القسم الأول: عملاء العولمة
... لكن ذلك الذي حرك البلدان
كلها مديراً العرائس
ومرسلاً الضباب الإنساني
هو الذي عرف ما فعل
ألكسندر بلوك.
فلنكن دقيقين منذ البداية: إننا نقصد هنا
العولمة بتجليها الذاتي – كسياسة ونفسية,
وباعتبارها أحد أحكام الإرادة والوعي,
المتعارضين تعارضاً موجَّهاً مع أساليب
الناس المعتادة في تقرير مصائرهم. يتولد
هذا الحكم على أرضية التباعد الفكري
والسوسيوثقافي لمجموعات اجتماعية محددة عن
وسط السكان الأصليين المحيط بها. بالتالي,
لا ينبغي البحث عن جذور العولمة بين
طليعيي التقدم, الذين يرثون أحكام التنوير
العمومية, المرتبطة باختراقات البشرية
الاقتصادية والتقنية العلمية
والسوسيوثقافية نحو المستقبل. الوعي
التنويري مفتوح للعالم, وهو قريب نوعاً ما
إلى الوعي التبشيري, الذي يميزه السعي
بأسرع وقت ممكن إلى إشراك الأغلبية غير
المتنورة بإيحاءات الديانة الجديدة. تتسم
التقاليد التنويرية بالطابع التشجيعي –
التفاؤلي للعلاقة مع الأغلبية, التي ستنهل
غداً من تراث التقدم وتغنيه باعتبارها
صاحبة حق فيه.
لقد عانت فكرة التقدم في أحيان غير نادرة
من عدم التسامح وحتى من التعصب, وكانت
مستعدة لاستخدام العنف بحق "مخربي"
التقدم. أما ما كان متنافياً معها تنافياً
مطلقاً فهو العنجهية العنصرية, والإحساس
بالذات كطائفة مختارين, يفترق مصيرهم
افتراقاً حاسماً عن مصير الأغلبية. لقد
تطورت الحضارة متخطية مطبات الانقسام
والطائفية, التي سقطت فيها, دورياً, بضع
مجموعات من المجتمع صاحبة الامتيازات.
المعايير هنا أحادية البعد: فحيث نتحدث عن
عموميات التقدم, المؤهلة كي تصير ملكية
عامة, تسود روح الانفتاح والوضوح التنويري
والتفاؤل. أما حيث يدور الكلام على
الاحتكار, الذي تتمنى الأقلية الحفاظ عليه
سراً عن "هذا" البلد و"هذا" الشعب فتسود
أخلاق المجتمعات السرية بمقاييسها
وحساباتها الغامضة.
إن مأساة التقدم الأوربي التاريخية نابعة
من أن الكثير من مقاصده وآماله المتعلقة
بغالبية السكان تفقد انفتاحها التنويري ما
إن تتخطى حدود المنطقة الأوربية. لقد
تعرضت الحركة الاشتراكية الديمقراطية لهذه
المأساة تحديداً حين صدرت إلى روسيا. لقد
توجهت الاشتراكية الديمقراطية الأوربية,
بكل شطحاتها الطوباوية, إلى غالبية السكان
البروليتارية. أما في روسيا فتحولت إلى
أحكام الأقلية المتعارضة مع غالبية البلاد
الفلاحية.
حين يصفون الحركة السرية الاشتراكية
الديمقراطية (حزب العمال الاشتراكي
الديمقراطي الروسي), ثم الشيوعية البلشفية
في روسيا فإنهم, عادة, يفسرون وضعها السري
بغياب الحقوق والحريات السياسية في النظام
القيصري. لكن هذه السرية في روسيا لم تبرز
كمعيار رقابي – بوليسي خصوصي, استدعاه وضع
المنع والتنكيل وحسب. بل اتخذت طابع
المعيار السوسيوثقافي, المتجلّي كحاجز بين
"الأممية البروليتارية" في روسيا وجماهير
السكان الأصليين الفلاحية, الغريبة عنها
بروحها وأهدافها وتقاليدها.
على هذا الأساس نشأت ظاهرة البلشفية – حزب
الأقلية, المستعدة لمحاربة شعبها,
باعتباره "حثالة" التقدم العالمي, والبحث
عن الخلفاء ليس في بلادها, بل على الأغلب
وسط "الأخوان بالطبقة" في أوربا.
حين استولى البلاشفة على السلطة في روسيا,
تكون في الحال, في إطار النظام الجديد,
وبطريقة كيستلرية()
خالصة, حزبان, داخلي وخارجي.
ضم الحزب "الخارجي" من يسمون سيور نقل
الحركة (المنظمات ذات الطابع "الوسيط",
التي وصلت بين الحزب والسكان غير
الحزبيين) وجهاز الدعاية الهائل, الذي
يمزج باطنية التعاليم البلشفية بالشعارات
المفهومة من قِبل الجميع, والمتعلقة
بأحكام الأخلاق التنويرية الإنجازية. أما
الحزب "الداخلي" فضم فئة المتنورين
الضيقة, الذين اتخذوا قرارهم وراء
الكواليس, والذين حافظوا بالكامل على
نفسية (سيكولوجية) السرية الطائفية, التي
اعتادت عدم الثقة ببلادها المقطونة, لسوء
الحظ, بشعب " ليس ذاك الشعب", بشعب غير
بروليتاري.
لقد شكلت ما تسمى "الدوائر" العمودَ
الفقري لهذا الحزب "الداخلي". وكان
التناقض, الذي ميز هذه الدوائر, في المزج
بين السلطة غير المحدودة عملياً والمحافظة
الشاملة على السرية خوفاً من بلادها التي
تنتمي إليها. والخوف طبقاً لقوانين علم
النفس يتحول, لا محالة, إلى حقد وانتقام.
كلما ازدادت المسافة الفاصلة بين عمل
الحزب "الداخلي " السري عن حياة الشعب
الطبيعية وعن عاداته الطبيعية اشتد الخوف,
واشتدت رفيقة دربه – القسوة. لقد أرادت
الأغلبية غير البروليتارية أن تمتلك أرضها
وتعمل فيها باستقلالية, وكما ينبغي - غير
أن كهنة التعاليم السامية اعتبروا ذلك
تفاهة تجديفية من قبل أناس, نشأوا على
"الماضي الملعون", وغير قادرين على السمو
نحو حقائق الماركسية العليا. أراد الناس
حياة طبيعية وأفراحاً طبيعية - لكن السرية
الكهنوتية راقبت مقطبةً تفتح هذه الحياة,
وهي على ثقة مسبقة بأنها ستثمر عساليج
ستضطر إلى اقتلاعها بغير رحمة.
وكما كتب فلاديمير إيليتش لينين(),
فإن الصراع البلشفي في روسيا يمر
بمرحلتين: الأولى, وهي الأسهل بغض النظر
عن قسوتها كلها, مرتبطة بـ "قمع مقاومة
المستغِلين" – أي الإقطاعيين
والبرجوازيين. والمرحلة الثانية, الأصعب
كثيراً والأوسع نطاقاً مرتبطة بالصراع مع
طبقة الفلاحين, التي تشكل غالبية الشعب.
كان القادة البلشفيون في المرحلة الأولى
لا يزالون يفكرون بالمعايير الكلاسيكية
للماركسية. أما في المرحلة الثانية
فاستوعبوا شيئاً فشيئاً المعايير
الحضارية, المتعلقة بمسائل الحاجز
السوسيوثقافي بين المشروع البروليتاري –
الشيوعي المأخوذ عن أوربا وخصوصية روسيا
باعتبارها قارّة حضارية متخلفة.
كان لعملية التصنيع البلشفية للبلاد,
إضافة إلى الأهداف البراغماتية المعلنة,
والموصفة بلغة التنوير المفهومة للجميع –
التطور, الرفاهية, القدرة الدفاعية
للبلاد, وما شابه – هدفاً رئيسياً خفياً
آخر, هو إعادة طحن الحضارة المحلية في
الأرحاء الحديدية لإعادة الهيكلة
الصناعية, وتحطيم عضوية الحياة السابقة
لصالح الميكانيكا الشاملة المنظمة
عقلانياً. على هذا النحو لم يدرك الحزب
"الداخلي" الفرق بين الأهداف السرية
للطائفة صاحبة السلطة وآمال الأغلبية
العادية, المرتبطة بالحياة اليومية
المبتذلة وحسب, بل أدرك أيضاً وجود الحاجز
الحضاري بين عضوية الحضارة الفلاحية
والمجتمع "المنظم مثل معمل صناعي واحد"
(فلاديمير إيليتش لينين).
فقط حين نستوضح هذا سنستطيع أن نفهم خلفية
الإبادة الجماعية البلشفية وأبعادها غير
المسبوقة. سيتضح الخطل البيِّن في المقولة
الستالينية عن تسريع الصراع الطبقي بمقدار
التقدم نحو الاشتراكية ما إن نفهم خلفية
التحدي البلشفي الحضارية: لم يدر الحديث
عن الحرب الطبقية ضد "حفنة المستغِلين"
وحسب, بل عن الحرب ضد الحضارة المحلية
أيضاً, ومع حاملة الذهنية القومية -
طبقة الفلاحين, والمثقفين وكل الناس الذين
وهِبوا ذاكرة ثقافية تاريخية قوية. لم
يقلصوا الأغلبية الفلاحية في البلاد
بالطرق المعتادة – التمدين والتصنيع -
وحسب, بل وبطريقة الخلاص من المادة
البشرية المشكوك بها عبر آلة الـ "غولاغ".
لن نستطيع تقويم التطرف الحقيقي كله في
فكر "السِّرية" البلشفية الحاكمة وفي
سلوكها, وخصوصاً حزبها "الداخلي", ما لم
ندرك انسلاخها عن روسيا على اعتبار أنها
أرخبيل حضاري عتيق. يكفي أن نحلل المعايير
التي تم وفاقاً لها تحديداً التخلص من إرث
روسيا القديمة الثقافي عبر هيئات الرقابة
البلشفية, كي نفهم أن الحديث لم يكن يدور
عن الصراع الطبقي بقدر ما كان يدور عن
تدمير نواة روسيا السوسيوثقافية باعتبارها
حضارة خاصة. لقد أحس البلاشفة بأنفسهم أول
الأمر, حين لم يكونوا قد فقدوا بعد الأمل
بالثورة البروليتارية العالمية, "طابوراً
خامساً" للبروليتاريا الغربية في روسيا,
ثم " طابوراً خامساً" للاشتراكية في بلد
فلاحيّ.
إذ نقوِّم آفاق هذه الأقلية الطائفية,
يستحيل علينا الهروب من خيارين لا ثالث
لهما: كان على الأقلية إما أن تتطبع في
"هذا" البلد – أي التليُّن التدريجي في
التعاليم الدوغمائية المتطرفة لصالح
الظروف والخصوصيات المحلية, وإما البحث عن
حليف قوي من الخارج, يمكن بمساعدته موازنة
قوى الطليعة الحاكمة مع قوى المقاومة
الحضارية المحلية.
ظلت الحكومة البلشفية, طوال الفترة التي
اعتبِر فيها الغرب حلفاً ليبرالياً
يسارياً, تمزج بين نقد الغرب البرجوازي
والأحكام القديمة للأممية الاشتراكية
والشيوعية. وكانت الموازنة دقيقة جداً: إذ
كان يعوض انعدام الثقة بأغلبية سكان
البلاد بالدعم الممنوح من قِبل الأوساط
الاجتماعية الغربية الطليعية؛ بينما يعوّض
النقص في ذلك الدعم نفسه بمحاولات نيل دعم
إضافي من الأغلبية.
لكن الانقلاب الفاشي في أوربا غيَّر الوضع
بحدة. واشتدت محاولات النظام البلشفي
التطبع مع الوسط المحلي القومي (والأدق –
الحضاري) على خلفية التحدي
القادم من الجانب.
لقد استرجِعت فوراً, تقريباً, الكلمات
التي كان يعتبرها الأمميون البروليتاريون
الحانقون في الأمس كلمات فاحشة, وتجليات
لعقيدة "الحرس الأبيض" كـ "الوطن",
"الوطنية", "إرث الأجداد العظيم",
"التقاليد الروسية القومية", وأدخلت في
مخزون الإيديولوجية الرسمية. لكن بمقدار
تطبع النظام الماركسي هذا في باطن الوسط
القومي والتقاليد القومية صار المراقبون
في الغرب ميالين أكثر فأكثر إلى مطابقة
الشيوعية السوفييتية بالإمبريالية
الروسية. لقد انقلب حلف النظام مع شعبه
إلى ابتعاد جديد عن "الأوساط الاجتماعية
الطليعية" الغربية.
ربما كان مصير النظام الشيوعي في روسيا
سيسير على نحو مغاير لو قدر له, حقاً, أن
يتشرعن – أي أن يتأقلم مع التقاليد
القومية الثقافية ويرتقي معها ارتقاءً
طبيعياً. لكن لن ننسى أن الأقلية البلشفية
جاءت إلى السلطة نتيجة انقلاب غير شرعي,
وعن طريق استخدامها المخادع لشعارات
الآخرين (الإيسيريين – الاشتراكيين
الثوريين), ومن ثم بنتيجة الحرب الأهلية
الدموية. لقد حدد ذلك كله مسبقاً ارتيابها
القاتل بشعبها, الذي لم تساو نفسها به قط.
لو كان هذا ابتعاداً عادياً للأغلبية
صاحبة الامتياز - الحال الأنموذجية لأي
مجتمع متمايز اجتماعياً - لما كان الوضع
بهذه الصعوبة. لكن الحديث دار عن ميزة أشد
إهلاكاً - عن نفسية (سيكولوجية) الأقلية
الطائفية, التي لا تعيش حياة قومية عادية,
بل وفاقاً "لكتاب" مكتوب في الخارج,
ووفاقاً لتعاليم مستعارة. لم تكن تفصل مثل
هذه الأقلية عن الأغلبية القومية حواجز
الملكية وحدها - كانت تعاديها ذهنية
الأغلبية وتقاليدها الثقافية, وكانت تخاف
من يقظة ذاكرتها وكرامتها الوطنيتين. كانت
هذه الأقلية تحتاج إلى تضامن حضاري من
الغرب؛ وحين كانت تفقده كان الأفق يزداد
ضبابية ويشتد الخوف من الوحدة. ينبغي
القول إن السلطة, في ظروف "الحرب الباردة"
التي قامت منذ نهاية الأربعينيات, صارت في
الغرب الرأسمالي وفي الشرق الشيوعي مرتبطة
أكثر فأكثر بوضع دولي معين. وهذا الوضع لم
يكن اقتصادياً قط, بل مسَّ مسألة الثقة
السياسية بالسكان.
التالي
>>
مفارقات الديمقراطية
<<
معايير
«المجتمع المتحضر» المزدوجة
محتالو
الأممية الجديدة
(العولمة ) ونصّابوها
>>