كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

تبدُّلات الوعي الثقافي

 

عام 1968 قُدمت للعالم زاوية الرؤية الجديدة للمزاوجة بين العولمة والتنوير والصدام بينهما. كان "ربيع براغ" انتفاضةَ التنوير ضد المنظومة الشمولية ضيقة الأفق على النمط السوفييتي. وجد الجيل المحب للحرية, الذي تربى في مناخ الآمال الخصوصية في مرحلة الستينيات العالمية, طليعته في تشيكوسلوفاكيا. لقد جسد ألكسندر دوبتشيك التنوير, الموضوع في خدمة الأهداف الوطنية التحررية. وقد راقبه بقلق متزايد عولميو الدولة العظمى الغيورة, القلقة على صلاحياتها في ترتيب العالم.

من المهم أن نفهم منذ البداية,أنهم لم يحللوا الوضع من موقع مصالح بلادهم الوطنية, بل من المواقع العولمية تحديداً, فالاشتراكية لم تكن تجسد بالمقاييس الكبرى بلداً, وإنما منظومةً من المنظومات العولمية الفرعية. الرابطة القومية مطلقة, فهي تستند إلى حصون الطبيعة والتاريخ التي لم تبدعها يد الإنسان؛ التراكبية المنظوماتية نسبية دوماً, ومتحركة, وتفترض مستوى كبيراً من حرية المبدعين التقنية تجاه المنتج, الذي يستطيعون تعديله كما يرغبون.

كان ممثلو الحزب "الداخلي" في الاتحاد السوفييتي بمثابة تلك التقنيات العولمية, التي تنظر إلى بلدها والبلدان الواقعة تحت سلطتها باعتبارها "مادة". لقد وجهوا الحزب "الخارجي" الخاضع لهم - الجهاز السياسي الدعائي كله بالإضافة إلى الجهاز العسكري - ضد عصاة براغ وأحرار الفكر فيها, مستخدمين مفردات "الواجب الأممي", والدفاع عن المنجزات الاشتراكية والتضامن مع الشعب التشيكوسلوفاكي.

لكن وعي الحزب "الداخلي" حلل الأحداث من موقع المعرفة الخاصة بطائفة الكهنة, غير المرتبطين بأي واجبات أو "أوهام" محلية. لُحِظت بالدرجة الأولى شعبية الإصلاحيين غير العادية, ولُحظت كذلك تلك السهولة غير العادية التي حطموا بها حصون "النظام الأكثر طليعيةً". وزاد في الحصالة عدد أهم أسرار النظام السوفييتي الحكومية سراً آخر: المعرفة السرية بهشاشة الاشتراكية غير العادية بعد افتراقها النهائي عن نبض التنوير التحرري. انبلج لديهم شك بوجوب تسليم هذا "النظام الأكثر طليعية" عاجلاً أم آجلاً كي لا يُدفنوا تحت أنقاضه.

وبما أن موردي التجربة الاشتراكية في روسيا لم يضعوا أنفسهم منذ البداية في موضع الشخصيات الوطنية, التي تحل المهام الوطنية, بل في موضع عولميي الأممية الشيوعية, الذين لا يعتبرون بلدهم إلا كحقل رمي وكرأس جسر من أجل التوسع العالمي اللاحق, فمن الواضح أنهم حافظوا على حرية أيديهم أيضاً في ما يخص الاشتراكية ذاتها.

حدثت عملية مثيرة للفضول: بمقدار ما تطبعت الاشتراكية في روسيا, بعد أن استوعبها الشعب تدريجاً وبعد أن اكتسبت ملامح وطنية, ازداد بُعد المختبِرين العولميين عن طفلهم, وقد أغرتهم التعاليم الجديدة. لكن, طبعاً, كانت حرية الرؤية وحرية اتخاذ القرارات من صلاحيات نطاق ضيق, وضيق جداً في البداية, من الحزب "الداخلي. لقد وقعت على عاتق الحزب "الخارجي" مهمة غير محمودة, وهي تشذيب الهيئة المكفهرة والدفاع عن المواقف المقضي بها. منذ ذلك الوقت الذي فهم فيه العولميون السريون من الحزب "الداخلي" بطريقتهم الخاصة دروس "ربيع براغ" صار مصيرا الاشتراكية والاتحاد السوفييتي مرتبطين بالإجابة عن سؤال واحد: هل يمكن التصرف على نحو يستمر معه المتآمرون الحاكمون السابقون عند إزاحة النظام المترنِّح واستبداله من قبل أصحاب الحياة الجدد؟

لم يكن قد أعطي جواب ذو معنى واحد بعد في المرحلة الممتدة بين 1968
و1985 - ومن هنا التأرجحات المعروفة والتطوح في الجوانب, والمعايير المزدوجة والمسارات الاحتياطية عوضاً عن الصرامة المبدئية والمنهجية والحزم.

كان معيار السلطة الشيوعية المزدوج تجاه المعارضين هو الأجمل خصوصاً. فقد حظيت المعارضة ذات التوجه الغربي, التي كانت تبحث لنفسها عن ملجأ خارج الوطن بمعاملة أكثر تساهلاً. وإذا كان العولميون الشيوعيون قد صفوا المعارضين القوميين جسدياً عن طريق "الحوادث المؤسفة" المدبرة, أو بجعلهم يتعفنون في سيبيريا, فإنهم أبعدوا المعارضين الغرباويين إلى الغرب.

ألم يتكون على هذا النحو مسار خاص احتياطي ورأس جسر من أجل السلطة المتأرجحة؟ إن ابتعاد السلطة العولمي عن شعبها, الذي تبنى تقريباً النظام الباطني الاشتراكي, قد تلقى دفعاً بفضل نبض مغاير حصل عليه من المثقفين.

قبل عام 1968 كانت طليعة مثقفينا, المتتبعة على نحو حثيث تبدلات الموضة الإيديولوجية, متفقة  بالكامل مع الأحكام التنويرية بخصوص شعبها. لقد عدته عملاقاً مستعبَداً ومخدوعاً, ينبغي تنويره وإيقاظه من أجل تحرره الديمقراطي. لكن حين اكتُشف أن الشعب لم ينهض مع ذلك ليشجب قمع "ربيع براغ" بالجيوش السوفييتية تغيرت العلاقة من جانب المثقفين الطليعيين نحوه تغيراً قطعياً: صاروا يعتبرونه الدعامة الأخيرة للنظام الشمولي بعد أن كان ضحيته. وهكذا قامت فئة المثقفين "باكتشاف" ثقافي علمي مثير للشك, متعلق بأسس النظام الشمولي"الذهنية", المرتبطة بخصائص الشعب الروسي وتقاليده.

غدر "الشركاء"

 

منذ ذلك الحين تلقت نظرية عولمة النخبتين السوفييتيتين دفعاً جديداً, بغض النظر عن الخلاف الذي كان لا يزال مستمراً بينهما: النخبة السلطوية السياسية من جهة, والنخبة الفكرية المعارضة من الجهة الأخرى. لقد راحتا تتحولان معاً أكثر فأكثر عن مسائل الحياة الوطنية والثقافة باتجاه مسائل أخرى, مرتبطة بالبحث عن دعائم وضمانات من الخارج... لقد غدا العولميون – الباطنيون من الحزب "الداخلي" مدينين بالكثير لنظرائهم – الفكريين. إذ زودهم هؤلاء الأخيرون بلغة وشعارات جديدة كان من المستبعد أن تبتلع الأمة من غيرها الخدعة العظيمة المقبلة, خدعة الخصخصة الوظيفية.

بيد أننا إذا لم نكن نقصد الغطاء الدعائي, بل الرأسمال السياسي الحقيقي ونوابض انقلاب آب القادم, فعلينا أن نقول مباشرة: إن من أقام النظام ما بعد السوفييتي لم يكن المعارضة الديمقراطية ولا المعارضين الغرباويين بل السلك الوظيفي الشيوعي الحاكم, الذي حوَّل السلطة القديمة إلى ملكية جديدة له. فكيف تشكلت في حقيقة الأمر الملكية الأولغرشية الجديدة؟

تكمن واقعية العصر الأحدث المثبطة في أن "المستجدات المنظوماتية" في المخطط الاقتصادي الاجتماعي السياسي لا تمر إلا إذا ناسبت النخبة السلطوية المتكونة, ومنحتها أشكالاً جديدة من ترسيخ الذات. ويبدو أن رومانسية التنوير السابقة، التي ارتبطت بشعار "من لم يكن شيئاً يصير كل شيء" وبالهجوم على الباستيل من قِبل الشعب المنتفض وبقدوم من مثَّل الضمير المهان وقوة الأمة الجديدة إلى السلطة, قد غابت من الوجود. صار البناء الجديد يستند منذ الآن إلى الاتفاق مع القوى القديمة - أي مع أصحاب السلطة؛ لذلك ليس ثمة أمل لأحد بأن يصير شيئاً ما إلا إذا ضمه رفاق الحزب القدماء إلى صفوفهم.

حصل العولميون من الأجهزة الأمنية بنتيجة الخصخصة عام 1992, وفاقاً لبعض المعطيات, على قرابة 65% من ملكية الدولة السابقة كلها. لقد فعل فعله المبدأ القائل: كلما كانت هذه المجموعة أو تلك من الفئة الحاكمة متمتعة بصلاحيات وظيفية ومسؤوليات أعلى حصلت بنتيجة الخصخصة الجديدة على نصيب أكبر من الملكية. تفسر أعجوبة أصحاب الملايين والمليارات الجدد ببساطة: لقد حصلوا على نصيبهم من الملكية طبقاً لوضعهم الوظيفي السابق. إذا كانت السلطة في الشركات المساهمة تقسم وفاقاً لرأس المال, فإن الرأسمال في تلك الشركة المساهمة المهولة, التي تحولت إليها روسيا ما بعد السوفييتية, يقسم وفاقاً للسلطة - أي طبقاً للمكان المشغول في التراتبية الوظيفية السابقة.

يمكن أن نتوقع اعتراضات, مرتبطة بأمثلة معروفة وواضحة على أن شخصيات لم تكن تنتمي سابقاً إلى الوكالة الأمنية, وصارت من "الأولغرشيات " المشهورة. والجواب عن هذا واحد فقط: هذا معناه أنهم انتموا وسينتمون إلى الوكالة الخاصة في الجهة الأخرى, التي اشترطت منذ البداية المشاركة في "الإصلاحات" والتي تعهدت بحماية الإصلاحيين في حال انهيارهم في وطنهم "الأم". لم يتجلَّ الطابع العولمي الجديد للعملية السياسية الجديدة بهذا المستوى في أي شيء كما تجلى في تعاون الأجهزة الأمنية في الدول العظمى على تفكيك الاتحاد السوفييتي و ما سمي "الاشتراكية الواقعية".

حين قرر أعضاء الحزب "الداخلي" الأكثر اطلاعاً والأكثر تحرراً من القيود التخلي عن فرس الاشتراكية المحتضرة والجلوس على سرج جديد لم يكن في مقدورهم القيام بذلك من غير تواطؤ شراكةٍ سري مع الزملاء, الذين كانوا يمثلون عدو الأمس الرسمي. بدا الزملاء الأمريكيون قلقين أيضاً, وبدوا عولميين يفتشون عن أشكال جديدة, ولديهم أيضاً ادعاءات ليست بالقليلة بحق شعبهم, الذي راح يفقد باطراد في المجتمع الجماهيري تماثله الأنكلوسكسوني والبروتستانتي. باختصار, راح "الزملاء" الأمريكيون يقنعون الإصلاحيين الروس بشتى الوسائل بأن "انسلاخهم" عن شعبهم لا يقل قط عن انسلاخ هؤلاء الأخيرين, وأن فكرة إقامة اتحاد سياسي فوق قومي بين النخبتين الحاكمتين, المدعوتين معاً إلى البلوغ بالنظام العالمي والقومي حد الكمال, قد نضجت.

لقد استخدمت بإلحاح أساليب "سلخ" عولمي مماثلة في العمل مع مبدع فكرة البيريسترويكا السوفييتية نفسه. فلعبوا من جهة على طموحه السياسي, إذ جعلوه يعتقد بأن مبادرته الإصلاحية تتعدى تعدياً واضحاً الأطر الوطنية الخالصة, ولذلك فإن قدره أن تصير زعامته عالميةً حقاً, أي الدخول ضمن النطاق الضيق جداً لما فوق النخبة العالمية, المتسلحة بمعايير من الواضح أن جماهير السكان الأصليين لم ترْقَ إليها بعد. ومن جهة أخرى استُغلت أحكام التنوير القريبة من نفس الزعيم السوفييتي, والتي تقود في الواقع مستقبل البشرية العام نحو آفاق وطنية. من الواضح أن مثل هذا العمل يكتسب درجة من الإقناع والموثوقية إذا ألزمت بدورها الجهة القائمة به نفسها بالسمو فوق الأنانية القومية وبخدمة النظام العالمي الجديد بنية سليمة.

دلت الأحداث التي توالت بعد ذلك أن الجهة الأمريكية أخلَّت بقانون "العولمة حسنة النية", مخفيةً وراء خطابيتها عن تنظيم العالم مخططات قومية ضيقة والأدق – مخططات إمبراطورية. لقد استدرجوا النخبة البيريسترويكية, ومن ثم ما بعد البيريسترويكية, بالشراكة الإستراتيجية المرتكزة على الابتعاد المتساوي عن التعاطي "المحلي" والأطماع القومية الخاصة. لكن تبين بوضوح أن درجة هذا "الانسلاخ" عن المصالح القومية لم تكن في الواقع واحدة. تبين أن الأمريكيين هم أشباح عولميين يتبعون مصالح دولتهم العظمى وميالين إلى استعمال المعايير المزدوجة.

 لم يؤمن بالنظام العالمي الديمقراطي الجديد, الذي لن يكون فيه أعداء, والذي سيصير فيه مخزون الأسلحة المتراكم فائضاً عن الحاجة تماماً, سوى العولميين الروس كما تبين. أما الأمريكيون ففسَّروا النظام العالمي العولمي والسلطة العولمية (الحكومة العالمية) بأنه نظامهم وسلطتهم على العالم. وفي هذا السياق خيل لهم أنهم "زرعوا" في معسكر الأعداء أخيراً جون كينيدي بيريسترويكياً طوباوياً جديداً, بينما ظلوا هم واقعيين حاذقين, وفي حلٍّ من الآمال الرومانسية الخرقاء.

قُتل جون كينيدي حيث كان يفترض فيه أن يموت, لكنه ولد مجدداً هناك, حيث خُطط لـه ذلك ضمن الإستراتيجية العولمية الهادفة إلى تمكين الأيدي الأمريكية من الإمساك بزمام العالم المجرد من سلاحه. ينتج أن العولميين الأمريكيين, الذين أجروا حواراً سرياً مع زملائهم الروس, أخفوا "أرضيتهم" غير المستأصلة, وحافظوا على رباطهم القومي في الوقت الذي كانوا يسخرون فيه من قومية الآخرين السلفية ومن وطنيتهم.

إننا, على هذا النحو, نستطيع أن نجري تصنيفاً لأنواع العولمة, التي تعطينا بتداخلها لوحة للعالم مبرقشةً ومتقلقلةً وخادعةً بعمومها.

 تُنسب إلى النوع الأول عولمة التنوير – التي أرسيت فكرتها منذ نبعت الحداثة الأوربية, والتي تقود إلى تكوين فضاء عالمي واحد مؤسس على عموميات التقدم الموضوعة في متناول الكل بالتساوي.

وتنسب إلى النوع الثاني العولمة الباطنية للنخب الحاكمة, التي تواطأت في ما بينها من وراء ظهر الشعوب. إن الأخلاق الخاصة بمثل هكذا عولمة تقضي بأن لا يضلل الشركاء بعضهم بعض, وأن يشكلوا إتحاد الأقلية العالمية الحاكمة مبتعدين بالتساوي عن "الأنانية القومية" وعن المصالح المحلية. يعمل الممثلون القوميون المنتدبون, على هذا النحو, إلى النخبة العالمية العولمية على تشكيل النظام العالمي, الذي, وإن كان بعيداً عن آمال الشعوب الجاهلة, إلا أنه شفاف من أجل المشاركين جميعاً في نادي الامتيازات هذا.

أخيراً, نوع العولمة الثالث هو العولمة المرتكزة على الإجراءات التقليدية لتحول دولة عظمى, بمحدوديتها المحلية والقومية كلها إلى حامل احتكاري للسلطة العالمية – أي إلى حامل احتكاري لمنظومة العولمة أحادية القطب.

لقد استثمر كل نوع من أنواع العولمة الثلاثة هذه في أثناء الانتقال من العالم ثنائي القطب إلى العالم أحاديه, لكن بدرجات متفاوتة من الأصالة. فلخداع الرأي العام الواسع, الذي توجهه فئة المثقفين(الإنتلجنسيا) الديمقراطية, استخدم الشكل الدعائي للعولمة التنويرية, التي تؤمن بعموميات التقدم وبوحدة مصائر شعوب العالم. كلما كانت جهود الدعاة إلى النظام العالمي الجديد أشد إخلاصاً, فقدت اعتبارها وتحطمت بسرعة أكبر وسائل الحماية الذاتية القومية التقليدية, التي صاروا يتبرؤون منها كما يتبرؤون من شيء مقيت وشائخ.

ولخداع وعي النخبة ما بعد الشيوعية, التي كان عليها أن تسلم بلادها "للمنتصرين" في "الحرب الباردة", استخدم النوع الثاني من العولمة – العولمة الباطنية, المتميزة بتحول النخب القومية المتنازعة سابقاً في ما بينها إلى وسط عالمي واحد يضم أسياد العالم المختارين, الذين يقررون مصائره "ديمقراطياً" في ما بينهم.

أما في الواقع فقد "سارت العملية" باتجاه الشكل الثالث, وحينذاك حكم على المرشحين غير المحظوظين إلى عضوية النخبة العالمية الحاكمة, والذين وَهبوا من أجل الحصول عليها كل ما وسعهم أن يهبوه, بأن يعرفوا في نهاية الأمر أنهم استغفلوا ببساطة. طبعاً, هذا لا يعني أنهم لم يحصلوا على شيء. فأهم ما حصلوا عليه كان الضمانات المتعلقة بملكيتهم الجديدة.

 إذ لم يجد المخصخصون الوظيفيون أنفسهم واثقين من أن "هذا" الشعب سينظر لاحقاً بلا اكتراث إلى خراب بلاده ودمار شروط وجوده الحضارية, حصلوا على ضمانات من الخارج على شكل إمكان إنشاء بنية تحتية في الخارج الهدف منها تأمين حياة لائقة لهم في حال هجرتهم القسرية.

 

لقد رأوا "أرض ميعادهم" الخاصة, وهم يستخدمون بلادهم كخزان موارد مجانية مباحة, في الغرب, وإليه حولوا كل الثروات المنتزعة من الشعب.

بيد أن سريي عولمتنا أخطأوا الحساب في أمرين كما دل على ذلك مجرى الأحداث اللاحق. أولاً, لم تبرَّر حسبتهم حين لم يعترف "الشركاء" بحقهم الاحتكاري باعتبارهم مالكين لثروات روسيا القومية أو حتى ثروات الفضاء ما بعد السوفييتي. لقد تمكن الشركاء الأجانب من دور "المنتصرين " أكثر فأكثر, وصاروا يطالبون بلا مواربة بحقهم بالاشتراك في تقسيم الثروات وإعادة توزيعها ليس في التخوم القريبة فقط, وإنما في روسيا أيضاً. وثانياً, لم تتحقق آمالهم بالبنية التحتية, التي تؤمن عملياً الجنسية المزدوجة والضمانات في حال الهجرة القسرية.

هبت موجة الفضائح المتعلقة بإيداعات "الأسرة" وحاشيتها في الخارج, وراحت تتدحرج لا تلوي على شيء. لقد أُخِلَّ بسرية اتفاقات "السلطة الخامسة" الأممية, لأن قضية الإيداعات الروسية قدمت إلى لجنة الكونغرس في الولايات المتحدة الأمريكية, الذي ليس من عادته الاكتفاء بأنصاف التدابير. إن الحملة القائمة تهدد المؤسسات "الليبرالية " الروسية بالتغييب التام عن الأسرة العولمية والتحول إلى مؤسسات منبوذة ومرفوضة ومحتقرة.

عدا ذلك, فإن هذا يمس التزامات الحلفاء المعروفة بخصوص الضمانات الموعودة للنخبة الروسية في حال قطعت "الأغلبية الروسية الصامتة" والمضطهدة والمخدوعة صمتها فجاءة, وأظهرت فاتورة الحساب. واضح أن النخبة الروسية اليوم تتجاوز بصعوبة الخيانة الأمريكية, وهي ذاهلة بخصوص ما حدث. يبدو أنها قد نفذت التزاماتها تجاه شركائها وراء المحيط بإخلاص تام. لقد ابتلعت بصمت تخفيض مرتبة روسيا ما بعد السوفييتية, حين حولوا بلادنا من شريك إستراتيجي إلى دولة مهزومة, مجبرة على تقديم التنازلات من غير قيد أو شرط. لقد رمى "البراغماتيون" الروس جانباً المفاهيم "السلفية" مثل "السيادة", و"الكرامة", و"المصالح القومية", وقبلوا التحرك الخياني لحلف الناتو نحو الشرق. فهو يبدو خيانياً فقط من موقع عولمة "علّية القوم" الليبرالية ذات الروح الجميلة والمؤمنة بقيام النظام العالمي الجديد.

أما ما يخص شكل العولمة الثاني, الذي يمثل أممية الأجهزة الأمنية السرية, فإن تسليم روسيا مواقعها الجيوسياسية في القسم الغربي من الفضاء ما بعد الاشتراكي وما بعد السوفييتي كان, على الأرجح, محسوباً منذ البداية. وكانت الأعمال الرسمية الطائشة التي قامت بها وزارة الخارجية بخصوص تحرك الناتو شرقاً مخصصة استثنائياً للاستعمال الداخلي كما أفهم الأمريكيون سراً - لرمي عظمة لـ "وطنيينا – القوميين".

وسرعان ما صارت أممية العملية الإصلاحية الروسية تمس أيضاً منظومة خصخصة ملكية الدولة. فعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يشترط في البداية, إلا أن الجانب الأمريكي مع مرور الوقت صار يمتلك بوضوح حق التصويت عند تشكيل لوائح المرشحين لعداد الأولغرشية الروسية المقبلة. لقد ظهر كثيرون جداً من الأولغرشيين الذين لم يشغلوا مناصب مرموقة في النظام السابق, وبالتالي لم يتماشوا مع مبدأ تحويل السلطة إلى ملكية. ظهر قسم كبير من الأولغرشية كـ "طابور خامس" أمريكي, اشتُرِطت حقوقه مقابل ضمانات الإيداعات الخارجية وغيرها من التسهيلات. أخيراً, حصل الرأسمال الأمريكي على سلسلة من المواقع المفصلية في الاقتصاد الروسي مشخصاً باسمه مباشرة. إن هذا يخص فروعاً إستراتيجية هامة, بما فيها فروع منتمية إلى المجمع الصناعي العسكري مباشرة.

بماذا تفسَّر في مثل هذه الحال الخيانة الأمريكية وهذه الفضائح الحديثة حول إيداعات "الأسرة" وحاشيتها المقربة الخارجية؟

من النوايا الليبرالية الحسنة إلى التوسع الجيوسياسي

 

من يراقب العمليات المعاصرة في العالم بعد "الحرب الباردة" سيصل إلى نتيجة مفادها أن ثمة قانون من نوع خاص يفعل فعله فيه: كلما كانت هذه القرارات الإستراتيجية أو تلك أكثر باطنية ومخفية عن الأوساط الاجتماعية, ازداد اندراجها ضمن الاتجاه الساعي إلى تحويل الحداثة عامةً إلى سلفية.

ما الذي يمكن أن يكون أكثر سلفيةً من مُثُل النظام العالمي الجديد التنويرية, وأكثر تعارضاً معها كالحرب العالمية الجديدة؟ فكما هو واضح اليوم أنها هي, تحديداً, التي تندرج ضمن منظومة أسرار الباطنية العولمية. إن العالم أحادي القطب, الذي استبدل به العالم متعدد المراكز الموعود, المؤسس على التوازن العادل في المصالح بين الشرق والغرب, يسير حتماً نحو حرب عالمية جديدة. إن القطبية الأحادية المنهجية, التي تحتكر فيها الولايات المتحدة الأمريكية إدارة العالم, غير متوافقة مع وجود دول ضخمة ذات سيادة, أينما وقعت هذه الدول. وواضح أن التفكيك المنهجي لهذه الدول هو مأرب مهندسي العالم أحادي القطب.

والقرار كما هو واضح هو البدء بروسيا. هذا ما تمليه إلى حد كبير عطالة "الحرب الباردة" - هيئة العدو الجاهز المسقطة الآن من الاتحاد السوفييتي السابق على روسيا. تجري تزكية عطالة الحرب الباردة أيضاً بطبيعة البنية التحتية المتكونة في عصر المجابهة مع الاتحاد السوفييتي, وباتجاه الأسلحة, وبخصوصية التأمين المعلوماتي للحرب. والعامل الآخر الأكثر أهمية هو أن روسيا تمتلك ثروات فائقة الغنى تزداد اليوم ندرة أكثر فأكثر. إن آلة الحضارة الغربية التقنية تقف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التوجه إلى "النمو الصفري"بسبب من محدودية البيئة والطاقة والمواد الأولية على الكوكب, وإما تحقيق إعادة تقسيم المساحات العالمية والحصول بذلك على موارد جديدة.

من شأن الشكل الأول, الذي دافعت عنه الحركة البيئية وغيرها من معارضي الحضارة التقنية, أن يفرض إعادة بناء أسس الوجود ذاتها, وواضح أنه لا النخب السلطوية ولا المستهلك العادي مستعدون لهذا اليوم. يبقى إذن الشكل الثاني - أي توسع الغرب الجيوسياسي باسم إزالة "حدود النمو" المعروفة. وقد تحدد الاتجاه الأساسي لهذا التوسع احتكاماً لكل شيء - يدور الحديث عن روسيا. تغري روسيا المعتدي بتزاوج سعة الثروة فيها مع ضعف الدولة الظاهري. وتعمل ضدها اليوم النظرية الداروينية الاجتماعية الجديدة في المجتمع العولمي, التي تعلن مبدأ الاصطفاء الطبيعي للشعوب الملزمة بإثبات قدرتها على الحياة في ظروف السوق العولمية أي غير المقيدة بأية حواجز حماية.

تعني "السوق العولمية" إعادة التوزيع الحر لكافة الموارد, بما في ذلك المساحات المحصنة خلف الدول, لصالح أولئك الذين أبدوا فاعلية اقتصادية وبيئية أعلى. ينبغي, بنتيجة سقوط الحدود وغيرها من الحواجز في "المجتمع المفتوح" العولمي, أن تنتقل الأرض والموارد من أيدي الأقل مهارة والأقل قدرة على التكيف إلى أيدي من هم أجدر وأيدي من سيشكلون في المستقبل جنس سادة العالم. إننا نرى في مثال النظرية الأحدث عن المجتمع العولمي المفتوح أي تبدلات تتعرض لها أهم مثل التنوير حين تُستخدم من قبل باطنية العولمة.

أمس فقط كان مفهوم "المجتمع المفتوح" يضم في جنباته مجمل النوايا الليبرالية الطيبة - من الرفض المسالم للنزاعات حتى رفض الرقابات وأي أسرار حكومية وطبقية. أما اليوم فتشوبه مسحة اجتماعية دارونية واضحة, تدل على انقطاعه الحاسم عن موروث الإنسانية المسيحية والتنويرية, وعلى خياره لصالح الأقوياء والقادرين على التكيف ضد الضعفاء و "الفقراء بالروح".

لكن هذه المراجعة للمبادئ الإنسانية لا تشكل سوى مقدمة عامة لعسكرة وعي الغرب المنتصر ومقدمة لتضلع ممثلي "المليار الذهبي" في لغة عرق السادة. التخلي الإستراتيجي عن الموروث التنويري هو عامل نظام طويل الأمد. بيد أن المنتصرين في "الحرب الباردة" يريدون لو يستخدمون بالكامل الأفضليات التكتيكية المرتبطة بضعف روسيا الحالي الشديد وبالتحلل الأخلاقي الشامل لدى أنداد الغرب الرئيسيين في العالم.

لذلك يتطلب الأمر, إضافةً إلى الأسطورة الإستراتيجية, المرتبطة بتقسيم البشرية الجديد إلى قادرين على التكيف وغير قادرين عليه, أسطورةً عملياتية مخصصة تحديداً لخدمة سياسة النزاع مع روسيا. وما موجة الفضائح حول المافيا الروسية ومافيوية "الأسرة" الحاكمة ذاتها وحول إيداعاتها السرية في الخارج إلا هذه الأسطورة عينها.

إن بنية هذه الأسطورة معروفة لمواطن روسيا العادي, فبوساطتها تعلل عمليات الجيوش الروسية الحالية في الشيشان. الُمسلَّمة الأولى: الشيشان منبع للإرهاب الذي يهدد باجتياح الفضاء الروسي كله. المسلمة الثانية: الرئيس ماسخادوف لا يتحكم فعلياً بالوضع في الشيشان لذلك فإن حل مشكلة الإرهاب عن طريق المفاوضات معه خال مقدماً من أي أفق. النتيجة: وجوب التدخل العسكري المباشر من أجل إرساء النظام الحقوقي وإعادة بناء أسس الوجود الحضاري في هذه المساحة. إننا نرى بنية المحاكمات هذه تحديداً وقد أعيد إنتاجها على مستوى الإستراتيجية الأمريكية العولمية الهادفة إلى الاستحواذ على السيادة العالمية.

القضية الأولى: تعتبر روسيا اليوم مركز الفوضى العالمية, ومنبع انتشار البنى المافيوية في العالم كله. القضية الثانية: السلطة في روسيا, عداكم عن أنها هي نفسها خاضعة لضغط الحاشية المافيوية, لا تراقب الوضع فعلياً في البلاد, التي لُزِّمت لعشائر المافيات. النتيجة: من الضروري التدخل المباشر لقوى الغرب المتحدة برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية من أجل القضاء على وكر الثورة الإجرامية العالمية هذا, ووضع الحماية على البلاد التي ترسل دورياً تحديات للحضارة تارة على شكل تهديد شمولي عالمي وتارة أخرى على شكل تهديد مافيوي – إجرامي عالمي.

على هذا النحو ما عاد العالم مقسوماً منذ الآن إلى قادرين على التكيف مع السوق وغير قادرين على التكيف معها باعتبارها آلية لاصطفاء الأفضل طبيعياً فقط. إنه مقسوم كذلك إلى أولئك القادرين بمفردهم على إرساء النظام الحضاري لديهم وأولئك غير المؤهلين لفعل ذلك من حيث المبدأ, ويحتاجون إلى فرض الحماية الخارجية عليهم. إنهم يقولون ذلك منذ زمن عن أفريقيا, التي نضجت, كما يبدو, من أجل "إعادة استعمارها". يقولون اليوم هذا أيضاً عن روسيا على نحو مكشوف إلى حد ما.

 التالي

<< لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا