<%@ Language=JavaScript %>    د. حسين سرمك حسن محبرة الخليقة (5) تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

 

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

محبرة الخليقة (5)

 

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

   د. حسين سرمك حسن

 

 

      بغداد المحروسة

      2012 – 2013

 

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

 

البياض بياضٌ بغير كلام ليس رؤيا ، والكلام بغير دواةٍ غير صالح للكتابة ، والكتابة تحتاج بياضاً يصلح للحبر كي تصبح نوراً .. وبهذا تنغلق دائرة الخلق ويصير البياض بياضين : بياض نواة لرؤيا ، وبياض لرؤيا ستغدو كلاماً كما يقول الكون الشاعر ، وهو ، في الواقع ، يستعيد استهلال تجربة خلقه ، قصّة "كتابة" خلقه :

(              كانَ البياضُ بياضاً بغيرِ كلامٍ ،

  وكانَ الكلامُ كلاماً بغير دواةٍ ، فسوّتْ يدُ اللهِ

  هذا البياضَ ليصلُحَ للحبرِ حين يصيرُ كلاماً .

فصارَ البياضُ بياضينِ بينهما نَولُ غزْلِ خيوطِ

الكلامِ قُبيلَ نسيجِ الدواةِ .

              بياضُ نواةٍ لرؤيا .

              بياضٌ لرؤيا ستغدو كلاماً . وما

فٌسحةُ الفصلِ بينهما غيرُ ما يأخذُ الوحيُ مِنْ

لحظاتِ التكوّنِ قبل النزولِ . – ص 17 و18 ) .

البياض "الخام" المرتعش برهبة على وجه الغمر ، وتحت خيمة الظلام ، حيث ترفّ روح الله ، هو أصل بياض الرؤيا وبياض الكلام ، لكن بياض الكلام ، وحين يبدأ الله بكتابته قصةً للخليقة ، سيستوعبُ بياض الرؤيا ، ويكثّفها ، وهو يذوب في حبر دواة الوجود التي سوف يستخدمها الله للبدء بخلق مكوّنات الكون . ولاحظ أن اسم "الكون" مشتق من الفعل "يكون" ، وهو الكلمة الأصل التي تنتسجُ منها خيوط بياض جسد الكون . لقد رأى "كريمر" "أنّ الفلاسفة السومريين طوّروا مبدأً أصبح عقيدةً في جميع الشرق الأدنى ، هو مبدأ القوة الخلاقة للكلمة الإلهية . إذ كل ما على الألوهة الخالقة أن تعمله ، وفق هذا المبدأ ، هو وضع تصاميمها والنطق بالكلمة والتلفّظ بالإسم . ويرجح أن تكون نظرية قوّة الخلق بالكلمة الإلهية نتيجة استدلال بالمماثلة تقوم على ملاحظة المجتمع الإنساني : حيث الملك البشري يستطيع إنجاز كلّ ما يريده بأمر منه ، اي بما يظهر أنّه ليس غير كلمات من فمه) (6) .

(ولكن يبدو أن هذه العقيدة كانت أعمق من ملاحظة المشابهة مع كلمة الملك المتسلّط كما رأى كريمر . فهي ليست عملية مقارنة وقياس في تلك المرحلة الذهنية . بل عملية إحساس جوهري بفعل الكلمة في مرحلة الدهشة التي نرافق كل إبداع جديد ، قبل أن يُصبح مألوفاً عادياً . وعند فهمنا لهذا الإحساس نحو الكلمة الفاعلة ندرك مقوّمات مرحلة هامة من مراحل بناء ذهن الإنسان . وهذا الفهم لا يتم لنا اليوم إلا بشكل تقريبي لكوننا تجاوزنا كثيراً مرحلة الدهشة اللغوية بفضل اتساع بيئتنا الذهنية اللغوية .

إنّ عالم الذهن الذي نتعامل فيه بالكلمات فنستحضر بها خلاله أشياء العالم الخارجي والأفعال التي تُمارس بين هذه الأشياء لم يكن يُعتبر ، بالنسبة للإنسان القديم ، عالماً مثالياً أو رمزياً ، كما هو لنا اليوم بفضل نمو تجاربنا وتصنيفاتنا فيه . بل كان يُعتبر امتداداً للعالم الموضوعي الخارجي ذاته تماماً كما يكون لنا في حالة الحلم . وخلق الأشياء فيه بتسميتها وتحديدها برموز نستحضرها ، إنما هو خلق موضوعي بشكل نسبي ما . وامتلاك هذه الأشياء فيه أيضا هو نوع من الشعور بالإمتلاك الحقيقي ، لضآلة رقابة المنطق الذي يتعامل بالتصنيفات والتحديدات والتجارب المقنعة . فالفاصل بين الوجود في الواقع والمعنى الذهني لم يكن هامّاً في التجربة الإنسانية الأولى مع الحضارة والمجتمع قبل التراث اللغوي ، والخبرات المتوارثة ، "لأن الإنسان لا يفكّر بالعالم ويفهمه فقط بواسطة اللغة ، بل جميع حدسه فيه والطريقة التي يعيش بها هذا الحدس ، هي مشروطة بهذه الواسطة . فامتلاكه للحقيقة الموضوعية ، والطريقة التي يستعرضها بها أمام نفسه ككل وكأشكال وكأقسام ، وتحريكه لها بوجه خاص – لا شيء من ذلك يمكن أن يتحقق دون الفاعلية الحية للغة"

ولنا أن نعتبر عدم انتظام اللغة والنقص في قدراتها التعبيرية جعل الحدود متداخلة بين الذات والموضوع خلال عالم الذهن . وإذا كان لنا أن نأتي بقرينة على ضآلة الحسّ بالأنا الواعية المُدركة فأننا نجد هذه القرينة في غياب فكرة النفس المستقلة من النصوص السومرية والأكادية الأولى . لأن هذه الفكرة عن النفس لم تنشأ إلا بعد نمو الوعي للأنا في العالم .. ولم يحصل ذلك إلا بعد تطوّر استعمال اللغة وانتظام قواعدها على أيدي الأكاديين ، أي بعد اتساع عالم الذهن وسيطرة "الأنا" على قواعده .

وهكذا يكون أننا بقدر اتساع تجربتنا الفكرية مع اللغة نشعر بالأنا منفصلة عن العالم في كيان مقابل له ونشعر معها بالوجود الذهني مختلفاً عن الوجود الواقعي للأشياء . بينما في حالة لا وعينا ، ومع غياب الرقابة التي كسبنا في ظلّها عالمنا الذهني المنظّم ، أي كما في حالة الحلم يسقط الحاجز بين عالم الذهن وعالم الواقع بالنسبة لرغبات الأنا وانفعالاتها ، فتبقى هذه في صفّ وحدها ويكون الإمتداد الذهني الثري بالتجارب الماضية في صف ، يقدّم لها تشكّلات لانفعالاتها دون أن تعي في حالتها تلك فرقاً بين الوجود الواقعي والوجود الذهني) (7) .

أو يمكننا القول من مقترب فيزيائي نفسي عجيب اجترحه محيي الدين بن عربي والتقطته الدكتورة حورية عبد الواحد في كتابها "اللغة والمرآة" أن :

(الحرف يمتلك عرضا وطولا . الأول يساهم في تكوين الطبيعة الماديّة للحروف المكتوبة ، المرسومة ، المخطوطة ، أما الثاني (الطول) ، فيتعلق بالأحرى بـ "اللامرئي" . وهو موجود في "النَفَس" الذي يرسم الحروف . فإذا لم يمارس هذا الطول ، يقول إبن عربي ، سلطانه في عالم الحروف ، فلن يكون بوسع هذه الحروف تركيب الكلمات . إن الحروف والكلمات لن تتمكن من الظهور دون طول "النَفَس" هذا . فالطول إنما هو داخل فعل القول ، فعل الصوت الذي ينتزع الكلام من عتمة الصمت مبرزا على هذا النحو ، فيزيائية للغة ، والبعد الصوتي للكلام .

لا يستجيب الطول ، ولا يشارك في أي نوع من أنواع المكانية أو في أي تمثيل موضوعي للمكان . فبوصفه فعل الصوت ، فهو بالأحرى فعل اللغة . إنه فعل خلق صور ورموز داخلية . وهكذا فإن عالم الغيب الذي يحدّثنا عنه إبن عربي ، ليس هو هذا العالم الحافل بالأسرار ، العالم الصوفي الأوقيانوسي ، ولكنه ذلك العالم الأشد إيغالا في الصمت حيث تصدر " كنْ " الخالقة ) .

وما يهمني إضافته هنا هو أننا في حالة الإنسان القديم وحالة الشاعر نكون أمام حالتين مهمتين : الأولى هي حالة "اللاشعور العاري" إذا جاز الوصف التي تجعل الإنسان ملتحماً بما حوله وتشفّ حدود أناه ، والثانية هي العودة إلى استعمال اللغة بدهشتها الخالقة البدئية بكل ما يصاحبها من انفعالات وتغيّرات ذهنية ونفسية . وجوزف حرب هو من أصحاب "اللاشعور العاري" الكبار .. وهذا ما سوف نلمس نتائجه الإبداعية الكبيرة في مسار تحليلنا .    

وفي كل أساطير الخليقة يبدأ الخلق بتكوين السماء والأرض . قد يكون الدافع أن تتم تهيئتهما كمسرح للإنسان الشخصية الوحيدة على مسرح الكون . وسيكون عالم الكتابة هو المعيار الذي تُقاس عليه عمليات خلق كل المكوّنات اللاحقة . وكل كتابة لها وجهان أو مضمونان أو بياضان : وجه ظاهر واضح ، وآخر باطن غامض . كنتُ ومازلتُ أتساءل : كيف فكّر الإنسان بـ "ضغط" هذه الشمس العظيمة الجبّارة في ثلاثة حروف بسيطة : ش .. م .. س .. ليجعلها كلمةً تُكتب ؟ .. كيف كتب الإنسان الشمس ؟ كيف أعاد خلقها بالكتابة ؟ لو فهمنا الإوالية التي استخدمها الإنسان لعملية "الإستحالة" هذه ، لفهمنا مغاليق عملية الخلق من بياض الرؤيا . لقد تمت عملية الإستحالة وضغط الشمس في جسد الحرف في مشغل اللاشعور المعقّد الذي يندهش بكل مكوّن يراه ، و "يلتهمه" ، لينفعل به في ظلمات أعماقه على وجه غمره ، ويصمّم له انفعالا لغوياً حروفيا يشرق كلمة بيضاء بسيطة "واضحة" تاركة "غموضها" المحيّر خلفها . ووفق هذا النموذج بدأ خلق السماء والأرض :       

(            ولمّا رأى اللهُ فُسحةَ فصلِ البياضِ

     بياضينِ ذاتَ بهاءٍ ، دعاها :

                           سماءْ .

                           وقد عرفَ اللهُ أن الكتابةَ

    فيها وضوحٌ ،

    وفيها غموضٌ .

فخلّى البياضينِ : فوقَ ،

                   وتحتَ .

وخلّى البياضَ الذي هو تحتُ ،

بياضينِ : قسماً غموضُ بياضِ المياهِ ،

           وقسماً وضوحُ بياضِ اليباسِ .

           وخلّى بياضَ البياضِ لحبرِ الكلامِ هوَ

النبتَ منْ شجراتٍ وعشبٍ ، يكُنّ أجنّةَ بزرٍ

بأرحامِ هذا التُرابِ ، ويخرجنَ خُضراً توشحنَ

                                               أحمرَ ،

                                               أبيضَ ،

                                               أصفرَ ،

                                                      حتى

يزيّنَ بالقُزحيِّ الحقولَ ، وبالسكريّ الشفاهَ ، وبالحبّ

عيدَ الطواحينِ ، والطيْبِ هذا الهواء العريس – ص 18 و19) .

الآن اكتملت كتابة كلام المكان وفق رؤيا البياض وقد ذاب في المحبرة . شكّل الله السماء والأرض ، فنهضت ، فورا ، الحاجة الملحة للزمان بحثٍٍّ من الموتٍ . الحساب هو علم الموت . الحياةُ تعدّ خطواتها لمقابلة المثكل . وكان لابدّ أن يتوفّر للزمان وعاء ، وها هو يكمل في رؤيا المكان . فالمكان هو وعاء الزمان . وخاطئةٌ – وهذا ما يثيره النصّ - دعوى من يرى أن الزمان أبديٌّ واقعٌ خارج المكان . الزمان من دون مكان ، بياضٌ هائمٌ خارج محبرة الخليقة . بياضٌ بغير كلامٍ ، وكلامٌ بغير دواة . وإذ أنشأ الله الزمان ، وعانق حضن المكان ، ترتبت نتيجة أخرى فوق ، في بياض السماء ، تقابل ما ترتب في بياض الأرض ، وصار كلاهما مكوّن من أبيضين ، كأبيضي رؤيا الكتابة ، ظاهر للحياة والنور ، وباطن للموت وبياض الظلام . صار في السماوات ليل ونهار :

(              وفكّر أنّ الظلامَ دجيٌّ ، وأنّ الزمانَ بغيرِ

حسابٍ ، فضوّأ بالقمرِ الليلَ والنيّراتِ . وشكّ مسارجَ

تُدعى : الكواكبُ .

                       أمّا النهارُ ،

                       فعلّقَ في سقفهِ الشمسً . أمّا 

الزمانُ ، فأصبحَ يوماً ، أسابيعَ ، شهراً ، سنينَ .

فباتَ البياضُ الذي فوقْ مثلَ البياضِ الذي تحتُ ،

من أبيضينِ : بياضٍ هوَ الليلُ في دوياتٍ هيَ النيّراتُ ،

بياضٌ تضوّئهُ الشمسُ وهي دواةُ بياضِ النهارِ . – ص 19 و20) .

ولكنّنا إلى الآن نفتقدُ "الحركة" ، وكأنّ حتى الله يستوحش من السكون ويفزع ، وليس الإنسان فحسب . البياض مخيف ، والفراغ بياض ، قرينُ الإحساس بشبحٍ يخطف سريعاً هو شبح الموت . ألهذا تفزع النفس البشرية من الفراغ ، وتسعى إلى ملئه بكل وسيلة ؟ في أي فراغٍ يكمن شبح للمثكل مهيّأ للإنقضاض . أي حركة "حيوية" ، ومهما كانت بسيطة وغير محسوسة ، فهي تعني أن "الخليقة" حاضرة ، وليست مجرّد رؤيا في دواة . ولهذا بدأ الله الآن بملء بياض البحار وبياض التُراب بنقط من حبر كلام رؤياه المكمّلة :

(                   ولمّا جرتْ عينُهُ في بياضِ

التُرابِ ، وماءِ البحارِ ، اضمّ إلى دويّاتِ التُرابِ

خيالاً يُسمّى الطيورَ ، وموّج في دوياتِ البحارِ

تعابيرَ تُدعى السوابحَ ، ثمّ اضافَ إلى النبتِ حبرَ

ذواتِ الدبيبِ ، ليكملَ معنى العبارةِ . – ص 20) .

وقد يرى متلقٍ نابه أنّ جانبا لا يُستهان به من قصّة الخلق هذه (في المقطع الرابع خصوصا) ، أي من قصائد الكون الشاعر التي يقرؤها وينقّحها شاعرنا الآن ، هي أقرب إلى روح "الشعر" التعليمي الأسطوري إذا ساغ الوصف ، منها إلى شعر الحداثة حيث الإستخدام الباهر والفذّ للغة غير وصفية ، استخدام "يخلق" لغة جديدة ، تصوّر ولا تتحدث ، وتهزّ مواضعات الترابطات التقليدية البائرة ، وتفتح عيني القاريء ، على سعتهما ، على ما في الترابطات الجديدة من "شاعرية" ، وعلاقات غير مألوفة .
وأردّ بالقول إن في هذا الراي جانباً من الصواب ، وما يراه السيّد المتلقي يحصل حين يطغى الجانب السردي في القصيدة على جانبها الشعري ، وهو أمر متوقّع لسببين : الأول هو أننا "نحكي" قصة خليقة ، والثاني هو أن القاريء سوف يحيل عمليّة تلقّيه إلى مرجعيات "حكائية" سابقة مُختزنة . وهذا يحيلنا إلى العنصر الأخطر في الخلق الشعري وهو : عنصر الذاتية . فالشعر عمل ذاتي ، ينبثق من أعماق لاشعور الشاعر محمّلاً بتجاربه وصراعاته وإحباطاته ، وحتى حين يحاول تصوير موضوعة "خارجية" فإنها لا تكتسب قيمتها المعنوية ودلالاتها إلا إذا أدخلها الشاعر في دواة لاشعوره ، وأثقلها بحبر رؤاه الذاتية ، ولهذا جاء المقطع الأول كلّه يقطر شعراً ، وهو يصوّر الجلسة الأسطورية "الإلهية" للشاعر ، وحوله مستلزمات عمله الغير متوقّعة . ونفس الشيء يُقال عن المقطعين الثاني والثالث وإن بدرجة أقل . وينبغي أن لا ننسى عاملاً آخر شديد الخطورة يتمثل في الروح "التحرّشية" ، وهي الروح التي تنسرب في النص الشعري ، ويزحف بها الشاعر الإنسان نحو مواضع الألوهة ، لكي ينتزع امتيازاتها في القدرات الخلاقية والسطوة الخرافية مثل تلك الجلسة المتعالية والخارقة للشاعر في المقطع الأول ، أو تحوّل الشاعر إلى مرجعية نقدية للكون حين أصبح الأخير شاعراً كما في المقطعين الثاني والثالث ، أو حين يقوّض تحصينات أسرارها الملغزة والعصية على الكشف والتداول ، ويستفزّ صورتها الإتفاقية المرهوبة في الوجدان الجمعي كما حصل في المقطع الرابع . أو حين تنكشف ، الآن ، الأبعاد التحرّشية المستترة للعبة الشاعر حين يكمل الله نصّه بكتابة الكون ، مكانا وزماناً ، بدواة الكلام ، بعد أن حوّل رؤياه من بياض يرفّ على الغمر إلى نور حبر الكتابة . تتكشف لعبة الشاعر حين يجعل الله يبحث عن قاريء لنصّه ، فيه من صورة الله أقرب ما يشبه الله ، فيخلق إنساناً لن يكتفي بقراءة نصّ الله ، وسنتعرّف على هويته بعد قليل :

(        ألقى إلى نصّهِ اللهُ نظرةَ منْ

قد ينقّحُ ، أو قد يزيدُ ، فأدركً أن الكتابةَ تمّتْ ،

ولا ينقصُ النصّ شيءٌ سوى قاريءٍ ، فيهِ منْ

صورةِ اللهِ أقربُ ما يشبهُ اللهَ . مدّ يداً للترابِ ، 

وكوّنَ طيناً ، وأرسلَ فيهِ الحياةَ ، فأصبحَ خلقاً

سويّاً . – ص 20) .

وستلفت إنتباه القاريء هذه السمة التلخيصية في خلق الإنسان لدى الشاعر . فكل أساطير الخليقة تفيض وتتوسّع ، حدّ التقاصيل المملة ، في توضيح الكيفية التي يُخلق بها الإنسان الأول ، وكيف ظهرت الحاجة إليه ، ثم تصوير عملية الخلق بتحضير موادها وخلطها وحضور الآلهة كل حسب اختصاصه لبناء الجسد البشري ، ثم نَفْخ الروح فيه . قصص متنوّعة متضاربة بعضها ذو طابع درامي عنيف ودموي . ولكن في قصّة خليقة جوزف حرب يأتي خلق الإنسان موجزاً ، عابراً ، ومن دون ذاك الصخب الاسطوري والإحتفاءات الكونية التي تصاحبها تغيّرات في الوجود والطبيعة والعلاقات القائمة بين مكوّناتهما . جاء خلق الإنسان هنا إستكمالا لأطراف العملية الإبداعية المركّبة حتى الآن . ففي كل عملية إيداعية هناك ثلاثة أطراف كما هو معروف : المبدع والنص والمتلقي قارئا أو ناقدا ، وقد وجد الله ، المبدع ، أن نصّه - بعد أن أكمل كتابته - لا يكتسب أهميته الكاملة إلا بوجود قاريء ، فخلق الإنسان . وهذه الخطوة تنطوي أيضا على روح تحرّشية جسور مباركة ، ففي أغلب الأساطير يُخلق الإنسان لينفّذ مخطّطات الآلهة ، أو ليحمل العبء عنها ، أو ليتصدى لحمل أمانة ، وغيرها من التخريجات الدرامية التي تداري نرجسية الإنسان حين يضع لخلقه سببا بعد أن هزّ الموت جدوى وجوده وغائيّته . لكن هنا يُخلق الإنسان ليكون شريكا ، قارئا ، وضرورة لا يكتسب نص الله جدواه من دونه ، وكأن الله الشاعر قد أدرك ، بعد أن ألقى النظرة الأخيرة على نصّه الكوني المُذهل ، خواء فعله الإبداعي حين يتحرّك النص في الفراغ ملتفّاً على ذاته ، فمن دون قاريء يكون النص وكأنه لم يُكتب ، وفي حالة بياض ، لم يغمس جسد رؤياه في محبرة الكتابة . ثم أن الحاجة إلى وجود قاريء ، وهذا يعني وفق أعراف خليقة جوزف حرب ، أن حتى النص الإلهي بحاجة إلى الإستحسان بل التقييم ، وسيأتي هذا التقييم والإستحسان من قاريء خلقته أنامل الله (مدّ يداً .. ) . ولاحظ أنّ كل ما يجري في قصة خليقتنا الجديدة هذه ، بل في أساطير وقصص الخليقة كلّها ، لا يمكن إلا أن يتم مُحالاً إلى مرجعيات الجسد البشري وفعّالياته : يد الله .. ريشة الله .. جرت عينه . وحتى مفهوم الكون وطريقة خلق مكوّناته تجد مرجعيتها في "كون" الإنسان الصغير على الأرض . فقد (كان مفهوم الكون عند الإنسان القديم أقرب إلى صورة الخيمة أو البيت ، قاعدته الأرض وسقفه السماء ، بما فيها من نيّرات . وعند السومريين والبابليين كانت فكرة السماوات والأرض انعكاساً لهندسة البيت من طابق أرضي وطوابق أخرى ، عددها سبعة ، وكان مقر الإله آنو – إله السماء ، فوق السماء السابعة . بل هناك طابق آخر للكون يشبه الدور التحتأرضي (القبو ، أو السرداب) ، ويتألف أيضا من سبع درجات  وفوق ذلك فقد صوّر الله الكائن الجديد/ القاريء ، على صورته ، ليكون أقربَ ما يشبه الله . وهذه مسألة شائكة تحيّرنا منذ فجر الكتابة ، وبدء تدوين قصّة الخلق وأساطيره وأديانه ، إذ كيف يكون الإنسان المخلوق من طين على صورة الله ؟ أو "أقرب ما يُشبه الله" ؟ يخلق الإنسان آلهته على مقياس ذاته . ويصبح القاريء مكافئا لمنشيء النص . وهي ضرورة ، فحتى في عملية الكتابة الإبداعية العادية (البشرية) ، يُطلب من القاريء أن يكون "بمستوى" النص ، وأن يمتلك من إمكانات الوعي والثقافة والدربة والذوق الفني ما يؤهّله لفهم مضامين النص العميقة وفكّ مغاليقه . وأمام نصّ الكون لابدّ أن يكون القاريء استثنائيا وفريد الذوق والمهارات . وبخلق الإنسان القاريء تكتمل "دورة" النصّ ، ويبقى عامل "الحركة" التي تمنح مكوّنات الكون إنطلاقة طاقاتها الخلّاقة :

(        وطافَ على يَبَسِ الأرضِ والبحرِ

  منْ راحةِ اللهِ

         هبُّ الرياحْ ،

وكانَ مساءٌ ،

وكانَ صباح ،

وكانَ رأى اللهُ نصّ محابرهِ

حَسَناً ، 

             فاستراحْ . – ص 20 و21) .

 

 

د. حسين سرمك حسن

إقرأ للكاتب أيضا :

 

مظفر النواب: (1)

وحالة ( ما بعد الحب )

 

مظفّر النوّاب : (2)  

من مفاتيح الحداثة

 في قصيدة "للريل وحمد"

 

مظفر النواب : (3)

 اللغة تقاوم الموت

 

مظفر النواب : (4)

 شتائم ما بعد النقمة

 

مظفر النوّاب : (5)

الصانع الأمهر

 

مظفر النواب : (6)

ملاعبة المثكل الخلّاقة

 

مظفر النواب : (7)

الإنفعال الصاخب المُعدي

 

مظفر النواب : (8)

عشبة خلود الشاعر :

 "اسعيده" المرأة العراقية العظيمة

 

مظفر النوّاب: (9)

تمزّقات ارواح الحروف المدوّية

 

مظفر النواب : (10)

 دراما حروف العامية الجديدة

 

مظفّر النوّاب : (11)

 العالمية تبدأ من معاناة الإنسان العراقي

 

 

مظفر النواب : (12)

تدشين مرحلة البطل الشعبي

 في الشعر العراقي

 

 

مظفر النواب : (13)

صوفيّة الأنوثة

 

 

مظفّر النوّاب : (14)

ينقر على الصمت ليبتكر الصوت

 

 

مظفر النواب : (15)

تفجير حداثة القصيدة العامية في "للريل وحمد"

 

 

فيلم المبارز – Gladiator

سادس أعظم فيلم في تاريخ السينما

 

 

كتابان جديدان للناقد

 الأستاذ "شوقي يوسف بهنام"

 

 

كتاب "الأبيض كان أسود"

 للناقد "ناجح المعموري":

عندما يصبح النقد الأسطوري قسرا وإفراطا !

عرض ونقد : د. حسين سرمك حسن

 

 

الفنان الراحل "أحمد الربيعي" ..

وهذا الكاريكاتير العجيب

 

 

قصيدة "بعيداً عن العراق" لشبرى البستاني:

في معنى الأدب المُقاوم

 

 

كتاب جديد للناقد "حسين سرمك حسن"

عن "أدب الشدائد الفاجعة"

 

 

حركة داعش .. وتنفيذ التعاليم التوراتية

(1)

 

حركة داعش وتطبيق التعاليم التوراتية

 (2)

 

حركة داعش وتطبيق التعاليم التوراتية

 (3)

 

 

كتابان للناقد "جاسم عاصي"

قراءة : د. حسين سرمك حسن

 

 

كتابان جديدان للباحث

 "ابراهيم فاضل الناصري"

قراءة : د. حسين سرمك حسن

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

رواية (حلم وردي فاتح اللون)

 للروائية (ميسلون هادي) (1)

 

رواية (حلم وردي فاتح اللون)

 للروائية (ميسلون هادي) (2)

 

 رواية (حلم وردي فاتح اللون)

 للروائية (ميسلون هادي) (3)

 

 رواية (حلم وردي فاتح اللون)

 للروائية (ميسلون هادي) (4)

 

 رواية (حلم وردي فاتح اللون)

 للروائية (ميسلون هادي) (5)

 

 رواية (حلم وردي فاتح اللون)

 للروائية (ميسلون هادي) (6)

 

 رواية (حلم وردي فاتح اللون)

 للروائية (ميسلون هادي)

 (7/ الأخيرة)

 

 

 كتب .. كتب .. كتب

(1)  تأملات في رواية "د. عباس العلي"

 الخطيرة  : "الرجل الذي أكله النمل"

 

 كتب .. كتب .. كتب :

(2) فاروق أوهان في نخيل بلا رؤوس

 

كتب .. كتب .. كتب :

(3) عبد الأمير محسن :

 "قطيع أسود من السنوات"

 

كتب .. كتب .. كتب

رابعاً - حيدر جواد كاظم العميدي : تأويل الزي في العرض المسرحي

 

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

بثينة خضر مكي في "أغنية النار" : البساطة المميتة  (2)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

بثينة خضر مكي في "أغنية النار" :

 البساطة المميتة  (3/الأخيرة)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (1)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (2)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (4)

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (5)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (6)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (7)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

"عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (8)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (9)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

 "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة  (10)

 

 

مشروع تحليل خمسين رواية عربيّة نسوية :

بثينة العيسى في رواية

"عائشة تنزل إلى العالم السفلي" :

إنانا الحكاية العربية الجديدة 

 (11) (الأخيرة)

 

 

حركة داعش .. وتنفيذ التعاليم التوراتية

حسين سرمك حسن

 

 

كتابان جديدان للباحث

 أ.د "فاضل جابر ضاحي"

د. حسين سرمك حسن

 

 

محبرة الخليقة (1)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (2)

تحليل ديوان "المحبرة"

 للمبدع "جوزف حرب"

 

محبرة الخليقة (3)

تحليل ديوان "المحبرة"

 للمبدع "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (4)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (5)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (6)

تحليل ديوان "المحبرة"

 للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (7)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (8)

تحليل ديوان "المحبرة"

 للمبدع "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (9)

تحليل ديوان "المحبرة"

 للمبدع "جوزف حرب"

 

 

  محبرة الخليقة (10)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

 

محبرة الخليقة (11)

تحليل ديوان "المحبرة"

 للمبدع الكبير "جوزف حرب"

 

"أوراق حسين مردان السرّية" :

خطوة جديدة مباركة في مشروع الناقد

 "شوقي يوسف بهنام"  

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا