كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

كتب مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

الفصل الثالث :

هل التوافق الأهلي ممكن في ظروف العالم العولمي؟

 

محصلة القرن العشرين: مغامرات الإنسان الاقتصادي

صار زمننا يمثل "لحظةَ الحقيقة" في الكثير من جوانبه. وربما كان الجانب الرئيسي من بينها هو ذلك الذي يمس مفهوم البرجوازية باعتبارها ذاتَ الثروة وذاتَ التاريخ. لقد كونت الفترة بين نهايتي الحربين – الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة – جيلاً تشكل عنده تصور خاص تماماً عن البرجوازية لا يشبه ذلك الذي كان لدى الأجيال السابقة. تحدثنا في القسم الأول من الكتاب([1]) عن رد الاعتبار للبرجوازية على يد ماكس ويبر, الذي أفادت حججه المصلحين والليبراليين ما بعد السوفييت المحتفلين بانتصارهم على الشيوعية. لكن ما فعله جون كينز([2]) ومن اتبعوه في السياسة الاقتصادية الاجتماعية التطبيقية – أي بناة "المجتمع العظيم" في أمريكا والدولة الاجتماعية في أوربا الغربية, كان كثيراً أيضاً من أجل رد الاعتبار للبرجوازية. صار مراقبو الحصيلة الجاهزة لهذه الجهود كلها في مختلف بلدان العالم – كان بينهم الجيل السوفييتي من مرحلة ذوبان الجليد الخروتشوفية – يفهمون البرجوازية على نحو مختلف تماماً عما وعد به معلمو التناول الكلاسيكي الماركسيون. هبط عليهم انشراح غير معهود: خيل لهم أن ذلك البرجوازي الذي يقتنع بالحجة والشريك الاجتماعي المنصاع للقانون وصاحب الدولة الاجتماعية الصالح بمثل طبيعة البرجوازي ذاتها باعتباره "الإنسان الطبيعي"الذي تحدث المنورون عنه.

لقد تغلب "الإنسان الطبيعي" الليبرالي على "إنسان الماركسية الطبقي" وقد استمرت هذه الغلبة حتى 1998, حين وقع كما يكتب المراقبون "التحدي الأكثر جديةً بعد انتهاء الحرب الباردة لاقتصاد السوق الحر"([3]).

عام 1998 حدث في مختلف المناطق العالمية, من روسيا حتى منطقة المحيط الهادئ الأسيوية, انهيار الهرم الاقتصادي الليبرالي – أي هرم الـ "МММ" العولمي الشهير المشاد عملاً بنصيحة صندوق النقد الدولي وبضغط منه. لقد أعلنت القرصنة الاقتصادية العولمية, المستغِلّة إمكانات رأس المال قصير الأمد ذي القدرة الكبير على الحركة, والذي يتدفق في لحظة فيقص قسائم الأرباح ويتبخر في اللحظة ذاتها, التحدي في وجه حب العمل لدى مئات الملايين من البشر المراقبين لثرواتهم وهي تفقد شكلها المادي وتسبح خارجة إلى ما وراء الحدود. تحولت أزمة عام 1998 المالية إلى درس قاس للمصدقين زيادةً عن اللزوم – أي لأولئك الذين صدقوا مسلمات الليبرالية الاقتصادية, المدافعة عن إلغاء أي رقابة وطنية على رؤوس الأموال.

لكن لحظة الحقيقة لم تمس فقط النظرية الليبرالية حول "المجتمع المفتوح", الذي لا يعيق حركة رأس المال الحرة عبر العالم كله بحثاً عن الربح الأعظمي. لقد مست أيضاً سلوك الطبقة البرجوازية الاجتماعي الداخلي. ما إن انهارت المنظومة الاشتراكية العالمية – خصم الرأسمالية – وتم إضعاف عزيمة الحركة العمالية المترافق مع هذا الانهيار في الغرب ذاته حتى راحت البرجوازية تطلب بحزم تفكيك الدولة الاجتماعية والتحول إلى قانون الغاب – أي إلى الاصطفاء الطبيعي الذي لا يعوقه شيء "للقادرين على التكيف مع السوق".

كان اختيار اللحظة ناجحاً فعلاً. للحداثة الديمقراطية, كما هو معروف, قطبان: ديمقراطية الحرية الليبرالية (laissez -faire) [سياسة عدم التدخل], وديمقراطية المساواة الراديكالية. جذبت البلشفية نواس الديمقراطية بعيداً باتجاه قطب المساواة اليساري الراديكالي, مما يوجب الآن, بعد أن أفلت من يد الدولة "البروليتارية" الشمولية, أن يطير هذا النواس حتماً بعيداً إلى اليمين – إلى الليبرالية اللامحدودة (في الإيديولوجيا على الأقل). لكن لم تلبث أن ظهرت تأثيرات النفسية الاستهلاكية الجماهيرية . تدل التجربة على أن الجماهير في الغرب وفي الشرق تفضل مصير من ضُمِن له "الخبز والفرجة" على فن النشاط الذاتي الديمقراطي المدني الصعب.

يفضل ذلك الذي تهمه نوعية العمليات الاجتماعية – الإنتاجية أو السياسية الاجتماعية, وضع من يكون صاحب مصيره على وضع المستهلك. أما أولئك الذين يهتمون بالنتيجة الاقتصادية الجاهزة فميالون إلى التنازل عن حق اتخاذ القرار لأولئك الذين يعدون بالفاعلية القصوى بشهادة التكنوقراطيين الأخصائيين. رداً على هذا الطلب على الفاعلية تحديداً ظهرت إيديولوجيا السوق الليبرالية أو السوق الخالصة. قال ممثلوها: إذا رحتم تهتمون بالعدالة الاجتماعية فإن مصيركم هو الاكتفاء بإعادة توزيع الكعكة العامة, التي ستتناقص حتماً تحت تأثير البيروقراطية غير الماهرة. أما إذا كففتم عن الاهتمام بالتوزيع العادل وتركتم حل كل شيء لأوتوماتيكية السوق فإن الكعكة العامة ستنمو بسرعة وستكفي الجميع.

الآن, حين نراقب العواقب الفعلية للبرلة السوق اللامحدودة, من المهم أن نتعرف على سر جاذبية نظرية السوق. تكمن هذه الجاذبية في الحق بالخمول الأهلي: أوتوماتيكية السوق مبنية على نحو عجيب بحيث أنها تعطي من تلقاء ذاتها أفضل النتائج الاقتصادية من غير أي توتير للإرادة السياسية والأخلاقية, وعلى الرغم من السلبية الاجتماعية التامة من قبل المواطنين والدولة.

لقد استحوذ هذا التصور عن السوق, الشبيه بالتصور عن الطاحون العجيبة التي تخبز الكعك الجاهز, على الجماهير لأن حسيتهم المتراخية تطلب السلبية. والآن حان الوقت لدفع ثمن هذه السلبية. ما إن اختفت منظومة الموانع والتوازنات العالمية التي تمثلت بالبنى ثنائية القطب, حتى اكتسحت "الموجة المحافظة الجديدة" داخل البلدان التي شملتها اللبرلة, حواجز الدولة الاجتماعية وحزمت الطبقة البرجوازية أمرها على الثأر الذي انتظرته طويلاً. لقد خرجت على نحو غادر من منظومة التوافق المدني السابقة, المتأسسة على التنازلات المتبادلة بين جماهير العمال الملتزمة بالحفاظ على الانضباط الإنتاجي والاجتماعي, وأرباب العمل الملتزمين باحترام صلاحيات النقابات ومتطلبات الدولة الاجتماعية.

كان من المفترض قبل ذلك أن السوق الحرة على النطاق العولمي والمحلي هي حوض هائل يمتص في البداية رؤوس الأموال من كل حدب وصوب (المهم فقط هو أن لا توجد موانع تحول دون ذلك), ومن ثم يعطيها بالقدر الأوتوماتيكي ذاته للاقتصاد الحقيقي الذي ينتج البضائع والخدمات. وها هي الجماهير التي صدقت ذلك تراقب النتيجة المدهشة: منذ أن راحت المنظومة الماصة, المتحررة من كافة العوائق من جانب الرقابة الحكومية وغيرها, تجمع كتلة لا مثيل لها من الرساميل صارت تبطئ لسبب ما بإعادتها على شكل استثمارات حقيقية.

 

 بات رأس المال المتحرر من الإشراف والرقابة الاجتماعية يعمل الآن مثل منظومة ذات حركة أحادية الاتجاه: يحصل ولا يرد. لقد اتجهت الرساميل كلها, التي امتصتها المنظومة المالية الهائلة من الاقتصاد الحقيقي إلى لعبة المضاربات عوضاً عن أن تعيدها تلك المنظومة عبر قنوات أخرى. لا يعمل في الإنتاج الحقيقي سوى جزء ضئيل من رأس المال المصرفي. أما القسم الأكبر فلا يزال يدور في مجال الصفقات المضارباتية قصيرة الأمد. إن رأس المال التمويلي المتحرر من الرباط الوطني (العولمة!) يتحرر في الوقت ذاته من ارتباطه بالاقتصاد المنتج الحقيقي. وعوضاً عن أن ينفق على الاستثمارات المنتجة يهاجر من بلد إلى بلد بحثاً عن معدلات فائدة أكبر وعن غيرها من فرص المضاربة.

إن المتبع في ظروفنا الروسية هو إرجاع هروب رأس المال الكومبرادوري التمويلي إلى عدم الاستقرار السياسي والخوف من "إعادة تقسيم سوداء" جديدة. بيد أن هذا الهروب في حقيقة الأمر متوافق مع الحرص الفطري لدى الطبقة البرجوازية المعاصرة التي قررت من منطلق لذوي أن الإنتاج الحقيقي هو أمر محفوف بالكدح والمشاكل , ولا يستحق هدر الدهاء الاستثماري عليه. تجري أمام أعيننا عملية عالمية تاريخية متمثلة في انقلاب الطبقة المستثمرة إلى وسط ربوي مضارباتي لا مسؤول اجتماعياً, ولا يمتلك أي رابطة قومية, ويبدو أنه اتخذ سراً قراره بعدم الاشتغال في الاستثمار الحقيقي بعد الآن تاركاً هذا الأمر للسلفيين قليلي الحظ, وللدخلاء على الاقتصاد.

يغير هذا كله على نحو جوهري لوحة العالم, الذي ميزته الحداثة الغربية. في أفضل أوقات الحداثة اعتبر المضاربون والمرابون وأصحاب الريوع الثابتة تحديداً وسطاً اقتصادياً سلفياً آخذا في الانقراض مع الريوع والامتيازات الإقطاعية القديمة. لقد حولت الرأسمالية المتصادقة مع العلم, والتي امتلكت بمساعدته إمكانات الثورات التكنولوجية الكبيرة, الاقتصادَ إلى لعبة ذات محصلة إيجابية أغنت مع إغناء الرأسماليين الأمة كلها.

أما الآن فنرى أمراً معاكساً تماماً. يعود البرجوازيون الأكثر "تقدماً" والملحقين بنخبة المختارين الدولية إلى حرفة المرابين وأصحاب الريوع القديمة, مضفين عليها وقاحة غير معهودة وباعاً عالمياً. وبالعكس, يعتبر أولئك الذين لا زالوا مضطرين إلى الانكباب على عمل سلفي كالإنتاج الحقيقي دخلاء على الطبقة البرجوازية المعاصرة ومنصاعين لشروط "الحضرية القومية" المحتقرة. إن لإعادة توزيع الأدوار هذه مكافئها الجيوسياسي العالمي. الرأسمال الوطني المقيد بشروط الحضرية والمحتاج إلى تدابير الحماية الوقائية معروض على الأطراف العالمية التي وجدت نفسها ضعيفة تماماً بعد انهيار بنية العالم ثنائية القطب؛ وعلى العكس, يحظى الرأسمال التمويلي المضارباتي المشترك في الألعاب العولمية بحماية هائلة متجسدة بالدولة العظمى المنتصرة التي ترسي بحيوية نظام القطب الواحد العالمي.

الفضاء التمويلي العالمي الواحد الذي يمتلك الدولار باعتباره عملة ذات امتياز, وحرية انتقال رأس المال التمويلي المضارباتي إلى أي مكان على الكرة الأرضية من أجل امتصاص الموارد المحلية وتركيزها في المركز – هذا كله مربح إلى أقصى حد لأمريكا التي تشغل قمة الهرم المالي الهائل – هرم
"
МММ" العولمي.

على هذا الأساس يبنى التحالف بين نخب المضاربين الماليين المحلية والدولة العظمى الوحيدة, التي ترى في تلك النخب "طابورها الخامس". كلما كان الشك الذي يثيره نشاط هذه النخب كبيراً في البلدان التي تسنى لهم فيها الكشف عن وجههم الحقيقي, ازداد استعدادهم لإضعاف السيادات الوطنية المحلية وتدميرها كرمى لموطنهم الطبقي الحقيقي – أي للولايات المتحدة الأمريكية. بدورها تبدو الدولة العظمى الوحيدة في عجلة من أمرها للاستفادة من خدمات "طابورها الخامس" مدركة أن هذه التقلبات السياسية المؤاتية جداً والناتجة عن فراغ القوة المتكون وعن تشتت أولئك الذين خيب أملهم الإيمان الاشتراكي القديم من المحال أن تدوم طويلاً. بالتالي, ينبغي الاستفادة أكبر قدر ممكن من الوضع المعاصر. من هنا قلة الصبر المشتركة لدى "الجدد" كلهم – ابتداءً من البرجوازيين الجدد وانتهاءً بالمنتصر الجديد في الحرب الباردة.

تُعقِّد هذه الظروف التنبؤ التاريخي طويل الأمد, المتعلق بمصائر الحداثة الديمقراطية كلها والتوافق المدني البينطبقي المرتبط بها. من الضروري تجنيد المخيلة للكشف عن الطيف الواسع لسيناريوهات التطور المحتملة.

السيناريو التنبؤي الأول:

إعادة بناء التوافق المدني على أساس استبعاد ديسبورة الرُحَّل

من المهم عند وضع مثل هذا السيناريو أن لا ننجرَّ إلى "الإنشائية" السياسية الخالصة وأن نأخذ في الحسبان تأثير العوامل السوسيوثقافية العامة. يعتبر نمط التنبؤ السيناريوهاتي تباينياً في الغالب – إنه يفترض افتراق "المجرات الثقافية" بعد عبور نقطة التفرع أو, والنتيجة ذاتها, فعل قوانين الاستقطاب. من أجل استنفار الطاقة الاجتماعية في النضال ضد المجمع المالي المضاراباتي الذي يهدد بإعادة الرأسمالية من طورها الإنتاجي إلى المراباة القديمة, من الضروري الالتفات إلى مناهضي الاقتصاد الافتراضي الأكثر منهجية وغير المهادنين. يستجيب لهذه السمة نمط الرأسمالية الشعبي – أي نمط "مدمني العمل" الخارجين من سواد الناس, والذين قدر لهم أن ينظمو لأنفسهم عملاً مستقلاً غير كبير.

في حقيقة الأمر إذا كان المقصود هو نظرية السوق الكلاسيكية, فإن أمثال هذا النوع من المستثمرين الصغار والمتوسطين يعتبرون معياراً لها. السوق الحقيقية هي المنظومة المصادفاتية (التي لا يراقبها أي مركز), حيث يتنافس مجموع المنتجين المستقلين أمام المستهلك المستقل الذي يعتبر المرجعية الوحيدة صاحبة الحق في التشجيع والمعاقبة. راحت الرأسمالية الغربية تفقد هذه الملامح منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر, مع ظهور الشركات الضخمة التي تشد إلى الاحتكار وإلى فرض الرقابة على السوق وعلى المستهلكين أنفسهم. باتت رأسمالية الشركات الضخمة الجديدة تواجه مبدأ السوق الكلاسيكي "المستهلك على حق دائماً" بمبدأ "إنتاج المستهلكين الجدد" – أي بالتحايل المؤثر على الوعي الاستهلاكي الجماهيري. ما عاد المستهلك هنا هو الذي يشترع مشجعاً الإتقان الإنتاجي الذي يرضيه؛ والذي يشترع هو الدعاية الممولة من قبل المنتجين والتي تقود المستهلك, متزلفة إليه وفي الوقت ذاته مخيفة إياه من أن مصيره سيكون البقاء مغفلاً محتقراً وغير مسموح له بالدخول إلى المعاصَرة المرموقة. أما بطاقة السماح بالدخول إلى المعاصرة فهي اقتناء بضائع الشركات الأرقى سمعة التي تستغل ريع "صناعة الصورة" العقلي.

بني "اقتصاد الطلب" كله على التحالف بين الرأسمالية والبوهيميا – تلك التي تكوِّن أشكالاً وهمية للعالم, وتلك التي لا تستطيع العيش من غير التأثير الإدماني. ثمة هنا من الناحيتين التاريخية والسوسيوثقافية عالمان مستقطَبان. فمن جهة لدينا السوق القديمة الطيبة المؤسسة على التحالف بين المنتج الأبوي والمستهلك الأبوي. تُفسًّر الأبوية في بعض الأحوال على أنها عقدة سوسيوثقافية خصوصية معجونة من حب العمل القديم والمواظبة والمسؤولية – أي من كل ما جعله ماكس ويبر في زمنه "رأسمالياً" في مؤلفه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية". وفي الأحوال الأخرى تتمثل الأبوية في المشتريات الحريصة, الملبية للمتطلبات الطبيعية (الصحية), وفترة الخدمة الطويلة. ليس المطلوب من السلعة هو البريق الخارجي والتشبع الرمزي بالأوهام حول المكانة المرموقة والتحرر, وإنما المطلوب هو النوعية الحسنة ووضح الوظيفة.

نصطدم في الجهة الأخرى بالسوق "ما بعد الحداثوية" التي يشغل جانب المنتِجين فيها الدهاء المغوي, الذي لا يتاجر بالبضائع بالمعنى المباشر بقدر ما يتاجر بعلامات المعاصَرة المرموقة. ما هو مخصص هنا للوظيفة المباشرة التي تلبي المتطلبات الضرورية قليل جداً – يهدر القسم الأكبر من الجهود (كما الثمن الذي تكوِّنه) على استكشاف "عُقَد" المستهلك واللعب عليها. يفترض هذا التحليل النفسي الماكر للسوق وجود إعادة بناء مخفية عنا في صفوف المنتجين.

تبين أن حاملي المعرفة الصارمة المدحوضة – الميكانيكي والفيزيائي والكيميائي والكيميائي العضوي, الذين يبنون التكنولوجيا الجديدة, مثلهم كمثل أولئك الذين يطبقون هذه المعرفة في الممارسات الإنتاجية اليومية – المهندس الماهر والعامل المنضبط الحريص على شرفه المهني قد أزيحوا إلى حد كبير من قبل أخصائيي العالم الافتراضي – أي من قبل شتى أنواع المصممين الذين يودعون في السلعة حزمة متنوعة من المحتوى الرمزي الخالص. عوضاً عن أنسنة الإنتاج الرأسمالي التي توقعها ديمقراطيو الرعيل القديم واشتراكيوه جرى تحويله إلى علم إنساني. ونصيب علمائه الإنسانيين – أي بناة "الريع العقلي" الرمزي", المرتبط بمواصفات السلعة الاحتيالية، أكثر من نصف الربح المتكون في الإنتاج, وبالتالي فإن حصة الأجور المحصَّلة مرتفعة بالقدر ذاته.

يتمثل جانب المستهلك في هذه المنظومة الرمزية الجديدة بمرضى نفسيين تكاد لا تنطبق عليهم نظرية الاختيار العقلاني – ليسوا هم ذات الاختيار الأصلية هنا , بل أولئك الذين يرشدونهم – أي المعلمون الذين لا يحصى عددهم ومسددو خطى "المعاصَرة", الذين يزرعون فيهم الخوف من الاحساس بالنقص المرتبط بالانسلاخ عن المعاصرة ثم يعرضون في الوقت ذاته وعلى الفور بضاعتهم الفاخرة , الهادفة إلى القضاء على أي شك لدى من يقتنيها "بعدم مواكبته" للعصر.

يمكننا القول بمعنى من المعاني إن الاقتصاد الأحدث متمثل "بثقافتين فرعيتين" خصوصيتين – بالعصابيين الواقعين في حال تبعية من جهة, و"معالجيهم النفسيين" الجشعين وذوي المصلحة في الطابع المزمن للمرض من جهة أخرى.

هل يعقل أن المعاصرة ستكون محتكَرة إلى الأبد من قبل هذين النمطين المريبين؟ إذا استندنا إلى البراهين الاقتصادية التي تعتبر منذ بعض الوقت الأكثر أهمية, فإن الوضع لا يبدو ميئوساً منه إلى هذا الحد. عدا ذلك: ثمة شكوك بالطابع الطفيلي للاقتصاد الافتراضي المعاصر المبني من قبل الشركات العملاقة والثقافة الفرعية البوهيمية المرتبطة بها أي ثقافة الاحتياجات المصطنعة والطلب المصطنع. إن هذا الاقتصاد يعيش على حساب الاقتصاد الحقيقي المنتج – إلى أن يستنفد كمون هذا الأخير حتى النهاية.

سيعني في نهاية المطاف انتصار "الريع العقلي" الاحتيالي الكامل على الربح الإنتاجي المتشكل بسواعد العلماء والمهندسين والعمال بالتعاون مع الاجتهاد التنظيمي للمستثمرين الحقيقيين أن الفوارق بين إنتاج السلعة اللازمة التي تلبي المتطلبات الحقيقية وإنتاج السلعة غير اللازمة قد اختفت. في هذه الحال سيكون اقتصاد السوق قد أقدم على الانتحار ولن يبقى لديه أي أفضليات على المنظومة الإدارية الأوامرية التي يكون فيها صاحب الطلب هو المرجعيات البيروقراطية والإيديولوجية, وليس المستهلك المستقل.

كما تبين فإن استبعاد المستهلك باعتباره المرجعية الاقتصادية الحاسمة, التي تحقق نظرية المنفعة القصوى والممنوحة حق تمييز السلوك الاقتصادي العقلاني عن غير العقلاني, ممكنٌ ليس فقط في أثناء تصاعد التخطيط الاشتراكي البيروقراطي, بل أيضاً في أثناء تصاعد صناعة الطلب الاحتيالية, التي يضيع فيها نهائياً الحد بين الاحتياجات الحقيقية والاحتياجات الموحى بها. لذلك يعتبر مفهوم الطلب الحقيقي والاحتياجات الحقيقية غير قابل للاستبعاد من الاقتصاد في نهاية المطاف – إنه مرجعيته "الفلسفية الطبيعية" التي إن فقدها سيصبح مهدداً بالسقوط في العالم الافتراضي, وسيكون هذا السقوط, احتكاماً للمؤشرات التي بيناها, أشد هولاً من السقوط الشمولي. تنشأ في الواقع أمام أعيننا مواجهةٌ مقدرٌ لها أن تحدد طابع الحقبة القادمة – بين الحقيقي والافتراضي , بين الطبيعي والمصطنع. قد تتخذ هذه المواجهة في إطار الطبقة المستثمرة شكل الصدام بين صانعي الربح الإنتاجي الحقيقي وممثلي التحالف المضارباتي الاحتيالي – أي المقامرين الماليين ومؤسسي "الريع العقلي" الاحتيالي.

إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الآفاق الاقتصادية والعلمية التقنية فإن قضية ممثلي الاقتصاد الحقيقي لا تبدو خاسرة على الإطلاق. سترد ثورة المعاصَرة العلمية التقنية والبيئية الاعتبار للمنتج الطبيعي. لقد دلت التجربة العلمية التقنية الجديدة على الأفضليات المبدئية للمادة الأولية الطبيعية على التركيبية, وعلى عدم إمكان الاستغناء عن قيمتها الكاملة بأنواع البدائل المختلفة. لا يمكن أن تحاكى المنتجات الطبيعية التي تَجسَّد فيها التعقيد اللامتناهي, وتجسدت فيها, في عدد من الأحوال, عمليات طبيعية استغرقت زمناً لا نهائياً, بعمليات غير مكتملة القيمة ومنظمة من قبل الإنسان – أي بعمليات تجسدت فيها المحدودية الفضاءاتية المؤقتة والبعد الواحد والمنهج التكنولوجي المتقلب.

كذلك تماماً يشهد بدوره الاختبار البيئي الجديد, المساهم في صياغة المعاصَرة ومعاييرها الاستبدادية, على أسبقية المنتجات الطبيعية المتمتعة بالمكانة الاستهلاكية المناسبة. يختلف اليوم الطلب النخبوي عن الجماهيري بأنه يتبع المؤشرات البيئية, ويحتوي في ثناياه على نوع خصوصي من غطرسة "المذهب الطبيعي الجديد" (نيوناتوراليزم). صار فعل الأمر الطبيعاوي وفاقاً لقانون التقليد, الذي يميز المجتمعات الديمقرطية الجماهيرية, كذلك تحت ضغط "الأخطاء البيئية" المتنامية للحضارة التقنية المعاصرة, يتخذ أكثر فأكثر ملامح فعل الأمر القطعي المستحوذ على الوعي الاستهلاكي المعاصر عموماً.

على من إذاً يستطيع أن يراهن بجدية المستهلك الصارم, الذي خدعته الحضارة التقنية الأحدث إلى حد ما, حين دست له البدائل عوضاً عن المنتجات الطبيعية الحسنة, والذي شتتته إلى حد ما "صناعة الوعي" الاحتيالية؟ إذا كان المقصود هو السوابق التاريخية فإن أفضل ما كان سيرضيه هو الحرفي والمستثمر الصغير النزيه, اللذان لا يعملان لحساب السوق الجماهيرية المغْفلة بل لحساب مستهلك محدد معروف العنوان وكسب ثقته أسمى من المنافع المتقلبة. إن إحدى الفرص التي أمام الاستثمار الصغير والمتوسط هي تنويع الطلب, مما يؤدي إلى إحلال  مجموعة من الأسواق الفردية – أي ثقافات فرعية اقتصادية محل سوق "السير الناقل" الجماهيرية. أما الفرصة الثانية فتتيحها الثورة العلمية التقنية المعاصرة ذاتها, التي شكلت تقنية الشركات الصغرى الجديدة. إن غالبية التكنولوجيات الفائقة المعاصرة والمستوعبة للعلوم تطرح تقنية الشركات الصغرى المتاحة لمجال الأعمال الصغرى.

خلافاً لمعايير الاقتصاد السياسي الصارمة السابقة, التي أوحت لنا بالتصورات عن حتمية هلاك البرحوازية الصغيرة في عصرنا لم تبرهن الشركات الصغيرة, التي استغلت توسع تقنيات الأشكال الصغرى, على قدرتها على الحياة وحسب, بل كشفت عن سلسلة من الأفضليات التي تتمتع بها مقارنةً بالشركات الضخمة وفاقاً لمعايير معاصرة مثل استيعابها للعلوم وربحيتها ومحافظتها على البيئة. إن متوسط عمر المعدات في الشركات الصغرى اليوم أقل بكثير منه في الشركات الضخمة, التي تعتبر الأصول الأساسية الهائلة فيها, والمتقادمة في الغالب, بمثابة الكرات الحديدية على القدمين. كما أن شرف اكتشاف أسواق نوعية جديدة اليوم, وبالتالي اكتشاف متطلبات اجتماعية جديدة يعود في أغلب الأحيان للشركات المنتجة الصغيرة لأن أي متطلبات جديدة تعيش قبل أن تصير متطلبات عامة فترة محددة من الزمن على شكل متطلبات "غريبة" وفيها مخاطرة – أي تكون خاصة بالثقافات الاقتصادية الفرعية الصغيرة.

إذ لا ترغب الشركات الكبيرة في المخاطرة بإعادة ضبط معداتها الهائلة على الفور توكل مهمة استيعاب المتطلبات الجديدة إلى الشركات الصغيرة ذات الربح المضمون, والتي تقوم بوظيفة الطليعة الاختبارية. إن أكثر من 65% من الناتج الإجمالي في الدول المتطورة عموماً هو من فعل الاستثمار الصغير, أما حصة الشركات الصغيرة بين الشركات التي تفتح لنفسها الأسواق الجديدة فتصل حتى 90%. وهذه الثقافات الاقتصادية الفرعية الطليعية تحمل في ذاتها على نحو يشبه المفارقة ملامح يمكن وصفها بأنها أبوية.

الإنتاج في مثل هذه الشركات أكثر اعتماداً على الجهد من رأس المال (يمس هذا مجال الخدمات خصوصاً). مع الإشارة إلى إن حصة الجهد الحي ذي التأهيل العالي في قيمة السلعة أكبر بكثير هنا من حصته في الشركات الكبرى. ويكمن الشيء الرئيسي في أن المكون الأخلاقي للنشاط العملي المؤهل المرتبط بالإحساس العالي بالمسؤولية العالية تجاه الشراكة والمتعلق بالمواظبة والاهتمام بالحفاظ على السمعة وبدوافع احترام الذات المهنية ودوافع تحقيق الذات لا ينفصل هنا عن المكون الفكري الذي تتجسد فيه المعرفة الجديدة. إن "العقلانية بالقيمة", التي تحدث ويبر عنها, لا تبدو سلفية ضمن هذه الأشكال الجديدة من الإنتاج التي تضبط وجهتها وفاقاً للمتطلبات الخاصة وللمستهلك الصارم, أو تقل بالأهمية عن الدراية المهنية والفطنة والقدرة على الحركة. يبدو عطر الحرفة القديمة الطيبة, التي تثمن السمعة وتضع على المنتج ختم المعلم الذي صنعه, وكأنه يعود من جديد إلى هنا, إلى مجال الأعمال الصغيرة المستوعبة للعلوم, وإلى سوق الخدمات عالية التخصص.

 

بكلمات أخرى, إذا كنا نقصد بعض المقدمات الاقتصادية والتقنية العلمية والاجتماعية الموضوعية لرد الاعتبار الممكن للإنتاج المعتمد على الأفكار "الفلسفية الطبيعية" التي تمس المتطلبات الطبيعية (غير الاحتيالية) والأسس الطبيعية للمصنوعات باعتبارها ضمانة لنوعيتها ودافعاً طبيعياً للعامل الراغب في تحقيق ذاته في الإنتاج باعتباره فرداً فريداً, لا أن يكون تابعاً غير معلن للكتل التقنية الهائلة – فإن هذه المقدمات قد أينعت بوضوح.

لكن حلفاً جباراً آخر يمنع ثأر الأشكال الصحية الطبيعية هذا من الانفلات من أسر الأشكال الاصطناعية غير الصحية. وما وسط المضاربين الماليين أصحاب المصلحة في نزع الصفة المادية اللاحق عن الاقتصاد إلا قسم من هذا الحلف. تدخل في هذا الحلف أيضاً البوهيميا ونصف البوهيميا كثيرة العدد, التي فقدت عادة الدفع نقداً وبذل أي نوع من أنواع الجهود - الجسدية والفكرية والأخلاقية. إن "العالم الافتراضي" يجذبها تحديداً لأنه يمنحها إمكان التملص من الدفع نقداً وإمكان استغلال شتى أنواع الريوع المكونة بالسمعة المبالغة وحيل الدعاية وصناعة الصورة, وكل ما هو مختوم بختم عدم الخضوع للتحقق والمراقبة.

في وقت, ما في فجر الحداثة الأوربية نشأ نزاع سوسيوثقافي عنيف بين المراكم الأول البرجوازي البروتستانتي المتقشف والبوهيميا الأدبية الفنية التي تدعو إلى الحسية الحرة. رأى "رهبان" المراكمة المتجهمون والمقترون الذي لا يكلون والعارفون قيمة القرش والمستبدين بعمالهم وأهل بيتهم وفاقاً لقوانين الأخلاق الأبوية القاسية عدوهم الرئيسي في البوهيميا التي توحد في صفوفها الصحفيين الخفيفين والمضحكين والمفرقعين بريشاتهم, وفناني "الأدب الساخر الرومانسي" المعادين للبرجوازية الصغيرة, وممثلي الطليعة الفنية الهائجين, وأنصار الحرية الجنسية وما شابههم.

لم يكن من قبيل المصادفة حين سادت في شمال أوربا البروتستانتي, بالتوافق مع مخطط ماكس ويبر, روح المراكمة التقشفية مكوِّنة ثقافة الفضائل البوريتانية المسيخة والتي لا تطاق أن يسعى كل حاملي "مشروع الانعتاق" الذين أحصيناهم إلى الجنوب الكاثوليكي, جاعلين من باريس وروما ومدريد محجاً لهم. وهكذا تشكلت إلى جانب الراديكالية البروليتارية المنتظِرة الثورةَ العالمية البروليتارية راديكالية سوسيوثقافية ما عاد هدفها الدولة البرجوازية والنظام السياسي بقدر ما هو "الأخلاق البرجوازية الصغيرة".

إننا نلحظ اليوم إعادة تجميع واضح في القوى. لقد تشربت في ذاتها البرجوازية "الوظيفية" الضخمة, المرتبطة بالبنى السلطوية والمستفيدة من شتى أنواع امتيازات الاحتكار, روحَ البوهيميا تدريجاً وبدأت تجد لنفسها لغة مشتركة مع طليعة الثقافة (أو الثقافة المضادة). صارت تندد وإياها بالوسط السلفي للمستثمرين وأصحاب العمل الصغار, القادرين على المراهنة على قواهم فقط وعلى المستهلك الوفي الذي يحسن تقويم مصنوعاتهم وخدماتهم الجيدة.

صار عمل الاستثمار الضئيل الشبيه بعمل النمل يبدو مثل خطأ تافه في تسلسل الحوادث من علياء الإمكانات الوظيفية – الاحتكارية حيث يكون الحصول على طلب امتيازي حكومي, وخصوصاً الطلب الصناعي العسكري, قادراً على تأمين ربح مقدر بالملايين. وحين آن وقت الاقتصاد الافتراضي المؤسس على الحنكة وصناعة الصورة والطلب المصطنع المرتبط باستخلاص "الريع العقلي" الاحتيالي, لم يتخذ التحالف مع بوهيميا الثقافة المضادة ملامح التقارب الروحي بين أناس يشعرون بالنفور من الجهود المنهجية الحقيقية وحسب, بل اتخذ ملامح العقيدة المهنية أيضاً.

فمن جهة, لولا تحلل الأخلاق القديمة على يد طليعة الثقافة المضادة لما حصلت السوق المعاصرة على المستهلك الجديد, الذي يجسد الحسية "المنعتقة" إلى أقصى حد والتاريخية في الوقت نفسه. ومن جهة أخرى لولا خدمات الاختصاصيين في حقل الثقافة المضادة التي صارت حليفة لكل ما هو "مضاد للعقلانية" وافتراضي لما أنتِج "الريع العقلي" الطفيلي. إذا كانت طليعة الثقافة المضادة في ذلك الجانب من منظومة الإنتاج البرجوازي باعتبارها ناقدة له, فإنها الآن متكاملة مع هذه المنظومة باعتبارها بانية الأشكال الرمزية التي تكلفنا أكثر من نصف قيمة السلعة. إن محتوى السلعة الطبيعي, المرتبط بقيمتها الاستهلاكية الحقيقية – هو ذلك القسم "السلفي" من السعر الذي تقل حصته باستمرار تحت ضغط مكوِّني الريع الاحتيالي الخاص بعُقَدِ المستهلك النفسية والتي تعتبر عقدة النقص الداخلي الأساسية من بينها.

كان الاحساس بالنقص يمكن أن يتولد من قبل في ثقافة الزمن القديم طَيِّبة الذكر على أساس عدم الأهلية المهنية للشخصية. أما اليوم فقل ما يقلق أحداً عدم الأهلية هذا, فإنسان الجملة اليوم يماثل نفسه في الغالب باعتباره مستهلكاً. وهو في أحيان غير نادرة مستعد لتنفيذ أكثر الأدوار مذلة, بمعايير الأخلاق المهنية خصوصاً ومعايير الأخلاق عامة, على أن يبقى في العلياء كمستهلك يحمل علامة الالتحاق بالمعاصَرة.

لقد تجلت بوضوح خاص هذه التطورات كلها التي حولت حاملي الثقافة المضادة المعادية للعمل إلى نخبة حاكمة وإلى مشرعين للمعاصَرة, في الإصلاحات ما بعد السوفييتية في روسيا, لا بل في الفضاء ما بعد السوفييتي كله أيضاً. كما أشرنا سابقاً, كان الشرط الرئيسي لموافقة السلك الوظيفي الحزبي والأمني السابق على تسليم نظامه السابق "الاشتراكية الواقعية" هو إكسابهم وضع المالكين الجدد والحفاظ على وضع الطبقة السائدة في ظل النظام الجديد. كان على السلك الوظيفي الحزبي والأمني وفاقاً لمنطق المواجهة الطبقية الحقيقية بين حاملي الجديد والقديم أن يشغل في النظام الجديد فضاء المعارضة الهامشية المعادية للنظام. أما الفضاء المركزي للمعارضة الشعبية المعادية للسلك الوظيفي فكان ينبغي أن يعود لحاملي أفكار الرأسمالية الشعبية – أي أولئك المحبين للعمل والناس أصحاب المبادرة والكفاءة العالية, الذين لم تتح لهم منظومة الوصاية الإيديولوجية والبيروقراطية السابقة أن يكشفوا عن مؤهلاتهم. كان في مقدور المدخرات الناتجة عن العمل والمقدرة بالمليارات([4]) أن تصير الأساس المادي للرأسمالية الشعبية.

لم يكن في الإمكان تحويل هذه النقود إلى سلعة للاستهلاك – لم يكن الاقتصاد السوفييت المنتج في الغالب لوسائل الإنتاج مستعداً لذلك. نشأ ضمن هذه الظروف بين عامي 1991 و1992 الخيار التالي: إما تحويل هذه النقود الحقيقية إلى سلعة وذلك بتنظيم بيع وسائل الإنتاج المقدرة بالمليارات والموضوعة في مستودعات الشركات باعتبارها معدات ميتة غير مستثمرة فيتم بذلك إرساء أساس الاستثمار الجماهيري الشعبي, وإما نزع ملكية هذه المدخرات الشعبية بوسيلة ما وإعلان الخصخصة بعد أن تنتزع. اختار نظام بوريس يلتسين الجديد الطريق الثانية. فقضى التضخم المفرط المنظَّم على نحو مصطنع خلال أسابيع على المدخرات الشعبية وبالنتيجة احتكرت عملية الخصخصة من قبل السلك الوظيفي السابق والمافيا التجارية المتحالفة معه سراًَ منذ زمن طويل.

يسأل الكثيرون اليوم السؤال التالي: كيف حدث أن فئة مثقفينا الليبرالية الغربوية, التي خيل أنها كانت أكثر من عانى من السلك الوظيفي الحزبي والأمني, قد اعترفت بهذه السرعة وعن طيب خاطر بنظام المالكين الوظيفيين, وكيف انحازت بنشاط في التناقض الذي ظهر بين الشعب ومنتزعي الملكية الجدد إلى جانب هؤلاء الأخيرين؟

يفضل الكثيرون إرجاع ذلك إلى أسباب إيديولوجية – فقد أعلن السلك الوظيفي السابق انتهاج نهج موال للغرب, وكانت فئة المثقفين الليبرالية غربوية, وتحلم في أن تحصل من عملية العودة إلى "البيت الأوربي" على وطنها "الحقيقي". لا ينبغي أيضاً إغفال حقيقةٍ كالعمى الدوغمائي لدى غربويينا الذين يفضلون حتماً "الحقائق" الإيديولوجية على الحقائق الواقعية. فكما رغبت الطليعة الاشتراكية السابقة في أن لا ترى وحشية التحول إلى التعاونيات والدمار الاقتصادي مفضلةً على ذلك المعايير المذهبية الخالصة التي ليس لها علاقة بالحياة وإنما بالفكرة (لم يحكموا على الاشتراكية بما تمثله في الواقع, بل بما ينبغي أن تكون عليه من حيث "الفكرة"), كذلك تكشف طليعتنا الليبرالية الآن عن عمى مذهبي مذهل تجاه السقوط الجماعي في الفقر وانعدام القانون, مفضلةً عدم منح الثقة للحياة بل "للفكرة" الجديدة.

ومع ذلك لا تقدم هذه الاعتبارات كلها شرحاً شافياً, ولا تمس السر الحقيقي. وهذا السر يمس تحديداً التوافق الخفي بين فئة المثقفين الليبرالية وممثلي السلك الوظيفي, وحتى رأسمالية الموظفين المافيوية على قاعدة مبدأ التحررية وانعدام المسؤولية البوهيمية. انعدام المسؤولية الذي لا يتطلب جهوداً وعدم الخضوع لمعايير المحاسبة – هذا هو السر الحقيقي لتلك "الليبرالية" التي توافقت على أرضيتها وتصالحت شخصيات اجتماعية خّيل أنها مختلفة في النمط كالمتحدرين من السلك الوظيفي المتنكرين للجهود الاستثمارية الحقيقية, والمافيا التجارية المتنكرة للقانون وفئة المثقفين الغربوية المتنكرة للانضباطين الداخلي والخارجي. إنهم جميعاً أنصار الحسية البوهيمية المنفلتة وأنصار نمط الحياة البوهيمي. وليس من قبيل المصادفة أن يلتقوا بسهولة اليوم في شتى أنواع الاستقبالات والولائم وأن يفهم بعضهم بعض جيداً. يكفي أن تُطفأ الملامح "الطارئة" الناتجة عن الاختلاف في المنشأ الاجتماعي والتربية ويُشغَّل صوت الحسية الجديدة حتى يحصل التفاهم من غير بذل أي جهد.

ثورة الحسية المنفلتة – هذا ما وحد تلك المجموعات على نحو أمتن وسابق لتلك الثورة في مجال الملكية, التي, إذ غبنت جمهور المثقفين, ولَّدت الحلف الاقتصادي الوظيفي المافيوي. خيل وفاقاً لهذا المعيار الاقتصادي الذي يعتبر حاسماً أن على فئة المثقفين المخدوعة والمفقرة أن تشعر بتوحدها مع الشعب المخدوع والمفقر بالقدر نفسه.

لكن تبين أن نتائج الثورات السوسيوثقافية التي تمس الحسية البوهيمية هي في نظر بعض الفئات الاجتماعية أهم من محصلة الثورات (أو الثورات المضادة) الاجتماعية الاقتصادية. يمكن, كما تبين, أن يشكل التحرر من المسؤولية, باعتباره مشروع تحرر مؤول بطريقة خاصة وينتمي إلى الحداثة, إغراءً يفوق بقوته العوامل المنتمية إلى الجانب الآخر من هذا المشروع – أي تحقيق الشخصية الإبداعي لذتها, الذي لا يتطلب تراخياً حسياً, بل يتطلب, على العكس من ذلك, أقصى حدود التركيز الداخلي والشعور بالمسؤولية.

لو أن مشروع الحداثة التحرري تميز بالكلية والتراص عوضاً عن أن يضم هذا القدر من المقاصد المتناقضة لما قدم تاريخ الزمن الحديث والزمن الأحدث هذا القدر من الدراما والمآسي والإحباطات والتراجعات. الشخصية المتبوهمة وغير الملتزمة, التي تتبع قانون "الاقتصاد بالجهود" المتزايد (بما فيها الجهود الأخلاقية), والشخصية المحققة ذاتها والفاهمة الحرية بمعنى المسؤولية الحِرفية والمدنية, التي لا يجوز ائتمان أحد عليها, والمستعدة لبذل أكبر قدر من الجهود في سبيل الإرادة الأخلاقية والمخيلة الإبداعية – هذان هما االأقنومان المتناقضان اللذان تجلى من خلالهما مشروع الحداثة العظيم. يفضل الليبراليون المعاصرون اليوم إبراز الأقنوم الأول ويصمتون عن الثاني ويشوهونه. لهذا الهدف تحديداً اختُرِعت ما بعد الحداثة التي كرست حججها بالكامل من أجل رد الاعتبار للنمط الأول والتشهير بالثاني باعتباره سلفياً كما يدّعون.

ما يلفت الأنظار هنا في الحقيقة هو العلاقة المختلفة بالتقاليد وباستمرارية التعاقب التي تكتشفها الحداثة في أقنوميها المختلفين هذين. تنقطع الحداثة المتبوهمة عن التقاليد على الأسس التي تنقطع عليها الشخصية بسلوكها المنحرف عن الأخلاق, والمجرم عن القانون – أي كي لا تنشأ مبررات للنقد الذاتي القاسي ولعذابات التوبة. لا تخطر ضمن أفق مثل هذه الحداثة في بال أحد إعادة بناء التقاليد – فكل ما هو تقليدي يرمى من سفينة المعاصَرة. وبالعكس, يتوجه نوع الحداثة الثاني المرتبط بمشروع تحقيق الذات الإبداعي إلى التقاليد دورياً طلباً لإعادة التسلح بالأخلاق. قد تُرفض التقاليد في مواضعها التحريمية والتقييدية؛ لكن يتم الاعتراف بأنها تستحق الاحترام والاعتراف – وتستحق أن تُبعَث في منابعها وأسسها التي تمس أصالتنا - أي مقدرتنا على أن نبقى أوفياء لمثلنا وأن نحتمل بجدارة تحديات الواقع وأن لا نكون دمى في الألعاب والظروف الخارجية.

يتبين أن بعض أنماط التجربة التقليدية المقَّومة وفاقاً لهذا المعيار تستحق منا الازدراء – وليس في المجال الأخلاقي فقط. وكما بينت تجربة الحداثة في بلدان منطقة المحيط الهادئ الأسيوية فإن علم الأخلاق الكونفوشيوسي([5]) الذي يمزج بين قيم المعرفة وقيم الوفاء الجماعي التقليدي والخير العام يمكن أن ينافس بنجاح الأخلاق الفردية البروتستانتية وأشكالها المتحولة الشهيرة "بأخلاق النجاح".

تكمن مفارقة الحداثة الأساسية في عدم إمكان الحفاظ على منجزاتها من غير شحذ الإرادة الأخلاقية التي تُدرج اليوم في فئة "المخلفات". ما إن تضعف مثل هذه الإرادة ويحل محلها التراخي اللذوي, حتى تصير مشاريع التحديث والتنوير معلقة في الهواء – فحتى الاستثمارات الاقتصادية وحتى استنفار الجهود الشخصية الضرورية في عملية امتلاك المعرفة والتأهيل والعملية التكييفية عموماً تحتاج إلى حد أدنى معلوم من المواظبة التقشفية.

وها هي المفارقة: يتغذى التنوير بالتقشف, ثم يقتله هو نفسه في ظل تقاليد الإسراف. تفسر هذه المفارقة بتأثيرات التمدين القاتلة: يعتبر عادة القادمون من القرية, من الوسط التقليدي, خدماً غيورين ومتحمسين للحداثة؛ إنهم يعوضون عن عدم قابلية التكيف بالمواظبة واعتيادهم على احتمال الصعوبات. أما أهل المدن من الجيلين الثالث والرابع فيحملون الختم نفسه الذي يحمله الرأسماليون في الجيل الثالث – أي ختم انعدام الإرادة الانحطاطي والشك والعدمية. بهذا المعنى ترتبط حظوظ الحداثة بحل مسألة واحدة: هل يستطيع النمطان التاريخيان التاليان الالتقاء وعقد تحالف سوسيوثقافي وسياسي – الإنسان التقليدي ما قبل الاقتصادي المتمتع بفائض من الجَلَد والإرادة الأخلاقية والإنسان ما بعد الاقتصادي الذى أدرك ثمن الفضائل الأخلاقية التي تتعرض للاستخفاف منذ وقت قريب, وأدرك دلالة القيم ما بعد المادية؟

هذا متعلق من جهة بسرعة تحطم جيوب الاقتصاد السوسيوثقافية التقليدية على يد الإنسان الذي قضى سعيه إلى أن "يملك" على كافة القيم المنتمية إلى سعيه الصحيح إلى أن "يكون".

قد تتأخر موجة المذهب ما بعد الاقتصادي القادمة بمساعدتها للإنسان ما قبل الاقتصادي, المستخف بالحداثة المستهترة والفاقد لأي ثقة بنفسه. ومن جهة أخرى هذا مرتبط بالافتراض التالي: ألا يمكن أن يظهر لنا الإنسان ما بعد الاقتصادي في هيئة مقلِّد بطال لا تزيد عودته إلى الأخلاق والدين والقيم ما بعد المادية عن أن تكون مجرد لعبة جمالية ومحاكاة فقط؟

يمكن أن يكون الترياق الشافي الوحيد من هذا كله هو فقط الجدية الكاملة في النزاع السياسي والثقافي المقبل. وهذا, بالمناسبة, محتمل جداً: فانطلاقاً من خطر الحرمان والإذلال الذي يهدد به رجالات الاقتصاد الافتراضي جميع الشغيلة الشرفاء, يمكن لهؤلاء الأخيرين أن لا يصيروا "ناخبين محتجين" وحسب, بل أن يحاولوا تجسيد احتجاجهم في شتى أنواع العصيان والتخريب السياسي والاقتصادي. وقد عانت روسيا من هكذا تخريب قامت به القرية ضد المدينة المصادرة للملكية في زمن حرب "الخضر" الأهلية ضد القوميساريين الحمر.

تراقب اليوم الغالبية الريفية الصامتة باستياء لا يقل عن استيائها السابق عواقب التجربة "الليبرالية" المدمرة التي كانت مراكز العاصمة هي المبادرة إليها هذه المرة أيضاً. ثمة مكان اليوم لانسلاخ لم يلحظ منذ زمن بعيد هو انسلاخ الأرياف عن المركز, والقرية عن المدينة, والأغلبية الصامتة عن الأقلية "الليبرالية" كثيرة الصراخ. إن هذا يقوض آلية الحداثة ذاتها, المرتبطة تحديداً بأن تلعب الفئات الطليعية المدنية دور المجموعات المرجعية في نظر كافة الأطراف الجغرافية والثقافية – فهذه الأخيرة تصغي إليها بنهم وتتحرق شوقاً إلى أن تصير "مثلها". لقد اختفت هذه الرغبة تحديداً اليوم: تثير المجموعات الطليعية الريبة الصريحة والاحتقار والنفور.

باختصار, منذ أن غدت الطليعة الاجتماعية الاقتصادية والثقافية الجديدة متورطة في لعبة المصادرة المضارباتية ذات المحصلة المساوية للصفر ومذ صارت تهتدي بإستراتيجية الربح قصير الأمد ذات الثمن المتمثل بخداع الأغلبية, وهي مهددة بأن تظل معلقة في فضاء خال من الهواء. ليس من قبيل المصادفة أنها تحمل في داخلها عقدة المهاجرين الداخليين المرتكبين الأذية, والملتزمين حال "التأهب رقم 1". والتأهب هذا في بعض الأحوال هو تأهب للدكتاتورية البينوشيتية, وفي أحوال أخرى هو تأهب للهرب إلى الخارج, وفي الحالين معاً يغلب الخوف من الثأر والخوف من الفراغ.

 لن تجد الأفعال المعادية للدولة وذات الاتجاه الموالي للغرب والمريعة "برعونتها" غير المفهومة التفسير الشافي لها إلا في أمر واحد فقط: لقد علقت النخبة المذنبة بحق الأمة, والتي تكرهها والمكروهة منها, آمالها على دعم الغرب لها في حال وقوع أزمة جدية بينها وبين شعبها. ليس لاستسلام الدولة أمام الغرب أي جذور فكرية إلا في نظر معتنقي الليبرالية المبكرين. أما في نظر "الأسرة"([6]) والأولغرشية فكانت التنازلات للغرب هي الثمن الذي دفع مقابل الدعم والحماية المنتظرين.

من الممكن أن يترتب عن هذا الغدر المستهتر من قبل النخبة الحاكمة, التي أدركت أن "العدو الرئيسي موجود في بلدها" وتتصرف على أساس ذلك, نتائج أبعد ما تكون عن التوقع.

إننا نصطدم بتشويه لا مثيل له للحداثة, التي يُختتم برنامجها التحرري بتحرر البرجوازيين الجدد تحرراً تاماً من الثقافة والأخلاق. لقد وجدت هذه "البوهيميا" الخاصة, المتبرمة من أي جهود مثمرة ومن أي مسؤوليات اجتماعية وأخلاقية, إيديولوجيتها الجديدة المتمثلة في فلسفة ما بعد الحداثة. مهما كانت هذه الفلسفة مدانة سلفاً وفاقاً لمعايير الحقيقة والخير والجمال القديمة فإن الاستياء الاجتماعي والأخلاقي وحده غير كاف للإطاحة بها. كذلك لن يكون الاحتجاج الجماهيري المتوقع في المجال الإيديولوجي كافياً مثله كمثل الخطابات العفوية في السياسة. إن استقطاب الطبقة المستثمرة المتنبّأ به في إطار هذا السيناريو إلى نمطين منتج ومضارب ينبغي أن يجد تأكيداً له في استقطاب ما بعد الحداثة ذاتها.

فقط حين تصير الإمكانات الذهنية لما بعد الحداثة سلاحاً في يد ممثلي الوسط المعارض الحالي, المرتبط بالاقتصاد الحقيقي, سيحصل هذا الأخير على فرصة للانتصار على العالم الافتراضي. يمكن تفسير هذا في السياق طويل الأمد باعتباره مشكلة متعلقة بمقدرة الطبقة البرجوازية التاريخية على الاستمرار في الحياة كطبقة. إنها ستستمر في الحياة إذا ما ردت الاعتبار لذاتها بحزم ومن غير تردد راسمة الحدود بينها وبين "الاقتصاد الافتراضي" الطفيلي.

أعاد ماكس ويبر في زمنه الاعتبار للرأسمالية إذ حدد الصلة بين الاستثمار المنتج والتقشف الديني (البروتستانتي). و اليوم, حين يصوغ أتباع الاقتصاد الافتراضي على مرأى من العالم كله الشكل العولمي للرأسمالية الجديدة مغامرين بذلك بسمعتها فعلاً, من الضروري حدوث انقلاب فكري جديد. وهذا الانقلاب مبرمج إلى حد كبير بالـ "ما بعد" البديلة المتنوعة, التي صارت الثقافة العالمية تتمخض عنها منذ الستينات. الحضارة ما بعد التقنية وما بعد الاقتصادية وما بعد الصناعية وما بعد المادية – هذه هي المهمات الثقافية الكبرى الملقاة على عاتق الحركة المعاصرة البديلة.

حاول رجالات الموجة النقودية والمحافظة الجديدة الصمت عن هذه المهمات أو تشويهها؛ لكنهم في الواقع أبعدوها ببساطة إلى المستقبل – إلى القرن الحادي والعشرين, الذي سيصير زمننا. لقد حضرت أعوام الستينات – أي حقبة نقد الغرب الذاتي الإبداعي الواعد – ما بعد حداثةٍ مغايرة تماماً لتلك التي بناها خصوم المعايير والقواعد الصلبة. أفلا يمثل النقد البيئي للحداثة التقنية منطق ما بعد الحداثة (بمفهوم غير المفهوم "الافتراضي" الحالي)؟.

علينا الآن, حين نناقش المصائر التاريخية للبرجوازية, المشوهة مرة أخرى اليوم من قبل "طليعة" المرابين المضاربين, أن نجيب عن السؤال التالي: هل يمكن أن ينطبق داخل الطبقة الاستثمارية في مراحل جوهرية ما خط الحدود بين النمطين المنتج واللامنتج على خط الحدود في إطار إيديولوجية ما بعد الحداثة؟ إن غصن ما بعد الحداثة الأول السائد الآن مرتبط بالسعي إلى إحباط حركات زمننا البديلة, مستعيضاً عن مشروع المستقبل المضاد بمذهبي الشك ونسبية المعرفة الجارفين.

مثَّل الغصنَ الآخر, الذي أرادوا الحكم عليه باليباس, "اليساريون الجدد" والخضر والمشاركون في الحركات المدنية البديلة وحركات الاحتجاج إذ وحَّدهم, على الرغم من تنوعهم الشديد كله, مبدأ التراتبية القيمية الجديدة, التي يقع فيها شعار "أن تكون" في مقام أعلى من مقام شعار "أن تملك". هَدَف المجتمع الاستهلاكي إلى التوافق الوطني المرتبط بفعل "امتلك". وقد هدد هذا ببخس قيمة المقدمات الاجتماعية والثقافية لعملية إنتاج الثروة الحقيقية بخساً تاماً وبفقدان الاهتمام بها: لا تهتم النفسية الاستهلاكية إلا بالنتيجة وحدها.

راهن البدائليون الرومانسيون في الستينات على ثورة الوعي المرتبطة بتأثير القيم الجديدة من تلقاء ذاتها. وقد اهتم ممثلو الطبقة "المتوسطة – العلوية" المتخمون استهلاكياً بهذه القيم أكثر من الفقراء الخاضعين إيديولوجيا لوصاية "اليساريين القدماء". لقد افترضوا أن من سينجز ثورة الوعي المضادة للاستهلاك هم من تغدو لديهم قيم الاستهلاك من الماضي.

دلَّ الواقع على أنهم قد أخطأوا: ظلت الطبقة الوسطى في الغالب برجوازية صغيرة. وحين وجد ممثلوها أنفسهم أمام خيار: نوعية الحياة أم مستوى الحياة, قيم الوجود أم القيم الاستهلاكية اختاروا الخيار الثاني في أغلب الأحيان.

لم تقم ثورة الوعي الفطرية المرتبطة بالتبديل بين الطورين "الملكية" و"الكينونة". ثمة لدينا, نحن المعاصرين للاقتصاد الافتراضي الذي يدمر أسس النجاح المادي لدى ملايين البشر, الأساس لكي نفترض أن ثورة الوعي المضادة للاستهلاك لن تحدث تلقائياً, بل تحت وطأة انهيار الآمال الاستهلاكية المبالغ بها, ولذلك ستصير الطليعة في هذه الثورة على الأغلب الفئات الدنيا المخدوعة أكثر من مرة وليس علية المجتمع المشبعة استهلاكياً. يجري هذا بجلاء خاص في الفضاء ما بعد السوفييتي. فمع بداية الإصلاحات الليبرالية بدأت عملية ثأر القيم الاستهلاكية من القيم غير الاستهلاكية. وكم كانت مميِّزةً عندئذ تلك العجلة التي أعلن بها الإيديولوجيون عن أن الأخلاق الاستهلاكية هي الأخلاق المعاصرة الوحيدة, مصنفين كل ما يعارضها في فئة التقليدية العدوانية.

في الستينات فهمت فئة المثقفين السوفييت, التي فقدت ثقتها بالإيديولوجيا الشيوعية, منتقدي المجتمع الاستهلاكي الغربيين أتم الفهم, وأعلنت على إثر إيريكس فروم أولوية "الكينونة" على "الامتلاك". لكن يبدو الدوغمائيون الليبراليون الجدد وكأنهم نسيوا ذلك. فهم يطلبون الاستسلام بلا قيد أو شرط لقيم الاستهلاك و"أخلاق النجاح".

لقد أعلنوا أن المعبرين عن القيم ما بعد المادية - والغالب بينهم هو المجموعات الطليعية من المثقفين في المدن المرتبطين مهنياً بالإنتاج المستوعب للعلوم وبمؤسسات المجتمع المعلوماتي – ما هم إلا أزلام للتقليدية المشاعية والمذهب التعاوني الشمولي. وسلمت الطليعة المثقفة مواقعها أمام هجوم وسط البرجوازيين الجدد المعادي, الذين ينبغي الإقرار وفاقاً لمعايير الاقتصاد المنتج الفعلية بأنهم وسط استهلاكي طفيلي أكثر منه استثماري. ما عادت ثورة الوعي ما بعد المادية الجديدة تسير اليوم من الأعلى بعد إخفاقات الإصلاحية الليبرالية كلها, بل من الأسفل. تبين أن أزمة آب (1998), التي أفلست ملايين "تجار الشنطة" ما بعد السوفييت وغيرهم من أتباع "الاقتصاد المفتوح", كانت ثأراً للقيم ما بعد المادية من القيم المادية الاستهلاكية أكثر منها نقداً تطهيرياً للمجتمع الاستهلاكي. ينبغي اعتبار عام 1997 ذروة إعادة بناء الوعي الاستهلاكي الفردي.

تميز النصف الثاني من عام 1998, بعد الانهيار المالي الشهير, بثأر القيم ما بعد المادية والقيم الأخلاقية الروحية والوطنية. يصعب القول هنا ما هي تحديداً حصة الإنسان التقليدي "ما قبل الاقتصادي" وما هي حصة الإنسان الأحدث ما بعد الاقتصادي. لكن من المهم الإشارة إلى براعم التوافق الجديد بين الإنسان السفلي ما قبل الاقتصادي والإنسان ما بعد الاقتصادي – أي طليعة الحقبة المقبلة. لم يتذكَّر عام 1997 قيمةً مثل الضمير المرتاح والتناغم الروحي إلا 69.3 % من المشاركين في الاستفتاء, أما عام 2000 فبلغت النسبة 93.8 %؛ ومنح عام 1997 58.3 % من المشاركين الأولوية للنجاح المادي على حساب قيم تقرير الذات وتحقيق الذات المهنية, أما عام 2000 فلم تزد النسبة على 33.7 %؛ ازداد عدد الأشخاص الدامجين أنفسهم في وطن وحيد هو روسيا من 38 % إلى 67.5 % , وبالمقابل انخفضت نسبة الأشخاص ذوي الوعي المواطني الذاتي غير المحدد بمرتين ونصف المرة([7]).

تتلخص فرضيتي في الآتي. يهدد الاقتصاد الافتراضي المتنامي تنامياً خطراً والمرتكز على البزنس الطفيلي للمضاربين الماليين بابتلاع كافة ثمار التقدم العلمي والتقني, التي تحققت في الاقتصاد المنتج. عدا ذلك: تهدد مثل هذه "الربحية" العالية بالظاهر بالحيلولة بين أنماط النشاط المنتجة والعناصر الأكثر قابلية للحركة في المجتمع المعاصر, غير الراغبة في الخسارة إضافة إلى ما يجسده الصبر والنزاهة والاستقامة من خسارة.

يمكن اليوم إعادة صياغة "نبوءة يوسف" إذا ما طبقناها على مستقبل حضارتنا على النحو التالي: ستلتهم بقرات الاقتصاد الافتراضي الهزيلة بقرات التقدم العلمي التقني المسمنة. إن أبعاد الأزمة المرتبطة بانهيار الهرم العالمي العولمي "МММ" تفوق بمرات عديدة كارثة آب من عام 1998. ستصير حرجةً من جديد شروط حياة مئات الملايين من البشر الذين ينسبون أنفسهم إلى المجتمع الاستهلاكي على أساس التماثل الكاذب. سيتغير في هذه الشروط مفهوم قابلية التكيف وعدم قابلية التكيف على نحو حاسم. سيكون الأقل تكيفاً هم أولئك الذين وثقوا بالدعاية الليبرالية الجديدة وقيم أخلاق النجاح. وستغدو مطلوبة من جديد التجربة التقشفية بتجلياتها كلها – ابتداءً من التقشف المعيشي البسيط "لحوذيي الحياة اليومية" النزويين, وانتهاءً بتقشف الخدم والكهنة والأنبياء الاجتماعيين والعسكريين.

إن التاريخ يتكرر احتكاماً لكل شيء. فمع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وعد الليبراليون والتكنوقراطيون من مختلف الأجناس بالسلام الأبدي والازدهار والبحبوحة و"الحرية اللامحدودة". لكن كل من صدقهم في القرن العشرين وجد أنه صار الأقل مقدرة على التكيف. لقد تطلب "القرن الحديدي" من الناس صفات كانت ستراها غالبية أنصار إيديولوجيات القرن التاسع عشر التقدمية مغرقةً في السلفية. ويبدو أن التاريخ يتكرر على الغصن الجديد وبشكل أشد قسوة. قرر الليبراليون الجدد على مشارف القرون والألفيات أن يعلنوا "المعركة الأخيرة" على السلفية المستمرة منذ آلاف السنين والمرتبطة بأخلاق التضحية والتقشف. نوى راديكاليو ما بعد الحداثة أن يتفوقوا على راديكاليي الحداثة في قضية الإطاحة بالموانع التقليدية والقيود الأخلاقية كله.

بالنتيجة ربوا تلك "البقرات الهزيلة", بقرات معاداة الاحتراف, وبقرات الفساد وإهمال الواجب والمسؤولية, التي ستلتهم حتماً بقرات التقدم "السمان", التي ترعرعت في مراعي الثقافة السابقة. سيكون الانهيار غير المسبوق على الأرجح المحصلة النهائية للثورة الثقافية الأحدث. وستبدو على خلفية هذا السقوط الهائل قيم أخلاق النجاح الفردية طوباوية ووهمية إلى حد لن يبقى معه لأغلبية أنصارها الحاليين إلا استغراب ثقتهم الزائدة بها.

لن يتزعم ثورة الوعي الجديدة المرتبطة ببعث القيم ما بعد المادية "الفطنون منذ البداية" – محرضو الحركات البديلة في الستينات, وخلفاؤهم المباشرين, بل سيتزعمها أنصار الأسطورة الليبرالية الحالية المخدوعين والمصابين بخيبة الأمل. إنهم لن يغفروا "لمدرسي التحرر" أوهامهم ولا الثمن الذي اضطروا إلى دفعه من جرائها. على هذا النحو تَعِد ثورة القيم ما بعد المادية بأن تكون راديكالية جداً وغير مهادنة ما دامت ستغذيها طاقة الاستياء واليأس.

كيف ستتصرف حيال هذه الثورة طبقة المستثمرين – أي ذلك الجزء الذي سيعي انسداد أفق السير وراء كبار عولمة المراباة والمضاربة؟

من المهم لدى وضع سيناريوهات المستقبل الأخذ بعين الاعتبار قوانين الدراما التاريخية: لا يمكن أن لا تترافق العودة إلى المبدأ الإنتاجي في الاقتصاد بمواجهة حاسمة مع المجمع الافتراضي الحالي بمُرَكِّباته كلها.

إذا كان رجالات الاقتصاد الافتراضي يتصرفون على غرار البوهيميا اللامسؤولة والتي تزدري النظام والواجب والانضباط, فإن أنصار المبدأ المنتج المستقبليون سيحددون أنفسهم على أنهم نساك الواجب والقانون الأخلاقي والتراكم. إذا كان المضاربون الماليون يستغلون فكرة المجتمع المفتوح من أجل إخراج رؤوس الأموال المنهوبة إلى خارج البلاد من غير عوائق فإن نساك المراكمة الجدد سيصيرون مناصرين حازمين لحدود الدولة المنيعة ولحماية الصناعة الوطنية وللقيم الوطنية.

إذا كانت البوهيميا ونصف البوهيميا التي أنشأت الريع العقلي "المضخم" وراحت تخدمه تدين بتقريبية ما بعد الحداثة وقدرتها على التهام كل شيء, وبتعددية المعاني غير المتحقق منها , والتي لا ينطبق عليها المعياران الدقيقان "نعم" و"لا", فإن مرممي المبدأ المنتج سيعلنون حتماً أنهم أيضاً مرممي المبادئ الدقيقة للمعرفة الصارمة, التي تنصاع لاختبار التجربة الذي لا يقبل ثنائية المعنى. ستسترد مقولة التجربة أهميتها المركزية في المجال الفكري طاردة الرمزية ما بعد الحداثوية مزدوجة المعنى.

لقد بينت بعض السوابق ضمن هذا الاتجاه من قبل موجة المحافظين الجدد في الغرب. ينطلق المحرضون على الانقلاب المحافظ الجديد من بعض الفرضيات:

 - من وجود فئة مثقفة مسؤولة وطنياً إلى جانب فئة المثقفين المتبوهمة, التي بددت الإرث الثقافي والقومي في عملية "اللعب بالدرر" اللامسؤولة, وهي في الوقت نفسه لا تقل عن البوهيميا العالمية بأي شيء وفاقاً للمعايير المهنية التي تحكم الإنتاج الروحي المعاصر؛

 - من وجود "أغلبية أخلاقية" محافظة تصون القيم الروحية الأبدية إلى جانب الأقلية كثيرة الصراخ التي احتكرت وسائل الإعلام؛

 - وأخيراً, من أن اتحاد فئة المثقفين المحافظة الجديدة مع الغالبية الصامتة, المنعقد للالتفاف على "الأقلية الكومبرادورية كثيرة الصراخ", ممكن وضروري.

إننا نملك الحق اليوم في أن ننطلق من مقدمات مشابهة. لن ينفي أحد وجود هاوية حقيقية الآن بين الطليعة الليبرالية الحالية وغالبية الشعب الصامتة التي تعاني من عوز وحرمان لا مثيل له. إن الشعب اليوم مبعد عن المشاركة الحقيقية في السياسة ( تلبي السلطة نفسها حاجته إلى المعارضة السياسية داسة الاستفزازيين بين صفوفه) وعن وسائل الإعلام. يصير صمت الشعب القسري في ظروف الاستياء المتنامي من سياسة الأوساط العليا أكثر دراماتيكيةً. وإذا كانت فئة المثقفين الروس لا زالت محافظة على كونها ظاهرة سوسيوثقافية خصوصية تجمع بين الوظائف الكهنوتية والنبوية في عالمنا الفاقد روحه, فإنها ستُبرِز في داخلها ذلك الهيكل المقدر له أن يعلي صوت احتجاج الشعب الأخرس. يوجد في التاريخ الروسي مبدآن سريان:

 - اتحاد القيصر الرهيب مع الشعب ضد الاقطاعيين الخونة؛

 - اتحاد الكنيسة المتنبئة مع الفقراء بالروح ضد الأقوياء والسفهاء.

تشير دراسة التاريخ العالمي إلى أن هذا نمط أصيل ليس في ثقافتنا وحدها بل في الثقافات التوحيدية كلها. تكوِّن مجموعة الآلهة المتخاصمين في ما بينهم وضعاً "ما بعد حداثوي" مريحاً لأولئك المنتفعين من ضبابية المعايير الحقوقية الأخلاقية والقيمية. لكن التوحيد يلغي هذه الازدواجية الماكرة في التقويمات الاجتماعية والأخلاقية وكذلك ازدواجية الأفق التاريخي بعيد المدى.

لقد تسنى لنا أن نختبر على أنفسنا تأثيرات تعددية الآلهة ما بعد الحداثوية في الحقبة "الليبرالية. ومن المحال أن يكون قد بقي لدى أحدهم شك في أن هذه التعددية الإلهية مربحة لحاذقي العالم الافتراضي الذين يقسمون بعدم إمكان التفريق بين الحقيقة والكذب وبين الخير والشر. تكمن المسألة, بالتالي, بأي الأشكال سيعاد إنشاء ثقافة الإله الواحد في الحقبة ما بعد الليبرالية المقبلة, هذه الثقافة التي لا تطيق صبراً على المكر وازدواجية المعنى في أهم مسائل تقرير الذات الإنسانية. من المهم انطلاقاً من هذه المواقف تقويم بعض إيديولوجيات القرن العشرين القديمة والحديثة – أي أيها يمكن أن يندرج في الفكرة التوحيدية الرئيسية للحقبة ما بعد الليبرالية.

 

لنبدأ من الإيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية. إذ يعلق عليها اليوم بعض الآمال أولئك الذين فهموا انعدام أفق الليبرالية المعاصرة, التي انحطت إلى الدارونية الاجتماعية, وإلى التغاضي اللامحدود عن الأقوياء والقادرين على التكيف على نحو يتعارض مع الأخلاق والعدالة والتحضر. يلفتون الانتباه أيضاُ إلى أن رجالات الموجة المحافظة الجديدة في الغرب يتخلون بالتوافق مع قوانين "تبدل الأطوار" المعروفة عن الحكومات الاشتراكية الديمقراطية. أخيراً, يمكن الإشارة إلى أن السياسة الاشتراكية الديمقراطية تحتوي على لهجة المساواة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية القريبة من عقليتنا. بماذا نستطيع الرد على هذا؟

أولاً, من الضروري الإشارة إلى أن الرد الاشتراكي الديمقراطي على "الفوضى" الليبرالية المعاصرة, وعلى خروج النخبة الاقتصادية الوقح بزعامة طليعتها المالية من منظومة التوافق الوطني, يعتبر رداً ضعيفاً ومبهما على نحو غير ملائم. والاشتراكيون الديمقراطيون الحاليون لم يردوا فعلياً على تحدي الأطلنطيين والنقوديين الليبراليين لا في مجال السياسة الداخلية ولا في مجال السياسة الخارجية المتعلقة بتطرفات "القطبية الأحادية". لا بل إن تصادمات حقبتنا المتقلبة من المنظور التاريخي الواسع ليست بالتي يمكن حلها في إطار إحلال الديمقراطيين الطقوسي محل الجمهوريين, والليبراليين محل المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين محل الديمقراطيين المسيحيين. والناخب الروسي يشعر بهذا بالبديهة: لم يتجاوز ما حصل عليه الحزب الاشتراكي الديمقراطي حديث العهد نسبة 1 % من الأصوات.

يتلخص الأمر في نضوج رد فعل صارم في الثقافة على تجارب الحداثة التبذيرية متخذ شكلاً جديداً من حياة التقشف. والتيار الاشتراكي الديمقراطي أقرب إلى الفكرة الحداثوية الأساسية حول التحرر التبذيري منه إلى التقشف والانضباط الذاتي.

استغل المحافظون الجدد الغربيون منذ وقت قريب جداً رد الفعل الثقافي العام على هذا التبذير, فقد انتقدوا تغاضي المجمع الليبرالي اليساري والاشتراكي الديمقراطي والدولة الاجتماعية عن "ثقافة المعونات" المرعية من قبلها (الإعالة الاجتماعية), وعلى الخطط الفارغة والطوباوية. لكن الصراع كما تبين يجري بين المذهب النقودي والكينزية, وبين الليبرالية اليمينية والاشتراكية الديمقراطية داخل فكرة التغاضي الحداثوية الرئيسية, والحديث يدور ببساطة عمن ينبغي التغاضي.

يدور الحديث في الشكل الاشتراكي – الديمقراطي عن المدللين من سواد الشعب – أي عن أولئك الذين يعتبرهم اليساريون "قريبين اجتماعياً". وفي الشكل الليبرالي يدور الحديث عن المدللين من عداد العلية المتبرمين منذ زمن طويل من أن دولة القانون تسعى إلى التعامل معهم "كما تتعامل مع الجميع", على الرغم من أن الأمر واضح لأي كان أنهم ليسوا كالجميع. أما في ما يخصني شخصياً فثمة أمر وحيد واضح لي: من المستحيل إعادة حتى ذلك الجزء من الطبقة الاستثمارية, الذي يميل إلى الاقتصاد المنتج والمستعد للانقطاع عن رجال الاقتصاد الافتراضي المافيويين المضارباتيين, إلى منظومة التوافق المدني المعاصر على أساس البرنامج الاشتراكي الديمقراطي. إذا أردتم مطالبة الطبقة الاستثمارية بسلوك مسؤول وطنياً مع كل ما ينتج عن ذلك من أعباء خدمية فإنكم لا تستطيعون في الوقت نفسه التساهل مع "ثقافة المعونات" الخاصة بسواد الناس, ومكافأة المهملين وغير المهملين, والعاملين وغير العاملين بروح "ديمقراطية المساواة".

يفترض الانقلاب السوسيوثقافي والسياسي المقبل على أقل تقدير المساواة في التضحية انطلاقاً من روح الخدمة الاجتماعية والتقشف والمسؤولية. إننا نعرف من تجربة التاريخ الروسي أن فقدان الوحدة الوطنية قد تم حين أخلَّت الأوساط الحاكمة من جانب واحد بتوافق الدولة الخدمية كما حدث مثلاً بعد أمر بطرس الثالث المتعلق بمنح الحرية الذهبية لطبقة النبلاء.

لقد أفقد وضع النبلاء اللاخدمي "الغربوي" الجديد, الذي سمح لهم بأن يعيشوا حياتهم الخاصة بحرية, منظومة القنانة كلها معناها في نظر طبقة الفلاحين, فأن تخدم النبيل المقاتل وخادم الدولة شيء, وأن تخدم المنعم والمبذر اللامسؤول شيء آخر.

أخلَّت إصلاحات عامي 1991 – 1992 لدينا على النحو ذاته بمنظومة التوافق المدني التي أرسيت دعائمها في النظام الستاليني. تخلت الأوساط الحزبية العليا السابقة عن وضعها الخدمي وخصخصت ملكية الدولة وصارت تعيش نمط حياة "غربي" من ملكيتها الخاصة. باختصار, لقد استغلت اللبرلةَ ما بعد السوفييتية بحِرَفية تامة محسِّنةً نوعياً وضعها الاجتماعي ومشبِعةً الحريات الجديدة كلها بمحتوى اجتماعي ذي أهمية (بنظرها). ولم يبق لسواد الناس سوى "الاقتناع الرمزي" بحريات شكلية لا تمس حياتهم اليومية المنهكة.

 

ثمة على جدول الأعمال اليوم مسألة إعادة بناء التوافق المدني ضمن أشكال اجتماعية وسياسية جديدة.

وبرأيي لا يمكن الوصول إلى هذا التوافق على شكل الثأر البسيط لسواد البشر المخدوعين من رجالات الخصخصة الوظيفية. لذلك لا الفكرة الشيوعية تنفع هنا ولا الفكرة الاشتراكية الديمقراطية – هذا من غير أن نتحدث عن أن الفكرة الأولى قد تشوهت على يد النظام الشمولي.

وبالفعل, ما دام قد تكون في المجتمع (كما في الثقافة المعاصرة عموماً) توافق بخصوص عدم وجود بديل لاقتصاد السوق فمن الواضح أن البديل الحقيقي يقع وراء حدود الثنائيات القديمة مثل الخطة – السوق, الشيوعية – الليبرالية, الاشتراكية الديمقراطية – النقودية. يقع الخيار الحقيقي في مستو مغاير مرتبط بالاختيار بين ثقافة الاقتصاد الافتراضي الطفيلية وثقافة الاقتصاد المنتج الحقيقي التقشفية التعبوية, هذا الاقتصاد القادر على المراكمات الاستثمارية الحقيقية وعلى تحمل المسؤولية الاقتصادية طويلة الأمد.

ستبرز في إطار مثل هذا الخيار مهمة صعبة أمام الدول ما بعد السوفييتية, وهي استمالة الرأسمال الوطني إلى قضية البعث القومي بانتزاعه من الرأسمال الكومبرادوري ومن ألعابه الافتراضية المضارباتية كلها. يدور الحديث عن الاعتماد على الوسط الوطني من "مدمني العمل" العنيدين, الذين لا يكلون والصارمين تجاه أنفسهم وتجاه غيرهم من المستثمرين المقاومين بوعي ضغط ثقافة اللذة الفاسدة والاستباحية البوهيمية والإجرامية. يشير هذا كله إلى شيء ما أكثر محافظةً ومونولوجيةً وقدرة على التعبئة الداخلية من المجمع الاشتراكي الديمقراطي, الذي يوحد الاشتراكيين الليبراليين والليبراليين الاجتماعيين, أنصار التحرر والسلام الأبدي وغير ذلك من الطوباويات المختلفة.

لنلتفت إلى ألوان الطيف الفكري السياسي المعاصر الأخرى. قال الشاعر "يحتاج الزمن الجديد إلى زي جديد من أجل قضية جديدة". هذا معناه أن علينا أن نتوقع إما ظهور إيديولوجية صارمة جديدة – ترث الأنموذج التوحيدي القديم, وإما إعادة بناء ملائمة للإيديولوجيات المعروفة. سيترتب على المجتمع المعاصر أن يعيد من جديد تفسير أهم قيم الحقبة الحداثوية – مثل الديمقراطية والإنسانية والعدالة والمساواة وتقرير الذات وغيرها.

 

كانت القيم المذكورة تفسَّر في فترة الحداثة المتراخية والانحطاطية السابقة ضمن مجرى التغاضي اللذوي العام في سياق النزعة إلى تسريح الروح وانعدام التوازن والتراخي. وصارت الحداثة المتأخرة تكوِّن الإنسان غير القادر على الوجود الأرضي المديد بسبب من نقص المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والبيئية. فإن كانت البشرية ترغب في الاستمرار في الحياة على الأرض المنهكة والمثقلة بالممارسات اللامسؤولة لمدرسة الحداثة المفرطة في النضج فمن الضروري القضاء على مثل هذه النزعة.

إن المبادرين إلى البديل الناضج منذ زمن سيلتفتون في أقرب فرصة نحو نصوص الثقافة ووصاياها التي يستطيعون أن يجدوا فيها الترياق ضد اللامسؤولية والتغاضي في جميع أشكاله. سيصير هدفهم الرئيسي إيديولوجية الليبرالية الحالية بما تحمله من دعوات مثيرة للجدل "لعدم الاستحياء". وسيترتب عليهم انتزاع قيم الحداثة الديمقراطية الكلاسيكية, التي لا زالت تلهم كالسابق العقول والقلوب, من الليبراليين وإشباعها بمحتوى جديد. إن أهم قيم الكلاسيكية الديمقراطية هي الاستقلالية الذاتية وتقرير الذات وتحقيق الذات. وهي بالمنظور العريض لا تتطلب تراخياً ضمن روح "الحرية" اللذوية, بل أقصى درجات التركيز الداخلي, والانضباط الذاتي وتمالك النفس. المساواة في الانضباط الذاتي وفي المسؤولية المهنية والمدنية وفي الاستعداد لاحتمال عبء فضائنا الأوراسي القاسي – هذه هي أسس التوافق المدني الجديد.

لكن عناصر العالمية أخلت به – أي أولئك المستعدين لاستبدال وطنهم إذا كان يطلب الكثير. يحمل بعضهم المرتبط بوطنه و"بمكان تطوره" الأوراسي عبئه, بينما يسمح الآخرون لأنفسهم بأن يختاروا أي الأمكنة أحسن لهم؛ يعيش بعضهم بمكيال موحد, بينما يسمح الآخرون لأنفسهم بمكيالين.

توجد في الطيف الفكري المعاصر فجوة خاصة يملؤها اليوم بنشاط أنصار الفكرة البيئية. تستحق هذه الفكرة أن ننظر إليها بانتباه أكبر. إنها تعاني بشكلها الحالي من الازدواجية. فهي من جهة تعبر عن نقد ذاتي مبرر للحضارة التقنية الغربية وللمجتمع الاستهلاكي المبني على أساسها بكل ما فيه من طمع ولامسؤولية.

ومن جهة أخرى, أثرت على صياغة الفكرة البيئية في الغرب الثقافة المضادة الشبابية, التي خططت لتبرير هروبها على أساس هذه الفكرة من واجب العمل والخدمة العسكرية ومن كل ما تفوح منه رائحة التعبئة والانضباط. لا ينتقد "الخضر" المجتمع الصناعي على إسرافه البيئي وحسب, بل على روح المراكمة الانضباطية المختبئة فيه. يعتبر "الخضر" في هذه النقطة حلفاء لما بعد الحداثة, التي تعلل "تسريح" الشخصية المعاصرة الشامل, وسباقين إليها.

يكمن السؤال الرئيسي تحديداً في ما الذي يطلبه منا وضع الأزمة العولمية المعاصرة: التسريح الشامل باعتباره ضمانة لإنهاء الممارسات والتقنيات الفظة الخطرة على التوازن الطبيعي أياً كانت – سيحرمها الفارون من الحضارة التقنية من مادتها البشرية الضروروية – أم على العكس, مستوى جديداً نوعياً من التعبئة والمسؤولية؟ يستطيع أولئك "الإصلاحيون" الذين حرضوا على عملية اللاتصنيع في الفضاء ما بعد السوفييتي وما بعد الاشتراكي كله أن يجدوا لأنفسم أدلة براءة بيئية, لأن تدمير الصناعة سيترافق لزاماً مع تخفيض في العبء البيئي. لكن هل نستطيع أن نعتبر أن مشاكل المعاصَرة العولمية ستحل حقاً خلال عملية التدمير هذه تحديداً وفي أثناء الانقلاب المدبر من قبل الليبراليين؟

طبعاً, لا. يترافق الاختبار الليبرالي بتخفيض في شتى أنواع الرقابة والمسؤولية – بما في ذلك ما يتعلق بالمجال البيئي. يهيئ تدمير البنية التحتية الصناعية لكارثة تكنولوجية لا مثيل لها, وهذا ما بتنا نلحظ أعراضه اليوم. عموماً, ينبغي التأكيد على أن روح "الفرار" التي يتغنى بها ممثلو ثقافة المذهب البيئي المضادة ما هي إلا روح ضارة ولا يمكن تعليق آمال خاصة عليها.

يواجه الخضر الخارجون من الثقافة المضادة الثقافةَ بالطبيعة, مشاطرين الليبراليين طوباوية "الإنسان الطبيعي", بكل ما يحتويه من laissez faire (سياسة عدم التدخل). إنهم يتمنون لو يظنوا أن الخروج من عدم تناغم الثقافة المعاصرة سيضمن تلقائياً الالتحاق بالتناغم الطبيعي؛ إننا, إذ ننزع عن كاهلنا حمل أي تعبئة اجتماعية مهما كانت, نتحول كما يقولون إلى ذلك المتوحش الفولتيري الساذج الذي تتحكم فيه الطبيعة ذاتها بحكمة. لكن الطبيعة في الواقع ما عادت منذ زمن تقفز داخلةً من تلقاء نفسها من النافذة بعد أن طردت في وقت ما من الباب. إن التقشف البيئي الضروري جداً للبشرية في حقيقة الأمر لا ينبع قط من التراخي, ولا من الفرار الأخلاقي والاجتماعي. تدل التجربة على أن الفارين الذين ألقوا عن كاهلهم أي مسؤولية اجتماعية يصيرون عادةً نهّابين سلاّبين وأحياناً نهّابين سلاّبين بيئييّن.

 

سيترتب علينا على الأرجح أن نعيد تفسير أخلاق المراكمة البرجوازية القديمة بعد أن نضم إليها تقشف المراكمة البيئية. تعني المراكمة بالمعنى السوسيوثقافي الامتناع عن الاستهلاك لصالح الاستثمارات طويلة الأمد إلى حد ما. يمكن تفسير الطبيعة بهذه اللغة باعتبارها رأسمال البشرية البيئي, الذي يتطلب استثمارات خاصة. يفترض الاستثمار البيئي, مثله في ذلك كمثل أنواع الاستثمارات طويلة الأمد الأخرى, وجود رب عمل مسؤول وغيور ويعي جيداً أنه لا يمتلك منزلاً أغلى من منزله الأصلي, ولا أرضاً أغلى من أرضه الأم.

يكوِّن المجتمع الليبرالي الجديد المفتوح رحَّلَ العالمية عديمي المسؤولية, الذين يفضلون على أي نوع من أنواع الاستثمار طويل الأمد ألعاب المضاربات قصيرة الأمد, التي تفترض الاستعداد للاختفاء فوراً مع ما تم نهبه. لا يمكن مواجهة توسع العالمية المدمر هذا إلا بجهود مشتركة من قبل أولئك الذين يعتبرون أرض الوطن منزلهم الأم, والذين ينبغي عليهم الاهتمام من غير كلل برفاهه الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. ينبغي, في الصراع ضد نفسية اللامسؤولية اللذوية, التي يتمتع بها العابرون العالميون غير القادرين على التوفير والمراكمة, تجنيد روح التوفير والمراكمة المحافظة, التي ستبدو على الأرجح لشتى أنواع البوهيميا تسلطية.

في ظروفنا هذه تتشبع الثنائية المحافظة القديمة, التي تفصل بين من هو متعلق بمنزله والرحَّل المتشردين طوعاً بحثاً عن النجاح, بمعنى معاصر سامٍ. إن المشكلات العولمية لا تتطلب نفسية المهاجرين المستعدين للرحيل عن "الفضاء" الملوَّث بيئياً واجتماعياً, بل تتطلب نفسية الفلاحين المخلصين الذين لا يوجد لديهم مكان يهاجرون إليه ولا ما يقايضون به أرضهم الأم. إن تماثل الناس باعتبارهم سكان هذه الأرض وهذه البلاد وهذا الإقليم هو ذلك المعيار القديم الذي سيكون مقدراً له أن يمتلئ بمعنى جديد في زماننا, زمان المواجهة الشاملة بين العالميين والوطنيين. إننا نعرف من تاريخ البرجوازية باعتبارها طبقة أن الاستثمار الصغير والمتوسط قد شغل دوماً مواقف محافظة قومية, بينما ينجذب دهاقين المال إلى الكوسموبوليتية والكومبرادورية.

اليوم حين يمر خط الفصل بين نوعي الثقافة المنتج والمضارباتي الربوي (بالمعنى الواسع للكلمة الشامل "البزنس" و"البنية الفوقية"), يتطابق رأس المال الوطني بالكامل مع الاقتصاد المنتج , والرأسمال العالمي مع اللامنتج أي الافتراضي. إن فكرة حماية أرض الوطن من شتى أنواع التلوث – السوسيوثقافي والأخلاقي والاقتصادي, قادرة على توحيد من ليس لديهم "وطن ثان" وأن تصير أساساً للتوافق الوطني اللاكومبرادوري.

تبرز الفكرة البيئية ضمن هذا السياق منقاةً من شتى شوائب "الثقافة المضادة" وتكتسب في الكثير من الجوانب ملامح مرموقة. كما يكتسب برنامج التوفير (المراكمة) البيئي , مثله كمثل المراكمة الاقتصادية, توجهه اللالذوي واللااستهلاكي واللاليبرالي. الحصص البيئية والرقابة البيئية على شتى أنواع الممارسات التبذيرية التي تدمر الطبيعة لصالح الشهيات اللذوية – هذه هي إحدى مكونات رد الفعل المحافظ المقبل على الليبرالية بمعاييرها المزدوجة: التغاضي اللذوي عن المختارين والقسوة الدارونية الاجتماعية على "المحرومين". تتشكل هنا أرضية للتوافق المدني الجديد الذي لا يوحد الناس على أساس انعدام المسؤولية العام ومقدرة "ما بعد الحداثة" على التهام كل شيء, بل على أرضية التقشف البيئي الاجتماعي الجديد. يكتسب هذا التقشف هنا وضع الفكرة الرئيسية, وستصاغ باسمها أشكال أخرى من التقشف التي ترمز إلى التحول عن المجمَّع اللذوي, الذي يقسم المجتمع إلى أقلية متنعمة وأغلبية محرومة, نحو المجمَّع المحافظ الوقائي الذي يوحد الأمة على أساس التقشف الوطني العام.

إن هذا الانعطاف قادر على التأثير على أسلوب تنظيم المجتمع بالكامل. إن أسلوب التنظيم الذي اعتدنا عليه والذي نشأ مع المجتمع الصناعي هو الأسلوب القطاعي. إنه يعني أن المستوطنات تتكون على شكل ملحقات بالمؤسسات, أما توضع الناس الاجتماعي فيتطابق مع تقسيم العمل الصناعي. ينظر إلى الجيران المرتبطين بقطاعات أخرى من فروع النشاط المهني على أنهم غرباء – إذ لا تتوافر صلات حقيقية معهم.

وبالعكس, يماثل أنفسَهم الناسُ المتباعدون إلى أقصى حد مكانياً, لكن الموحدين في إطار المجمع القطاعي الهائل, باعتبارهم وحدة اجتماعية – طبقية, مهنية, تكنولوجية, إدراية تنظيمية. يتبين عندئذ أن العلاقات الأفقية ما بين القطاعات غير مكتملة التطور؛ وتسود العلاقات القطاعية الشاقولية. هكذا يتكون الإنسان غير المهتم بأي أمر محلي , ومعدوم الإحساس بالروابط الجغرافية وبنداء التربة والأرض والتقاليد الثقافية. تصير أرض الوطن عندئذ منبعاً للموارد وحسب, وفضاءً "فارغاً" يجب أن يخضع للتنظيف على سبيل التخصص الإدراي. إن هذا كله يكوِّن نوعاً خاصاً من رحَّل الحضارة التقنية المحرومين من التماثل الثقافي المكاني.

إن الفكرة البيئية الكبيرة قادرة على قلب الأفق مشيرة بذلك إلى الانتقال من إنسان القطاعات إلى إنسان الأرض. وهذا بحد ذاته قادر على تغيير عقلية الإنسان المعاصر وحسيته من جذورها. تعني الحساسية الزائدة تجاه الأرض بكل ما فيها من نبض وروابط خفية الإطاحة بالأفق المعتاد والأحكام الموروثة من عصر الحداثة كلها. إن الفكرة المحورية حول الأرض يمكن أن تبرز باعتبارها مولداً جباراً للروابط الأفقية, التي تشكل فرد الجماعة الجديد. لكن سيكون من العبث بهذا الصدد توجيه الاتهامات بالرجعية. ففي نهاية المطاف, وكما دلت نظرية الإدارة المعاصرة يشكل تطور العلاقات الأفقية المباشرة بديلاً ديمقراطياً للتسلطية والمركزية والبيروقراطية.

لن تبدو حضارة العلاقات المتينة بالأرض وحضارة المسؤولية تجاهها تسلطية على نحو لا يحتمل إلا لرحل المجتمع الاستهلاكي عديمي الإحساس بالمسؤولية, الذين يفضلون الأدوار الاجتماعية السلبية. يمثل المجتمع المدني الحقيقي, كما أشرنا سابقاً, مشاعة (بوليس: الدولة – المدينة) محلية تحل معاً المشاكل كلها التي تنشأ في مكان وجودها. إذا كان المجتمع الاستهلاكي مبنياً على ثنائية وقت العمل ووقت الفراغ, اللذين يعتبر كل منهما لانوعياً إلى أقصى حد من ناحية العلاقة بالأرض, فإن المجتمع المكوًّن وفاقاً لمبدأ الأرض سوف يطور باطراد نمطاً ثالثاً من الزمن الاجتماعي مكرس للنشاط المدني المحلي.

يقضي مثل هذا النشاط على التراخي المعتاد والوهن الاجتماعي المميز للنفسية الاستهلاكية التي تخاف أكثر ما تخاف من تحمل المسؤولية والجهود المدنية الحقيقية. لكن مجتمع ديمقراطية الأرض المعبأ قد يعتبر وفاقاً لمعايير مذهب اللذة الاستهلاكي المعتاد تسلطياً وإسبرطياً على نحو لا يحتمل. يدور الحديث حول ديمقراطية أصحاب المدينة والقرية والإقليم, وصاحب المكان لا يقبل اللامبالاة والتراخي. يثمن مواطن الحداثة أكثر ما يثمن الوهن, والقدرة على الاختفاء في الحشد وأن يكون غير معروف وغير معني.

لكن المشاعة المنظمة ديمقراطياً والتي تتطلب المشاركة المدنية المستمرة تقضي على الوهن اللامسؤول: يعرف الجميع هنا من المسؤول في اللحظة المعنية والمكان المعني وعن أي شيء. تعاني الحضارة المعاصرة أشد ما تعاني من رحل العولمة, الذين لا يحملون على عواتقهم أية "واجبات محلية". يفسر إلى حد كبير التشوه, الذي أصاب الرأسمالية المعاصرة الآخذة بالانحطاط أمام أعين الجميع إلى منظومة ربوية مضارباتية ترمي شباكها في شتى أرجاء العالم, بإحلال أسلوب التنظيم القطاعي محل مبدأ الأرض. فأسلوب التنظيم القطاعي إذ يجري المضي به إلى نهايته المنطقية يولد تلك العولمة المشمئزة من كل ما هو محلي, والتي تركز أزمات المعاصَرة الاجتماعية والأخلاقية والحضارية.

لذلك ليس ثمة ما يثير الدهشة في أن يكون رد الفعل المرجح عليها هو العودة الجديدة إلى مبدأ الأرض في تنظيم المجتمع, الذي يصير فيه الارتباط بالأرض مدرسة لبعث المسؤولية المدنية. ليست فكرة المذهب البيئي الرئيسية عشوائية هنا أيضاً. فهي من جهة تمتِّن التماثل استناداً إلى الأرض ممكِّنةً سكان الإقليم الذائدين عن وسطهم المحلي الأم من مواجهة الملوثين والمبذرين الدخلاء. ومن جهة أخرى تمتلك قيمة عقائدية منهجية. وكما أن الطبيعة لا تعتبر خليطاً من الأجسام الميتة وإنما منظومة من التعايشات الحيوية كذلك تجسد الأرض كليةً خفيةً ما يترك تسليط الضوء عليها بلغة السياسة وبلغة نظرية الإدارة آثاراً غير اعتيادية.

حتى الإنتاج الصناعي اليوم يعاني من قصور الصلات بين القطاعات الناتج عن ندرة التنسيق المعتمد على مبدأ الأرض. أما ما يخص الإنتاجين الاجتماعي والروحي الموجهين إلى الإنسان مباشرة فلا يمكن لهما أن يتطورا تطوراً مكتملاً من حيث المبدأ إلا باعتبارهما مجمعاً مترابطاً في ما بينه. إذا كان المجتمع المعلوماتي موجهاً في الغالب نحو الرأسمال الاجتماعي البشري فسيصير واضحاً ذلك الدور الذي لا يمكن الاستغناء عنه والذي تلعبه الروابط بالأرض باعتبارها أساليب لتركيز هذا الرأسمال. لا يمكن أن تكون البنية التحتية الاجتماعية والثقافية قطاعيةً خالصةً, فهي موجهة للإنسان كإنسان, بكل ما فيه من تنوع في الصفات والعلاقات الاجتماعية.

تتبدد اليوم جملة المعلومات الأعلى قيمة والمنتجة في شتى قطاعات الإنتاج الروحي في الفضاء الواقع بين القطاعات, من غير أن تحظي بالاستخدام الملائم. يفسر الإفراط النسبي في إنتاج المعرفة (الذي صار مبرراً لبرامج تقليص العلم والثقافة والتعليم "الليبرالية") لا لأنها تعتبر فائضة عن الحاجة موضوعياً, بل لأن التشتت القطاعي للممارسات الاجتماعية المعاصرة يعيق تحقيق هذه المعرفة تحقيقاً كاملاً. وتظل أنواع كثيرة من المعرفة من غير صاحب وغير موجهة لأحد.

 

إن مبدأ التنظيم المرتبط بالأرض, الذي يعيد إحياء الكلية الاجتماعية بدلاً من الخليط القطاعي الحالي, قادر على أن يرفع نوعياً قدرة حضارتنا على ادخار أنماط جديدة من المعرفة, وخصوصاُ الاجتماعية – الإنسانية, المهمشة بمعايير "الحضارة التقنية". كما أن لمبدأ الارتباط بالأرض مثل هذه الأهمية الكبيرة في نقل المعلومة الاجتماعية الإنسانية الجديدة من وضعها اللاتوجيهي إلى الوضع التوجيهي, فتصير أساساً للحلول المدنية البناءة. تعتبر اليوم عوامل تركيز الرأسمال الاجتماعي المرتبطة بالأرض (عوضاً عن تجزئته إلى قطاعات) مقدمة نهوض المجتمع المدني بمعناه الخاص باعتباره الدولة – المدينة المدنية الخلاقة.

إذا فسرنا مشروع التحرر بمعناه الاستهلاكي اللذوي – باعتباره حقاً بالوجود الاجتماعي غير الملتزم للوحدات الفردية اللامبالية بأي شيء, فإن العودة إلى مبدأ التنظيم المرتبط بالأرض سيبدو خطوة إلى الوراء. أما إذا فهمنا التحرر بمعنى المسؤولية المدنية والحق بالمشاركة في القرارات ففي مقدورنا تقويم مبدأ الارتباط بالأرض باعتباره درجة جديدة في تطور الحضارة السياسية المعاصرة.

السيناريو التنبؤي الثاني: العولمة البديلة

سننظر إلى العولمة في إطار هذا السيناريو باعتبارها اتجاهاً تطورياً لا ريب فيه – أي في الإمكان البحث عن البديل في إطار العولمة ذاتها وليس خارجها أو بالضد منها.

تنبع القناعة بهذا الأنموذج من حقيقة أنه يندرج على نحو أفضل في منظومة الآمال والأحكام التي أوحى بها عصر الحداثة لإنساننا المعاصر.

لا يدور الحديث على هذا النحو حول نقد الحداثة المحافظ, بل عن نقدها الذاتي الفطري الذي يقدمه أولئك الذين يعتبرون أنفسهم منتمين إليها, لكنهم يطالبون بإعادة توزيع خيراتها لصالحهم. يمكن أن يجري تفسير انحرافات العولمة من موقف هذا النقد الفطري على أنها نتيجة لاحتكار هذه العولمة من قبل مجموعة اجتماعية محددة – والحديث يدور في المقام الأول عن النخبة المالية. لقد كانت أول من استوعب الإمكانات النابعة من العولمة وخصخصها بجشع. يتلخص الرد على هذا التحدي في أن تستوعب المجموعات الاجتماعية الأخرى أيضاً من مواقعها ولمصلحتها إمكانات العولمة فتعيد بذلك إقامة منظومة الموانع والتوازنات على مستو جديد. يتوافق هذا منهجياً مع ما يسميه عالم الاجتماع الإسرائيلي ش. ن. أيزنشتاد "تعددية الحداثات في عصر العولمة"([8]).

يُفترَض هنا توافر الحق لكل مجموعة اجتماعية أو لأي نمط ثقافي في أن يعيد على هواه تفسير الحداثة وإقامة بدائله التي ينسجم معها. فالتذمر من العولمة, التي تجسد اليوم السلطة العالمية للنخب المالية والشركات العبرقومية المتحررة من الرقابة الوطنية, شيء, وأن تحاول مواجهة منظمات رأس المال العولمية بمنظمة العمل العولمية, ومواجهة السلطة "التنفيذية" العولمية المتمثلة بسيادة الولايات المتحدة الأمريكية الأحادية, "بالسلطة التشريعية" العولمية التي توحد الآن سياسياً الأغلبية الضعيفة المنتمية إلى بلدان الأطراف العالمية, شيء آخر.

إذا كانت قوى سياسية معروفة تصادر العولمة فالمخرج لا يمكن أن يكون في مواجهة العولمة والجدل حول مبدئها, بل بتوسيع المشاركة في هذه العملية وتصحيح انحرافاتها في أثناء ذلك.

بكلمات أخرى, لا يجوز أن نقف من العولمة موقف اللوديتيين([9]) – محطمي الآلات. ليست الحضارة التقنية باعتبارها تجسيداً للحداثة منبعاً لعدم المساواة الاجتماعية بقدر ما هي انعكاس له. وسيجر تصحيح اللامساواة الاجتماعية وراءه تصحيحاً مقابلاً لبنية التقدم التقني نفسه وتوزيع نتائجه. وهكذا, تصير في أول الأمر المستجدات التقنية المثيرة في متناول الطبقات صاحبة الامتيازات؛ ومع الزمن يظهر مفعول تحويل هذه المستجدات الديمقراطي إلى شعبية: ينقص ثمنها وتصير متاحة لنطاق واسع من المستهلكين. أفلا تخضع عملية العولمة لهذا المنطق أيضاً؟ فاليوم تحتكرها المجموعات والبلدان صاحبة الامتيازات, وغداً يمكن أن تصير متاحة للأطراف السائرة خلفها. من المهم فقط عدم الاستسلام لأوهام الجبرية التفاؤلية – أي لعقد الآمال على قوانين التقدم المغْفلة التي تسوي كل شيء ومن غير أن نبذل جهوداً خاصة على أفضل وأعدل شكل يرام.

لا تحمل الامتيازات الخاصة في عصر الحداثة طابعاً مورفولوجياً بنيوياً, بقدر ما تحمل طابعاً دينامياً. يبرز الامتياز باعتباره التحاقاً مستبقاً للمجموعات والمرجعيات الاجتماعية المعروفة بالعملية التي تحمل من حيث المبدأ طابعاً يجعلها في متناول الجميع. يتحقق الامتياز على هذا النحو في مجال زمني معروف, يفصل بين وجود هذا "الجديد" أو ذاك في شكل الإنتاج بالقطعة أو بشكل الجملة المحدود, ومرحلة إنتاجه بالجملة. يمكن تقويم أزمة العولمة ضمن هذا الأنموذج القياسي باعتبارها طوراً مؤقتاً يفصل المرحلة النخبوية في تطور عملية العولمة عن مرحلتها الجماهيرية.

يجدر بنا التأكيد على أن السيناريو التنبؤي الموضوع على أساس هذا الأنموذج القياسي لا يفترض بتاتاً اللاتنازع. إنه لن يكون على النطاق السياسي أقل مأساوية من سابقه, فحقيقة إمكان دمقرطة عملية العولمة من حيث المبدأ وتوحيدها وفاقاً لمعايير العدالة الاجتماعية وجعلها متاحة للجميع لا تعني إطلاقاً أن القوى الاجتماعية التي استوعبتها باعتبارها امتيازاً لها لن تقاوم بشراسة محرضة بذلك على نزاعات أهلية وعالمية , لا بل على شن حروب أيضاً.

من المهم, بهدف التنبؤ بالأحداث وفاقاً لهذا السيناريو, تقويم العولمة بالمعيارين الثقافي الأنثروبولوجي والنفسي الاجتماعي. وتحديداً: أي الأنماط البشرية تصير عولمية أسهل من غيرها, أي أيها تبلغ تلك الدرجة من قابلية الحركة في الفضاءات وبين المجموعات, هذه القابلية التي تقع في أساس شتى أنواع الأمميات العالمية. إن الأقل قدرة على التكيف مع العولمة وفاقاً لهذا المعيار هو نمط المستثمر المدمن على العمل, المحافظ على بقايا الأخلاق الأبوية والارتباط "بالتربة". يغدو نمط القومي اليميني هذا الأكثر حرماناً من شتى أنواع "الأمميات". وحتى لغته المقتضبة والمباشرة والمرتبطة بالواقع هي الأقل جدوى في السير وراء الموضات الإيديولوجية والتظاهرات المؤثرة.

يوجد نمطان هما الأكثر إدراكاً للعولمة بالمعيار الأنثروبولوجي: الوسط المضارباتي الربوي مع "بوهيميا" المجتمع الجماهيري الاستهلاكية اللذوية المتجمعة حولـه من جهة, والطليعة اليسارية مع "البوهيميا الثورية" سهلة الاشتعال المتجمعة حولها من جهة أخرى.

يمثل في حقيقة الأمر هذان النمطان معاُ نوعين مختلفين من homo ludeus ( إنسان الفراغ "اللاعب").

لقد راحت الديسبورة الثورية اليسارية تبني عوالم السياسة الافتراضية مع كل أساطيرها حول "المستقبل المشرق" قبل أن تبني الديسبورة المضاربة عوالمها الافتراضية في مجال الاقتصاد بزمن طويل.

خيّل أن الطور ما بعد الشيوعي في الدورة السوسيوثقافية العالمية, الذي حل محل الطور اليساري الراديكالي قد دفن إلى الأبد هذا النمط. لكن, واحتكاماً إلى ذلك الكم من الإساءات التي تسنى للناشطين الليبراليين المعادين للشيوعية أن يرتكبوها, وإلى ذلك الكم من الآلهة التي أهانوها وإلى ذلك الكم من المقدسات الذي دنسوها, علينا أن نتوقع رد فعل معاكس محتمل. تم عرض السيناريو المرتبط برد الفعل الأبوي المحافظ أعلاه. إنه يعكس ايضاً رد الفعل على عملية العولمة كعولمة. لكن من المحتمل جداً أن تستمر عملية العولمة في الطور التالي أيضاً من الدورة السوسيوثقافية العالمية, المرتبط بالعودة إلى الفكرة السياسية الأساسية اليسارية الراديكالية. ومن المهم أن نستوضح من تحديداً سيجسد هذا الطور.

ربما كان من السذاجة المفرطة أن نتوقع بهذا الصدد "نهاية تاريخ" أخرى, مرتبطة بتجسيد طوباوية "المستقبل المشرق". سوف يتغذى الطور ما بعد الليبرالي المقبل كما الليبرالية المعاصرة بالدوافع والطاقات الأرضية الخاطئة المرتبطة بالتعطش للسلطة والمكانة المرموقة والتأثير.

تكمن مفارقة العولمة بطورها الليبرالي الحالي في ضعف السلطة الروحية كسلطة. لم يهتم مدمرو الطوباوية الشيوعية بكيفية عدم جعل أي إيمان يلهب مشاعر الناس على الإطلاق منذ الآن, وأن يظلوا صماً تجاه الحماسة إلى نمط الإدراك الكاريزمي. تقرر إلغاء طائفة البراهمة عموماً وإلى الأبد بعد الوصول إلى ضمور المشاعر القيمية الدينية. ينبغي الاعتراف بأن التجربة الليبرالية المعاصرة في هذا الجزء لا تقل تطرفاً عن التجارب الماركسية المرتبطة بالقضاء على السوق. إذ أعلن البراغماتيون المعاصرون "موت الأسطورة الإيديولوجية" قدموا الوعي البشري والحسية البشرية ديةً لصغار مشعوذي ما وراء الحسية والسحر والتنجيم وغير ذلك من ألاعيب الوثنية الجديدة المرتجلة.

 

 

لقد بتنا نشعر بعواقب هذا كله. وجد إنساننا المعاصر, الذي أضاع الاتجاهات والمتحرر من أي شكل من أشكال الوصاية من جانب السلطة الروحية المعترف بها, نفسَه جريحاً أمام فوضى الحسية المنفلتة إلى حد باتت معه مؤسسات الحضارة المتكونة كلها مهددة بالخراب. بتنا متأكدين من أن الأسطورة الإيجابية الليبرالية المعاصرة حول نهاية الإيديولوجية وانعدام الحاجة إلى السلطة الروحية عموماً هي أخطر وأشد تدميراً من الأسطورة الشيوعية عن انقراض الدولة وإلغاء علاقات السوق.

استغل كهنة التعاليم الجديدة الذين لا يعدون ولا يحصون الأساطير الشيوعية في زمنهم, وكذلك فعل الموظفون البيروقراطيون. أما الأساطير الليبرالية المعاصرة فأتت على هوى من ينظمون ممارسات الظل المختلفة ويتذمرون من الدولتية المتينة كما يتذمرون من رقابة الوعي الأخلاقي تماماً.

لا يمكن إيقاف ثورة المعاصَرة الإجرامية العظيمة, التي تهدد بنسف أسس الوجود الحضاري ذاتها من غير إعادة بناء سلطة دولة متينة وسلطة روحية لا تقل عنها متانة. الليبراليون المتحولون إلى مجرمين غير قادرين على فعل ذلك من حيث المبدأ. لذلك ليس في المتسع تعليق مثل هذه الآمال إلا على القوميين اليمينيين أو على يساريي المستقبل الراديكاليين.

بيد أنه ليس مقدراً لسلطة القومية اليمينية في عصر العولمة أن تنال الشرعية والاعتراف الحقيقي. لا تحظى في عصرنا بالاعتراف والشرعية إلا الفكرة الموجهة لا إلى الأتباع وأبناء القبيلة وحدهم, بل التي تمثل صيغة للخلاص البشري العام. لا يهتم التطرف اليميني إلا بأتباعه ولذلك لا يدرك جدلية الخاص والعام: لا يُلحظ الإنسانيُ العام الشامل في ذلك الخاص الذي يهتم به. لهذا السبب تحديداً خسر القوميون اليمينيون المعارك الإيديولوجية والسياسية العظيمة في عصر الحداثة.

لم تصر قط سلطتهم على عقول أبناء القبيلة سلطةً روحية عمومية لها أتباعها في الخارج. لذلك فإن بعث صلاحيات السلطة الروحية الضرورية للإنسانية من أجل رد هجوم اللاأخلاق وانعدام القيم الروحية الآتي على كل شيء لا يمكن أن يكون مرتبطاً إلا بنهوض الحركات الراديكالية الجديدة, التي تهب للدفاع عن المهانين كلهم وعن كل من تركه الداروينيون الاجتماعيون الليبراليون من غير فرص.

إن هبة السلطة الروحية الحقيقية - أي القداسة الصارمة والنبوة الملهمة التي تصون وعينا من الجموح ومن التشاؤم الذي يفقدنا الإرادة, لا يمكن أن تكون إلا لدى من بقي لديهم عنفوان مناهضة الظلم والحساسية الأخلاقية, ولدى القادرين على تلبية نداء العدالة والفضيلة المهانة. إن شغف غالبية الكوكب غير المتأقلمة إلى المساواة والعدالة ضروري من أجل الدفاع عن مصالحها الخاصة؛ وهي ضرورية للبشرية كلها من أجل الحؤول دون الانزلاق إلى العدمية الأخلاقية القصوى وسلطة الغريزة. السلطة الروحية أو سلطة الغريزة – هذا هو خيار المستقبل القريب وليس لدى أنصار الليبرالية الحاليين أي فرصة للقيام به.

إذ نتناول هذه المسألة من مواقف اجتماعية فإننا نستطيع الحديث عن النخبة المضادة الفكرية المقبلة, التي لن تكون مدعوة فقط للإطاحة بالنخبة الحالية الفاسدة والمنحطة أخلاقياً والمتاجرة بالأفكار كالسلعة, بل للتأكيد أيضاً على صلاحيات السلطة الروحية كسلطة. تعرض النخبة الفكرية الحالية في السوق وصفات تكنولوجية معينة من غير أن تهتم بالأيدي التي ستقع بينها. يدور الحديث في حقيقة الأمر حول أخلاق التكنوقراطيين المتحولة إلى عقيدة عامة لرجال الفكر المعاصرين. لم يعد هذا النمط من رجال الفكر – التقني ومدير الأعمال يمثل منذ زمن طويل السلطة الروحية كسلطة؛ إنه يخدم ببساطة السلطة السياسية والاقتصادية الموجودة. صار الثالوث العظيم الذي ارتبطت به ولادة الحضارات كلها – السلطة الروحية والسياسية والاقتصادية, ينحط أمام أعيننا ليصير أحادي البعد – أي ليصير إلى سلطة اقتصادية شموليه (محرومة من أي موانع وتوازنات) تشتري لنفسها مدراء أعمال سياسيين. لن يكون القادة السياسيون قادرين في الواقع على تعبئة الطاقات السياسية الضرورية للسلطة القوية إلا بالاعتماد على السلطة الروحية المستقلة عن الأولغرشية, أي على أفكار العدالة الاجتماعية الكاريزمية.

ومع وجود الحظر الليبرالي المفروض على الكاريزما والحماسة الإيديولوجية لن يكون ممكناً سوى إقامة الديكتاتورية على النمط "البينوشيتي", التي تخدم الأولغرشية المالية وغيرها من الذين لديهم الأسس كلها للخوف من غضب الشعب.

سيفضي على هذا النحو حتماً خبوّ أحد فروع السلطة الرئيسية التي دافعت الحضارة بوساطتها عن نفسها ضد الفوضى منذ قديم الأزمنة – أي السلطة الروحية – إلى انحطاط السلطة السياسية مباشرة, وهذا ما نراه اليوم. أما السلطة الاقتصادية المتبقية والمحرومة من التوازنات المفروضة من قبل السلطتين السياسية والروحية فتنحط حتماً إلى شمولية ذات محتوى دارويني اجتماعي, مثقلةٍ بالحقد العنصري تجاه "غير القادرين على التكيف" وغير قادرةٍ على كبح الطمع المدمر لكل شيء. وبما أن الشمولية الاقتصادية باتت تكتسب أمام أعيننا طابعاً عولمياً ساعيةً إلى استغلال "الأطراف العالمية" كلها بحرية تامة (يوفر لها هذه الحرية مذهب "المجتمع المفتوح" الخالي من الحدود والسيادات), فإن نمو الموانع والتوازنات العولمية ضروري وحتمي.

يمكننا أن نتخيل مثل هذه الاصطفافات ضمن حدود السلطة الاقتصادية ذاتها – وهذا ما يتماشى عموماً مع الأنموذج القياسي الليبرالي. قد تنشأ, مثلاً, إلى جانب مؤسسات السلطة الاقتصادية العولمية, التي تمثل قوة الولايات المتحدة الأمريكية أو الغرب المتحد عموماً, مؤسسات تمثل منافسي الغرب الاقتصاديين - خصوصاً "النمور" الآسيويين.

فقد ظهر بنك التطوير الأسيوي؛ وسيبنى بدوره صندوق النقد الأسيوي الذي سيرتكز على الين باعتباره بديلاً للدولار الأمريكي. هذا هو محتوى ما يسمى "مبادرة تشينغماي", التي توحد دول آسيان مع الثلاثي المجاور لها (اليابان والصين وكوريا الجنوبية). ويمكن أن تنضم روسيا إلى هذا الاتحاد مما سيخفض إلى حد كبير من تبعيتها لصندوق النقد الدولي وغيره من أدوات العالم المركزي الأمريكي.

لكن مشكلة المرحلة المعاصرة الحقيقية لا تكمن في إقناع المركزية الاقتصادية الأمريكية بواسطة التوازن الاقتصادي ذاته. تكمن المشكلة في خلاص البشرية من شمولية السلطة الاقتصادية التي حطت من شأنها بما فيه الكفاية لعدم قدرتها على الأخذ بعين الاعتبار مصالح البشرية غير الاقتصادية بما في ذلك أولويات الاستمرار البيئي والأخلاقي.

تحتاج البشرية حاجة ماسة إلى السلطة الروحية القوية باعتبارها ثقلاً موازناً للمركزية الاقتصادية المتطرفة. إن مثل هذه السلطة لا يمكن أن تصاغ على أساس "النزعة العملية" الليبرالية الجديدة, المنحطة إلى أنانية غير معقولة وانتصار الغريزة. إن فكرتي الأنانية الفردية المعقولة وغير المعقولة هما من منظور النبوة والإلهام الروحي فكرتان ضعيفتان لا تتمتعان بالكمون اللازم من الحماسة والتعبوية. وحدها التقاليد الدينية الآخروية الموجهة "للفقراء بالروح" والمستائين والمحرومين قادرة على بعث السلطة الروحية القوية على عقول المعاصرين الغارقين في أسى اللاإيمان وعلى قلوبهم. ليست الأفكار الكبرى قادرة على الاضطرام إلا في هالة آمالهم المنتشية.

إن الاحتمال الأكبر هو أن مثل هذه الأفكار سوف تولد في المناطق المنبوذة من قبل النظام العالمي الأحدث, والتي توحد غير القادرين على التكيف والبائسين. فكما بعث المسيحيون – منبوذو الإمبراطورية الرومانية غير القادرين على التكيف في وقت ما, كاريزما السلطة الروحية الكبرى فأنقذوا بذلك البشرية من التسمم الروحي بالأبخرة النتنة المتصاعدة من الوثنية الإمبراطورية المنحطة, فإن في مقدور منبوذي عالم القطب الواحد الحاليين أن يبعثوا من جديد السلطة الروحية التي تموت وتتفسخ الإنسانية المعاصرة بسبب من ندرتها.

لقد وصَّفنا أعلاه شتى أنواع عملاء العولمة. لقد برزوا جميعهم كمدمرين للوحدات الاجتماعية الضخمة السابقة كرمى لتنظيم "الإنسان العولمي الضئيل". ويعتبر مفهوم الديسبورة المفهوم الرئيسي الشارح لا لدوافع المدمرين وحدها بل لآليات التدمير أيضاً. ينطبق وعي الديسبورة الذاتي الآن مع الوعي الذاتي العولمي لدى "مواطن العالم". إن هذا الوعي الذاتي بأشكاله الراديكالية هو, ولا شك, الأشد تدميراً من بين أنماط الوعي الذاتي غير المنسجمة مع أي شكل من أشكال المسؤولية والواجب والارتباط الاجتماعي الراسخ. لن تستطيع البشرية إذا لم تتغلب على هذا النمط أن تسير على درب ذلك "التطور المنتظم" الذي تم الإعلان عن ضرورته في الندوة العالمية المرموقة في ريو دو جانيرو (1992). والسلاح الرئيسي في النضال ضد هذا التنوع في أشكال العدمية المنتهية هو السلطة الروحية – أي المقدرة على توحيد الناس من خلال أدوات هذه الفكرة الملهمة أو تلك. لهذا السبب تخاف الديسبورة من الأفكار الكبرى وتشهِّر بها على هذا النحو المنهجي. يمكن توبيخ الديسبورة أيضاً بوسائل السلطة السياسية وحدها فقط إذا كانت متسلحة بالإرادة الكافية.

لكن الأكثر أهمية هو التغلب على نمط الوعي "المهاجر" المذرر, الممتلىء عزماً على رفض أي واجبات اجتماعية باسم "أخلاق النجاح" الفردي. إن هذا من المنظور الإستراتيجي نمط وعي انتحاري, غير قادر لا على بذل الجهود طويلة الأمد ولا على التعاون الاجتماعي الفاعل. ينتشر نمط الوعي هذا اليوم في ظروف انهيار الأفكار الكبرى السابقة – أي ضعف السلطة الروحية كسلطة. وبعث مثل هذه السلطة هو الهدف الإستراتيجي الذي لن نستطيع, ما لم نصل إليه, أن نوقف تدمير الحضارة على يد عملاء الثورة الإجرامية العظمى وغيرهم من عملاء النجاح الفوري بأي ثمن كان.

يعتبر المذلون والمحرومون الأمل والسند الرئيسي في النضال من أجل بعث هذه السلطة. لقد أكدت إيديولوجية الراديكالية اليسارية على دور الأغلبية الكادحة المحرومة باعتبارها معيلة المجتمع. لكن دورها لا يقل أهمية أيضاً باعتبارها حاملة للبدايات التقشفية, التي إذا ما بددناها فإن الفردية اللذوية ستهدد بتقويض الأساس الأخلاقي النفسي لاستمرار حياة البشرية على الأرض. إن التقشف المعبر عنه بالمقدرة على تقييد الذات بانتظام وتحمل المسؤولية والمواظبة في حقبتنا ما بعد التقليدية ممكن فقط ضمن أفق الأهداف الكبيرة والأفكار الكبيرة, و"المشرف" عليها هو السلطة الروحية.

ليس ثمة شك في أن مثل هذه السلطة يمكن أن ترتكز إلى مبدأ العمومية – أي خلاص الجميع وليس المختارين, وفتح آفاق كونية جديدة أمام الإنسانية. سوف تكون السلطة الروحية, استناداً إلى تعريفها, راديكاليةً – أي غير ميالة إلى التوافق مع أولئك الذين يشككون بالأولويات الروحية كي يجعلوا الأولويات المادية مطلقةً ويريحون أنفسهم من شتى البدايات المانعة. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار منطق المواجهة مع الدراوينية الاجتماعية الحالية فإن هذه السلطة سوف تبعث "ديمقراطية المساواة" في مقابل "ديمقراطية الحرية" الليبرالية الحالية. إنها ستوحد النخبة الروحية البديلة, التي تمثل كهنة العدالة الاجتماعية والتقشف الجديد, مع النخبة السياسية المؤلفة من مناهضي الاستبداد الجدد, والثوريين ومناصري حرية الشعب. سوف يكون همهم الأوحد جميعاً – هو تحرير السلطة السياسية من وصاية أصحاب عدل النقود – أي الأولغرشية المالية, التي تمثل الاقتصاد الافتراضي الطفيلي.

من الممكن جداً, وكما دمر النمط الاقتصادي المركزي السابق السلطتين السياسية والروحية بهدف إطلاق الغريزة الاقتصادية الحرة, أن يزيد الحلف الجديد المعادي للأولغرشية من إجراءات "الدفاع الكافي" ويبدأ يضعِف السلطة الاقتصادية حتى ضمن حدودها الشرعية.

تتسم الأسئلة الخاصة الناشئة بهذا الخصوص بأهمية خاصة: بأي الأنماط الأنثروبولوجية والاجتماعية سوف تتمثل "الأممية" الروحية والسياسية البديلة, وما هي الأشكال التنظيمية التي ستتخذها, وما أشكال التعاون الاجتماعي الجديدة التي ستقترحها على المجتمع بدلاً من التذرير الليبرالي الحالي.

وربما يكون الأمر الأكثر إمتاعاً هو: بأي وجهة سوف تدفع هذه النخبة العولمية المضادة الجديدة العملية المرتبطة بتشكل المجتمع المعلوماتي؟

إذا كان منتجو "الريع العقلي" الافتراضي الحاليين قد اعتكفوا في مجال الحسية المنفلتة ووسائل "الإرضاء الرمزي", فإن النخبة المضادة المقبلة سوف تتبنى على الأرجح معيار أعلى جودة فيزيائية وأخلاقية ممكنة ومعيار الجودة المتلائمة مع "مبدأ الواقعية", وليس مع مبدأ الإرضاء الذاتي.

إن حقبة قاسية ومأساوية تنتظرنا في المستقبل. احتاج الباحثون عن السلطة الاقتصادية المتحررة من الرقابة إلى أناس مخنثين, يفضلون الأحلام الافتراضية الزائفة على الواقعية الحياتية. أما الباحثون المقبلون عن السلطة الروحية والسياسية الكافية من أجل تحييد عدم إيماننا ولاإرادتنا, فسيحتاجون إلى أناس من نوع آخر – إلى أناس قادرين على أعلى درجات الانضباط الذاتي والتقشف والتضحية. هؤلاء الناس وحدهم قادرون على أن يبعثوا من جديد أوراسيانا المتجهمة والمقفرة . إن إنسان "المجتمع الاستهلاكي" المتراخي على الطريقة اللذوية غير قادر لا على العيش في أوراسيا الشمالية ولا على أن يحبها وأن يكون وفياً لها. لقد صار في زمننا إلى ذلك المهاجر الداخلي الذي ينتظر الفرصة المناسبة كي يغادرها إلى أماكن متخمة وأكثر دفئاً.

لكن هذا النمط الانحطاطي غير قادر على الوجود حتى في غير أوراسيا. إنه, عموماً, غير قادر على التواجد التاريخي المديد على كوكبنا. لذلك ينبغي الإقرار بأن ثورة الأمركة الأنثروبولوجية, التي نوت أن تغرس في كل مكان على الكوكب"النمط الليبرالي" باعتباره النمط السائد, ما هي إلا مغامرة قد باءت بالفشل. فعلى نطاق الكوكب يبدو محكوماً بالفناء نمط المهاجر الليبرالي, الميّال على نحو لامسؤول إلى مغادرة الفضاء, الذي لوثه هو, بحثاً عن أمكنة أفضل.

ثمة حاجة إلى نمط شخصية مختلف, متنبه للمسؤولية عن الكوكب. ولبناء مثل هذا النمط ثمة حاجة إلى سلطة روحية وسياسية كبيرة – أي إلى مدرسة التأهيل التقشفي الجديد. وهي كما هو واضح سوف تكون عولمية تحديداً, وبديلة للمركزية الأمريكية "الليبرالية" الحالية. يفترض هذا نقلاً جديداً لمركز العالم السياسي من القارة الأطلنطية إلى أوراسيا. إن جو التقشف هو بالمعنى الجيوسياسي جو قاري مختلف عن جو المحيطات. ففيه وحده يمكن تكوين الإنسان القادر على الوجود الأرضي المديد في عصرنا المثقل بالمشاكل العولمية الحادة. ولكي لا تتهرب البشرية من هذه المشكلات أو تؤجل حلها إلى مستقبل غير محدد فإنها تحتاج إلى السلطة الروحية والسياسية.

لن تُخضِع مثل هذه السلطةِ الأولغرشيةَ المتطرفةَ وشتى أنواع أنصار ممارسات الظل فقط. بل إنها مدعوة إلى صد ثأر الغريزة اللذوية في أرواحنا, وإلى إضفاء الصفة الاجتماعية من جديد على الناس الذين فروا من المجتمع سراً بكل ما فيه من شرائع أخلاقية ومدنية ولجأوا إلى غابة الداروينية الاجتماعية. يحتاج ثأر البداية الاجتماعية من الغرائز إلى السلطة الكبيرة. سوف تتمثل قاعدتها الاجتماعية في الفترة الأولى بملايين المذلين والمهانين, الذين لم يجدوا لأنفسهم مكاناً تحت شمس عالم القطب الواحد.

لكن قاعدتها السوسيوثقافية أوسع بكثير. يشكل هذه القاعدة كل من اكتفى انحطاطاً ووعى انعدام أفق الوجود الذي لا يستنير بنور الأفكار الأخلاقية الكبيرة.


 

([1]( - انظر الفصل الرابع: "البرجوازيون الجدد في العالم العولمي".

([2]( - جون مينارد كينز (1883 – 1946) إقتصادي إنكليزي, أسس النظرية الكينزية. أهم مؤلفاته "النظرية العامة في التشغيل الكامل والفائدة والنقود" (1936). (المترجم).

([3]) - Wade R. The coming birth over capifar flows. // Foreign policy. N. -Y., 1998 -99, 113. P. 46.

([4]( - أوردت الإحصائيات لعام 1985 أن قرابة 500 مليار روبل أي ما يقارب بالمكافئ الحالي المليار دولار كانت مسجلة على دفاتر التوفير.

([5]( - الكونفوشيوسية هي تعاليم أخلاقية سياسية في الصين. أسسها كونفوشيوس في القرن السادس ق. م. وكانت تدافع عن مصالح الأرستقراطية الوراثية, تعتبر سلطة الحاكم مقدسة, وأنها هبة من السماء, وأن تقسيم الناس إلى نبلاء وعاديين هو تجسيد لقانون العدالة الشامل. يرتكز البنيان الاجتماعي في الكونفوشيوسية على الكمال الخلقي والالتزام بمعايير الأخلاق. (المترجم).

([6]( - المقصود أسرة الرئيس بوريس يلتسين والمقربين منها (المترجم).

([7]( - معطيات المعهد الروسي المستقل للمسائل الاجتماعية والقومية.

([8]) - Eisenstadt S. N. Multiple Modernities in an Age of Globalisation. Jerusalem, The Herber University. 1998.

([9]( - اللوديتيون - على اسم الصانع نيد لود الذي كان, كما تقول الحكاية, أول من حطم آلة الحياكة الخاصة به احتجاجاً على تعسف رب عمله, واللوديتيون هم المشاركون في الاضطرابات التي حدثت في انكلترا ابتداءاً من الستينات في القرن الثامن عشر وحتى الثلاثينات من القرن التاسع عشر, احتجاجاً على استعمال الآلات وعلى الاستغلال الرأسمالي, وكانوا يدمرون الآلات في أثناء ذلك (المترجم).

 

 

 

 

السابق

 

آفاق ثورة الوعي القادمة

جورج زيمِّل ضد ماكس ويبر>>

نقد البرجزة ما بعد البنيوي - في خدمة البرجوازيين الجدد

الثورة الثقافية العولمية >>

الفصل الثالث  العولمة الأمريكية  >> 

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

 << تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا