%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال لا للخصخصة لا للفيدرالية لا للعولمة والتبعية |
|||
---|---|---|---|---|
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين |
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |
مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :
بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :
إنانا الحكاية العربية الجديدة (4)
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة - 21/4/2014
وعائشة – ومن ورائها الروائية – تتيح لنا أن نعيش هذا الإمتداد الخلودي الرمزي وننعم بعطاياه معها .. أن نموت ونولد من جديد .. أن نكون اسياد مصائرنا والمتحكّمين بموتنا . فـ :
(الحياة تفتقر وتفقد أهميتها حينما لا يتعرض للخطر أغلى ما في لعبة العيش نفسها من قيمة وهو الحياة نفسها . إنها تصبح مسطّحة . إن روابطنا الوجدانية ، وشدة حزننا غير المحتملة تجعلنا لا نميل إلى جلب الخطر لأنفسنا ولأولئك الذين ينتمون إلينا . إننا لا نجرؤ على أن نفكر في القيام بأشياء كثيرة للغاية ، تكون خطرة ، ولكنها مما لا غنى عنه . ويشلنا التفكير في من سيحل محل الإبن لدى الأم ، والزوج لدى الزوجة ، والأب لدى الأبناء ، إذا ما وقعت كارثة . ويجر استبعادنا الموت من حساباتنا في أعقابه عددا من الاستنكارات والاستثناءات . ونتيجة حتمية لهذا كله أنه يتعين علينا أن نبحث في عالم الرواية ، في عالم الأدب بشكل عام ، عن تعويض عن إفقار الحياة وتسطحها ، فهناك لا نزال نجد أناسا يعرفون كيف يموتون ، بل أنهم في الحقيقة قادرون على قتل آخر ، وهناك فقط يمكننا أن نستمتع بالظرف الذي يجعل في إمكاننا أن نروّض أنفسنا على الموت . أي أننا خلف كل تقلبات الحياة ، نحتفظ بوجودنا دون أن يمسّه شيء . ذلك أنه من المحزن للغاية أن يكون الأمر في الحياة كما في لعبة الشطرنج ، حيث يمكن أن تؤدي حركة خاطئة واحدة إلى خسارتنا المباراة ، ولكن مع اختلاف هو أنه لا يمكننا أن ندخل مباراة ثانية في الحياة ، فلا مباراة إعادة ولا تعادل ، أما في مجال الأسطورة والرواية فإننا نكتشف ذلك التعدّد في الحياة الذي نتوق إليه . إننا نموت في شخص بطل معين ومع ذلك فإننا نعيش بعده ، ونحن مستعدون لأن نموت مرة أخرى مع البطل التاريخي بالقدر نفسه من الأمان) (6).
هذه المشاعر الطافحة بالرهاوة والسيطرة التي تحسّ بها عائشة، هي مشاعر مُعدية ومباركة تتيح لنا فرصة لا تعوّض لاستعادة أنفسنا الضائعة في دوامة الفزع من المصير المحتوم، وهي تتيح لنا "أقران" و"نماذج" "جرّبت" موتها من قبل .. ونجحت في التلاعب بالمثكل ورسم مصيرها كما تجده عائشة الآن في الإلهة "إنانا" العراقية صاحبة أول وأجرأ مقارعة للمثكل في التاريخ :
(إنني أستعيدني الآن ، في الأيام السبعة التي تبقت لي . أتذكرني ، أسترجعني ، بعد حياة الإستلاب والتشيؤ . الكتابة ليلة البارحة ، والمراجع التي تغطي سريري ، وإنانا التي ظهرت في المنام .. كل شيء يبدو جميلا الآن . أشعر بأنني أقوى ، وبأنّ في غرفتي هواء نظيف ، لم يفسده العالم . أحس بأنني بِكر ، وبأنني وُلدتُ للتو ، وبأنّ حياتي في السبعة أيام القادمة ستكون ذات معنى.
الكتابة تأخذ بي إلى تعاريج ما حلمتُ بها ، كلما قررتُ أن أكتب عن حياتي ، عمّا حدث وعمّا يحدث ، يملؤني الوجود ويفيض العالم وتصبح الكتابة أكثر التباسا ، تسكنني الأساطير ، ربّات سومريات ، قصائد وألواح طينية ، عوالم تتفتق ، وأنا مفتونة بالأكوان التي تعمر غرفتي ، سكرتُ بالعالم ، سكرتُ بالموت ، والمعرفة ، سكرتُ .. أنا منذورة للكتابة ، مصطفاة من أجلها ، وأكتبُ وكأن قلبي محبرة) (ص 31) .
ولكن علينا – وقد تكون هذه الخطوة هي الخطوة التحليلية التمهيدية لإفساد جمالية النص الهادرة – أن نلتفت للكتابة حين تكون دفاعاً .. حين تكون وسيلة لإخفاء الأفكار الباطنة الحقيقية وتشكيل ما يخالفها خصوصا عندما تكون للراوية والروائية بطبيعة الحال هذه القدرة اللغوية الشعرية العالية الباهرة . علينا أن نكون يقظين للإلتفات للأمور الإجرائية العملية الفاعلة في استدراجنا نحو الكارثة في الوقت الذي نُنكر فيه أي دور لإرادتنا الذاتية – العوامل اللاواعية خصوصا – في هذا الإتجاه .
لقد تزوّجت عائشة من عدنان بصورة تقليدية معروفة في مجتمعاتنا .. عرض عليها أخوها مواصفات العريس الجيّدة فقالت ببساطة : "اللي تشوفونه" فابتهج الجميع بالموافقة (ص 34) . لكن عائشة لم تعش علاقة زوجية دافئة وحميمة كما يُنتظر ، بل كانت تحس بفراغ هائل لا يُحتمل في هذه العلاقة . كانت بعيدة نفسيا عن زوجها بالرغم من خصاله العامة الجيّدة ؛ هذا الفراغ الفاحش والإنفصال الشاسع أوقعها في هاوية الكآبة ممتزجة بمشاعر موجعة من الإحساس بالعجز والنقص في تغيير واقعها :(زوجي ليس سيّئاً مثل غيره .. مؤدّب إلى حدّ كبير .. هل هذا يعني أن المشكلة تكمن فيّ ؟ أم أن امتيازات الرجل وخصال المرأة ليست اسبابا كافية لخلق علاقة سعيدة ؟ ولكن مَنَ أكون أنا لكي أشكّك في النظام ؟ من أكون أنا ، لكي أقترح صيغة بديلة للزواج ، وشكلا مختلفا للعلاقة ؟ بكائي السرّي كل ليلة ، بدون سبب ، كان عادتي الخفيّة التي لا يعلم بها أحد ، وبعد مرور السنة الأولى كنتُ على مفترق طرق : أمّا أن أدمن حبوب الإكتئاب ، أو أنجب أبناء من هذا الرجل لكي أنشغل بهم ، عنه وعنّي) (ص 35) .
وهنا لابدّ أن تطرق على بوابات أذهاننا الكيفية التي وصلت فيها عائشة إلى موقع القناعة بالأمومة والإنجاب ومبرراتها . لقد كانت الأمومة – في الحقيقة – قراراً "علاجيا" شأنه شأن أي وسيلة علاجية أخرى كالعقاقير المضادة للإكتئاب مثلا !! وهو خيار غريب وينطوي في طيّاته الدفينة على مؤشرات شديدة الخطورة عن البنية الشخصية والنفسية العميقة لعائشة . فمن المتوقّع أن تكون الأمومة بالنسبة للأنثى هي خلاصة وجودها وذروة إحساسها بقيمتها وبدورها الوجودي بل الكوني . ليس عبثا أن أوّل إله عُبد في أرض سومر العظيمة كان : أنثى . إلى قبل مئتي سنة لم يكن البشر يعرفون الدور الحقيقي للذكر في حمل الأنثى وتخصيبها . كانت الفاصلة - وما زالت - بين مواقعة الرجل للمرأة وانتفاخ رحمها ، لغزا محيّرا لم يستطع العلم فك تعقيداته إلّا بعد جهد علمي هائل حديث . الأمومة والإنجاب هما شرف المرأة وعلامة ألوهتها . لكن عائشة تنظر إلى هذه المهمّة المقدّسة كخيار علاجي وحلّ يومي عادي لفراغها الذي تعانيه في حياتها الزوجية . هذا الموقف سيكون شديد الأذى في تحديد موقف الأم اللاحق من وليدها الذي عليه أن يكون "لُعبة" لملء الفراغ . وفي هذا ظلم كبير له وإهانة لشرف الأمومة وتسطيح لما تتضمنه من مسؤولية عظيمة وثقيلة . لقد ظلمت عائشة طفلها حتى قبل أن يأتي إلى الحياة .. حتى قبل أن تحبل به ، وها هي تعترف بهذا الظلم المشفوع بأنانية مُغثية :
(اخترتُ الطريق الأقل وعورة والأكثر أمانا : اخترتُ أن أنجب ! والآن أرقص رقصة الطير ذبيح الألم ، على نشيج المعرّي :
ألا تفكرتَ قبل النسلِ في زمنٍ
به حللتَ فتدري اين تُلقيهِ
ترجو له من نعيم الدهر ممتنعاً
وما علمتَ بأن العيش يشقيهِ
كانت تلك أنانية منّي ... ) (ص 36)
ولعل من بين أعظم عطايا هذه الرواية هو هذه اللغة الشعرية المنضبطة التي جعلت النص رشيقا وبلا استطالات ولا ترهّلات مثل ثوب الموديل .. لكن أي لغة شعرية ؟! لغة القلوب المقطّعة .. لغة الأرواح الممزقة .. مراث تُعلّق على أبواب الأضرحة وشواهد القبور .. طوفان صور يأتي كطعنات متلاحقة تدمي النفس المكلومة :
(بكائي حادّ مدبّب الأطراف ، مثل شفرة مغروسة في معصمي
.........
بكائي مهرّج يضرب رأسه بالجدار لأنّه ليس مضحكا
بكائي سجين يلحس قضبان الزنزانة لعلّها تذوب
بكائي وجهٌ محروقٌ بأسيد الذاكرة
بكائي معتّق وموجع ، مثل ذنب لا توبة له
بكائي ، هذا المساء ، يشبهك ، يا حزني الغافي في ليل قلبي ،
خفيّاً وملتبساً ، يا ولدي
بكائي هذا المساء له عينيك وشفتيك وأرنبة أنفك
بكائي هذا المساء له وجهك يا عزيز ) (ص 37)أو لوحة التكفير والإعتراف الدامية هذه :
(هل ترى ما حلّ بأمّك من بعدك يا ولدي ؟ إنني أموت في شهقاتي ، وعندما أموت فعلا ، عندما أموت حقا ، سأضمّ روحك إلى روحي ولن أدعك تفلت ، سأكون الأم التي تريدها ، سأكفّر عن عقوقي يا ولدي وأهبك عناقا أبديا . أنا أمك الجبانة التي لم تكن لتكفيك في حياتك ، سأكفيك في موتك يا عزيز ، سأفيض عن حاجتك ، سأهرع إليك وأعصرك بين أضلاعي . تعال إلى أمّك يا عزيز . تعال إليّ فقد جفّت عروقي وما عدتُ أطيق هذا العالم ، تعال ) (ص 43) .
نعم .. لقد أنجبته لأسباب "ترفيهية" بلا تردّد ، ولم يكن لديها دافع الأمومة العظيم المقدّس الذي يشرّف وجودها . لقد كانت سمة "التضاد الوجداني – Ambivalence" التي تحكم مواقفنا النفسية تجاه أغلب الموضوعات في حياتنا النفسية كما رأينا في الموقف أزاء الموت مثلا ، مميزة لموقف عائشة من وليدها . كانت مزيجا من القبول وعدم القبول .. الإقبال على الإنجاب لمداراة خيبتها في الزواج ، والإحجام عن التصدّي لواجبات الأمومة الجبّارة . والأمر الذي ضاعف من تفاقم هذا الموقف هو أنّ عزيزا لم يأت "لُعبة" مؤنسة كما وصفته أمّه عائشة المتلهّفة على إشغال روحها الضجرة السئمة . لقد جاء “لُعبة” مُنهكة وتالفة تطلبت الكثير من جهود الإصلاح والرعاية المركزة . حتى كـ "لُعبة" لم يشفِ غليلها . وحتى في حمله خضعت عائشة لسنتين من العلاج المتنوّع والمحاولات المستميتة . لقد ترهّلت وتساقط شعرها وصارت أعصابها أكثر حدّة . كان الحمل بعزيز متعبا وتطلب منها جهودا جبّارة خلاف النسوة اللائي يأتيهن الجنين وينغرس في أحشائهن بـ "متعة" ويسر وكأنه هبة من السماء لا يبذلن سوى مراقبة رحمهن الحاني وهو ينتفخ كفردوس للجنين ، بل يستمتعن بعنائهن اللذيذ . فالحمل والولادة سوف يمثلان النقلة اللاشعورية التي تصعد بالمرأة بصمت وهدوء إلى مصاف الألوهة ، أقولها بلا تردد . ولهذا تجد الزوجة المنجبة تتحمّل كل صنوف القهر في عالمنا من أجل "خلقها" . إنها حالة أكثر من الألوهة فالآلهة في الأساطير والأديان تخلق الإنسان وترميه في مسارب هذا العالم الجائر وتهمله أحيانا، بل تهمل شعوبا كاملة حتى الموت . لكن المرأة الأم الإلهة لا يمكن أن تهمل خلقها .. لا تتخلى لحظة واحدة عن عبادها .. إلّا في حالات نفسية مضطربة نادرة ، ومنها حالة عائشة هذه . عائشة كانت تنتظر – كما قالت لنا وقلنا - لعبة تستمتع بها وتقتل بها فراغها النفسي الموحش فجاءها طفل يضع على أكتافها عبء العناية المضاعف لـ "تصليحه" كي يكون لُعبة أخّاذة ، ولم تفلح هي ، ولم ينجح هو في الإستجابة كي يرضي طموحاتها النرجسية :
(كنتُ أتصرف معك كما لو كنت لعبتي ، اللعبة التي انتظرتها طوال عمري ، الكائن الحي والحقيقي الذي قُدّ من لحمي ودمي لكي يسعني أن أغيّر له حفاظه وبيجامته وأجرّه في عربة الأطفال في السوق متباهية به ، شيء واحد فاتني أن أخطط له ، أو أفكر به ، الشيء الوحيد الذي كان يفترض أن أفكر به : الأمومة ! مثل الجميع ظننتُ بأن الأمومة هي شيء مجّاني يوهب للأنثى بمجيء الطفل . هذا لم يحدث معي ، لقد أردتُ أن استمتع بك وحسب ، ولم يخطر لي بأنني سأكون المسؤولة عن حياتك ، وعن موتك أيضا) (ص 42) .
إنّ من نتائج وظيفة الأمومة أن الأم تكون في ذروة الإبتهاج بوليدها مهما كان (ألهذا تقول الحكمة الشعبية الباهرة : القرد في عين أمّه غزال ؟!) . إنّ الطفل نتاج أمّه حسب ، ودليل قدرتها الخالقة التي لا تُضاهى . لكن بعض الأمهات - في الحقيقة - يردن الوليد "قضيبا" يبارزن به الآخرين .. والويل الويل حين تفشل حتى هذه المحاولة في الصراع الذكوري الخفي ويأتي الوليد ضعيفاً هزيلاً ومريضاً مزمناً .
لكنني أعتقد أن عائشة في اتجاهها إلى الإنجاب ، كانت مدفوعة إليه أيضا كوسيلة لسدّ الفراغ في علاقتها الزوجية .. كتعويض عن وشائج الحب الغائب :
(أعترف بأن الأمر أعجبني . أعجبني الإهتمام الذي يوليه [= عدنان] لي ، وأعجبني أن أجد ما أحدّثه عنه ، كنتَ تلك الجغرافيا التي افتعلناها معا لكي نداري زيف هذا الزواج . أردناك أن تأتي ، يا ولدي ، لكي تردم الصدع الذي امتد بيننا . حمّلناك فوق طاقتك ، طالبناك بأن ترفع شاسع الفراغ ، أن تكون موضوعنا المفضّل ، وشغلنا الشاغل ، ولغتنا المشتركة البكماء . أردنا شيئا نتحدّث عنه ) (ص 41) .
إنّ "الخفّة" المقيتة التي كانت تتعامل بها مع "عقدة" طفلها عزيز – ولا عذر لها بأي عوامل مُضنية مرتبطة بحالته المزمنة التي حاولت استدرار عطفنا من خلالها – تتجلى في سلسلة "اعترافاتها" الكاشفة التي "تنسرب" ، وهي تحكي لنا عذاباتها المؤرقة ، وهي تتنقل بطفلها بين المشافي وتعجز عن ترويض عناده المسنّن لخمس سنوات ، حيث بلغت تلك الإعترافات الذروة حين تقول وهي تراجع تفاصيل عذاباتها مع مرض ابنها المعنّد :
(انحسرتُ خارج أمومتي ، هربتُ إلى داخلي ، مثلي مثله ؛ أعني عدنان ، كلانا اختبأ داخل جلده ، أغلق مسامه ، أطفأ روحه ، وتركنا الصغير يسائل العالم بعينيه الكبيرتين ، وكانت أسئلته حارقة كالأسيد ، تكوي كبدي ، كلما رمقته – بالخطأ – وهو يحاول أن يزحف على بطنه مثلا ، لكي يصل إلى لعبة ملقاة على الأرض ، لأعود وأدسّ رأسي في كتاب ، أو أواصل التفرّج على المسلسل التركي وألعن غياب الرومانسية من حياتي !!) (ص 59) .
وعائشة - وبتصميم الكاتبة طبعاً - تروي لنا الحوادث التي تمرّ بها والمعاناة التي تواجهها وهي تنتظر الموت ساعة بساعة . ومع هذا الإنتظار المرعب للموت للمرة الرابعة ، الفاصلة والأخيرة كما تتوقّعها هي - يأتي سيل من الذكريات القاتمة والمخيفة عن تفصيلات حوادث "الوفيات" الثلاث الماضيات ، وعن – وهذا هو الأهم – وقائع حياتها الماضية التي تكشف جوانب من علاقتها بذاتها – وهذا أمر لا يجوز التغافل عنه – وبزوجها وبالآخرين . لقد بدأت تحكي حكاية انتظار موتها مشتبكة بتحوّلات حياتها الماضية والحاضرة منذ الساعة الثانية عشرة ظهر يوم العاشر من أبريل/ نيسان من عام 2011 . وها نحن معها في الساعة 4:53 من صباح يوم الحادي عشر من أبريل / نيسان من العام نفسه (2010) .. أي أن ما تبقى لها من زمن لخوض الجولة الأخيرة القاضية هو ستة أيام حيث يحل يوم 18 أبريل / نيسان الذكرى السنوية لرحيل عزيزها .. ذكرى جنايتها الكبرى التي قلبت حياتها لأنها كشفت حقيقتها الشخصية الدفينة . وإذا كان سيل الذكريات والحوادث وما ترتب عليها من موقف نهائي تعيد عائشة إعلانه ، ويتلخّص بإصرارها العنيد على أن ترحل عند حلول الذكرى المقبلة للإلتحام بعزيزها في العالم الآخر فتريح وتستريح ، فإن لواعج عابرة .. واختلاجات بسيطة .. وحاجات جزئية تبدأ بالتقلّص في عمق واقعها الغريزي والعاطفي ؛ اختلاجات تكشف دقّة مكتشف التحليل حول موقفنا المتضاد من الموت . فلاشعورنا لا يمكن أن يقر بفنائنا الشخصي . هذه قناعة لا تمر به (باللاشعور) لأنه لا يمتلك أي أرضية لاستقبالها هو المتخم بأحاسيس الخلود . ها هي الإختلاجة الأولى تأتي في هذا الفجر حين تسمع عائشة صوت باب الشقة يُفتح معلنا عودة زوجها . كانت ترتّل – ولاحظ التوظيف القرآني البليغ والمناسب الذي سيقول عنه نقاد الحداثة العرب الأشاوس مُحبّوا تأويلات "النقد الجديد" بأنه ترتيل توراتي - :
(يا أيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ . نحن أسرة منكوبة وصدعها فادح ، ولا أعرف كيف أتصرف في مثل هذه الأوقات إلّا بالكتابة ... لسبب ما ازرقّ وجهي ، وانطفأت عيني ، ونحل جسدي ، كلّ شيء فيّ يوحي بالرحيل الوشيك ، لقد اصبحتُ موتي الخاص) (ص 44) .
إنّها وسط دوّامة انفعالات الإستعداد للرحيل الوشيك نفسها . لكن وسط هذه الدوّامة تنتفض حاجة قد يعتبرها السيّد القاريء بسيطة ، لكنها - في حقيقتها النفسية - البليغة علامة على كلّ الحياة . لقد أحسّت ، وللمرة الأولى منذ سنوات ، بالحاجة إلى النوم / هناك ، على نفس الأريكة ، ملتصقة بزوجها ، متوسّدة ذراعه ، متشبثة بملابسه ، تحت بطانية سميكة ودافئة . اشتهت النوم إلى جانبه . وكأن لسان حالها يريد أن يصيح : "إشتروني" ! لأول مرة ، ومنذ أربع سنوات مُرهِقة عانت وعانا هو أيضا - فيها من الوحدة والإنفصال ، تحسّ بالرغبة في النوم إلى جانب زوجها . هي نفسها تشعر بأن هذا إعلان منها – وإن حاولت ترميمه وتبريره بأنه "من دون قصد" - باعترافها بالحياة أو إعجابها بالحياة بكل أبعادها (ص 44) . إنها - في الواقع - وبعد أن استيقظت بفعل إدراكها الموت عموما ، وموتها الشخصي خصوصا كمشكلة وعي وإدراك ومعضلة وجود ، وليس كقدر مسلّم به ، تعود - وبفعل قوى اللاشعور – لـ "تنام" حسب مقولة علي بن ابي طالب العظيمة .
د. حسين سرمك حسن
إقرأ للكاتب أيضا :
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|