<%@ Language=JavaScript %> د. حسين سرمك حسن مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية : بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" : إنانا الحكاية العربية الجديدة  (7)

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

 

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

 

بثينة العيسى في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

 

إنانا الحكاية العربية الجديدة 

 

 (7)

 

 

د. حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة - 21/4/2014

 

ولهذا كانت أجرأ محاولة في التاريخ لاستكشاف لغز الموت هي محاولة امرأة : إنانا ، في نزولها الجسور إلى العالم الأسفل .. عالم الظلمات .. عالم الموت .. ولهذا – أيضا – صارت إنانا شقيقة روح عائشة في منامها ويقظتها كما أسلفنا ؛ في منامها عبر أحلامها الليلية ، وفي يقظتها عبر قراءاتها عن الموت وأسطورة نزولها إلى العالم الأسفل ، ومن خلال خيالاتها النهارية (أحلام اليقظة) .

كان أول تجلٍّ لإنانا في أحلام عائشة هو ما سجّلته في ذكريات الساعة 23:11 صباحا من اليوم العاشر من أبريل 2010 ، يوم نامت الأخيرة بدون قصد ، فرأت الربّة السومرية في المنام ، وسألتها (أي سألت عائشة) : متى ستنزلين إلى العالم الأسفل ؟ (ص 30) . وهو سؤال مقتدِر يعكس الرهاوة النفسية التي عبّرت عنها عائشة بقولها أنها صارت تمارس على الحياة نوعا من السيادة لأنها تختار أن تكون ، بالكتابة ، وباختيارها هذا السبيل ستكون سيّدة لموتها أيضاً . من يكون سيّد حياته من المتوقّع أن يكون سيّد موته . لكن ما هو حال قطعان العبيد التي لم تتسيّد على حياتها بعد وهي في القرن الحادي والعشرين ؟!

أمّا التجلّي الثاني لإنانا ، فقد كان حلميّاً أيضاً ، في الساعة 3:06 مساء من اليوم الحادي عشر من أبريل عام 2010 ، حيث رأتها وقد شدّت إلى وسطها ألواح الأقدار السبعة ، وعلى رأسها التاج ، وفي يدها الصولجان اللازوردي ، متهيّئة للنزول إلى العالم السفلي . كانت إنانا على مبعدة سبع خطوات منها (ص 60 و61) . وليس عبثا أن الروائية قد صممت مهلة انتظار عائشة لموتها بسبعة أيام ، فالرقم سبعة - بأبعاده الأسطورية والدينية المعروفة - هو الرقم المتسيّد في الحكاية . ها هي إنانا تبعد عن عائشة بسبع خطوات .. وسوف تنزل سبع طبقات .. وسوف .. وسوف .. كما سنرى .

غرقت عائشة في أسطورة نزول إنانا ، في الوقت الذي يسخر مَنْ حولها ، من هذا الولع الجديد الذي لا يؤكل خبزاً بطبيعة الحال .

يأتي التجلّي الثالث في ذكريات اليوم الثاني عشر من عام 2010 (الساعة 7:30 صباحا) في حلم يحمل معاني أكثر تقدّماً من الناحية الدلالية النفسية :

(بالأمس قالت إنانا : عائشة ، يا رسولتي الطيّبة ، لا طاقة لكِ على حمل كلماتي ، ألواحي ستتفتت بين يديكِ ،  صولجاني أكبر من يدك ، تاجي لا يلمع على رأسك ، يا عائشة ، إني لهابطة إلى العالم السفلي .. إنّي لهابطة إلى العالم السفلي . وأنتِ ..

ثم أفقتُ . لماذا افقتُ . ماذا كانت ستقول لي ؟ ) (ص 90) .

هذا الحلم جارح قليلا لكبرياء عائشة . فمن بين كلمات إنانا تتضح عدم كفاية عائشة على التصدّي لمهمة النزول كما تصدّت لها إنانا بروح اقتحامية . فإنانا ترى أن عائشة لا طاقة لها على حمل ألواح الإلهة وتاجها وصولجانها . ببساطة ما تزال عائشة مرعوبة من الموت . ولو عدنا إلى التجليّات الحلمية الثلاثة ، لوجدناها تتّسق مع مراحل النمو النفسي وتحوّلات فكر عائشة عن الموت والحياة ، وردود فعلها الإستجابية تجاه محنة فَقْد عزيزها . ومن الطبيعي أن تنضاف – وبعبقرية لاشعورنا – سمات "فرديّة" إلى السمات العامة المؤسسة للرموز الأسطورية التي نتعلّق بها عبر القراءات ، وهي أصلا مختزنة في طيّات لاشعورنا الجمعي . فإنانا عائشة تختلف عن إنانا التي قرأناها في الكتب . كانت إنانا أحلامها ذات وجه كالقمر ، في يُسراها الأزهار ، وفي يمناها صولجانها ، تتهادى في مشيها نحو العالم السفلي واثقة مطمئنة . لم تكن خائفة . كانت تنزل إلى العالم السفلي كما لو أنها بصدد زيارة عائلية لأختها "إريشكيجال" مرتدية تاجها وأقحوان أبيض في يدها (ص 91) . ولأن وظيفة الأحلام الأولى والكبرى هي إشباع الرغبات المكبوتة ، فإن عائشة تشير إلى أن مجيء إنانا في مناماتها هو لهدف رئيس هو أن تجعل الموت بسيطا .

إنّ للأحلام وظائف علاجيّة . إنّها تمدّنا بالقدرة على رؤية ما هو مخفي من شخصياتنا .. تمنحنا الأنموذج والدرس .. تتيح لنا معرفة جوانب من الغد بقدرتها النبوئية .. لا تكشف عن عقد وكبوتات الماضي بل عن توقّعات المستقبل .. تجعلنا نحيا في النوم صراعات درامية هي دروس تروّض مصادر قلقنا في اليقظة الواقعية ، وقد تُفلح في إطفائها بشرط أن نحترمها ونثمّن جهدها وما تحمله من دروس بالرغم من ظاهرها المفكّك والذي قد يبعث على السخرية في بعض الأحوال .
ها هي عائشة تجلس على شاطيء البحر ، وتحلم في المرة الأولى التي تخرج فيها بمفردها وسط ضجيج آلامها :

(حلمتُ بي أنزل إلى البحر وألمس الماء ، حلمتُ باسماك فضّية تسبح بين ساقي ، وحلمتُ بي أفعل أشياء .. أشياء كثيرة لم يخطر لي قط أن أفعلها رغم كل هذا الوقت الكثير الذي كان لديّ ! لم يخطر لي يوما أن أجذب الحياة حتى أطرافها القصيّة ، أن أتطرف في الوجود ، وحزنتُ ) (ص 93) .

صارت عائشة - وبعد صراعها مع دوامة محنتها - تستمع إلى نداءات داخلها بعد أن كانت لا تسمع سوى نداءات العبودية الآتية من الخارج ، وصخب الحياة اليومية في دائرة حياتها الزوجية الخانقة . صارت أحلامها منعمة ومُتخمة بالرموز العشتارية : الماء ، والسمك ، والبحر ، والسباحة .. بعد أن كانت كوابيس سود مكتظة بحوادث الموت والغرق والإختناق .

لأول مرّة منذ سنوات "ترى" إمكانات الحياة الخلّابة التي كانت أمامها ، ولكنها لم تكن "تراها" . لأول مرة ، منذ سنين ، تأكل شيئا بشهيّة . كل قضمة كانت رحلة ، سفرا بعيدا إلى واقع جديد (ص 94) .

وهي تعزو ذلك إلى شيء حدث في منام الليلة الماضية وكشف الغشاوة عن عينيها . فهل للمنامات التي يستخف بها رجال العلم الأشاوس مثل هذه القدرة ؟ هل يمكن أن تمنح يقينا للقلب المفجوع المُمزق ؟

مع المنامات المتتالية كانت عائشة "تتطوّر" على طريق تسوية الإنفعال بالمأساة .. على طريق التصالح مع الفجيعة . ها هي "تعترف" في ذكريات يوم الثاني عشر من ابريل (الساعة 9:10 مساءً) . لقد أخذت عزيز إلى طبيب نفساني قبل وفاته بأسبوع . كان الطبيب يقول لها أن طفلك طبيعي وذكي وصحيح تماما ، وهي - ويا للغرابة  - تصرّ على أنّ طفلها ولد تعيس وينشر التعاسة حيثما حلّ . رفضٌ عجيب لم يستوعبه الطبيب النفسي الذي شخّص العلة بجرأة حين قال لها :

(كما أرى شخصيّاً ، أنتِ الشخص المحتاج للفحص والمراجعة ، وليس عزيز) (ص 112)

ليس يسيرا على المرء أن يشرخ نرجسيته أمامنا بيدي اعترافه ، وصعبٌ على امرأة وأمّ أن تعلن أمام آخر - مهما كان - أنها تتمنى لو لم تنجب طفلها الوحيد . ولكن الطبيب هو الذي يتولّى – الآن - إكمال حلقة التشخيص النفسي المرضي حين سأل عائشة سؤالا مباغتاً :

-هل تحبّين نفسك يا عائشة ؟

ثمّ انبرى الطبيب للردّ الناجع والصادم على السؤال الغريب الذي داهمها :

-فاقد الشيء لا يعطيه) (ص 113) .

إنّها حقيقة حياتية بسيطة نعيشها تفصيليا في علاقاتنا العامة ، لكنها تمثّل عاملا قاصما لظهر العلاقة الحبّية بين الأم وطفلها ؛ يشوّه الدور الأمومي ويعطّل النمو النفسي الصحّي للطفل . وهو ما حصل فعلا بالنسبة لعائشة في علاقتها بطفلها عزيز . ولكن الأكثر أهمية بالنسبة لتحليلنا هو الإعتراف بهذا النقص واستعادته ثم عرضه أمامنا :

(أنتِ الجانية ! أنتِ التي تمنّت حدوث الأمر ، أنتِ أردتِ لهذا الأمر أن يحدث ؛ دعوتِ بصمت .. بكلّ شبر من جسدك بأن تتنصلي عن أمومتك ، فإذا به يموت بعد أسبوع من ذلك اليوم ، فمن قتله غيرك يا عائشة ؟) (ص 114 و115)

هذا الموقف الكاشف يعدّ علامة على طريق نضج شخصية عائشة . النضج وفق مفاهيمنا التحليلنفسية هو أن نُفلح في نقل عُقدنا ومكبوتاتنا من ظلمات اللاشعور حيث تشتغل في لاوعينا لتربك سلوكنا وتخرّب علاقاتنا ، إلى أنوار الشعور حيث "تُحسب" بهدوء ، وتُضاء شبكة علاقاتها المُقلقة ، وتاريخها المرضي الذي انغرست فسائلها الشائكة عبره في تربة لاوعينا . وعلامات النضج في التعامل مع هذه الشدة الفاجعة تمتد الآن إلى ذكرى جديدة (ذكريات يوم 13 أبريل 2010 ، الساعة 12:00 صباحا) لتشمل حتى النظر إلى الإلتفافات العقابية مهما كانت جسامتها . لم تعد ثلاث ميتات مدوّية كافية للتستّر على الدوافع العصابية وإخفاء المشاركة "الجُرميّة" . البعض قد يستمر في لعبة تدمير الذات كسبيل للتكفير مدى الحياة أو يتوقف عند إسدال الستار على مسرحية الحياة بنهاية مميتة ، ولكن من دون أن يعرف الفرد الآثم أن هذا السبيل ليس حلّا للفوضى اللاشعورية مهما كان دراميّا وكاسحا . حين يعي الفرد طبيعة محاولاته الخلاصية ويفهمها على اساس أنها حلول هروبية وأغطية تمويهية مخادعة ، فمعنى ذلك أنه خطا خطوة حاسمة على طريق التعامل الصحي مع محنته مهما كانت الخطوة مريرة ومنهكة وجارحة للإعتبار الذاتي :

(أنتِ الآن تتمنّين موتك ، وأنتِ التي ناديتهِ إليكِ مراراً .. ثلاث مرّأت يا عائشة ، ثلاث مرّات تموتين ، وتعودين .. تلعبين لعبة الحياة والموت ، فلا أنتِ حيّة ولا أنتِ ميّتة ، لأجل أي شيء يا عائشة ؟ هل تعتقدين حقّاً بأن خطيئتك ستصبح أقل وطأة ؟ ) (ص 115) .

عائشة نفسها تحاسب ذاتها الآن على الكيفية التي انفلتت بها من فمها تلك الجملة القاسية .. والقاسية جدا بحق ابنها :

(أتمنى لو أنني لم أنجبه ؟!) (ص 114)

ومعها تشتعل الأحاسيس بالإثم والحاجة للتكفير .. وتقريع الذات .. بل نهشها . وفعلا .. وكما تقول هي لنفسها : كيف أمكنها أن تتفوّه بشيء كهذا ؟ ألا تدري بأن السماوات لها آذان ؟ هذه كانت الفكرة الوحيدة التي كانت تنخر لبّها طوال خمس سنوات هي كلّ عمر طفلها ، وهي فكرة "قتل" في عمقها اللاشعوري . وقد يبدو هذا التفسير التحليلي "الجُرمي" غريبا على الإستقبال القرائي الغير مسلّح بأساسيات التحليل النفسي ، ولهذا – ولتبسيط الأمر – نقول هذا التفسير الذي لن يُستوعب بصورة شافية إلّا إذا أدرك السيّد القاريء المحور الأوالي والدينامي الذي يتحكم بمواقفنا تجاه من نُحب ، وهو "التضاد الوجداني – Ambivalence " :

(عندما تفقد الزوجة زوجها والبنت أمّها يقع الباقون على قيد الحياة فريسة شكوك مؤلمة نسمّيها "التبكيتات الوسواسية" ، ويتساءلون عمّا إذا كانوا لم يتسبّبوا هم أنفسهم ، بإهمالهم ، أو بقلّة حذرهم في موت الشخص المحبوب ، ولا يقتنع بكل التبريرات بأنه غير مسؤول عن وفاة محبوبه . والسبب أن موت القريب وفّر إشباعا لرغبة لاشعورية لو كانت على قدر كاف من القوة لكانت تسبّبت في تلك الميتة . وإنّما ضد هذه الرغبة اللاشعورية تأتي استجابة التبكيت عقب وفاة الشخص المحبوب . وأننا لنلقى أثر عداوةٍ كهذه مستترة خلف حبٍّ حانٍ في جميع حالات التثبيت العاطفي الشديد على شخص معيّن ، وهذه هي الحالة المعهودة النموذجية للإزدواجية الوجدانية البشرية. ولكن في الحالات التي تكون فيها على درجة عالية من القوة فإنها تفصح عن نفسها بمزيد من الشدّة كلّما كان الشخص المفقود محبوبا أكثر ومعزوزاً أكثر) (18).

وقد يكون هذا حال حزن جلجامش المتطاول والعجيب على موت انكيدو . وهو الأمر نفسه الذي يتضاعف في حالة عائشة التي كانت "تعي" كرهها لطفلها ورغبتها في أنها لم تنجبه وفي الخلاص منه .

ثمّ تأتي خطوة أخرى مهمة على طريق نضج وعي عائشة ، وهي ترتقي سلّم التكفير الدامي ، وذلك حين تتأسّس قناعة جديدة لدى الفرد المُمتحن بضرورة أن ينفض يديه من تلك الحلول الهروبية ، ويطلق ذاته من تحت تلك الأغطية الزائفة بالرغم من أنها تتضمن خسارات جسيمة وأذىً تدميريا للذات . حين يشعر الفرد بأن عليه أن يتحوّل من الإنجراف مع تيار الخراب الذي أطلقته الكارثة إلى توظيف تأثيراتها المرعبة والمُهلكة من أجل ترميم ذاته وإغنائها أوّلاً ، ثم تحويل التجربة الشخصية المهولة بتبعاتها المازوخية الخانقة إلى تجربة جمعيّة مضيئة ، ثانيا ، بالرغم من أنها تُضاء بشظايا الروح التي تفجّرها الشدّة الفاجعة .

وقد شعرت عائشة – تدريجيا بطبيعة الحال ، وهذا التحوّل التراكمي أفضل نفسيّاً من التحوّلات الحادة القاطعة – بأنّ هذه المراوحة الموجعة والمربكة في حضرة الموت ليست السبيل البنّاء للتعامل مع محنتها ، فقد أوشكت على الموت ثلاث مرّات ثمّ عادت .. فما الذي حصل ؟ بعد كل "ميتة" كانت ترجع إلى نقطة الصفر لتراوح على جمر التأثيم والتكفير الحارق :

(جُرحكِ حيٌّ يقتات عليكِ ، يلتهمكِ يا عائشة ، يتنفس روحكِ ويشرب ماءكِ . جُرحكِ حيّ يا عائشة مهما متّ ومهما ادّعيتِ .. ومهما حييتِ يا عائشة ، أنتِ الجانية ، والمجني عليها ، أنتِ السوط وأنت الجلّاد ، والمحكوم عليها بالجرح الأبدي ، أنتِ الزنزانة وأنت السجين ، أنت الرصاصة وأنت القتيل ، أنت القبر وأنت الجثّة ، وأنت جحافل الدود في بطن الأرض .. أنت الجانية يا عائشة ، الجانية عليكِ ) (ص 115) .

وهكذا .. في حلقة مفرغة من "أنانية" الخلاص التي برعت فيها ، ومن خداع الذات الذي سقطت في مصيدته . ها هي الآن تختار - بعد ضياع وتشوّش أرعب حتى أحبائها – واحدا من أعظم السبل وأكثرها نجاعة في ترويض النفس الجريحة الهائجة ، وفي تحويل ما هو شخصي ضيّق جارح مُسنّن ، إلى ما هو جمعي مُثمر يسهم في مداراة مخاوفنا الوجودية من القاتل الأكبر . هذا السبيل الناجع المثري والخلودي - وهذا هو الأهم - هو : الكتابة . ومن الطبيعي – كما قلنا – أن لا تأتي البدائل جاهزة ويعلن التعلّق الجاهز والفوري بها . ستمرّ بنفس المراحل السابقة التي حكمتها الرؤيا الهروبية والموقف المازوخي فيتم النظر – ابتداءً – إلى الكتابة كتابوت وغرق وميتة "رابعة" مُضافة :

(هذا تابوتك يا عائشة . أوراقك وأقلامك . موتي إذن . هذه هي ميتتك القادمة . الموت خنقا بالكلمات ؟ رمياً بالقصائد ؟ ضربا بالقوافي ؟ ستغرقين داخل بياض الصفحة وتغيبين . لن يفتقدك العالم يا عائشة . سيكون مضيّك رحمة لزوجك ولذويك (...) لماذا أنتِ ، من بينهم ، تعودين ؟ لكي تُعاقَبي كفاية ، مثل الأرواح المحكوم عليها بالتناسخ الأبدي ؟ ما الذي يستوجب عليك منحه ، أو التخلّي عنه ، لكي تصبحي جديرة بموتك ؟) (ص 115 و116) .

في هذه المرحلة الإنتقالية تشوب موقف عائشة من الكتابة مسحة من الأنانية الفردية أيضا .. فهي تكتب لموتها ، وليس لحيوات الآخرين من خلال تجربة انثكالها و"موتها" . تريد من الورقة أن تكون صليبا تتمدّد عليه ذاتها المقطّعة .. تريد من الحروف والكلمات واللغة أن تكون وسيلة توصل صراخها وجئير روحها المعذّبة إلى أقاصي المعمورة .. أن تُسمِع كل إنسان قصيدة رثائها الطويلة ، وأن يحكي كل فرد حكاية موتها المؤجّل ، وأن يقرأ العالم تفاصيل فجيعتها التي أعلنتها على الصفحة الأولى من حكايتها : لقد مات ولدي أيها العالم .. لقد رحل طفلي أيها الكون ! من تعذيب الذات إلى تعذيب الآخر .. من الإنهزام الفردي المُحزن أمام غيلان الموت إلى ترقيق دفاعات النفس الجمعية ليستمكن منها قلق الفناء .. من إشهار عجز الذات مع الذات إلى تطعيم الذات الجمعية بسموم هذا العجز ليصبح أنموذجا ودليلا على هشاشتنا الوجودية التي تثير الشفقة :

(أكتبي يا عائشة (...)

كوني الرواية يا عائشة ، انتشري كما الألم في القلب ، كما السمّ في البدن ، كما النار في هشيم المُحتضر . انتشري يا عائشة وليسمعك العالم تجأرين في جحيمك ، انشري جرحك للشمس حتى يرى الكون ضخامته وغِلظته ، جفّفي دموعك في قصائد وخبّئيها في علب الهدايا وامنحيها مجانية للعالم) (ص 116)

لكنها – في كل الأحوال – خطوة خارج السياق . فصحيح أنها – وكما تقول – كانت تكتب لأجل موتها ، وتعيش من أجله (ص 117) ، إلّأ أنها الآن لا تمارس حكايتها بيد الموت ، ولا تعرضها بلغته ، ولا تحكيها بلسانه . كانت رسولة الموت إلى الموت ، وها هي تحاول أن تكون رسولة الموت إلى الحياة .. والفارق هائل بين الموقفين ، فالأول هو مفتاح الحداد المتطاول الذي لا نهاية له ؛ حداد يجعل الشخص الآسي وكأنه "الزومبي" الخارج من العالم الأسفل إلى العالم الأعلى ، وفي الثاني يكون الحداد تجربة "خروج" و "عبور" .. تجربة نضج وتصليب إرادة .. تجربة "مرور" من الحياة إلى الموت فالحياة ، وليست مراوحة أبدية للحي بين أشباح سكنة العالم الأسفل كما يحصل لعائشة الآن في واحد من أحلامها "الإنتقالية" (ذكريات يوم 13 أبريل 2010 – الساعة 6:00 صباحا) :

(كنتُ قد نمتُ دون أن أحسّ بشيء ، روحي خفيفة وشاحبة تنفذ إلى أبعاد جديدة في الوجود ، رأيتُ الأموات في غدوّهم ورواحهم ، يتسامرون ويتضاحكون فوق صحراء صخريّة تمتد أبداً ، وقلتُ في نفسي سأبحث عن ولدي . ولكن لم أجد ولدي ، بحثتُ عنه بين أكوام القشّ ، تحت الحصى ، في بيوت النمل ، وبين غمامتين . ثمّ رأيت روحه ولم أر وجهه ، وناديته : يا ولدي .

فتحتُ عيني ، وكان معاذ يهزّني هزّا رفيقاً) (ص 119)

كانت تصحو على وحدتها الجافّة التي أبعدتها عن الناس والواقع والحياة ، فصارت الآن تفتح عينيها على الصخب اللذيذ – والمزعج أيضا في دورها الإنتقالي – لأمّها وأخيها وأختيها الذين انتقلوا إلى شقتها وقتيّاً ليستخرجوها من قوقعتها .. من قبرها (ص 122) . كانت تراقب المشاكسات التي تصل حدّ الإفتعال بين أختيها (مريم وإسراء) من جهة وأخيها من جهة أخرى (ذكريات 13 أبريل 2010 – الساعة 10:00 صباحا) حول "عذريّة" معاذ وتأخّر زواجه . أعلن معاذ – وعائشة تسمع – أنّه يريد امرأة مثل أخته عائشة – لمسة محارميّة تُمرّر بالإجماع – فهي – بخلاف أختيه الثرثارتين المنشغلتين بزوايا المطبخ من الصحف – "تقرأ" و "تفكّر" وعلى أختيها أن يقتبسا من فيضها ، فبالرغم من أنها تهمل "إكسسوارات" الأنوثة من ملابس وأقراط وساعات يدويّة ، إلّا أنها تنضح بالأنوثة لأنها تقلق وتحنو وتحن وتحب وتتساءل كثيرا ، منشغلةً بأسرار الحياة طوال النهار ، وطوال الليل أيضا ، وتقرأ اشياء "ثقيلة" مثل الكلمات الأخيرة التي كتبها نيكوس كازنتزاكي في مرض وفاته والتي وجدها معاذ في أحد الكتب السبعة التي وضعتها عائشة على سريرها :

(أجمع أدواتي : النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل ، خيّم الظلام وقد انتهى عمل النهار ، أعود كالخلد إلى بيتي الأرض ، ليس لأنني تعبت وعجزتُ عن العمل ، فأنا لم أتعب ، ولكن ... غربت الشمس)

وهذا الأنموذج – أنموذج عائشة – هو أنموذج المرأة الذي يفضّله معاذ :

(لأنها تعيد إلى الأنوثة بهاء الغموض وعمق المعنى ، وعائشة ، رغم أنها تبدو مُتعبة وشاحبة إلّا أنّها تبدو لي أكثر حياة وحضوراً وأنوثة ومعنى من ألف امرأة) (ص 127) .

وهذه أوّل عبارات إطراء عميقة تبحث عن الجوهر تسمعها عائشة منذ خمس سنوات !! هذا الجوهر الذي دمّرته المحنة ، وكانت هي نفسها تستخف به وتشعر بأنه قد تهشّم مثلما ينرضّ لوح الزجاج على الصخور المسننة (يغنّي رياض أحمد : رضّ الزجاجة على الصخر ضلعي يا مدلول انرضّ !). هي نفسها كانت مندهشة من عبارات أخيها التي تسمعها الآن ؛ هو يمدح صفاتٍ فيها باعتبارها حيّة في حين أنّها كانت مؤمنة بأنها ميتة تعيش بين أحياء صاخبين ؛ زائرة عابرة إلى عالمهم العلوي من عالمها الأسفل :

(جسدي يرتعد واضطراب يجتاح قلبي .. كيف يمكن أن يراني أحد بهذا الجمال ، وأراني أنا يهذه الدمامة ؟) (ص 128) .

لقد حفز معاذ نرجسيتها النائمة تحت ركام رماد الفجيعة ، فصارت تقف أمام المرآة لا لتبحث عن آثار خطوات الموت المدبّبة على وجهها كما اعتادت طوال الخمس سنوات الفائتة ، ولكن لتبحث عن شيء جديد (13 أبريل 2010 – الساعة 3:00 مساءً) . وهنا يأتي "الإستدعاء" الرابع لإنانا / عشتار :

(لم أكن أبحث عني ، كنتُ أبحث عن عائشة التي تحدّث عنها معاذ ، عائشة التي تنضح بالأنوثة والعمق والغموض ، عائشة الأسرار، عائشة الحكمة المفترضة)

ثم تختار مقطعا أسطوريا لعشتار كبغي مقدّسة يتسق مع تلك النفحة المحارمية الحييّة :

(عائشة التي تشبه عشتار البابلية وهي تتباهى بأنوثتها : أنا الزوجة وأنا العذراء / أنا الأم وأنا الإبنة / أنا العاقر وكثرٌ هم أبنائي) (ص 129) .

 

 

 

د. حسين سرمك حسن

 

إقرأ للكاتب أيضا :

 

مظفر النواب: (1)

وحالة ( ما بعد الحب )

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفّر النوّاب : (2)  

من مفاتيح الحداثة

 في قصيدة "للريل وحمد"

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (3)

 اللغة تقاوم الموت

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (4)

 شتائم ما بعد النقمة

 د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النوّاب : (5)

الصانع الأمهر

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (6)

ملاعبة المثكل الخلّاقة

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (7)

الإنفعال الصاخب المُعدي

د. حسين سرمك حسن

 

 

مظفر النواب : (8)

عشبة خلود الشاعر :

 "اسعيده" المرأة العراقية العظيمة

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (1)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (2)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (4)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

بثينة خضر مكي في "أغنية النار" : البساطة المميتة  (2)

د. حسين سرمك حسن 

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

بثينة خضر مكي في "أغنية النار" :

 البساطة المميتة  (3/الأخيرة)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (5)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (6)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (7)

د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

"عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (8)

د. حسين سرمك حسن

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا