كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

معايير (المجتمع المتحضر ) المزدوجة

ألكسندر بانارين *

 ترجمة : عياد عيد

تهدد العولمة, المرتكزة على ديسبورة الحيتان المالية الدولية التي لا وطن لها, العالمَ بالتراجع: في الاقتصاد – عن المبدأ الإنتاجي نحو مبدأ المضاربة وإعادة التوزيع, ومبدأ المراباة؛ وفي السياسة عن منظومة التوازن الدولي التعددية, المرتكزة على مبدأ السيادة الوطنية, نحو الإملاءات الوقحة من قبل أصحاب "القطبية الأحادية".

مع الاقتراب من تحليل النظريات المعاصرة للعولمة, ينبغي علينا أن ننجز جهوداً منهجية, تتعارض في بعض النواحي مع وصايا العلم في الفترة الكلاسيكية. تتلخص العقيدة المنهجية الكلاسيكية في أن علينا أن نكشف عن الموضوعي وراء الذاتي, وعن القوانين والنظريات القطعية وراء نزوات الإرادات المختلفة. على هذا الأساس تحديداً ترعرعت جبرية الزمن الحديث العلمية, التي أعلنت أن كل ما هو واقعي هو عقلاني, وكل ما يحدث هو مقدر ومبرم.

مهمتنا اليوم هي أن نجرد النوايا الشريرة للبربرية العولمية الجديدة من "أدلة براءتها" الموضوعية والقطعية, والكشف عن الهوائية الذاتية والنفعية هناك, حيث يدعوننا إلى أن نرى القدرية وحدها. للنظام العولمي, كما لكل شيء في العالم, أشكال وسيناريوهات بديلة؛ وتفرض هيبتنا الإنسانية علينا أن ندافع قدر المستطاع عن أكثرها إنسانية وأعدلها, وتفرض مواجهةَ حرص البربرية الجديدة, الساعية إلى امتلاك زمام العالم تحت شعار "لا قدر آخر".

الأهم من وجهة النظر الإيديولوجية هو إظهار العلاقة الحقيقية بين إيديولوجيا العولمة المتكونة وقيم الحداثة الكلاسيكية - أي الديمقراطية والمساواة والتقدم. لا زال العولميون المعاصرون يقسمون بهذه القيم, لكن لغتهم السرية الموجهة لجماعتهم, ترمز منذ زمن إلى شيء آخر: إنها ترمز إلى تمييز عنصري جديد وشامل بين الشعوب المقسومة إلى شعوب مختارة وشعوب منبوذة, إلى مركز قوي وأطراف لا حقوق لها. لقد غدا الإنجاز الأعظم للمذهب الإنساني المسيحي التنويري – أي مبدأ المصير الإنساني الواحد والمستقبل الواحد - مرفوضاً من قِبل العولميين المعاصرين, الذين, احتكاماً إلى كل شيء, يملؤهم الحزم على بناء المستقبل من أجل المختارين (من أجل "المليار الذهبي") من وراء ظهر الغالبية العالمثالثية المخدوعة والمحرومة.

وبما أن روسيا تدخل اليوم, وبكل وضوح, في عداد هذه الأغلبية مع كامل الفضاء ما بعد السوفييتي, فأمام من غيرنا, نحن الروس, تنتصب مهمة التفكير ببدائل تلك العولمة, التي تشاد اليوم على حسابنا وضدنا. لقد حرم العولميون دول العالم الثالث التقليدية من كل الآفاق التي هي, من حيث المبدأ, من حق كل إنسان على الأرض.

أما ما يخص "العالم الثاني" السابق, فإنهم لا يحرمونه فقط من كل ما هو ممكن من حيث المبدأ, بل ومن كل ما تم إنجازه على أرض الواقع عبر التحديث والتصنيع والتنوير الجماهيري. إنهم لا يحرموننا فقط من آفاق التحديث اللاحق, بل من كل ما أحرزناه في المراحل السابقة. ويعلنون لنا في أثناء ذلك أن تحولنا إلى طرف عالمي لا حقوق له ومستغَل ومهمته خدمة المختارين المحظوظين بالتقدم, محتوم بقوانين العولمة القطعية, ولا بديل عن ذلك. إننا بكشفنا, خلافاً لكل ما يقال, عن تلك البدائل المتلاشية في الواقع, لا ندافع وحسب عن كرامتنا الإنسانية وحقنا بالمستقبل, بل ندافع بذلك أيضاً عن المنجزات العظيمة لعصر الحداثة الرائع, من غير أن نسمح للعنصرية الجديدة, التي تعتنق منذ الآن المبدأ المريب "التقدم من أجل القلة", بأن تسلبها.

لا يمكن أن يبقى لدى أحد أدنى شك في أن التقدم إذا ما تحول فعلاً إلى احتكار الأقلية المختارة, سيُدفن عاجلاً أم آجلاً من قبل الأغلبية الساخطة. وسيكون على الحداثة إما أن تؤكد في الظروف الجديدة طابعها العمومي المتاح فعلاً لشعوب الأرض قاطبةً, أو أن تُدفن تحت أمواج البربرية الجديدة وصراع الكل مع الكل.

لزاماً علينا الاعتراف بأننا نتعامل اليوم مع أحابيل العولمة غير النزيهة والزاحفة نحونا بمعاييرها المزدوجة. كان العولميون الأصلاء ورثةَ الكلاسيكية الإنسانية الذين تحدثوا عن مشروع التنوير الواحد للجميع, أو عن المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي الواحد, وباختصار – عن الأفق التاريخي الواحد للإنسانية جمعاء, مترقية معاً من مرتبةٍ من مراتب التطور إلى مرتبةٍ جديدة. إن أفق الإنسانية التاريخي الواحد هذا هو تحديداً ما يشجبه العولميون المعاصرون بصراحة متزايدة أكثر فأكثر. يستعمل بعضهم في أثناء ذلك الحجج البيئية: موارد الأرض لا تكفي الجميع, وإذا ما اتبعت فعلاً أغلبية الكوكب المتخلفة معايير حياة الأقلية المتطورة جداً فإن هذا الكوكب سينفجر من فرط الإجهاد البيئي.

ويتسلح الآخرون باستقصاءات الأنثروبولوجيا الثقافية, ويُصرّون على تميُّز العقلية الأوربية النوعي عن العقليات الأخرى مجتمعة؛ ويبدو التقدم من وجهة النظر هذه لا كنتاج للتطور الإنساني العام بل كاحتكار أزلي للحضارة الغربية, التي ولَّدت مثل هذه الظاهرة الفذة والفريدة وغير المتاحة للآخرين. عند ذلك, تتكشف لنا على شكل جرعات العنصرية الباطنية, التي أخفت وجهها حتى وقت قريب. إنهم يقنعوننا بأن الإنسانية لا تستطيع السير عبر طرق عديدة نحو المستقبل الواحد - لا تقود إليه سوى تلك الطريق المرسومة من أجل الحضارة الغربية. أما ممثلو الحضارات والثقافات الأخرى فما هم, في أحسن الأحوال, سوى مقلدين للتطور الغربي, وليسوا مبدعين له. مع العلم أن هذا التقليد, كما يؤكدون, يعطي نتائج أسوأ فأسوأ, وفي النهاية لا مفر من أن تتكشف تلك الحقيقة المثبطة, وهي أن الشذوذ الطبيعي للعقليات غير الغربية (وجميع العقليات غير الغربية تعتبر شاذة) لا يمكن علاجه بالتنوير. مهما نورت أولئك "السكان الأصليين([1])" فإن الموروث سيطغى, وستذهب جهود المبشرين هباء.

سيقول القارئ: رحماكم, فما الذي بقي إذن من فلسفة عالم العولمة؟ وهنا بيت القصيد, إذ ينتج من هذا أن "العولمة" أحادية الجانب ومتحيزة على نحو يثير الشك. إن العولميين الغربيين ووكالاتهم الكومبرادورية في الأماكن مهتمون بأمر وحيد: أن تصير موارد العالم كلها "عولمية" في أسرع وقت, أي متاحة "للمليار الذهبي". وما يسمونه "المجتمع المفتوح" العولمي أو السوق العولمية, يعني تحريم "إخفاء" الموارد الوطنية عن المنافسة العولمية, التي تهدف في النهاية إلى نقل هذه الموارد من أيدي أولئك الذين يستغلونها استغلالاً سيئاً إلى أيدي من هم أكثر مهارة. طبعاً, إن نطاق أولئك المهرة اليوم محدد بالمنتصرين في المباراة الاقتصادية العالمية (إنهم, هم أنفسهم, المنتصرون في "الحرب الباردة").

__________________

 

أما عولميونا فيُبرِزون من كل محتوى العولمة المدرَك جانباً واحداً هو وضع موارد الكوكب في متناول المتوجين في المباراة العالمية. إنهم يتحدثون, بهذا الخصوص, عن ما يسمى منظومة التعاملات أو منظومة التحويل الحر. وهذا كله يعني وضع إجراءات تؤمن, أولاً, الحد الأقصى من القدرة على تحريك موارد الأرض, وثانياً تأمين نقلها من غير عوائق من حوزة "غير المؤهلين" نحو السوق العالمية – إلى "المؤهلين", ومن حوزة "غير المهرة" إلى "المهرة".

يجري أولاً فصل رأس المال الممول عن رأس المال الصناعي, الذي يرون خصوصيته السلفية في بقائه مرتبطاً بالمحلية وبالفضاء القومي. وثانياً - إضعاف السيادات الوطنية الشامل, فتفقد المقدرة على حماية مواردها من نهب الحيتان الدوليين, وحماية اقتصادها الوطني من الدمار من قبل العولميين المضاربين بالأموال. لقد أطلق العولميون حالياً دعاية لم يسبق لها مثيل من حيث القوة في سعيهم إلى التشهير بالسيادات الوطنية, التي تعيق إعادة توزيع الموارد العولمي لصالح الأقلية "الماهرة", وأحد أهم اتجاهات هذه الدعاية هو فضح عدم الفاعلية الاقتصادية الجوهرية والمخاطر البيئية لبرامج التنمية الوطنية في المناطق غير الواقعة ضمن نطاق "المليار الذهبي". لقد وضعت موضوعة التبذير البيئي المدمر وتبديد المواد الأولية والطاقة من قبل الاقتصاديات الوطنية اللاغربية في مركز الاهتمام باعتبارها بدهية من بدهيات العولمة المعاصرة, التي لا يمكن أن يشكك بها أحد سوى الرجعيين الظلاميين وسيئي النية.

الاتجاه الثاني مرتبط في الواقع بعدم الأهلية السياسية للسيادات الوطنية. إذ يجري الترويج لموضوعة عدم المقدرة الجوهرية للحكومات الوطنية, التي لا تبحث لها عن غطاء لدى أصحاب منظومة القطبية الأحادية, على معالجة الفوضى السياسية - الإرهاب والحروب الإثنية والأصولية الدينية المتطرفة والتطرف القومي. كلما كان تعداد أولئك المتطرفين جميعاً أوضح ازداد استياء "المجتمع العولمي" من كل أولئك غير القادرين على فرض النظام المتحضر لديهم, ويمنعون غيرهم, من فعل ذلك.

صار يتضح أن من مصلحة "العولميين", وبغض النظر عن خطابيتهم, تقويض النظام في فضاء الدول الوطنية. ومن هنا تنبع متناقضات "المجتمع المتحضر" المدهشة ومعاييره المزدوجة, التي نشهدها اليوم. ونتساءل ما الذي يمكن أن يكون أشد ذمامة من السلفية العشائرية لزعامة "الاستقلاليين" الطموحة, التي حطمت الفضاءات القومية الضخمة الموحدة – وهي الشرط المختبَر من أجل التقدم - واستبدلت بها سيادات إثنية ممسوخة؟

بهذا تصير مفهومة غرائب العولميين الذين لا يقفون أمام شيء في سبيل تحطيم منجزات الحداثة نهائياً على صعيد الأمم الكبيرة لصالح الانفصالية القبلية والتطرف, هذا التحطيم الذي نلحظه في الفضاء ما بعد السوفييتي وفي يوغسلافيا, والذي سرعان ما سنلحظه, على الأرجح, في الصين و الهند. يتلخص الأمر في أن الأمم الموحدة الضخمة قادرة على أن تصير عائقاً في وجه الساعين إلى السلطة العولمية على العالم؛ لهذا تحديداً يتحالفون مع ناشطي الانفصاليين الإثنيين ويمولونهم.

وهكذا, نقترب من فهم جوهر العولمة الحالية الحقيقي. إن أصحابها في الغرب - هم في الحقيقة أولئك الريفيون الإثنيون, الذين يرفضون مستقبل البشرية؛ وعولمتهم لا تسير أبعد من الاستحواذ على موارد الأرض من قبل الأقلية "المختارة" الجشعة, التي تعتبر سواها من البشر غير جديرين بهذه الثروة.

الموارد العولمية من أجل مصالح الأقلية الأنانية الضيقة – هذه هي العقيدة الحقيقية لـ " العولمة", التي يدور الحديث عنها هنا.

 

الفصل التالي

>>    (الحُجاج) و(السيّاح) \ منظمو العولمة (السرّيون )

 عودة الى الفصل الأول محتالو ( الأممية الجديدة ) ونصّابوها >>

 


(1)  يستخدم المؤلف مصطلح السكان الأصليين هنا ولاحقاً للدلالة على النظرة الفوقية التي تنظر بها النخب إلى شعوبها, كما

 

 كان ينظر مكتشفو القارة الأمريكية إلى سكانها الأصليين (المترجم).

 

 

* ألكسندر بانارين

 

في 25 أيلول من عام 2003 رحل عن هذه الدنيا ألكسندر سيرغييفيتش بانارين الفيلسوف الروسي البارز وعالم السياسة ورئيس قسم العلوم السياسية النظرية في كلية الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية الشهيرة.

ولد ألكسندر بانارين في 26 كانون الأول من عام 1940 في منطقة دونيتسك (أوكرانيا), وأنهى عام 1966 كلية الفلسفة في جامعة موسكو, ثم الدراسات العليا في الاختصاص نفسه عام 1971. رأس منذ عام 1984 قسم الفلسفة الاجتماعية في معهد الفلسفة في أكاديمية العلوم الروسية, ثم صار منذ عام 1992 بروفسوراً في كلية الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية, ومن ثم صار رئيساً لقسم العلوم السياسية في الكلية ابتداءً من عام 1993. لقد بقي ألكسندر بانارين زمناً طويلاً محروماً من إمكان العمل بكامل طاقته في الحقل العلمي, ولم تتكشف موهبته كعالم وكاتب إلا في التسعينات, حين وضع سلسلة من البحوث العلمية (المونوغراف) التي كرسها لدراسة العمليات الحضارية العولمية ودراسة التماثل الحضاري الروسي. من بين هذه الأعمال: كتاب فلسفة السياسة (1996), وكتاب ثأر التاريخ: المبادرة الروسية الإستراتيجية للقرن الواحد والعشرين (1998), الذي منح جائزة لومونوسوف من الدرجة الثانية؛ وكتاب المثقفون الروس في الحربين العالميتين وفي ثورات القرن العشرين
(1998)؛ وكتاب التنبؤ السياسي العولمي في ظروف عدم الاستقرار الإستراتيجي (1999), وكتاب روسيا في دورات التاريخ العالمي (1999)؛ وكتاب البديل الروسي (2000)؛ وكتاب الإغواء بالعولمة (2000)؛ وكتاب الحضارة الأرثوذوكسية في العالم العولمي (2001).

منح بانارين عام 2002 جائزة سولجينيتسين, واختير عضواً فاعلاً في أكاديمية العلوم الإنسانية, وأكاديمية العلوم السياسية, وعضواً في أكاديمية العلوم في نيويورك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا