كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

مفارقات الديمقراطية

 

لقد مثل فعلياً أنموذجُ الديمقراطية الأمريكي, المتكوِّن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, ديمقراطيةَ الأقلية, التي كان حاملها الأنموذجي هو البروتستانتي الأبيض, صاحب الدار. كان على ما يسمى المشاركة السياسية
– أي أن تكون مسموع الرأي في عملية اتخاذ القرارات الاجتماعية الأهم -
أن تظل من نصيب الأقلية الميسورة حتى تظل الديمقراطية مستقرة.

اختصاراً, مفارقة الديمقراطية هي أنها تأسست على المشاركة السياسية من قبل أولئك الذين في مقدورهم أن لا يشاركوا بها, وأولئك الذين يناسبهم تماماً الوضع الراهن المتكون. وحين صار غير المحظوظين اجتماعياً, والمتذمرين يتقدمون لهذه المشاركة بدأ الاستقرار السياسي يتأرجح.

وجاءت "الحرب الباردة" في وقتها: ففي ظروفها حاذت الفئات الحاكمة على إخلاص المواطنين ليس بجعلهم يفتتنون بمثالها, بقدر ما حاذت عليه بإخافتهم من مثال الجانب الآخر. كانت عملية تحويل الجانب المعادي, الواقع في الطرف الآخر من "الستار الحديدي", إلى شيطان ضرورية ليس من أجل تبرير سباق التسلح فقط, بل من أجل استعراض كل أمام جماهيره أفضلية وضع هذه الجماهير مقارناً بأهوال الحكم الآخر. لقد أدار الجهاز الدعائي والأجهزة الأمنية في البلدان التي شاركت في "الحرب الباردة" لعبة إستراتيجية كبيرة, بأن أنشأت في آن معاً فزاعات دعائية لشعوبها.

ففي المعسكر الأول حاولوا نيل إخلاص الشعب باستثمار أسطورة "الفقر المطلق والنسبي" في الرأسمالية, وفي المعسكر الآخر باستثمار أسطورة العبودية الشيوعية. احتكاماً إلى معايير التنوير السامية ينبغي تقويم هذا على أنه تطاول على عموميات التقدم, التي آمن بها أناس الحقبة السابقة. لقد فقد التقدم أمام أعين الجميع ملامح الإله المسيحي, الذي منح وعده للشعوب كلها, وصار يكتسب أكثر فأكثر ملامح إله إسرائيل الغيور, الذي لم ينعم إلا على "أقربائه الإيديولوجيين", المنتمين إلى معسكره, والذي هدد بالطرد التام كل من ينتمي إلى المعسكر الآخر.

لقد جرت أمام أعين المعاصرين, الذين يذكرون الأزمنة الأكثر ليبراليةً, عملية تحويل مذهلة للفكر السياسي الاجتماعي إلى فكر سلفي في البلدان التي شاركت في هذه المواجهة العالمية. إذا كانت التقاليد الديمقراطية قد علمتنا الاشتغال أكثر بنقد حكوماتنا المحلية واجتثاث النقائص في ديارنا, فإن التقاليد الجديدة, المرتبطة بـ "الحرب الباردة" قد أوجبت البحث عن العيوب في معسكر العدو, وأوجبت استعراض الإخلاص التام كل في دياره. لقد قلبت عسكرة هذه الذهنية المتسلحة بالشك بالآخرين رأساً على عقب أغلب المبادئ والأحكام الديمقراطية. وبمقدار ما كانت الديمقراطية تصير جماهيرية, كانوا يفرضون عليها أن تصير عسكرية ومجندة لمواجهة العدو الخارجي. وقد خصَّ هذا في الغرب في المقام الأول الجمهورية الأمريكية, بعد أن صارت جمهورية إمبراطورية – وبعد أن صارت روما الجديدة المتحاربة مع قرطاجة.

استُخدم مبدأ التجنيد الخارجي هذا في الشرق على نحو لا يقل منهجية. لقد لعبت الجهتان معاً لعبة المواجهة المانوية([1]) المثيرة, التي تسمح بالتشهير بالمنتقدين الداخليين باعتبارهم "طابوراً خامساً" للطرف الآخر. وكلما طال زمن "الحرب الباردة" اكتسبت أكثر فأكثر طابع تواطؤ اللاعبين, المستخدمين عن قصد رهاب الوعي الدفاعي من أجل أن يضمن كلٌ استقرار نظامه.

لقد تكونت, فعلياً, على جانبي "الستار الحديدي" معاً, بالإضافة إلى الحزب "الخارجي" الذي يخوض الحوار مع الرأي العام, أحزاب "داخلية" مطلعة اطلاعاً أفضل على مكنون النزاع العولمي, وعلى الفوائد السياسية الداخلية المتأتية منه. مع مرور الزمن صارت لغتا الحزبين "الخارجي" و"الداخلي" أقل قابلية للترجمة المتبادلة. فالحزب "الخارجي" المنشغل بالتأثيرات الاستعراضية, يوبخ العدو الخارجي ويتملق لجمهوره الساذج موحياً له بالتصورات عن وضعه الذي يحسد عليه مقارناً بوضع السكان في الطرف الآخر. أما الحزب "الداخلي" فيزداد بعداً عن سذجه, مكتشفاً أكثر فأكثر الشبه بين هموم خصمه الرسمي السياسية وهمومه هو.

صارت الأحزاب "الداخلية" تتفهم أكثر فأكثر مقدمات الاستقرار السياسي الداخلي الخارجية العولمية, المرتبطة بعسكرة الحياة الاجتماعية والتفكير الصدامي, في الوقت الذي كانت فيه أحزاب العامة "الخارجية" تفكر ببدائية أكبر وبطريقة تقليدية أكثر. لقد أدت روح الابتكار المزيف لدى الأحزاب "الداخلية" و"فطنتها" إلى قيام تعارض متزايد بين هذه الأحزاب وأوسع الأوساط الاجتماعية في بلدانها, وقربتها على نحو ما غير ملحوظ ولا إرادي من عدوها – الحزب "الداخلي" في المعسكر المقابل. لقد شعر الشركاء في أثناء الحوار المتبادل في ما بينهم بأنهم محترفون حقيقيون في مواجهة سياسيي العامة الهواة.

من المسلّم به طبعاً أن ملاك الأحزاب "الداخلية" تشكَّل أساساً من المراكز الدماغية للأجهزة الأمنية. لقد كانت الأجهزة الأمنية في البلدان المشاركة في "الحرب الباردة" متجابهة في ما بينها, لكن ما كان لها إلا أن تلحظ أن الشبه في ما بينها من حيث "الحسبة الاحترافية" أكبر من الشبه بينها وبين الأوساط الاجتماعية في بلادها, هذه الأوساط الساذجة والمثقلة بحمل الأنماط الصارمة والأوهام. وصرنا نلحظ أكثر فأكثر حوادث يكون فيها إخفاء هذا الفعل الحساس أو ذاك عن الرأي العام المحلي أهم من إخفائه عن العدو, الذي كانت لديه مصاعبه الخاصة غير الهينة أيضاً مع محيطه الجاهل.

هكذا راحت تمتلئ حصَّالة الأسرار الاحترافية المشتركة غير المعلنة للأوساط الاجتماعية بناءً على اتفاق جنتلماني مشترك. لقد شيدت "الطليعة" في الأجهزة الأمنية مسرح اللامعقول الجديد الخاص بها. فما كان يعتبر سراً على أجهزة العدو الأمنية, كانوا يخفونه سراً عن مواطنيهم. وما كان مدمراً من وجهة نظر الأهداف العادية للسياسة الطبيعية, كان يمكن أن يستخدم كأداة نافعة على المستوى الباطني للسلطة السرية. ربما كان من المريح أكثر أن نسميها "السلطة الخامسة" – للتفريق بينها وبين السلطات الأربع المعروفة (التنفيذية والتشريعية والقضائية ووسائل الإعلام), ولشبهها التنظيمي والفكري بـ "الطابور الخامس".

إن لكل فرع من فروع السلطة المشار إليها أحكامه الخصوصية, وكذلك موضوعه ومحيطه الإشكالي. فالضد الخاص بالسلطة التنفيذية هو اللاإدارة, والضد الخاص بالسلطتين التشريعية والقضائية هو اللاشرعية, والضد الخاص بوسائل الإعلام كـ "معمل للآراء" هو عشوائية الاستيعاب الجماهيري, التي ينبغي تنظيمها وتوجيهها.

فما الذي تواجهه "السلطة الخامسة", وأين ترى ضدها؟

إن التعريف الاحترافي لهذه السلطة, التي حصلت على اسم الأجهزة السرية أو الأجهزة الأمنية, ينبني على الأضداد: الخاص – المتاح للجميع, السري - العلني. هنا يمكن الحديث عن شيء ما ضديٍّ بطريقة خاصة لأخلاق المجتمع المفتوح الديمقراطية, التي تُعتبر المنافسة الطبيعية والعلنية من بين قيمها. تبدأ سلطة الخبراء السرية تواجه "جمهورية النواب" الانتخابية, وتبدأ المعرفة الباطنية للمحترفين المختبئين وراء الكواليس, والمرتبطة بالنوابض السرية للسياسة وبالجهات المظلمة منها, والتي لا تخضع من حيث المبدأ للعلنية, تواجه سياسيي العامة الهواة.

"السلطة الخامسة" ليست غير متوافقة وحسب مع مبادئ الديمقراطية المعلنة: الرقابة من الأسفل والطاعة وسيادة القانون, بل إنها غير متوافقة أيضاً مع مبادئ التنوير الأكثر عمومية: التسليم بالثقة بعقل المواطن العادي, باعتباره صاحب كمون ذهني عمومي.

انطلاقاُ من مواقف الباطنية الجديدة التي تدين "السلطة الخامسة" بها يصير جائزاً توسيع ممارسات الظل, البعيدة عن العقلانية التقليدية وعن الشرعية, و يصير جائزاً, عوضاً عن المعيار التنويري الواحد, فرض معيارٍ مزدوج: للاستخدام الاجتماعي الخارجي, ومن أجل الاستخدام الاحترافي الخاص البعيد عن متناول الباقين.

لقد صارت هنا الحدود بين المسموح وغير المسموح, التي أقامها منطق التنوير كي تكون مؤقتة نسبية, غير قابلة للعبور. وبذلك يرجع المجتمع إلى سلفية الطوائف المغلقة ما قبل التنويرية, وإلى كهنوت السحر التجديفي غير الشرعي لكن المتسلط, والحائز على حق تضليل الجماهير واستغفالها. إن وضع الأجهزة الأمنية هذا يُقوّض مبدأً آخر شديد الأهمية من مبادئ المجتمع الديمقراطي المعاصر, وهو مبدأ السيادة السياسية للأغلبية.

كلما اتسعت صلاحيات الأجهزة الأمنية صارت أكثر سرابيةً ومجازيةً السيادة السياسية للأغلبية, التي يخفون عنها أهم أسرار السلطة ونوابضها. هذا الوضع يصير تدريجاً مهيناً ليس للمجتمع الديمقراطي وحسب, بل ولسياسيي العامة, الذين يزداد شعورهم أكثر فأكثر بأنهم دمى في مسرح العرائس.

تواطؤ "المحترفين"

انتمى إلى عداد أمثال هؤلاء السياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية جون كينيدي. لقد عبَّر عن مزاج الجيل الجديد في الظروف الجديدة, التي تمت فيها المقارنة بين مشروع التنوير العظيم بوعوده الديمقراطية و"الواقع المزري". منذ الموجة التنويرية الأولى في القرن الثامن عشر راح نبض التنوير يضعف تارة, مصطدما بمقاومة الظروف وبكآبات العوام, وتارة يشتد ملهماً القلوب. كانت الفترة ما بين الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حاسمة للشعوب على جانبي "الستار الحديدي" معاً. لقد انتظر الجيل الجديد ترميم الحياة والسياسة. وقد قدِّر لجون كينيدي أن يكون معبود هذا الجيل.

لقد حلم في الظروف الجديدة بأن يؤكد على عموميات التنوير في الولايات المتحدة الأمريكية, وبأن يشكِّل على أساسها أمة سياسية واحدة, حرة من الحواجز العنصرية والإثنية. لقد واجه الحساسية الإثنية التقززية لدى الطبقة المتسيدة – البيض والأنكلوساكسونيين والبروتستانت – بإيمانه بالإنسان وبأن أمريكا, تحديداً, يمكن أن تصير أرضه الموعودة. إلى ذلك الزمن لم يكن الأمريكيون قد صاروا, يا للغرابة, أمة متمدنة حقاً, ولم يكونوا قد تمكنوا تماماً بعد من ثقافة المدينة, التي تسوّى فيها الفروق المرتبطة بمنشأ الناس الإثني والإقليمي. لقد ظلت أمريكا ريفية, متكبرة, تنظر بريبة إلى "الغرباء", وأسيرة للأوهام والمخاوف. وقد شكلت نفسية "اليقظة" الريفية هذه تجاه كل ما هو مختلف وغير معتاد ركيزة الولاء السياسي, التي دعمتها السلطات بشتى الوسائل.

لقد ناهض جون كينيدي هذا كله. فواجه وعيَ "المجتمعات الصغيرة" البروتستانتية المفعم بالغيرة والشك, بالتفكير الجديد للمجتمع الواحد الكبير, الذي يحقق المواطن الأمريكي ذاته فيه بغض النظر عن لون جلده ودينه والمؤهلات الأخرى. على شعاع التنوير الساطع في مثل هذا المجتمع أن ينير الأركان المتعفنة كلها, وأن يطرد شياطين العتمة, وأن ينحي جانباً باطنيةَ الحلولِ المعادية للديمقراطية, التي تقررها القلة من أجل القلة.

ينبغي أن نقول إن الكثيرين من "المحترفين" في أمريكا خافوا على أسرارهم الاحترافية وعلى امتيازاتهم, وكان في مقدمهم محترفو الأجهزة الأمنية. لقد جسَّد كينيدي في نظرهم شخصية الهاوي الخطر والمهذار الذي تبنى جاداً مبدأ "السياسة العمومية" وتطاول على نحو غير قانوني على "الجزء الغارق من جبل الجليد", الذي ينبغي أن يبقى تحت إشراف "رجال الضفادع الأمهر" في مهنتهم.

صرنا منذ ذلك الوقت, في بداية الستينيات, نصادف الصدام العَرَضيّ بين العولمة الباطنية وعموميات التنوير, لقد آمن كينيدي بالمجتمع المفتوح - بالمجتمع الخالي من الحواجز الطبقية والأسرار, والذي لا يمكن فيه أن تكون للفروق في الأصل وفي شروط البداية الأهمية الحاسمة.

أما نظراؤه من معسكر عولمة الأجهزة الأمنية الباطنية فآمنوا بـ "مواطن العالم" - بأممية أصحاب العالم السريين, رعاة القطعان الشعبية الساذجة والهوائية. لقد وحدت أصحاب الدار أولئك المعرفة الاحترافية السرية, والهموم المتشابهة, والقانون الكهنوتي المشترك. أكدت الأحداث الدراماتيكية التي سرعان ما توالت, أن الحواجز التي تفصل محترفي المعطف المطري والخنجر عن الموطنين العاديين في بلدانهم أعلى وأمنع على نحو لا يقاس من ذلك الحاجز القومي – الدولتي, الذي من المفترض, كما يملي العقل السليم, أن يفصل بين هؤلاء المحترفين المتبارزين.

يعبر شاب أمريكي, باسم لي هارفي أوسفالد, "الستار الحديدي" المنيع عبوراً طبيعياً, ويسكن في الاتحاد السوفييتي, ويتزوج هناك, ثم يعود بعد مضي فترة من الزمن إلى الولايات المتحدة الأمريكية, كي يرتكب "جريمة العصر" – قتل الرئيس الأمريكي. المميز في الأمر أن أجهزة البلدين الأمنية قد حافظت في أوج هذه الأحداث الدراماتيكية على الصمت المتأدب بخصوص الغياب الغريب لقاتل الرئيس في الاتحاد السوفييتي. في ذلك الوقت على ما يبدو وقعت أول سابقة في التعاون العملي بين "محترفي الأمن" من وراء ظهر الأوساط الاجتماعية. لقد أفزع كينيدي "المحترفين" على جانبي الستار بحماسته الديمقراطية التنويرية - وباستعداده لأن يحقق في الحياة مبادئ المجتمع المدني صاحب السيادة, الذي لا يتتبعه أحد سراً ولا يدعي الوصاية عليه.

إنه, طبعاً, لم يشأ إلغاء الأجهزة الأمنية - فهو لم يكن متوهماً اللا دولتية. بل أراد أن يزيل العقد والخوف والحواجز من المجتمع العنصري في أمريكا, الذي لم يجرؤ على أن يكون, حقاً, أمة سياسية واحدة, خالية من المنبوذين الداخليين. لقد أراد أن يعرف المجتمعُ, حتى وهو يتألم من القرارات غير العصرية والخاطئة, أنها قراراته المتخذة علناً, وليست مؤامرة من قبل "المحترفين" المختبئين وراء الكواليس.

على هذا النحو, ظهر في أمريكا قبل عشرين عاماً من الاتحاد السوفييتي صاحب المبادرة إلى إعادة البناء والتفكير الجديد "من أجل بلده والعالم كله" – وتم إقصاؤه من قبل أجهزة بلده الأمنية, و, كما يبدو, ليس من غير مشاركة ودية احترافية من قبل الزملاء في معسكر العدو الرسمي.

ما الذي وحد "المحترفين" من الجانبين؟

 هنا كان ثمة وجودٌ لـ "الواقعية التشاؤمية" العامة, المناهضة لرومانسية التنوير وشعاراته عن الحرية والمساواة والأخوة, ووجود لغيرة المحترفين المدافعين عن صلاحياتهم من تدخل هواة السياسة العمومية, والأهم, أنه كان ثمة حضور للسعي إلى الحفاظ على ما يُعتبر القاعدة الاجتماعية النفسية لتسيُّد الأجهزة الأمنية في المجتمع – أي مناخ الشك وانعدام الثقة العام.

كانت عملية اغتيال كينيدي واحدة من أول العمليات العولمية للأممية العولمية المتكونة, والتي صارت أمميةُ الأجهزة الأمنية النسق الأول فيها.

كان أوائل العولميين ممتلئين عزماً على إعادة تجميد التربة التي بدأ الجليد يذوب عنها في الخمسينيات والستينيات. لقد صد العولميون الباطنيون هجوم التنوير الجديد, المرتبط بمسألة طويلة الأجل هي تحويل المجتمع الجماهيري إلى مجتمع مفتوح ديمقراطياً حقاً, وإلى مجتمع خلاق وصاحب سيادة.

طبعاً, لم يكن محترفو الأجهزة الأمنية عولميين وحسب: فبالإضافة إلى الهموم المشتركة ظلَّت لديهم مهماتهم التقليدية, التي كان دافع الضرائب يمول عملية تنفيذها, وهي مهمات دعم الأمن القومي الذاتي وإضعاف قدرة العدو الكامنة على القيام بالشيء ذاته. وبهذا الصدد لا زال المحللون الأمريكيون يذكرون الخوف الذي عانوا منه مع زملائهم السوفييت من مبادرات "معيد البناء" الأمريكي الشهير.

ما دامت إعادة البناء خطرة إلى هذا الحد في الوطن, أفليس من المستحسن تصديرها إلى معسكر العدو كعامل مزعزع للاستقرار؟

انغرس الكثير حينذاك, في بداية الستينيات, في ذاكرة الأجهزة الأمنية السيبرنيتيكية, وسقط الكثير في حصالة وصفات هذه الشعوذة الخصوصية. وربما كان أكثر ما حفظ في الذاكرة هو تلك الحادثة التي جرت لأرملة قاتل كينيدي - مارينا, المرأة الروسية, التي تأقلمت, يا للعجب, سريعاً وبسهولة في الولايات المتحدة الأمريكية, لا بل عقدت أواصر الصداقة مع فيميدا الأمريكية. فحين أطلق النار على لي هارفي أوسفالد الموضوع تحت الحراسة (وهذا ما كان متوقعاً), لم تعثر الأرملة, فاقدة السلوان, بين أغراض زوجها الشخصية المعادة لها على أغلى شيء – لم تعثر على بنطلون زوجها. وقد عوضت المحكمة الأرملةَ الرقيقة على هذا الضرر المعنوي الذي لحق بها بمبلغ معتبر يكفيها للعيش بغير عوز أعواماً كثيرة.

اكتسبت "التجربة" التي أجرتها الأجهزة الأمنية على جون كينيدي أهمية أثرية. فكك عملاء هذه الأجهزة شفرة الكثير من مفاصل هذه الدراما باعتبارها وصفات لتقنيات محتملة يمكن استخدامها في العمل مع العدو. هكذا تحديداً فُسِّرت الرومانسية البيريسترويكية لدى هذا المصلح جميل الروح, الذي كان مستعداً لأن يهز بيديه التحصينات الدفاعية, المشادة عبر زمن طويل, وهكذا فُسِّرت أيضاً المقدرة على ذلك التأقلم السريع في التربة الغريبة, الذي أبدته أرملة أوسفالد, وهكذا فسر الكثير غير ذلك.

قد تصير المخاطرة في الاختبار الإصلاحي مقبولة إذا ما وجد لنفسه مكاناًَ أملٌ خفيٌ بالهجرة الناجحة إذا ما رفضت "التربةُ" الاختبارَ بفظاظة. صار فكر "المحترفين" المعنيين يعمل بالاتجاهين التاليين – تشجيع الاختبار الاجتماعي في معسكر العدو وإيجاد ضمانات إضافية من أجل من يقدم عليه.

التالي

<< تبدُّلات الوعي الثقافي

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا