الحكم في إيران والتعكز على
تراث أهل البيت النبوي/ بمناسبة شنق شابين من المعارضة السلمية الإيرانية
علاء اللامي*
بإقدامه على شنق شابين، لم
يتجاوز عمر أحدهم تسعة عشر عاما، من المعارضة السلمية الإيرانية، والتي
تشكلت إثر إدعاءات واسعة النطاق بتزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أثبت
نظام الحكم الإيراني الطائفي، بدلالة المادة 12 من دستور الجمهورية
الإسلامية والتي تنص على أن (الدين
الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري، وهذه المادة غير قابلة للتغير
إلى الأبد)، أقول: أثبت هذا النظام أنه أبعد ما يكون عن المضامين الإيجابية
والتسامحية الإنسانية التي يحفل بها تراث أهل البيت النبوي الشريف. فهو حين
يتعامل بحبال المشانق مع شباب يتظاهرون ويحتجون بشكل سلمي، وبغض النظر عن
كونهم ينتمون إلى هذا الحزب أو التوجه الفكري أو ذاك، إنما يؤكد أنه نظام
"طاغوتي" بتعبيراته الخاصة هو، و لا يختلف في قليل أو كثير عن سواه من
الأنظمة المحيطة به هذا أولا. وثانيا فهو يقدم دليلا آخر على أنه يعيش
أزمة داخلية عميقة ويواجه خيار وجودي خطير لا تنفع معه الاتهامات بالمَلكية
أو سواها و لا التعامل بحبال المشانق.
ولعل أكبر الإساءات التي
ارتكبها ويرتكبها هذا النظام طوال عمره، هي تلك التي وجهها إلى هذا التراث
الديني الذي تعكز عليه طويلا وهو تراث أهل البيت الذي هو موضع تقدير
واقتداء من لدن جماهير المسلمين الشيعة الإمامية الاثنا عشرية وغيرهم.
ولتبيان درجة التقاطع والتضاد بين تصرفات النظام المذكور مع هذا التراث،
بين القسوة الدموية والرأفة الإنسانية التي لا ضفاف لها، نسوق الأمثلة
التالية من ذلك التراث.
انتصر جيش الخليفة الرابع،
الإمام علي بن أبي طالب، أول أئمة المسلمين الشيعة بحساب فقهاء طهران، في
معركة الجمل، وقتل الصحابي طلحة بن عبيد الله، الذي كان يقاتل ضده، فجاء
الإمام علي وجلس عند جثمانه وجعل يمسح عن وجهه الدماء والتراب ويتهدج
قائلا: عزيزٌ عليَّ أبا محمد أن أراك مجندلا في البراري، ليتني مِتُُّ قبل
هذا اليوم .. اللهم إني أشكو إليك عجري وبجري!
ودخل رجل مسجد الكوفة،
والخليفة الإمام جالسا إلى أركان دولته وأصحابه، فهاج الرجل وماج، وشتم
الإمام علي بقبيح القول، فَهَمَّ به الحاضرون، ولكن الإمام منعهم من إيذائه
وقال لهم: الرجل شتمني وأنا وليّ نفسي فاتركوه لأني تاركه، فانصرف الرجل
متعجبا ومُعجبا.
وفي أحد كتبه، يروي المفكر
الراحل هادي العلوي - وهو من أسرة مسلمة شيعية مثلي - الحادثة المعبرة
التالية، التي حدثت للإمام جعفر الصادق سادس أئمة المسلمين الشيعة،وخلاصتها
أنه كان ذات يوم يستضيف جمعا من صحبه، وكان له عبد يقوم بشيِّ اللحم، فحمل
العبد سيخا حاميا محملا باللحم، ولكنه أفلته فسقط السيخ من يده ووقع في رأس
غلام صغير هو أحد أبناء الإمام الصادق، وسقط الغلام قتيلا في الحال.فزع
العبد وصاح، فهرع إليه الإمام وقال له: لا تُرَعْ .. لا تُرَعْ أنت حرٌّ
لوجه الله!
ثم حمل الإمام ولده الغارق في
دمه وصلى عليه ثم دفنه .. معنى ذلك، إن الإمام الصادق لم يلق بالا لابنه
الغارق في دمائه،ولم يعطه الأولوية، بل هرع ليطمئن العبد المذعور ويحرره
من عبوديته!
وللإمام الصادق قول مشهور حول
أداء الأمانات لأصحابها ترك أثره البالغ ليس على المسلمين الشيعة في العراق
بل أحسب على جميع العراقيين و الذي نصه: أدِّ الأمانة ولو كانت لقاتل
الحسين َ! والحسين هو جده الشهيد الثائر المغدور. وقد فوجئت شخصيا ذات مرة
حين سألت عددا من المحاميين الجزائريين الذين تخرجوا من الجامعات العراقية
في الستينيات عما تركه فيهم العراق من انطباعات، فاتفقوا على أن هذا العرف
العراقي في أداء الأمانات كان أقواها أثرا في نفوسهم من سواه، حتى إنهم
اعتبروه غريبا بعض الشيء، لأنه يشمل جميع العراقين، من الصبي ماسح الأحذية
الفقير الذي تستأمنه على سلة التسوق، إلى البقال أو صاحب الفندق الذي تترك
عنده حقيبة سفرك ليوم أو بعض يوم.. ونحن هنا نتحدث عن عراق الستينات لا عن
"عراق صدام" حيث صار العراقي يكتب تقريرا سريا ضد زوجته أو أبيه ويرسله إلى
الحزب أو المخابرات بكل برودة دم و ضمير متطامن، ولا هو عراق من جاؤوا بعد
صدام حيث صار سعر العراقي في ميزان تعويضات القتلى برصاص المحتلين وشركاتهم
الأمنية مثل بلاك ووتر لا يزيد عن سعر عجل متوسط الحجم كما قالت قبل أيام
إحدى أمهات شهداء مجزرة ساحة النسور.
هذه الأمثلة، هي مجرد شواهد و
شواخص على أن علاقة نظام الحكم الإيراني القائم اليوم هي علاقة انقطاع تام
وتوظيف مختلف في آن واحد: فعلى صعيد الاقتداء والاستمرارية لا يحتاج المرء
إلى الكثير من الأدلة على الصرامة والقسوة والجفاء والعدوانية التي يعتمدها
النظام الإيراني ومؤسساته القمعية العديدة كالباسيج والباسدران ..الخ، ضد
خصومة السياسيين. وعلى هذا، فالنظام الإيراني منقطع تماما عن تراث يتعكز
عليه ويستند إليه فقهيا وسلوكيا من الناحية اللفظية فقط. كما إنها علاقة
توظيف واستغلال مستمرة لأن هذا النظام لم يتوقف يوما واحدا عن استدرار دموع
وعواطف ملايين الإيرانيين بواسطة هذا التراث ولكن بالمقلوب مضمونيا،
ولأغراض سياسية محضة تخص بقاءه واحتكاره للسلطة والثروة والسلاح.
وحتى اللغة التي يستعملها
أقطاب النظام ضد معارضيهم فهي لا تخلوا من العنف اللفظي في أعلى درجاته،
حيث التهديدات بقطع الرؤوس وكسر الأنوف والمسح من الوجود هي السائدة.
وحين اعتبر بعض رجال النظام
إقدام عدد من الشباب الإيرانيين على تمزيق صورة المرشد خامينئي جريمة كبرى،
فقد نسي أو تناسى هؤلاء واقعة الرجل الذي وقف أمام إمام المسلمين الشيعة
الأول علي بن أبي طالب ، وفي مسجده في الكوفة، وشتمه بقبيح القول كما
أسلفنا، ولكن عليا عفا عنه ورفض إيذائه. شيء من هذا القبيل يذكرني برسالة
مفتوحة وجهها أحد رجال الدين الإيرانيين خلال حرب الثماني سنوات إلى الراحل
الخميني يطالبه فيها بالمزيد من القسوة والصرامة مع العسكريين العراقيين،
مذكرا إياه بأن سيف الإمام علي مرَّ في يوم واحد خلال معركة صفين على رقاب
عشرة آلاف مقاتل من جيش عدوه. وبغض النظر عن صدقية هذه الرواية من عدمها،
ولا أظنها صادقة توثيقيا، ولكن هذا "المُعَمم السياسي" ينسى أن عليا كان
يحارب في معركة مفتوحة بين جيشين، ولم يروَ عنه أنه قتل أعزلا أو أسيرا قط،
بل هو كان قد قابل منع الأمويين لجيشه من ورود مياه الفرات من المشرعة
الوحيدة الممكنة بأن سمح للجيش الأموي بورودها حين استعادها منهم بعد قتال
ملحمي فإنه كان يمثلن – يضرب الأمثلة عمليا- للتسامح والرحمة والأمل وليس
لشهوة القتل المرضية السوداء.
بعد شنق الشابين المسالمين
الإيرانيين بحبال نظام طهران، لن يكون بعد الآن من الاستفزاز في شيء، أن
يتساءل الناس، إن كان هذا النظام أقرب إلى تراث أهل البيت النبوي الشريف أم
إلى هويته القومية الفارسية العتيقة وتقاليد وتراث إمبراطوريتها المعمدة
بالدماء؟
* كاتب عراقي