للأب في لاشعور البنت . لقد كانت "أنانية" في أمومتها كما وصفت نفسها ، ولكن ليس من منظورها ، بل من خلال "استغلال" الإنجاب لتعويض النقص "المُتخيّل" الذي لم يكمله الأب في تطورها النفسجنسي . وبرحيل الأب المبكر أيضا لم ينمُ ضمير البنت بصورة سويّة ، فكان من الممكن أن تكون قاسية ومتمحورة حول ذاتها التي اشمأزت منها مبكرا بصورة دفينة بفعل الخذلان الأبوي .
ولأن الأحلام هي الطريق الملوكي نحو قلعة اللاشعور ، فإن تكرار كوابيس الغرق التي ذكرتها في بداية الرواية ، وبما تحمله من مضمون عقابي ، يعكس أيضا الحاجة للإنقاذ وكأنها هي الهدف الذي يتطلب الإنقاذ لا طفلها عزيز . وإذ تصف طفلها باضطرابه السلوكي المتعب بأنّه كان "بابا مقفلا" فهي تقوم في الحقيقة بإسقاط حالها النفسي آنذاك عليه بصورة مقابلة :

(لقد كان بابا مُقفلا .. وهو لما يتجاوز عامه الثالث ، حتى صرتُ أشعر بأنه يهوى تعذيبي) (ص 57) .

ومن الطبيعي أن ينتهي الأمر بهذه العلاقة المتوترة إلى أن يكونا : الأم والإبن معسكرين متقابلين ؛ جبهتان تتصارعان بدلا من أن تكونا ملتحمتين بودّ وحرارة :

(هكذا انتهى بنا الأمر إلى التحديق في بعضنا البعض طوال الوقت . هو ينظر إليّ بغضب ، وأنا .. لم أكن أنظر إليه : كنتُ أخافه ، كان مرآهُ يستنهض آثامي ، حياته كانت في عنقي ولم أكن قادرة .. لم أكن كافية .

بلغت ذنوبي مبلغها عندما بدأتُ اشعر في داخلي بأنني ضحيته بقدر ما هو ضحيتي . الأمومة التي انتظرتها وكأنها الخلاص لم تمنحني إلّا عذابات الضمير ، وساعات النوم القليلة ، والبكاء المتواصل ، والشتائم ) (ص 58) .

 

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

إقرأ للكاتب أيضا :

 

مظفر النواب: (1)

وحالة ( ما بعد الحب )

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفّر النوّاب : (2)  

من مفاتيح الحداثة

 في قصيدة "للريل وحمد"

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (3)

 اللغة تقاوم الموت

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (4)

 شتائم ما بعد النقمة

 د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النوّاب : (5)

الصانع الأمهر

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (6)

ملاعبة المثكل الخلّاقة

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (7)

الإنفعال الصاخب المُعدي

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (1)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (2)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (4)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

بثينة خضر مكي في "أغنية النار" : البساطة المميتة  (2)

د. حسين سرمك حسن 

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

بثينة خضر مكي في "أغنية النار" :

 البساطة المميتة  (3/الأخيرة)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (5)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (6)

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا