Untitled Document

  

بشتآشان: مجزرة جلال الطالباني بحق الشيوعيين العراقيين.

 

علاء اللامي*

تمنى عليَّ أحد قراء "الأخبار"، في تعليق له نشر على موقع الصحيفة، أن أكتب شيئا عن مجزرة "بشتآشان" التي ورد ذكرها في إحدى مقالاتي. وبمناسبة الذكرى  السابعة والعشرين  لهذه المجزرة التي مرت قبل فترة، أقدم هذا التعريف بالحادثة وخلفياتها، تلبية لرغبة القارئ و تحية لذكرى رفاق مغدورين، لم يتخلَ عنهم رفاقهم وأصدقاء لهم نجوا من الموت كما سنرى، بل  تخلت عنهم قيادة حزبهم الحالية بإغلاقها لهذا الملف بحزم مريب.

"بشتآشان" واحدة من أربع قرى كردية جبلية تقع في الشريط الحدودي العراقي المحاذي لإيران، وقد هُجِّر سكان هذه القرى في بداية الثمانينات من القرن الماضي من قبل حكم الرئيس المعدوم صدام حسين خلال حرب الثماني سنوات مع إيران.

 هذه القرية المهجورة، وذات الموقع الحصين عند سفح جبل قنديل، اتخذتها قيادة الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يحمل السلاح ضد النظام الحاكم آنذاك، متحالفا سياسيا وعسكريا مع عدد من الأحزاب العراقية والكردية من بينها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، اتخذتها موقعا يضم مقرات للإعلام المركزي للحزب ومستشفى ميدانيا ومجموعة من الإدارات الخدمية إضافة إلى مقر للمكتب السياسي للحزب.كانت هذه المواقع محمية بقوة مسلحة  من أنصار الحزب القادمين من شتى أنحاء العراق، ولكنها لم تكن قاعدة عسكرية بالمعنى المألوف للكلمة كما يؤكد بعض الشيوعيين ممن شاركوا أو شهدوا تلك الأحداث، بسبب  تبني الحزب لتكتيك حرب العصابات الذي يوجب نشر القوات الثورية المسلحة في زمر ومجموعات صغيرة متناثرة جغرافيا.

ورغم أن الحزب الشيوعي كان متحالفا مع حزب الطالباني كما تقدم، فإن هذا الصِدام المسلح لم يكن الأول من نوعه فقد سبقه صِدام آخر قبل عامين حين هاجمت مليشيات الطالباني قوات الحزب الشيوعي في قرية " ورته" التابعة لمحافظة أربيل سنة 1981 ودارت رحى معركة انتهت بهزيمة مليشيات الطالباني هزيمة ساحقة رغم تمتعها بإسناد عسكري من قوات النظام الحاكم. وقبل هذه المعركة، كانت مليشيات الطالباني التي كان يقودها ميدانيا نوشروان مصطفى المنشق حاليا على رئيسه السابق قد اصطدمت بمليشيات حزب البرزاني في معركة "هاكاري" سنة 1979 فهزمت أيضا وخسرت مناطق بهدينان الشاسعة وانحصر وجودها في منطقة " سوران".

 استمرت حالة الشد والجذب بين حزب الطالباني والحزب الشيوعي رغم تحالفهما في إطار جبهة "جوقد " أي الجبهة الوطنية والقومية الديموقراطية، بفعل طموحات الطالباني وقيادته للاستئثار والهيمنة واحتكار الميدان حتى بدأت مفاوضات سرية بينه وبين مخابرات نظام صدام حسين إثر اضطراب علاقته بالنظام الإيراني آنذاك. ويميل كثير من الشيوعيين العراقيين كأفراد وليس كقيادة إلى تفسير ما حدث في "بشتآشان" بأنه كان الثمن الذي كان يتوجب على الطالباني تقديمه لترسيخ انحيازه لنظام صدام الذي طلب منه -كما قيل- أن ينهي تواجد الشيوعيين وبخاصة العرب في مناطق نفوذه.

لسوء الحظ، ليس ثمة مصادر مستقلة أو محايدة أيضا  يمكن  أن نستعين بها لرواية تفاصيل الأحداث، ولهذا سنضطر إلى اعتماد ما رواه عدد ممن عاصروا تلك الأحداث أو ممن نجوا من تلك المذبحة، ولكننا لن نأخذ كل ما قيل على العواهن ودون تمحيص بل سنحاول قدر الإمكان التركيز على ما اتفقت عليه مصادر مختلفة وما يتسق ويستقيم مع العقل والمنطق .

  بدأ الطالباني حشد قواته من مختلف مناطق نفوذه، وكانت تلك القوات تتوقف أحيانا في مواقع "حلفائها"الشيوعيين في طريقها إلى "بشتآشان" فيقدمون لها الطعام والمأوى – كما حدث في قاعدة "رزكة "-  ثم تواصل مسيرتها دون أن يطرف جفنُ خجلٍ من رجالها. وفي ليلة الأول من آيار سنة 1983، وفيما كان الشيوعيون يستعدون للاحتفال بمناسبة عيد العمال العالمي، بدأ الهجوم عليهم من جميع الجهات، بل وأضاف بعض الناجين بأن مدفعية الجيش الحكومي شاركت في القصف. واستبسل الشيوعيون في الدفاع عن أنفسهم ومواقعهم  وفشلت القوات المهاجمة والمؤلفة من عدة مئات من المقاتلين في التقدم والإجهاز على أقل من مئة مسلح واستمرت المعركة لثلاثة أيام بلياليها.

تمكن الأنصار الشيوعيون من نقل وإنقاذ المرضى وكبار السن وبعض الممتلكات إلى مواقع أخرى. وفي اليوم الثالث، ومع نفاذ العتاد، بدأت القوات المدافعة المتبقية بالانسحاب من مواقعها إلى مواقع أخرى أمينة، ولكنها وقعت في كمائن المهاجمين، وهنا حدثت المجزرة: لقد قُسِّم الأسرى على أساس قومي فأطلق المهاجمون سراح الشيوعيين الأكراد، وكان بعضهم قد قاتل حتى قتل في المعركة وفي مقدمة هؤلاء الشيوعي العجوز السبعيني خضر كاكيل الذي ظل يدافع عن رفاقه العرب بشجاعة صارت مضرب الأمثال حتى قُتِل،  و أُعْدِمَت الأسيرات الشيوعيات العربيات ببشاعة  أمام رفاقهن، وقُتِل الأسرى بسادية بعد أن جردوا مما في جيوبهم من نقود، وجعل مسلحو الطالباني  من أحد الأسرى هو الرفيق الشهيد حامد الخطيب " أبو ماجد" دريئة ربطت إلى شجرة زيتون وراحوا يتدربون على تصويب الرصاص نحوها.

 في تلك الآونة، ورغم التحذيرات التي أرسلتها إحدى قواعد الأنصار الشيوعيين إلى قيادة الحزب، استمرت حالة الاسترخاء وانعدام الحذر، لدرجة أن الأنصار في "بشتآشان" ذاتها كانوا يقاتلون وهم يجهلون الطرف الذي يواجهونه ويظنونه القوات الكردية التابعة للنظام الحاكم والتي تدعى أفواج الدفاع الوطني " جاش "، ونتيجة لهذه الغفلة، وربما التواطؤ، وقع أحد قادة الحزب وهو كريم أحمد أسيرا في قبضة مليشيات الطالباني، وأذاعت تلك المليشيات بيانا قالت إن أحمد وقعه يدين سلوك الحزب الشيوعي ويبرئ حزب الطالباني فأحدث هذا البيان أزمة سياسية ومعنوية داخل الحزب وبين صفوف الأنصار خصوصا.

أسفرت تلك المجزرة عن مقتل أكثر من سبعين رجلا وامرأة من الأنصار الشيوعيين وانقطعت علاقة الحزب الشيوعي ولكن مؤقتا بحزب الطالباني. وطوال سنوات تلت، لم تنظر قيادة الحزب الشيوعي بجدية لهذا الموضوع، ولا هي طالبت قيادة الطالباني بالتحقيق في هذه المجزرة أو الاعتذار عنها علنا. وحين طالب بعض الأنصار الناجين وشخصيات يسارية عراقية أخرى قيادة الطالباني بالاعتذار ردت هذه القيادة بالمطالبة باعتذار متبادل!

لقد واصل الناجون من هذه المجزرة- وقد أصبح أغلبهم الآن خارج صفوف الحزب الشيوعي- و معهم عدد من ذوي المغدورين القتلى،  نشاطاتهم المدنية من أجل إنصاف المغدورين وفتح ملفات هذه المجزرة السياسية  وإدانة مرتكبيها. ومن تلك النشاطات توجيه رسالة مفتوحة إلى القضاء والرأي العام سنة 2005، وهي السنة التي تسنم فيها جلال الطالباني منصب الرئاسة بعد صفقة سياسية بين مكونات حكم المحاصصة الطائفية والعرقية، طالبوا فيها (بتوفير كافة الوثائق والمعلومات وتسهيل اللقاءات والمقابلات مع الضحايا وعوائلهم، لفتح الملف من جديد وتقديمه إلى القضاء الوطني العراقي المستقل، وإذا لم تتوفر الشروط والظروف الضرورية في الوقت الحاضر، فإننا سوف نتقدم إلى القضاء العالمي في محكمة العدل الدولية في لاهاي ومحاكم الإتحاد الأوربي، وأية دولة تقبل مثل هذه الدعاوى ..) وقال الموقعون على هذه الرسالة، إنهم يركزون في هذه القضية على ( المسؤولية الشخصية لجلال الطالباني في التخطيط للعملية وإصدار الأوامر المباشرة للهجوم العسكري والقيام بعمليات القتل الجماعي ، وخاصة أوامر قتل الأسرى . ولا يزال جلال الطالباني يتباهى بهذه الجريمة ، ولم يعتذر عنها، بل يعتبرها إنجازا عسكريا كبيراً وخاطفا. ) وقد شارك في التوقيع على هذه الرسالة العشرات من المثقفين وذوي العلاقة ومن بينهم سعدي يوسف أهم شاعر عراقي حي والذي نشر مقالة قوية آنذاك تحت عنوان  (جلال الطالباني إلى المحكمة الجنـائية الدولية في لاهاي.) أيد فيها المطالبة بتقديم الطالباني إلى المحكمة الدولية واتهمه صراحة بالتنسيق مع صدام حسين في تنفيذ تلك المذبحة بحق الشيوعيين.

واليوم، فما زالت ملفات هذه المجزرة السياسية، التي تستفز الوجدان والضمائر مغلقة، إلا من قبل الباحثين عن العدل والإنصاف، فليس من الصواب اتهام المطالبين بفتح هذه الملفات بأنهم يتحركون بدوافع ثأرية وانتقامية فالحق في معرفة حقيقة ما جرى ، خصوصا وأنه يتعلق بإزهاق أرواح العشرات من الشبان العراقيين غدرا، يمكن أن يكون سببا كافيا للتحقيق والمساءلة وتحميل المسؤولية للمدانين .ولعل هذا أقل ما يمكن أن يطالب به ذوو المغدورين، خصوصا وأن المتهمين معروفون بأسمائهم وصفاتهم، وثمة الكثير من الشهود الأحياء والأدلة المادية وغير المادية على ما حدث .. أما قيادة الحزب الشيوعي الحالية فيكفيها أن يكون صمتها عن هذا الملف وخذلانها لأرواح شهدائها علامة فارقة أخرى على جبينها تضاف إلى علامات فارقة أخرى من أهمها مشاركتها في "مجلس الحكم" الذي شكله غزاة وطنها.

* كاتب عراقي / الأخبار اللبنانية / 11/6/2010 / هنا النص الكامل للمقالة التي نشرت مجتزأة في الأخبار




 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

تصدرها مجموعة من الصحفيين والكتاب العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة