%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال لا للخصخصة لا للفيدرالية لا للعولمة والتبعية |
|||
---|---|---|---|---|
صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين |
||||
للمراسلة webmaster@saotaliassar.org |
محبرة الخليقة (10)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة
2012 - 2013
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
رؤيا المحبرة : يوم العهد العظيم
-------------------------------
(أذاكرٌ في البدءِ ربّيْ
أحدَكْ ؟
نظرتَ ربّي مُتعباً ،
وقلتَ ليْ :
هاتِ يدَكْ )
في "رؤيا المحبرة" ، يأتي الجواب الأول مباشراً وفورياً ومن أول بيتين من المقطع الأول :
(أعمقُ
الكونُ
وأجملْ
خلقهُ
من متخيّلْ . – ص 43) .
وهذه خطوة لا تشكّل مقترحاً بديلاً للتصوّرات اللاهوتية والأسطورية حسب ، بل تنطوي على روح تحرّشية أيضاً حيث يكون المآل النهائي لهذه الأطروحة هو أنّ كلّ قصص خلق الكون السابقة لم تكنْ توفّر كوناً أعمق وأجمل لأنها كلّها تزعم – وهذا واقع حالها – أنها تأسست على معطيات عمليّة وواقعيّة . والمشكلة أن مريدي كلّ دين ، والمؤمنين بكل أسطورة خلق يعتقدون أن ما يرويه كتابهم ، أو ما جاء في أسطورتهم هو الصحيح ، ويستقتلون بحثاً للحصول على أدلة نظرية وعملية ساندة ، ونقاشاً ليفنّدوا آراء خصومهم . يأتي الشاعر الآن ليقطع برأي جديد ، وهو أن هذا الكون كان من الممكن أن يكون أعمق وأجمل لو تكفّل به الخيال .. لو نضجت قصّة خلقه في عالم المخيلة . أي أننا نوضع الآن أمام فكرة أن قصة الخليقة الفعلية والحقيقية "مؤجّلة" ، وتنتظر من ينجزها بمخيلته الخلّاقة . فمن هو "الكائن" المهيّأ لإنجاز هذه المهمّة ؛ مهمّة نسج قصّة خليقة جديدة للكون من خيوط المخيّلة ؟ من هو الصانع الأمهر الذي لا يبزّه أحد في مجال الخلق من المخيلة ، والمحترف في استخدام سلاح الخيال والتخييل والذي لا ينازعه أحد في استخدامه ؟
إنه ببساطة الشاعر . فهل يكون هذا عاملاً إضافيا دفع الآلهة للتحذير من الشعراء والتحسّس منهم ؟ فصحيح أن الله قد خلق "القمر" ، وهذا أمر مفروغ منه ، والناس منبهرة بهذا الكوكب منذ آلاف السنين ، وعبثاً يحاولون اكتناه سرّه ، ولكن شاعر الهايكو الياباني "يتمنى تركيب مقبض للقمر ليجعل منه مروحة يدويّة" . وبهذا يكون قد خلقه – في الحقيقة – من جديد ، وسخّره في خدمته . وهي خطوة تجعل هذا الكائن المتعالي – برغم أن العلم قد وطأ وجهه المنير بحذائه ، والشعر حفظ له كرامته – أداة يوميّة عاديّة . وهنا يتضح جانب من السمة التحرّشية التي تحدثت عنها . فقد إنتهت معجزة العلم عند هذا الحدّ . أن يطأ وجه القمر بحذائه الثقيل ، ويجهض أحلام العشّاق والشعراء كما تصوّر خطأً بإثبات أن هذا القمر المعشوق ورمز الأنوثة – في كل مكان عدا أرض سومر فهو مذكّر !- ما هو إلا كتلة كبرى من الصخور والأتربة والحفر . تنتهي معجزة العلم عند هذا الحدّ ، ولكن معجزات الشعر لا حدّ لها ولن تنقطع لأنّ مخيّلة الشاعر أوسع بأشواط هائلة من مخيلة العالِم نوعاً وكمّاً ، وتجعله "يرى" ما لا يراه العالِم أولاً ، ولأنّ الشاعر أكثر جسارة من العالِم بما لا يُقاس ثانياً ، ولأنّ الشاعر حليف ستراتيجي صادق لا يتخلى عن حلفائه وفي مقدمتهم القمر ولا يغدر بهم مهما تلاعب بهم الزمان وخذلتهم الأقدار ثالثاً ، ولأنه باحث في البواطن برؤى اللاشعور التي لا يجيدها العالِم رابعاً ، ولأن الشاعر – خامساً - يمتلك أداة بحث متخصّصة بهذه البواطن ورؤى اللاشعور لا يمتلكها العالِم وهي المحبرة ورؤاها خامساً ، في حين يمتلك العالم أدوات بحث مختبرية محدودة الفعل والمدى والقابلية على النفاذ . فالعالِم يستطيع "تفكيك" مكوّنات حبّة الرز الصغيرة ، ويحدّد عناصرها وتفاعلاتها وعلاقاتها . لكن من المستحيل عليه أن يُدرك أن الكون يمكن أن يتجسد في حبّة رزّ أو رمل كما يفعل الشاعر – والمتصوّف والبوذي أيضاً - . وكل هذه النتائج تترتب على الشرط الأول : المخيلة ، والقدرة على التخييل ، التي جعلت شاعرنا يؤكد أن أجمل الكون هو الذي يُخلق من المتخيّل . فهو يقرّ – إمعاناً في الروح التحرّشية – بأن الليالي الممطرة ، وصباح الصيف ، والبحر ، وحفّ الريح ، وياقوت المساء ، والشجرة ، وصلاة الناسك الصوفيّ .. و.. :
(قناديلُ رواقِ الليلِ ، والمرآةِ ، والكاشفِ ،
في تختهما اللاهبِ
مثلَ المجمرهْ ،
ومدىً من أشرعٍ بيضٍ
بريحٍ مُبحرهْ ،
ومواويلَ المراعي ،
وجناحُ القبّرهْ ، - ص 44 و45 ) .
هذه .. كلّها .. قد خلقها الله .. ولكن .. الشاعر يستدرك ، فقد كان من الممكن أن تكون أجمل وأعمق لو أنها كانت نتاج محبرة شاعر .. نتاج مخيّلته مغموسة برؤاه :
(كُلّها ،
قدْ خرجتْ رائعةً منْ كفّ باريْها ،
ولكنْ ، إنّها أكثرُ منْ رائعةٍ ،
لو خرجتْ
من محبرهْ . – ص 45) .
وحين تمعن النظر في عملية "الخروج" أو التكوين ، فستجد أن الخلائق خرجت من كفّ الله في الحالة الأولى ، في حين يتمنى الشاعر أن يكون "الخروج" من محبرة ، وكأنّ الجانب التخليقي اليدوي – بالنسبة له – لا يمكن أن يضاهي في جماله الفائق طريقة الخلق الكتابية التي يدعو إليها الشاعر وتتكفّل بها الكلمة بعد أن تتخمّر الرؤيا وتنضج في المحبرة . كما أن عليك أن تلتفت كثيرا إلى التغيّر في مادّة الخلق اللازمة ، ففي التخليق اليدوي يتطلّب التكوين "مادة" تعالجها الأصابع الخالقة بمهارة لتقدّم لنا الشكل الأخير للكائنات المطلوبة ، في حين أن طريقة التخليق من المحبرة مادتها المحرّكة هي الرؤيا ، وأداتها الكلمة ، وكلاهما "مجرّدان" يصعب التلاعب بهما بالأيدي ، ويتطلبان معالجة شديدة الخصوصية تناسبهما ، ولا توجد معالجة من هذا النوع إلا في الشعر . فيصبح الشاعر خالقاً مختصّاً بطريقة خارقة ومفارقة تجري تحت خيمة "التخييل" . وهذه عمليّة – وحسب تفسير الشاعر لتوشيح شريط منديل المكتوب - سوف تجري متعشّقة الفعاليات ، ملتحمة المكوّنات ، بفواصل غير محسوسة ، في حين تفصل النقاط العازلة بين مكونات وعمليات تكوين التخليق اليدوي .
هذه هي الخطوة الأولى في عملية التنقيح والحذف والإضافة والنقد لديوان "الخلق" ، ولقصّة الخليقة المعروضة من خلالها ، التي طلبها الكون الشاعر من شاعرنا . فالشاعر يؤمن (المقطع الثاني) أن كل ما خُلق في الكون من ماء وتراب وصحراء وهواء وبحر أزرق وسماء زرقاء وليل ونهار .. كل مكوّنات الكون بإطلاق كانت ستبقى "أشياء" لولا ظهور خالق محايث أو لاحق تكفّل بتحويلها من أشياء إلى "أشياء أخرى" ، وسوف نرى لاحقاً معنى "الأخرى" :
(كانتْ
كلُّ الأشياءْ
أشياءَ بكونٍ ، لا أكثرْ ،
لولا مِحبرةُ الشعراءْ – ص 47) .
كيف يثبت لنا الشاعر فرضيّته الخطيرة والتحرّشية هذه ؟
من هنا (من المقطع الثالث) تبدأ سلسلة أمثلة يقدّمها الشاعر لإثبات أن الكون كان من المحتّم أن يبقى "شيء" كونٍ ، لو لم تتصدّى للتعامل معه محبرة الشعراء . وخذ القصب ، فقد خلقه الله قبل الإنسان ، وعليه كان من المفروض أن تكون له أولوية "حيويّة" على الكائن الإنساني اللاحق . لكنه ظلّ "شيئاً" من القصب :
(.... وقبل أن خلقتنيْ ،
خلقتً
ذا القصبْ ،
ظلّ
قصبْ ،
لهُ
بقربِ الماءِ ،
لهُ حفيفٌ
كلّما مرّ الهواء . – ص 49 ) .
إلى أن امتدت إليه يدُ الشاعر العاشق ، فأحالته إلى "ناي" ينطلق منه غناء وأنين الروح :
(وعندما خلقتنيْ ،
صنعتُ ناياً منهُ للغناءْ – ص 49 )
.. ويُؤول غناؤه وأنينُه تأويلاتٍ متضاربة كلها غنى وثراء دلالياً تجعله شيئاً "آخر" ، وتحيل القصب إلى شيء "آخر" لا صلة له بالأول الذي خلقه الله ، والذي استهلكته الإستعمالات اليومية النفعية التي هدفها حلّ المعضلات اليومية من نقل وتجديف واصطياد وبناء بيوت وغيرها ؛ استعمالات لم تلتفت ابداً إلى "روح" القصب ، وابتذلت جسده بلا رحمة . وها هو الناقد – أنا - وبتاثير جوزف حرب أتحدّث عن تركيب جديد للقصب يتجاوز كونه "شيئا" مادّياً قصبيّاً . والمشكلة التي ستظهر أمام الإله هو أن الحال السابق كان مرسوماً وفق صيغة محدّدة وثابتة ، فالقصب هو القصب أينما كان ، ومهما مرّت عليه الأزمان . لكن "ناي" كلّ شاعر يختلف عن الشاعر الآخر ولا يكرّره . فالشعراء يُعاب عليهم أن يكرّروا عزف ناي غيرهم . وسنكون الآن – ومعنا الآلهة – أمام محنة تعدّد الخالقين . فالإبداع ليس من قواعده التوحيد . والشعراء في كل وادٍ يهيمون . وهذا عامل آخر في التحسّس الإلهي من الشعراء . فمولانا جلال الدين الرومي – على سبيل المثال ، وارتباطاً بموضوعة الناي – يقدّم لنا الناي في صورة رمزيّة تحكي قصّة الإنسان المقطوع عن أصله السماوي فيظل يطلق حنينه أنيناً صادحاً فتتلقفه آذان الحزانى والسعداء على حدّ سواء (لاحظ أن الطرب في اللغة العربية يكون من فرح أو جزع) :
(أنين الناي نار لا هواء..
فلا كان من لم تضطرب في قلبه النار..
نار الناي هي سورة الخمر، وحميا العشق
وهكذا كان الناي صديق من بان
وهكذا مزقت ألحانه الحجب عن أعيننا..
فمن رأى مثل الناي سماً وترياقاً ؟!
ومن رأى مثل الناي خليلاً مشتاقاً ؟!
إنه يقص علينا حكايات الطريق التي خضبتها الدماء
ويروي لنا أحاديث عشق المجنون) (17) .
وناي الرومي يعلن أن عذابه بدأ منذ أن قُطع من الغابة ، وصار الرجال والنساء يبكون لأنينه .
أمّا جوزف حرب فقد اجترح طريقاً خاصاً في خلق نايه المتفرّد ، فهو محبّ لهذه الحياة ، و "أجمل ما في الأرض أن يكون عليها" ، إنّه يشعر بأنه أحقّ بهذه الدنيا ، التي تستحق أن تُعاش ، بل يجب أن تُعاش ، وبأفضل صورة ، مفجّراً طاقات كل الخلائق التي بين يديه ، ومتخماً إيّاها بالحب الغامر والعشق لأجمل ما في الكون وهو : المرأة . إنه لا يستطيع – كما قلتُ سابقاً – ولا يرى ضرورة أن ينتظر لحظة الإلتحام الصوفية ، أو أن يُغرق ذاته في بحر من التساؤلات عن أصل نايه ووجوده ، أو أن يحلّق تاركاً هذه الأرض باحثا عن المطلق ، مطلق جوزف حرب ليس في الأعلى بل في الأسفل على هذه الأرض الجميلة ، وتحديداً في جسد الأنثى الذي هو خلاصة قصّة الخليقة . هو الذي يجعل النار تضطرب في القلب ، هو سورة الخمر ، وحميا العشق ، ليس من شأنه هذا "التطهّر والزهد العُصابي" ، ولذلك صنع ناياً غريب الآهات وعجيب المقامات :
(وعندما خلقتني ،
صنعتُ ناياً منهُ للغناءْ ،
مقامهُ المغسولُ
بالآهاتِ والطيبِ
نقلتهُ
عن خَصرِ محبوبي . – ص 49 ) .
وهنا – كما ترى سيّدي القاريء – اصبح لدينا قصبة من نوع "آخر" ، قصبة نستطيع أن نصفها بأنها قد خُلقت من جديد ، وهذا هو أعظم أدوار الشعر ؛ الرجفة التي تصيبنا حين نواجه الموجودات وكأنها قد خُلقت من جديد ، وكأن كل الوجود من حولنا قابل لأن يُخلق من جديد حتى وجودنا الشخصي . ولم يكتف الشاعر بالتفكير في قطع القصبة لتصبح ناياً حسب ، بل أن يطلق منها مقامات من وزن حركة خصر المحبوب . صارت الخشبة تغني وتعشق !
وقد يقول قائل إن الطبيعة تعزف بطبيعة حركة مكوّناتها الفطرية ، ولها ألحانها وميلوديّاتها ، وهذا صحيح في أحوال كثيرة لكنه يبقى نتاج تقاطع حركات هذه المكوّنات العفوية الفجّة التي عبّر عنها الشاعر بصوت "الحفيف" الذي يحصل كلّما مرّ هذا "المدعو هواء" وهو "محض هواء" على القصب . لكن المقام الذي يعزفه ناي الشاعر – مع ثراء رمزيّته الحنسية – يحصل عندما تلوب روحه في تجويفه وهي تبغي الإلتحام بخصر المحبوب .
د. حسين سرمك حسن
إقرأ للكاتب أيضا :
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
|
---|