كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

 (الحُجاج) و(السيّاح)

 

ألكسندر بانارين *

 ترجمة : عياد عيد

لكن للعولمة أيضاً مُرَكِّبَة أخرى تحدِّد بعدها "الإنساني". يدور الحديث عن فلسفة ما بعد الحداثة. يجري اليوم إبراز نتائج "الحرب الباردة" في أغلب الأحوال على أنها انتصار لليبرالية على الشيوعية. لكن إذا كان في الإمكان أن يدور الحديث هنا عن الليبرالية, فإنه سيدور فقط حول ما بعد الحداثة "المعاد بناؤها", والأدق, حول ما بعد الحداثة "مفككة البنية". فإلام يُرجَع هذا التفكيك؟

يدور الحديث في المقام الأول عن التدمير المقصود لمشروع التنوير السوسيوثقافي الهائل, المرتبط بإنشاء فضاء كبير موحد وزمن تاريخي كبير ذي توجه موحد. لقد عرف الجميع في إوار "الحرب الباردة" أن ثمة مشروعين كبيرين يتصادمان فيها, وقد ولد كل منهما من التنوير الأوربي, من الحداثة. لقد تكلم المشتركون في الصراع بلغة التنوير الواحدة؛ كان الناس في كل قارة - في أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا يوازنون بين المشروعين, الشيوعي والليبرالي(الرأسمالي), المتصادمين في ميدان سوسيوثقافي واحد. لقد دار الحديث لا عن اختلاف الأهداف, بل عن الفهم المختلف لطرق الوصول إليها. أما الأهداف المعلنة فكانت واحدة: الحرية, المساواة, التنوير, الحراك الاجتماعي الشاقولي وغير ذلك.

بدأت فلسفة ما بعد الحداثة تحطيمها للغة الثقافة الواحدة مع تحطيمها للفضاء الواحد. منذ ظهور الحيوان العاقل لم يشك أحد في أن نوعاً إنسانياً وحيداً يقطن الأرض, يمكن أن يتميز في داخله بعلامات عرقية وإثنية, لكن هذا لا يؤثر كثيراً على وحدته الجوهرية. وها هم ما بعد الحداثويين, مستغلين مقولة تعددية الثقافات, وقد صاروا يتكلمون على تعدد الأنواع البشرية أو الفضاءات السوسيوثقافية التي لا لغة أو أفكار مشتركة بينها.

في مثل هذا السياق ما عادت الاشتراكية, مثلاً, تبدو كشكل مختلف للمشروع الحداثوي (التاريخي), قادر على إلهام الناس في أي قارة, بل صار يبدو كخصوصية غير مأنوسة لثقافة "السكان الأصليين" الروسية. ومن المفيد أن نستعين, من أجل الموازنة بين النظرتين الكلاسيكية وما بعد الحداثوية إلى الأشياء, باستعارات من أحد أشهر دعاة ما بعد الحداثة وهو زبيغنيف باومان([1]).

 يقول باومان إن في الإمكان تشبيه ثقافة الحداثة بشخصية الحاج, وثقافة ما بعد الحداثة بشخصية السائح. إن وعي الحاج مركزي التوجه: أينما وجد فإن طريقه إلى مكة أو هيروشليم يعني أن مكان إقامته الدائم ومركز العالم المقدس هو جوهر نقطة الفضاء التراتبي المنظم الواحد, الذي يعطي حياتنا معناها الأسمى. يسير الحاج لا ليمتع ناظريه بالمعالم, بل ليؤكد خضوعه للقيم الواحدة, التي لا يمكن للبعد المكاني أن يضعفها.

أما السائح فيسلك سلوكاً مختلفاً باعتباره شخصية مركزية لعصر ما بعد الحداثة. إنه يعبر القارات راغباً في تذوق الغرائب الثقافية, التي ليست أكثر من مثيرة للفضول. هنا لا يجوز افتراض وجود خضوع لتلك القوى والقيم التي يفيض بها وسط الثقافات الأخرى. بل على العكس, إن الإحساس بالاغتراب عن تلك القوى والقيم, أي إدراك شعور المراقب الحر أو البطالين أو المقلدين المتدللين, يشكل المتعة الرئيسية للسياحة. لا يبحث السائح عن الفكرة الواحدة؛ بل على العكس, إنه يعبر حدود الثقافات المختلفة متوقعاً أن يرى كل مرة ما هو مختلف اختلافاً مبدئياً, وما لم يره من قبل. كلما ازداد تجزؤ ميدان العالم السوسيوثقافي ازداد حبور السائح. ستلائمه الموزايكية الكاملة للعالم, المأهول بأنواع بشرية مختلفة.

على هذه اللوحة تحديداً تصر فلسفة ما بعد الحداثة. إننا هنا نصطدم بالمفارقة ذاتها التي ذكرناها أعلاه. فشخصية الحاج, السلفية منذ الآن, كانت أقرب على نحو لا يقارن إلى العولمة الأصيلة من شخصية سائح ما بعد الحداثة. لقد آمن الحاج إيماناً مقدساً بوحدة النوع البشري وبوحدة العالم, ولهذا كان مستعداً للجدال حول القيم. في الواقع: إذا كان الحديث يدور عن الفضاء الواحد الذي سيعيش الجميع فيه, فإن الأمر يستحق الموازنة بين المشاريع والقيم المختلفة بهدف انتقاء الأفضل للبشرية كلها.

السائح يرفض النقاش لأنه مستعد لأن يصدق أن كوكبنا مأهول بأنواع بشرية مختلفة, كل منها "ممتع بأسلوبه الخاص" وجيد في مكانه. ليس مصادفة أن الوعي الذاتي لعصر الحداثة استند إلى الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع - هذين العلمين اللذين يشدان نحو التقدم الشامل الواحد. أما وعي ما بعد الحداثة الذاتي فيتشكل مرتكزاً إلى الأنثروبولوجيا وعلم الأعراق – العلمين اللذين يؤكدان على تجزؤ الحقل السوسيوثقافي للبشرية.

 

إن ما يكتسب الأهمية الحقيقية هو أي وضع أنثروبولوجي نمنحه للفروقات الثقافية. فإن لم نفقد من وراء هذه الفروقات وحدة الجنس البشري المبدئية, ووحدة الأفق التاريخي فهذا أمر, والأمر الآخر هو أن نتحول, على نحو لا نلحظه, إلى "عنصريين حسني النية" وأصحاب مذهب ثقافي يشجب وحدة البشرية بحجة احترام التعددية السوسيوثقافية. إن السفسطات الخطيرة لما بعد الحداثة موجهة من أجل استبدال المصطلحات والمعاني: صار اختلاف الإيديولوجيات, التي خرجت جميعاً من جذر واحد – من التنوير الأوربي, تكتسب منذ الآن معنى "ثقافي – أنثربولوجي", يفترض عدم اجتماعها المبدئي.

يُعتبر الكثيرون منا اليوم ضحايا لهذا التزوير السفسطائي. وهذا يتعلق خصوصاً بظاهرة الشمولية. لقد فهم أسلافنا, الذين لم يَخبروا دروس ما بعد الحداثة, فهماً جيداً أن الاتحاد السوفييتي قد بني على المشروع الذي اتحدت فيه تعاليم مور وكامبانيلا وأوين وسان سيمون وماركس ولاسال. لقد وحدتهم جميعهم فكرة المجتمع المنظم عقلانياً, والمنتصر على نزوات الطبيعة والتاريخ.

لكن اليوم, حين يناقش المنظرون والناشرون "الليبراليون" الشمولية, فإنهم يرتكزون على الجذور "السكانية الأصلية" – أي على تقاليد المشاعية الروسية, وعلى نزوات الذهنية القومية غير القابلة للانصلاح, وباختصار, على خصوصيات طبيعة الإنسان الروسي. وما دام الأمر كذلك فسيبرز خياران لا ثالث لهما: إما أن نقبل جبرياً الشمولية الروسية على أنها خصوصية "طبيعية" من خصائص الثقافة المعنية, وإما أن ندمر هذه الشمولية والروس معها باعتبارهم حاملين عضويين لها. إن الوعي النابض ضمن حدود هذين الخيارين خطير للغاية, خصوصاً إذا شعر أصحابه بأنهم منتصرون في "الحرب الباردة", وأن كل شيء مسموح لهم منذ الآن.

 


 

 منظمو العولمة (السرّيون )

 

يتعلق الجديد الجوهري الآخر لما بعد الحداثة بمسألة وحدة الزمن التاريخي. لقد مسَّ انقلابُ المسيحية الأنتولوجي المرتبط بوضع لوحة جديدة للعالم, فهمَ الزمن التاريخي بالدرجة الأولى. كان فهم الوثنية للعالم يمتاز بالتصورات الطبيعاوية (2), حول دورات الزمن, التي تذكر بتبدل أوقات السنة أو أطوار الحياة (الولادة ثم النضج ثم الشيخوخة ثم الموت).

ارتبط الانقلاب التوحيدي بالإيمان بأن أهداف الكون محددة بالإله الواحد. عندئذ يكتسب التاريخ اتجاهاً صارماً: ينشأ شعاع (3) الزمن الممتد من نقطة الانطلاق باتجاه أفق ما منشود – هو النهاية المولدة للفكر.

لقد جادل التنوير المسيحية في كل شيء, لكنه حافظ على أحكامها المتعلقة بفكرة الزمن التاريخي السائر في الاتجاه المعطى. لقد آبت مشاريع التنوير الإيديولوجية كلها, على هذا النحو أو ذاك, إلى المشروع المسيحي الوحيد – إلى امتلاك البشرية لأرض الميعاد, التي هي منتهى الترحال التاريخي المستمر منذ آلاف السنين.

ويشاء القدر أن يمحص, بالدرجة الأولى, الفلاسفة الفرنسيون مسألة شرعية نهاية التاريخ في عصرنا ما بعد الديني. إن هذا التوجه سرعان ما صار محدداً بحوار الثقافة الفرنسية مع الثقافة الروسية. وتفسِّر إلى حد كبير الجديةُ المأساوية لهذه الأخيرة, التي لا تسمح بتحويل الأفكار الكبيرة إلى لعبة أو محض تقليد, حقيقةً أن الروس تحديداً هم أول من جرّب حقاً تحويل أكثر مشاريع الحداثة الأوربية إغراءً إلى واقع. وإذا كانت الفلسفة الأنكلو – أمريكية, بحكم بعدها النسبي عن الحماسات القارية, لا تزال قادرة على وصف "الاشتراكية الواقعية" بالطرق المصلحية الثقافاوية على أنها ظاهرة إثنية روسية غريبة, فما بال الفرنسيين, الذين لمسوا جيداً قَرَابة مقاصد التنوير العامة, يفعلون ذلك.

 

 

وبالأخص, لم يحاول جان بول سارتر أن يفسر دراما الاشتراكية الواقعية إثنياً – باعتبارها دراما روسية, بل أنتولوجياً – باعتبارها صراع أفكار جوهري مع الواقع الخامل, الذي يشوه نقاء المعنى الابتدائي. فمع "موت الله" يحدث لدى سارتر أيضاً موت العالم المادي الخارجي: لن يلوح فيه منذ الآن المعنى السامي, لن تكون فيه أي ضمانات أنتولوجية. يصير العالم الخارجي عديم المعنى, لكن هذا لا يعد تبرئة لنا على تقاعسنا عن الفعل. إن واجب الإنسان هو أن ينفذ مشروعه في تنظيم الحياة بغض النظر عن فقدان الضمانات الميتافيزيقية السامية, المرتبطة بمشاركة النظام الحياتي ذاته في آمالنا المضيئة.

إن تبرير أفكارنا ليس محدداً أنتولوجياً, بل أنثروبولوجيا: إننا نظل أوفياء لمشروعنا ليس لأن بنية الحياة ذاتها تعدنا بإمكان تنفيذه, بل لكي ننقذ أرواحنا في العالم الذي لا معنى له. إن سارتر يلقي بهذا تحديداً الضوء على مرض "الأصولية الإيديولوجية" الغامض, والمميز للفرنسيين والروس معاً, والذي يصاب به الملحدون أكثر من المؤمنين. فالمؤمن يستطيع الاتكال على الله, ولا يستعجل سير التاريخ, لكن الملحد لم يوهب هذه السكينة - من هنا قلقه الذي يميزه, و"قلة صبر قلبه".

المرة الأخيرة التي شعر بها الفرنسيون بـ "قلة صبر القلب" الثورية هذه كانت في أيار – حزيران من عام 1968 - في أثناء العصيان الشبابي الشهير. حينذاك قرر الطلاب العصاة, بالطريقة السارترية الخالصة, أن لا يقيموا وزناً للواقعية طبقاً لمقولة "كونوا واقعيين وطالبوا بالمستحيل!". لقد أعرضوا عن الاقتصاد السياسي كنظرية ثورية, فهو يستند إلى المقدمات الموضوعية للثورة, وبذلك يعتدي على حرية إبداعنا في التاريخ.

في مقدورنا أن نشجب قدر ما نشاء طوباوية الطلبة السوربونيين المنتفضين وتطرفهم, لكن يبدو اليوم واضحاً أن هذه كانت آخر محاولة للحفاظ على عموميات الحداثة بضم "اليساريين الجدد" في العالم كله في وحدة اندفاع ما بعد شيوعي وما بعد رأسمالي. لقد رأى "اليساريون الجدد" في الشرق والغرب عالماً واحداً قابعاً في الشر, عالماَ يعاني من العيوب ذاتها, عالماً شمولياً وتنكيلياً. وقد اختلفت أشكال هذا التنكيل في الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي كما يختلف الإرهاب المباشر عن غسيل الأدمغة الاحتيالي. لكن الهدف نفسه: نزع التوق إلى المشاريع التحررية العظيمة منا, وإجبارنا على احترام الوضع الراهن.

حين كان الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي يخوضان "الحرب الباردة" في ما بينهما, كان "اليساريون الجدد" ممتلئين عزماً على فض هذا النزال المزيف بين شكلي "المجتمع الشمولي الواحد" والاستعاضة عنه بمشروع جديد واحد ما بعد شمولي. كان في سعي "اليساريين الجدد" هذا طاقة ذلك النبض التحرري السابق, الذي ميز ولادة الحداثة.

في تلك اللحظة ذاتها جاءت ردة الفعل ما بعد الحداثوية. لقد وضعت من جهة إستراتيجية التفسير الثقافي الأنثروبولوجي أو الإثنوغرافي لـ "الشيوعية الروسية". وقرر التضامن المتبادل المناهض للاستبداد بين محبي الحرية في الغرب والشرق تغيير ذلك الاحتقار المتكبر من قِبل الغرب الموفق نحو الشرق الشيوعي الغريب و"المنحوس على نحو عجيب". ولهذا كانوا يحتاجون إلى الإعلان عن شمولية المرض القومي الروسي.

من جهة أخرى قامت الإستراتيجية على وجوب تبريد, مرة وإلى الأبد, الخيال الثوري عموماً لواضعي أي مشاريع تحررية كانت, وذلك بالإعلان عن تقادم التخطيط التاريخي من حيث المبدأ. إذا كنا تحدثنا سابقاً عن التدمير ما بعد الحداثوي للفضاء الكبير الواحد, المستبدل بـ "موزاييك الثقافات" فإن حديثنا هنا يدور عن تحطيم الزمن التاريخي الكبير, الذي يربط بداية الدراما الإنسانية ونهايتها على الأرض.

لقد أبقت الوجودية الملحدة, وهي آخر تعبير للحداثة عن الذات, على فرصة لمحبي الحرية العنيدين الخارجين من التنوير, حتى بعد إعلانها أن العالم الخارجي لا معنى له. لقد طلبت منهم الإخلاص لمشروعهم بغض النظر عن صمت العالم الخارجي بعد موت الله الذي ما عاد يزرع الأمل فينا.

صار أتباع ما بعد الحداثة يعلنون الآن أن أي مشروع تاريخي هو حقد معاصر واعتداد بالنفس. وها نحن نحصل, عوضاً عن التاريخ المطعون بمخطط عام هو مشروع التحرر الواحد, على عدد لا حصر له من "التواريخ" ذات الاتجاهات المختلفة, والتي تعتبر في الواقع بنت يومها وتنتهي بانتهائه. منذ الآن صار من حق الإنسان أن يعيش لحظته من غير أن يثقل كاهله بالأهداف الكبيرة. هنا, خصوصاً, تكمن الليبرالية الجديدة, التي تحرر الإنسان من عبء المسؤولية التاريخية وما يرتبط بها من تضحية. يؤكد ليبراليو ما بعد الحداثة على تساوي أي فترات زمنية, ويقترحون علينا أن نغرق في موزاييكهم, تاركين جانباً كل اهتمام بمعنى الزمن الاجتماعي واتجاهه.

لقد تبين أن محاولة تحطيم الشعاع التاريخي في الثقافة هذه غير بريئة قط. في الواقع: ينبغي في هذه الحال الاعتراف بأن الممارسات كلها متساوية في القيمة ومتساوية في احتمال الوقوع. وتصير مفاهيم المنحط والسامي, المتحضر والبربري, المنتخب والبدائي غير ملائمة.

لقد حافظ شعاع الزمن التقدمي على نحو مخفي, كما تبين, على شفرته الأخلاقية التقليدية: تموضع المشكوك به اجتماعياً وأخلاقياً "في الأسفل", في الماضي, و بمقدار التقدم إلى الأعلى أُفسح المجال أكثر فأكثر للأعدل والأكثر كمالاً. أما بعد الوقاية ما بعد الحداثوية فيختفي في الثقافة الأسفل والأعلى. وسرعان ما سينعكس هذا في ممارساتنا العملية الاجتماعية والثقافية اليومية.

ليس مصادفة أن أتباع ما بعد الحداثة يثيرون اشمئزازنا على نحو منهجي من الخطاب الأخلاقي, ومن المحاكمات التقويمية. من هنا تأتي المتناقضات المُغِمَّة للعصر الليبرالي الجديد: - الحكام الليبراليون يتعاونون مع المافيات؛ المفكرون الليبراليون المستخفون بـ "تعاليم ماركس المتوحشة", الذي انتمى, في نهاية الأمر, إلى رعيل مفكري الحداثة العظام, يقبلون من غير أن يرف لهم جفن المسلسلات التلفزيونية الأشد وحشية وأفلام الرعب والأفلام السوداء والإباحية معبودة الجماهير. كنا حتى أمس أكثر تسلحاً بالمعايير التي تسمح لنا بالتفريق بين بضائع الاستهلاك الواسع والكلاسيكية السامية, بين القيم الأصيلة والمزيَّفات متدنية الجودة, بين الإلهام الإبداعي و"نشوة" المخدرات. وما بعد الحداثة تحطم هذه المعايير.

إن إحدى أكثر مفارقات ما بعد الحداثة إثارة للانطباعات هي أن النخبة العالمية "مواطني العالم" تتمتع بنفسية السّرية الطائفية, المنتزعة من المجتمع الطبيعي وكل نظراته الطبيعية وأخلاقه وفكره السليم. إن طائفيي ما بعد الحداثة يشعرون بأنفسهم مجرِّبين حرين في المجال الثقافي والأخلاقي, وغير مقيدين بقواعد "معيدي بناء" العالم. إنهم "سريون حقيقيون في المجال الأخلاقي, ويستمتعون بحريتهم من الأخلاق الإنسانية العادية. وقد وصف دوستويفسكي (4)  نفسية هذه السرية في "الشياطين": " قال شاتوف لستافروغين: - هل حقاً أنك أكدت أنك لا تعرف الفرق في الجمال بين أي شيء شهواني ووحشي وبين مأثرة ما حتى لو كانت التضحية بالحياة من أجل البشرية؟" (5)

ويكشف لنا دوستويفسكي بكلمات شاتوف سر هذه النسبية المعرفية الحدية: "لقد أضعتَ الفرق بين الشر والخير, لهذا ما عدت تعرف شعبك" (6).

إننا نتلمس هنا, كما أظن, إحدى النقاط المؤلمة لما بعد الحداثة العولمية, وإحدى عقدها العصبية. تعكس ما بعد الحداثة انقلاباً حقيقياً في الوضع السوسيوثقافي لفئة المثقفين (الإنتلجنسيا) وانقلاباً في صورة العالم لديها. لعبت فئة المثقفين في عصر الحداثة الكلاسيكية دور الكنيسة في العالم ما بعد الديني: كانت إلى جانب "الفقراء بالروح" ضد أسياد ذلك العالم, وكان إبداعها يحضِّر أرض ميعاد جديدة لأولئك الذين حرمهم الواقع اليومي من الأمل. في هذا تنعكس البينية الخاصة لعصر الحداثة, التي انتفضت ضد المسيحية لكنها ورثت حماسة الانبعاث لدى أتقيائها.

تعبِّر ما بعد الحداثة عن الطور الختامي التالي للتحول من الدين إلى الدنيا: الإبداع الذهني المحروم من أرض الميعاد, والذي لا يقيم وزناً إلا لمنطق الظروف الحاضرة وللحال الاجتماعية. صارت الإنتلجنسيا تنظر منذ الآن إلى واجباتها الاجتماعية والأخلاقية تجاه "الفقراء بالروح" على أنها نير أخلاقي لا يطاق, شبيه تماماً بالنير الإكليريكي في فجر الحداثة. لقد انتهى جدل المفكرين مع الأغنياء الذي استمر مائتي عام؛ وبدأ جدلهم مع الفقراء.

إن هذا الحقد, الذي يبدو ببساطة مَرَضياً, وهذا الاحتقار للفقراء والمظلومين وغير القابلين للتكيف يدخل في الواقع ضمن منطق التحول من الدين إلى الدنيا: إن خدمة المعوزين هي الدين الأخير الذي يقف على طريق تكوُّن الثقافة البراغماتية العلمانية الخالصة. لكن في لحظة هذا "التحرر من الخدمة" ذاتها تكتشف ثقافة النخبة الجديدة بطلانها التام, وتكتشف "مقصديتها". في الحقيقة إن جوهر هذا التفكيك ما بعد الحداثوي كله, وهذا الإنكار للكليات العضوية كله وهذا السعي إلى التفكيك واللصق والموزاييكية المخدرة كله ليس سوى إستراتيجية للتحرر من كل ما هو "محلي" لصالح كل ما هو "عولمي". النظرة التقنية باعتبارها منهجاً لتفكيك كل ما هو كلٌّ عضوي, والعولمة باعتبارها ابتعاداً منهجياً عن "المحلي", واللاأخلاق باعتبارها تحرراً من الواجب والخدمة الاجتماعيين هي ما ينتج عن القفزة ما بعد الحداثوية الحالية.

يرتبط بهذا أيضاً إنكار التاريخ والمذهب التاريخي. الخطاب الحداثوي عن المستقبل هو الشكل المعلمن لعدم قبول بَرَد الأرض بكل ما فيه من خطايا ونقائص. بالتضاد مع هذا يرفض ما بعد الحداثويين باحتقار كل "طوباويات المستقبل", مفضلين الانحلال في الحاضر. وإذا كان مختارو المستقبل هم "الفقراء بالروح" والمذلون والمهانون, فإن مختاري الحاضر هم, من غير شك, الأكثر قدرة على التكيُّف. إن مواجهة الحاضر بالمستقبل, والواقعية البراغماتية بالطوباويات, والقادرين على التكيف بغير القادرين على التكيف وبسيئي الطالع هي تحديداً مقصد الوعي ما بعد الحداثوي. تبرز العولمة على شكل مواجهة بين الأقلية المتمتعة بأعلى درجات سهولة الحركة, والأغلبية الخاملة, المقيدة بـ "حدود المكان". أن تكون نخبة اليوم فهذا معناه أن تكون رحالة لا يعترف بالتقييدات والقوانين المحلية.

باختصار, يتكشف عالم العولمة كعالم امتيازات ونخب. العولمة هي الامتياز, الذي تم عقد العزم على الدفاع عنه, بغض النظر عن أي حواجز. أما الحواجز فهي: الدولة الوطنية وأخلاق المسؤولية والخدمة الاجتماعية السابقة, وأخيراً, الشعب نفسه, الذي ليس لديه سوى بلد واحد هو بلده.

على هذا النحو تبدلت العلاقات بين الشعب والتقدم في أفق ما بعد الحداثة تبدلاً حاسماً. في السابق كانت خدمة التقدم تعني خدمة الشعب؛ أما الآن فيتعارض التقدم في "تجليه العولمي" مع الشعوب. وها نحن نصل إلى التعريف الجديد للعولمة: إنها عملية التحول إلى أممية النخب من وراء ظهر الشعوب, التي ما عادت تستطيع الاتكال على هذه النخب. كان التقدم يقاس في إطار الحداثة الكلاسيكية بمعايير الفضاء الكبير والزمن التاريخي الكبير - لقد مس مصائر الجماهير. أما العولمة الحالية فتعتبر طفيلية: إنها تسير على حساب تحطيم هذا الفضاء والزمن الكبيرين. تستحوذ النخب على العالم كله - متحررة من الروابط الوطنية والواجبات التي تقيدها. إنهم لا يستطيعون فعل ذلك إلا بالتدمير المنهجي للفضاءات والسيادات الوطنية. لكن تفكيك الدول الوطنية الكبيرة الواحدة يحرم الشعوب من الوطن الكبير الواحد, ويستبدل به مناطق محلية اسمية وإقليمية.

وهكذا فإن ثمن شراء فضاء النخبة العولمي هو تحطيم فضاءات الجماهير القومية الكبيرة. وكلما تعولمت النخب, "تجزَّأت" الجماهير, غارقةً في الانعزالية السلفية المحلية البدائية وفي العشائرية والاقتصاد العيني. لكن إذا كانت العولمة لعبةً ذات محصلة معدومة, وامتيازاً جديداً للأقلية النخبوية ثمنه تخلف الأغلبية وإرجاعها إلى قروسطية جديدة وإلى الانعزالية والبربرية, فإن من الضروري التفكير بالبدائل.

والبدائل تظهر حين نكشف من وراء النزعات التي تبدو "مبرمة" و"موضوعية" الإدعاءات الذاتية – الذاتية جداً - لأولئك الذين يستعجلون "خصخصة" التقدم, محولين إياه إلى امتياز. من غير فضح هذا الجانب الذاتي أي من غير الكشف عن "الأفكار" النفعية من وراء القوانين القطعية – يستحيل التأكيد على حقنا في خلق واقع أفضل من ذلك الذي يفرضونه علينا الآن.

هذا لا يعني أننا نقر "بنظرية المؤامرة". فهذه النظرية في التفسير العادي تقود إلى تأكيد المآرب الجاهزة نسبياً لأقليات تسعى إلى فرض سيناريوهاتها على العالم. أما في حقيقة الأمر فإن مجموعات مختلفة من هذه الأقلية تكشف تدريجاً أيضاً عن إمكاناتها و "تحررها" من الوسط المحيط – ويتم هذا في كثير من الأحيان بأشكال تذهلها هي ذاتها. لقد صارت العولمة كذلك محصلةً للانكشافات التدريجية لمجموعات المجتمع المختلفة صاحبة الامتيازات ومحصلة أيضاً لكشفها عن ذاتها؛ إن الأثر الإجمالي لهذه الانكشافات هو وحده الذي أعطانا بالمحصلة ظاهرة العولمة المتطفلة, المحفوفة بتخلف المجتمع المعاصر.

الصفة العامة لهذه المجموعات كلها, التي تفتح العالم العولمي من أجل نفسها في المقام الأول - هي نفسية الابتعاد عن وسطها القومي الخاص, والانقطاع عن تقاليده ومعاييره وقوانينه. بنتيجة ذلك صارت هذه المجموعات تتناسخ في ما بينها مشكلة مجمل العولمة الأممية. وكلما صار التعاون في ما بينها أوثق اكتسبت عملية العولمة طابعاً أشد تغلغلاً وصارت حظوظ الإبقاء على الرقابة الديمقراطية من الأسفل أقل. تعتبر عولمة الامتيازات هذه, التي تقوم على حساب تخلف الشعوب وتسطيح حياتها, التحدي الرئيسي في القرن الحادي والعشرين.

الرد المناسب على هذا التحدي يرتبط بالرقابة الديمقراطية على عملية العولمة. لقد تكونت ديمقراطيات الزمن الجديد على المستوى القومي؛ وهي تؤكد على الأشكال المختلفة للرقابة الشعبية على نشاط النخب صاحبة الامتيازات. اليوم, تبتعد النخب عن أشكال الرقابة الموجودة, "مهاجرة" إلى الأوساط فوق القومية. الرد على هذا ينبغي أن يكون بعولمة الديمقراطية ذاتها. إن على المنظومة الديمقراطية الجديدة أن تركز على مسائل الرقابة والاتصال المعاكس المتعلقة بالممارسات التي تقوم بها وتطورها النخب المعاصرة الأشد أمميةً. فالديمقراطية ليست بناءً تأملياً بل هي رد محدد على مشاكل محددة.

 

 

سنعالج هذا التحديد الجديد للديمقراطية المرتبط بتحديات العولمة في القسم الثاني من هذا العمل. أما القسم الأول فمخصص للتطور العولمي للمجموعات المختلفة في المجتمع المعاصر, الساعية إلى إضفاء الشكل المواتي لها على عملية العولمة. وكلما صارت جهود هذه المجموعات أشد نفعية وغير مسئولة اجتماعياً اكتسب رد الفعل الجماهيري على العولمة شكلاً أكثر حدةً وصار أبعد عن التوقع. أما أن رد الفعل هذا قادم لا محالة فهذا أمر لا شك فيه, بغض النظر عن جهود ما بعد الحداثويين كلها الهادفة إلى القضاء حتى على القدرة على تكوين مشاريع بديلة مناهضة للاستبداد.

تنحصر المشكلة في أي هيئة ستكون لردة الفعل - ولا يستبعد أن تتخذ شكل العصيان على عملية العولمة بحد ذاتها. إن هذا يتهدد البشرية بالعودة إلى البربرية. ينبغي ربط البديل العملي بالجهود الموجهة إلى دمقرطة عملية العولمة أي إلى تحويلها من لعبة ذات حصيلة معدومة, تصب في مصلحة أصحاب الامتيازات, إلى لعبة ذات حصيلة إيجابية, تكون الأغلبية فيها هي الرابحة.

يمكن التنبؤ بتقلبات الصراع المقبل فقط إذا ما بينّا لأنفسنا طبيعة وإمكانات النخب الساعية اليوم إلى "خصخصة " عملية العولمة. إن هذه النخب تشعر اليوم بأنها عميلة سرية للعولمة, ترتب أمورها من وراء ظهر الشعوب. إن نفسية هذه السرية تذكر بالشيطنة, الموصوفة من قبل دوستويفسكي في روايته الشهيرة. قد لا تكون البراغماتية الصفيقة والنفعية الصفتين الأشد خطراً في الشيطنة العولمية الحالية. بل إن ما يدعو إلى القلق الأكبر هو التكبر الشيطاني لأولئك السريين, الذين يتوهمون أنهم فوق البشر ولهم الحق في إقامة الاختبارات على الشعوب, وحتى على العالم كله.

 

بمقدار ازدياد " تباعدهم" عن الوسط الوطني, ينمو إحساسهم بـ "التبخر الحر" فوق العالم, فوق كل الذين "يعجون" في الأسفل. يحطم العولميون كل أشكال التنظيم القومي الذاتي المتكونة كي يبنوا من جديد في "المكان الفارغ" نظامهم العولمي. إن الثمن الذي يشترون به حريتهم هو التفكيك الشامل وزعزعة الأسس, وإقامة الفوضى العالمية كرمى لـ "نظامهم" الأوحد الذي يرونه هم.

"النظام من الفوضى", "إدارة الفوضى" – هذه أحدث المفردات اللغوية النخبوية ما بعد الحداثوية. لقد كشف دوستويفسكي عن خطر جدلية "منظمي العالم" السّريين الخطرة هذه. "... لأي هدف ارتُكب هذا الكم من القتل والمشاجرات والسفالات؟.. من أجل تفكيك المجتمع والبدايات كلها تفكيكاً منظماً؛ من أجل إحباط الجميع وطهي عصيدة من كل شيء, ثم توضع الأيدي فجاءة على المجتمع المضعضع بذلك, والمريض والمترهل, والمستهتر والكافر, لكن المتعطش أبداً إلى فكرة قائدة ما وإلى الحفاظ على ذاته..." (7)

زعزعة الاستقرار الشاملة هي اللعبة الإستراتيجية ما بعد الحداثوية لعملاء العولمة, الذين قرروا بالاتكال على أنفسهم إدارة الفوضى. بيد أن حضارتنا, لا بل كوكبنا كله, هشان جداً أمام مثل هذه الألعاب غير المسئولة. إن "التفكيك" الشامل قد لا ينتهي بإعادة بناء ناجحة. يفسَّر الحزم الأولي "لأنصار التفكيك", على ما بدا, برِهاناتهم على حرية الهجرة من الأماكن الخطرة إلى أماكن أكثر أمناً. لكن ليس للشعوب مكان تهاجر إليه. حتى أن العالم المعاصر يستحق أن يسمى عولمياً, لأنه صار ضيقاً على نحو غير عادي و مترابطاً في ما بينه على نحو غير مسبوق.

من خصائص وجودنا المؤسفة أن قدرة الفوضى على الانتشار العولمي تفوق بكثير قدرة النظام المبني عقلانياً على الانتشار. لهذا تعتبر حماية الأغلبية من التجارب العولمية غير المسئولة للنخب العالمية الجديدة المهمة الأكثر إلحاحاً في القريب العاجل.

إن مفهوم "التطور الراسخ", الذي لاقى صدى عالمياً بعد مؤتمر هيئة الأمم المتحدة حول البيئة والتطور (ريو دو جانيرو, 1992), يكتشف اليوم منحى غير متوقع. لقد تبين أن أحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار العولمي مرتبط بازدياد "تباعد" مراكز القرارات الدولية عن كل ما يسمى اليوم "الأغلبية الصامتة".

كلما اختبرَت النخبُ الدوليةُ الجديدةُ, "المبتعدةُ" عن الأغلبية وعن آمالها ومصالحها, بجرأة أكبر في مجالات الحياة المعاصرة المختلفة زاد عدم استقرار العالم المعاصر. ينبغي إقناع هؤلاء "المفككين" بالحجج الدامغة. تكفي في بعض الأحوال مساعدة النخب الجديدة على إدراكٍ أفضل لمصالحها الخاصة بعيدة المدى, وفي أحوال أخرى ينبغي مواجهتها بإرادة الأغلبية المنظمة في أشكال ديمقراطية. ويحاول كاتب هذه السطور الإشارة إلى الأشكال الممكنة لهذه الحال أو تلك.

<< الصفحة التالية  القسم الأول: عملاء العولمة

<< الفصل السابق  معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

 عودة الى الفصل الأول محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>


 

(1)   - باومان, من الحاج إلى السائح // المجلة الاجتماعية. 1995, عدد رقم 4.

 

(2)    - نسبة إلى مذهب الطبيعية (الناتوراليزم) (المترجم).

 

(3)    - بالمعنى الفيزيائي (المترجم).

 

(4)   - فيودور دوستويفسكي (1822 – 1881) الكاتب الروسي الكبير, الذي أنهى المدرسة الهندسية المتوسطة, ثم التحق

 

 بالجيش, وبعد أن تخرج برتبة ضابط استقال وتفرغ

 

 للعمل الأدبي. استهوته في بادئ الأمر الفكرة الاشتراكية, وانخرط في إحدى حلقات الاشتراكيين, فقبض عليه وحكم عليه

 

 بالإعدام, لكن العفو القيصري أدركه وهو على المقصلة

 

, واستبدل الحكم بالنفي. تحول في ما بعد حتى صار يعتبر أن منبع العدمية والليبرالية والإجرام والإدمان هو الإشتراكية لأنها

 

 تنكر وجود الله. أشهر أعماله "الجريمة والعقاب"

 

, الأخوة كرامازوف", "الأبله" (المترجم).

 

(5)   - فيودور دوستويفسكي. الأعمال الكاملة. في اثني عشر جزءاً. الجزء الثامن. موسكو 1982 ص 248.

 

 

(6)   - المرجع السابق. ص 249.

 

 

(7)   - ميخائيل دوستويفسكي, الأعمال الكاملة. الجزء 9, ص 207.

 

 

 

 

 

 

 

 

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا