الفصل
الرابع
يختم مفهوم ماكس ويبر ذلك الاتجاه في تطور الفكرة الاجتماعية
التي ارتبطت بتبرير البرجوازي بروح الفرضية الهيغلية "كل ما هو
واقعي - مدرَك, وكل ما هو مدرَك - واقعي". يكمن جوهر هذا
التبرير في التسليم بالصلة اللازمة بين مصالح البرجوازية
باعتبارها مجموعة خاصة في المجتمع ومصالح المجتمع كله. طرح
الاقتصاد السياسي الكلاسيكي بهذا الخصوص مبدأ "اليد غير
المرئية", الذي يوفق بين الجهود الاستثمارية الفردية ونمو
الخيرات الاجتماعية إلى جانب كافة النيات من جهة العملاء
الفاعلين.
لقد سعى ماكس ويبر إلى أن يجعل من هذه اليد الخفية مرئية, بعد
أن شدد على الدافع الاستثماري ذي النوعية الجيدة, الذي لم تكمن
في أساسه, كما برهن هو, غريزة الطمع بالمال, بل دافع كسب
الخلاص الروحي المسوغ إلهياً. لقد طمح ويبر في أثناء ذلك,
باعتباره مفكراً ألمانياً حقيقياً, إلى تجذير البرجوازي في
التربة القومية, مازجاً دوافع الدعوة الفردية ("beruf")
مع قيم الخلاص الديني فوق الفردية. يبدو الأكثر أهمية ضمن هذا
السياق هو انقطاع تقاليد الجشع: الانتقال من رأسمال الديسبورة
المضارباتي - الربوي اللااجتماعي إلى الرأسمالية المنتجة من
الطراز المعاصر, التي لا تختلس الثروة القومية بل تضاعفها.
اقترب جورج زيمِّل()
من تحليل الرأسمالية من موقع مغاير تماماً. لم تكن توجد لديه
أي انقطاعات في تقاليد صانعي النقود, ولا أي فرق بين حرفة
المراباة القديمة والطبقة البرجوازية المعاصرة. ولم يكن من
قبيل المصادفة أنه سمى مبحثه عن الطبقة البرجوازية "فلسفة
النقود".
حيث يدور الحديث عن المؤسسة باعتبارها تنظيماً يظهر للعيان
بوضوح الفارق بين المراباة وإنتاج السلعة والخدمات الحقيقية.
وحيث يتم التشديد على النقود كنقود يتراجع هذا الفارق إلى
الظل, فالنقود, كما هو معلوم, "ليس لها رائحة", وفي الكون
النقدي لا توجد فوارق نوعية, وخصوصاً الفوارق الأخلاقية - يدور
الحديث عن الفوارق الكمية فقط. يرفض زيمِّل تقبل البورجوازي
باعتباره أنموذجاً سوسيوثقافياً تاريخياً خاصاً ينبغي أن نحزر
نشأته. إنه يسلم بالمطابقة التامة بين دافع الطمع بالمال
البرجوازي ومحرض الأنانية الطبيعية الإنساني. أما القسم غير
البرجوازي المتبقي في المجتمع فيعتبره مؤلفاً من برجوازيين
فشلوا في أن يصيروا برجوازيين ولم يستطيعوا تحقيق دوافعهم
الجشعة.
يستبدل زيمِّل "بالدهشة" الإبستيمولوجية الناجمة عن ظهور
البرجوازي باعتباره أنموذجاً اجتماعياً متطرفاً دهشةً من نوع
آخر: لماذا لم يصر الآخرون كلهم برجوازيين, وشغلوا بالقياس
إليه موقفاً بعيداً - متيقظاً وأحياناً عدائياً مباشراً. إن
زيمِّل ميال إلى الإجابة عن هذا السؤال بروح خالية خلواً
واضحاً من المجاملة تجاه أولئك الذين لم يصيروا برجوازيين. إنه
يفترض أن دافع الإثراء وامتلاك النقود باعتبارها سلطة يتنشَّط
لدى أولئك الذين تتميز النقود لديهم بأهمية تعويضية عميقة - أي
أنها تعوض النقص في اعتراف المجتمع وفي الأمن والثقة. ويعتبر
أن الإنسان قد صار إنساناً لأنه عوضاً عن أن يذوب في محيطه
الطبيعي قد وعى وجوده باعتباره معضلة تحتاج إلى حل واعٍ.
تعتبر من وجهة النظر هذه إستراتيجية من يسميهم في ما بعد
برجوازيين إستراتيجيةً "إنسانيةً حقاً": فعوضاً عن أن يذوبوا
لاإرادياً في الوسط الاجتماعي المواتي جعلوا وجودهم إشكالياً
باعتبارهم مجموعة لم يكن وضعها ولا وجودها نفسه مضمونين منذ
البداية. واضح أن الحديث عندئذ يدور عن المجموعات الدخيلة,
وبالدرجة الأولى, عن المجموعات اليهودية التي اضطرت, إذا ما
تكلمنا بلسان إدوارد غوسيرل(),
إلى أن "تؤشكل" وجودها الاجتماعي - أي أن تعيه باعتباره مشكلة
خاضعة للحل.
ينتج في هذا السياق أن "صانعي النقود" المحترفين, وإن كانوا
أقلية البشرية, هم, إن شئنا, أقلية بشرية أصيلة, مستيقظة على
الدوام من النوم الحيواني وتعيش في حال النشاط المستمر - أي
الوعي المستنفر الفاهم أن العالم الخارجي لا يرحم الإنسان.
تكمن سفسطة زيمِّل الثانية المتعلقة بتقبل المجموعات النقودية
على أنها مجموعات متوافقة مع وظيفة الإنسان في العالم, في خلط
التبادل النقدي مع التبادل المجتمعي كتبادل. سيكون الناس غير
المستعدين للاعتراف بدور النقود الرئيسي في العالم عرضة
للاتهام بالانعزالية العدائية التي ليس منها رجاء, وبالولاء
لفكرة المكان السلفية وغير المثمرة - أي المشاعية المنعزلة
ذاتياً, والمحكوم عليها بالركود. يقدَّم على هذا النحو منذ
البداية المفكر اليهودي جورج زيمِّل, بخلاف المفكر الألماني
ماكس ويبر, من موقع العولمي المنهجي, فهو يسير بمنطق التبادل
النقدي الفطري, الذي يدعي عموميته, في الاتجاه من الأسواق
المحلية إلى السوق الوطنية, ومن هذه الأخيرة نحو السوق
العالمية التي لا تعرف حدوداً.
وكما كتب سيرج موسكوفيتشي()
فإن جديد زيمل يكمن في أنه عمم على المجتمع كله علاقات القيمة
المتعلقة بإضفاء حال السلعة على أي ظاهرة, "محولاً هذا المجتمع
من اقتصاد إلى علم اجتماع خال من أي تصويبات أخلاقية أو دينية()".
لقد حضَّر زيمِّل للاستبدال بالخطاب عن المجتمع ما بعد الصناعي
المميز لليبرالية الاقتصادية المركزية المعاصرة الخطابَ عن
المجتمع العولمي. لا يتميز المجتمع الحديث, في ضوء الأنموذج
النقودي, عن سابقه بالدور الخاص للعلم والتعليم والثقافة فيه,
ولا بأن المؤسسة الاجتماعية المركزية فيه هي الجامعة وليست
المؤسسة الاقتصادية, كما يؤكد على ذلك واضعو النظرية ما بعد
الصناعية السابقون, بل ما يميزه هو الدور الجديد للتبادل
الاقتصادي فيه, المتحول من تبادل محلي إلى عولمي, ومن تبادل
جزئي (يمس جوانب خاصة منفصلة من الحياة والممارسة) إلى تبادل
شامل لكل شيء وعمومي.
باختصار, يصير المجسد الرئيسي لبرنامج ارتقاء الإنسان العاقل
هو البرجوازي "باعتباره الإنسان الأكثر إنسانية", وتحديداً -
البرجوازي النقودي, الذي يحصل على ربحه في الغالب من التبادل
كتبادل, والذي لايمثل له الربح الإنتاجي سوى مشهد تاريخي عابر.
لا تشرح لنا أنثروبولوجيا جورج زيمل لماذا, فرضاً, ينبغي
التعبير عن الجهود التعويضية غير المبذولة منذ البداية أو غير
المحمية في المجتمع بما يكفي بوساطة "الإبداع" النقودي, وليس
بغيره من أنواع الإبداع التي تحظى باعتراف أكبر - كالفن, و
كالشأن العسكري, وكالتهذيب الأخلاقي المُعدي وما شابه ذلك.
إنها لا تشرح لنا أيضاً لماذا تجد بيئة التبادل المتعولمة
التعبير الأكثر مواءمة لها في البيئة المالية وفي نشاط المصرف
باعتباره مؤسسة وليس, مثلاً, في الإنتاج الروحي الشامل, وفي
العملية الأدبية العالمية. يتكون انطباع أن البرجوازيين
المرتبطين برأسمال المضاربات قد قرروا إعلان الحرب على الفكر
الكلاسيكي, الذي كانوا ينتظرون منه دوماً المكائد والدسائس.
لقد قرروا أن يعيدوا بناء مفهوم المجتمع ما بعد الصناعي كي
يعلي اجتماعياً شأن طبقتهم تحديداً في المجتمع وليس "ثقافة
رجال الفكر العدائية" المرتابة منذ أقدم الأزمان في القيم
البرجوازية.
لا يرى زيمِّل, باعتباره رائداً للفكر العولمي النقودي الحالي,
أي شيء غامض أو مثير للذهول في أن النقود تولد نقوداً. إنه لم
ير أي قفزة حقبوية في الانتقال من صيغة المراباة القديمة ن -
نَ إلى صيغة الاقتصاد المنتج ن - ب - نَ (نقود - بضاعة - نقود
أكبر). لقد اعتبر أن قدرة الربح على النمو من التبادل كتبادل
حقيقة أزلية من حقائق المذهب النقودي, لا تحتاج إلى أي
تبريرات. عدا ذلك, لقد رأى في المقدرة الأكبر أو الأقل على
التبادل المؤشر الرئيسي على التقدم الثقافي, الذي ما كان هذا
التبادل لينتمي إليه. "تنبع مساهمة النقود كلها في أقسام
التقدم الثقافي الأخرى من وظيفتها الأساسية. إنها تشكل التعبير
الأكثر تركيزاً من بين التعبيرات الممكنة كلها, والتصور الأوسع
عن القيمة - الأساس الاقتصادي للأشياء جميعها"().
تضفي النقود على الأشياء كلها قدرة رائعة على الحركة - أي تضمن
أن تقدر هذه الأخيرة على مغادرة أصحابها العرضيين والرحيل إلى
من يستحقها أكثر. تسمح النقود للأشياء كلها بأن تغير أهلها
المنحوسين المرتبطين بها منذ يوم الولادة العرضي, وتنتقل إلى
أيدي "المربين" ذوي الإمكانات الأكبر والذين اجتازوا المسابقة
الاجتماعية المسماة تبادلاً.
كم من السهل أن نحزر أن نمط الفلسفة النقودية هذا نافع نفعاً
لا يمكن أن يكون لـه مثيل من أجل تبرير ما يفعله مؤسسو
الأهرامات المالية العالميون المولعون في العالم المفتوح – أي
غير المحمي بسيادة ذاتية أو حدود. تشكل التجارة بالعملات
الصعبة في الوقت الحاضر أكثر من 400 تريليون دولار سنوياً,
وهذا ما يزيد 80 مرة على التجارة العالمية بالبضائع. هذا مثال
واضح على قيمة التبادل الذاتية النقودية, هذا التبادل القيِّم
بذاته, الفاقد لارتباطه السلعي والمولِّد لـربح المضاربات
"الناجم عن الهواء".
يمكن في السياق الفلسفي العام لعصرنا تقويم انقطاع النقود هذا
عن حركة الكتلة السلعية, التي كانت مدعوة منذ البداية إلى
خدمتها, بأنه استبدال بالدلالات الرموز - أي أنه تحرير عشوائي
للرمز من قيمته وحياته الذاتية المليئة بالمغامرات. صار
الموضوع الأخير هو الرئيسي في الفلسفة ما بعد الحداثوية, وهذا
ما سنقف عليه بالتفصيل في الفصل القادم. يكفينا هنا أن نشير
مسبقاً إلى أن امتلاك النقود باعتبارها رموزاً للوظائف الكافية
لنفسها يندرج ضمن إطار الأنموذج القياسي السوسيوثقافي العام
لعصرنا.
إذا عنت الحداثة إفقاد العالم طبيعيته - أي ذوبان المتكوِّن
كله تكوناً طبيعياً في المصطنع والمُتَقْنَن والقابل للتبادل -
فإن في مقدرونا أن نقر بأن البرنامج النقودي الهادف إلى نزع
الصفة الشيئية عن الخيرات المتحولة منذ الآن بكاملها إلى رموز
تنتقل من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة بوساطة إشارات
إلكترونية, هو التجسيد الأكثر ملاءمةً لبرنامج الحداثة
العالمي. وعندئذ سنرتكب خطأ كبيراً إذا ظننا أن هذه العملية
تحمل طابع المصادفة الخالصة, وأن ليس لها موجِّه محدد.
الموجِّه موجود: تَنْزع الخيرات المتحولة إلى لا مادية إلى
التحرك من البلدان الأقل تطوراً إلى البلدان الأكثر تطوراً,
ومن الأطراف إلى المركز العالمي. بالتالي تستخدم في "اللعبة"
النقودية العالمية خارطة مرسومة تسمح سلفاً بمعرفة من الذي
سيفوز بها في نهاية المطاف.
النقودية هي أكثر من أن تكون أحد الاتجاهات الاقتصادية. إنها
ربما اليوم المذهب الأكثر عدائية, الذي يطلب إعادة النظر بأسس
الثقافة الإنسانية نفسها - أي رفض جميع الموانع والتوازنات
التقليدية التي يستطيع بوساطتها أي مجتمع أن يحمي نفسه من
عدوان عِدْل النقود.
لا يكمن هنا الأمر فقط في السياسة الدارونية الاجتماعية التي
تشجع "الأكثر قدرة على التكيف" والمستندة إلى مدرسة شيكاغو.
فمدرسة شيكاغو تطالب بالحد من صلاحيات الدولة الاجتماعية تاركة
غير المحميين اجتماعياً لمصيرهم. أما المذهب النقودي العولمي
فيتطلب أكثر من ذلك: إنه يشجب قطعياً كل محاولات إعاقة نزع
الصفة المادية عن الثروة ومحاولات إبقائها في هيئة غير قابلة
للتبادل والتغريب, على النقود أن تحقق مقدرتها على شراء كل شيء
على الإطلاق, كما الجواهر المادية كالأرض, مثلاً, كذلك القيم
الروحية مثل الواجب الوطني, ونزاهة الخبير الحرفية.
صارت الفضائل الأخلاقية السابقة كلها, التي غرستها الإنسانية
بعناية على امتداد التاريخ كله مدانة منذ الآن باعتبارها
سلفية حمائية تمنع انتصار التبادل انتصاراً تاماً.
لم نصادف منذ زمن نقد الاغتراب الهيغلي مرة واحدة في الغرب
تياراً يحول الاغتراب إلى قيمة مصانة منهجياً وإلى مشروع
تاريخي خاضع للتعميم. يجب أن يكون كل شيء على الأرض مغترباً,
أي خاضعاً للانتزاع والتجريد والنقل إلى أيد أخرى قد لا يكون
لها أي علاقة في بداية الأمر بما يأتيها. يقوَّم التواجد خارج
أطر الاغتراب - خارج فضاء التبادل والانتزاع - بأنه من مخلفات
مذهب الطبيعة التقليدي. إن مثل هذا المبدأ يصحح على نحو محسوس
التصورات الأولية عن الملكية الخاصة. فالتشديد هنا كما يبدو لا
يتم على الملكية باعتبارها ملكية, بل على صفة الأشياء
المتواجدة بين يدي مالكها فضلاً عن رغبتها في الانزلاق من بين
الأيدي والانتقال ضمن فضاء "لعبة" غير خاضع للسيطرة.
يعدّ النظام العولمي الذي يدور الحديث عنه هنا, على ما يبدو,
العدة لانتزاع ثروات العالم كلها من قبل أسرة المقامرين
الماليين العولميين. كان هؤلاء المقامرون يصطدمون من قَبل
بعائقين على الأقل: موضوعي مرتبط بوجود هذه القيم أو تلك في
هيئة غير اغترابية وغير سلعية, وذاتي مرتبط بعدم الرغبة في
المتاجرة بالأشياء التي يحميها من التبادل وضع قيمي "كاريزمي"
خاص. المقدر منذ الآن هو الانتهاء من هذين القيدين. يكتب أحد
عولميينا قائلاً: " إن نقد اغتراب الأشياء والامتلاك في
الماركسية, النابع من نقد المجتمع الرأسمالي عموماً, يجعل هذا
النقد نقداً محافظاًً()".
كما نرى فالمسألة ليست في التبادل كتبادل. إنها في جعل كل شيء
على الأرض مغترَباً - وعلى النطاق العولمي.
حين عرج الحديث على نمط السوق السابق, أي سوق السلع, عالجت
النظرية الاقتصادية اصطفاء السوق باعتباره إجراءاً لاكتشاف
المنتجين الأكثر فاعلية الذين يلقون في منظومة السوق التشجيع
الفاعل. الآن, حين يدور الحديث عن سوق الأوراق المالية
والتعاملات مع رساميل المضاربات قصيرة الأمد, فإن السوق تتحول
إلى إجراء تجريدٍ واغترابٍ - أي نزع الصفة المادية عن الثروات
الذائبة عن آخرها في رموز نقدية, والمختفية من غير أثر في
ثنايا عملية المقامرات المالية العولمية. لا تبقي النقود من
المواد سوى رموز خالصة, تربطها بشكل وحيد من أشكال الوجود, هو
التبادل والاتصال.
لكن المذهب النقودي لا يرمز فقط إلى القدرة التجريدية لمنظومة
الرموز النقدية, التي تقف, على غرار الأفكار الأفلاطونية, وراء
الأشكال الطبيعية للثروة, وتجعلها مغتربة حالاً. تعتبر النقود
الشكل الخصوصي للثورة المستمرة, التي تقلب الأوضاع والمقامات
الاجتماعية. ثمة في أساس الطمع بالمال جموح: لكن يخطئ من يرده
إلى حب الكسب. فهذا الجموح هو, إلى حد غير قليل, جموح الثأر
الاجتماعي من جانب المجموعات المتأنفة إلى أقصى حد, والتي تشعر
بأنها مهانة إلى أقصى حد.
يكتب سيرج موسكوفيتشي معلقاً على جورج زيمِّل: "النقود هي وطن
من لا وطن لـه... إذا تجذرت في المجتمع النزعة الذهنية نحو
تحويل النقود إلى الهدف المراد منها, فمن الضروري الافتراض أن
فئة اجتماعية خاصة ما قادرة على تنفيذ ذلك أكثر من غيرها...
ينبغي قبل كل شيء أن تكون هذه الفئة على شيء من البعد عن قيم
الجماعة وثرواتها, وأن تظهر اللامبالاة تجاه مصير هذه الجماعة.
ثم ينبغي أن يحدد لها زمن, وعليها أن تعيش تحت تهديد الإنذار
الأخير دائماً.. ثمة في كل مكان دخلاء ومارقون... أناس مفصولون
من المجتمع بسبب من الخطر الذي يمثلونه على المجتمع إن لم يكن
على الجنس البشري كله... لا يسمح لهم أي دور آخر بالوجود, أو
حتى بامتلاك شيء من القوة. وحدها النقود تعطيهم ذلك, لذلك
يتمسكون بها كما يتمسك الغريق بطوق النجاة()".
على هذا النحو نجد أننا نصطدم فعلاً بمفارقة. فليبراليونا
الذين يشجبون اليوم بمثل هذه الحرارة الانقلابات الثورية
والإرهاب الثوري - لأنها, قبل كل شيء, تقلب الأفق الاجتماعي
الطبيعي فتقلب الأكثر كفاءة وتعلي شأن الأسوأ - لم يلحظوا أن
"إرهاب المذهب النقودي" يقوم بالدور ذاته حرفاً بحرف. فبوساطة
النقود يحصل أناس لا يستحقون ثقة المجتمع قط, وغالباً ما
يظهرون أسوأ الصفات الأخلاقية إمكانية التفوق على من هم أفضل
منهم - على أصحاب الضمير الحي والمرهفين وغير النفعيين
والشرفاء ببساطة.
ألا تعتبر الثورة النقودية الحالية, التي تقلب الأوضاع كلها
على مرأى من العالم المذهول رافعةً فوقنا جميعاً شخصيات مثيرة
للريبة ما كان لأحد أن يعرفها من قبل, شكلاً متحولاً من أشكال
التطرف الثوري القديم الذي يحدد طابعه, كما هو معروف, أولئك
الدخلاء المستاؤون أنفسهم والمثقفون المهلهلون الطموحون
المحليون المتشفون, الذين لم يهبهم مجرى الأحداث المعتاد أي
أمل؟ إن من مصلحة هؤلاء وأولئك تحطيم النظام الاجتماعي الموجود
والإخلال بقواعد اللعبة والوصول إلى قلب الأوضاع المربح لهم
بقلب المجتمع رأساً على عقب.
ثأر المنشقين - هذا هو ما يحدد أواصر القربى بين الثورة
البلشفية السابقة والثورة النقودية الحالية, وليس من قبيل
المصادفة أن الثورتين معاً ترافقتا بثورتين ثقافيتين خصوصيتين.
الثورة الثقافية هي انفجار المنظومة القيمية الطبيعية ومنظومة
التقويمات, الذي من غيره سيكون في الأحوال كلها مآل المنشقين
الآخذين بالثأر هو الطرد الأخلاقي والنبذ الروحي. لذلك بدوا
مهتمين إلى أقصى حد بفرض "أخلاق جديدة" على المجتمع من شأنها
أن توفر الشرعية لممارساتهم غير الشرعية.
"ثوريو المذهب النقودي" الحاليون أقل ميلاً للاعتراف بهذا.
فنضالهم ضد "العقلية القديمة" ينقصه الوضوح المذهبي. لكن يخطئ
كثيراً من يرى في موجة انعدام الأخلاق الحالية والجريمة
المباشرة فعل "العنصر البربري" وحده. ثمة هنا, كما في ثورة
البلشفية الثقافية, إحساس باليد الموجهة للتقنيين المختصين
الذين يعرفون ما يفعلون. إن هدفهم الرئيسي هو تحطيم المجتمع
أخلاقياً وتثبيط عزيمته, وحرمانه من القدرة على المحاكمة
الأخلاقية, وقلب منظومة التقويمات.
تعتبر "ثورة المنشقين" النقودية احتكاماً إلى الكثير من
المؤشرات عالمية فعلاً. بما أنها تمسح كافة الفروق النوعية
التي تمس منشأ النقود, وأهمها الفرق بين ربح المضاربات والربح
المنتج وبين الاقتصاد الطبيعي واقتصاد الظل فإنها ستجر وراءها
حتماً جحافل كاملة من الممارسات النقودية الإجرامية, بما فيها
ذات الربحية الفائقة كتجارة المخدرات والتجارة بالسلعة الحية
والتجارة بالأعضاء البشرية وما شابهها.
ثمة شيء ما حدث للحضارة, لقد أضعفتها جرثومة من الجراثيم ما
دامت في حال لا تسمح لها بالتنبه لهجوم البرجوازيين الجدد, ذوي
الطاقة الثورية المحطِّمة كل المعايير الاجتماعية والأخلاقية.
وحدها ازدواجية القانون الحضاري ذات المعاني الكثيرة هي التي
تسمح لبناة الأهرامات المالية بأن يفلسوا قارات بأكملها من غير
أن يطالهم عقاب, وأن يفقدوا جهد ملايين الناس أي معنى, وأن
يخرجوا مئات المليارات من الدولارات من البلدان المفلسة من غير
أن تنطبق عليهم أية مادة من مواد قانون الجنايات. يرتكب
النقوديون إبادة جماعية صامتة ضد الشعوب التي غدت ضعيفة, وذلك
بتقويض الشروط المواتية لتجددها الديموغرافي, وأي شرط من شروط
الحياة الطبيعية عموماً.
مكنَّت الثورة النقودية بتحريرها عملية إعادة إنتاج النقود
الذاتية, من غير الرجوع إلى وظائفها الاجتماعية الطبيعية
المرتبطة بالاستثمارات والمكافأة على الجهد المبذول, من إعادة
الإنتاج الموسعة للناشطين اللااجتماعيين, المتنطحين للعب
الأدوار الرئيسية في المجتمع. يشبه انسلاخ النقود عن وظائفها
الاقتصادية المنتجة السابقة انسلاخ العناصر اللااجتماعية عن
المحيط الاجتماعي الطبيعي, الذي يريدون أن يحكموه من غير أن
يشاركوه قيمه. كلما ازدادت كتلة النقود المتحررة من ارتباطها
السابق بالمؤشرات الطبيعية, ازدادت كتلة المهمشين الجدد
المتحررين من أي "خضوع اجتماعي" ومعايير حضارية.
إذ نقوِّم المجتمع ما بعد السوفييتي في ضوء هذا الأفق فإننا
نميز فيه مجموعتين متشابكتين حالياً تشابكاً وثيقاً, لكنهما
قادرتان في المستقبل على أن تتباعدا كثيراً. فمن جهة نميز
السلك الوظيفي السابق, الذي استبدل بالسلطة السابقة الملكية
الجديدة مستغلاً الامتيازات التي في حوزته جميعها. ونميز من
جهة أخرى وسط ثوريي النقودية الذين تمثل النقود لديهم الوسيلة
الوحيدة للاستحواذ على الفضاء وقلب الأوضاع. لم يكن لدى هؤلاء
امتيازات سابقة - لذلك فهم "يخلصون" المجتمع بطاقة أكبر من
المخلفات الإيديولوجية والأخلاقية السابقة ويستنفرون قوة
النقود من أجل الثأر الاجتماعي المدمر. يتحد هنا مهرة
المقامرين الماليين المضاربين مع اقتصاديي الظل من الوسط
التجاري وكذلك مع المافيويين المكشوفين غاسلي النقود القذرة.
ثمة رابطة خطرة مغفلة: تزداد النقود, المتحررة وفاقاً لوصفات
المذهب النقودي من ارتباطها "السلفي" بالمؤشرات الاقتصادية
الطبيعية, بحرية وسرعة أكبر كلما أوغل الباحثون عن النقود في
انقطاعهم عن المعايير الحقوقية والأخلاقية. تهيئ الفكرة
العولمية الأساسية المعاصرة الظروف لمثل هذا الانقطاع, لا بل
تكرسه مساعدة على الاستخفاف بكافة أشكال الانصياع السابق
للقانون والسلوك الأخلاقي الصحيح على أنها من مظاهر الأصولية
الرجعية.
ارتكز نظام يلتسين على توافق معين بين هذين الأنموذجين -
"أرستقراطية" الموظفين و"المقامرين" النقوديين. لكن طريقهما
ستفترق منذ الآن. يذكرنا هذا الافتراق بالانشقاق الذي جري وسط
الثوريين البلاشفة. بعضهم سيرغب, كما حدث حينذاك, في بناء
"مجتمعه الجديد" في "بلد منفصل" تساعده فيه على ذلك الجدران.
أما الآخرون, المعتمدون بدرجة أقل على وفاء الوسط المحلي,
فسيتجهون إلى الأممية العولمية, التي توحِّد ثوريي النقودية
كلهم. سنتحدث لاحقاً عن آفاق هذا الصراع (انظر الجزء الثاني من
هذا الكتاب). أما الآن فسنؤكد على أمر آخر.
يدلنا تصور ماكس ويبر وتصور جورج زيمِّل على إستراتيجيتين
متعارضتين لمشكلة تطرحها مسألة إعلاء شأن الطبقة البرجوازية
باعتبارها منبوذ الحضارة الثقافي. افترض ماكس ويبر أن المشكلة
المطروحة من قبل الكلاسيكية الأدبية كلها حول البرجوازي
المتسلق الذي ينتهك معايير الحضارة الأخلاقية والثقافية هي
مشكلة قابلة للحل من حيث المبدأ. ويتلخص حلها في رسم الحدود
بين نمط البرجوازي المضارب والنقودي, الذي يعود في أصله إلى
اليهودي - المرابي القروسطي, وبين النمط المنتج الذي يرجع أصله
إلى المتقشفين البروتستانت المرتبطين منذ البدء بالتقاليد
الأخلاقية - الدينية الكبرى. افترض ويبر أن الثورية الماركسية
لم تتفرغ للتدقيق في مادة نقدها الحانق. الهدف المختار هو
البرجوازي - من غير التدقيق عن أي برجوازي يجب أن يدور الحديث,
ومن تستطيع الحضارة المعاصرة أن تتخذه حليفاً لها ومن تستطيع
أن تبقيه خارجاً باعتباره حاملاً للمبدأ اللامنتج.
أما جورج زيمِّل فقد افترض, على العكس من ذلك, أن الهدف البديل
للطبقة البرجوازية هو ليس هذا الربح المحدد أو ذاك, بل الربح
عموماً المعبر عنه كلياً بتنامي النقود الذاتي. يَعِدنا تصور
زيمِّل بأن البرجوازيين ما إن يكتشفوا أساليب صنع النقود, بغض
النظر عن التوظيف الإنتاجي لرأسمالهم, حتى يتركوا أشغالهم
المملة السابقة التي تعطيهم ربحاً سنوياً من 5 إلى 7% في أحسن
الأحوال, وينشغلون بألعاب المضاربات النقدية.
منحت الثورة النقودية المعاصرة التي حررت رأسمال المضاربات
قصير الأمد وجعلت من البنك, وليس من المؤسسة, مركز المجتمع,
هذه الإمكانيةَ للبرجوازية الجديدة. صار البرجوازيون مع
امتلاكهم هذه الإمكانية يسلكون سلوكاً لا يتماشى قط مع روح
ماكس ويبر. وعوضاً عن أن يشتغلوا بالنقود القادرة على مكاملتهم
مع الوسط الاجتماعي المحيط المتركز حول المؤسسة الصناعية,
صاروا يشتغلون بصنع النقود التي تخرجهم من المجتمع وتسمح
للطائفة المالية الجديدة بأن تسود على السكان الأصليين. بهذه
الصفة سموا أنفسهم عولميين متحررين من القوانين الوطنية.
وهكذا, فإن البرجوازيين الجدد هم مجددو وظيفة النقود السابقة,
التي لا تخدم المجتمع بالكامل, بل الوسط الهامشي الخاص, الذي
أخذ بفضل هذه النقود بثأره من المجتمع. ليست الجامعة (وغيرها
من مؤسسات الإنتاج الوجداني) كما وعدت النخب الفكرية, هي مركز
المجتمع ما بعد الصناعي الذي يبنونه, بل البنك.
يمكن أن يخفف أهل الفكر عن أنفسهم بأن تنبؤاتهم بخصوص تهميش
الوسط الصناعي قد تحققت على هذا النحو أو ذاك. إن الوسط
الصناعي في واقع الأمر يتراجع ويفقد مواقعه لكن ليس لصالح
مراكز الإنتاج الروحي, التي تنتج أفكاراً منتجة جديدة, بل
لصالح مراكز الاحتيالات المالية المنتجة لفضاء الحضارة المضادة
الافتراضي المعادي لباقي المجتمع.
إذا كانت الحضارة غير قادرة على الدفاع عن نفسها من الثورة
النقودية العالمية التي قلبت الأولويات الطبيعية ومعايير
الأوضاع رأساً على عقب, وإذا كانت غير قادرة على رد هجوم
الهامشيين المضاد, المتسلحين بالنقود القذرة, فإن مستقبلها
سيظل موضع تساؤل. لإيقاف هجوم الهامشيين الجدد من الضروري
مسبقاً إنجاز عمل نظري متعلق بفضح الصنمية (الفيتيشية)
النقدية الجديدة.
ارتبطت الصنمية السلعية, التي ناضل ضدها كارل ماركس في زمنه,
بالإيمان بنمو القيمة الذاتي الغامض, الذي كان وراءه في الواقع
استغلال العمل المأجور. أما الصنمية النقودية الحالية فهي
مرتبطة بفكرة نمو النقود الذاتي, الذي يقف وراءه في الواقع
انتزاع ملكية الثروة, الممثلة بأشكالها الحقيقية الطبيعية
المحسوسة. يولد "نمو النقود الذاتي" التضخم, المدمر للمدخرات
النظيفة. يتولد هذا التضخم مباشرة من الانقطاع بين وظيفة
النقود الدلالية المحددة, التي تتطلب التوافق بين الكتلتين
السلعية والنقدية, ووظيفتها الرمزية - القابعة في أساس
الممارسات الاحتيالية.
حين يبرز المقامرون الماليون في دور "صانعي النقود" فإنهم
يتعاملون مع الوظيفة الرمزية, التي تسمح لهم بتكوين واقع
الأهرامات المالية الافتراضي. لكن حين يظهرون باعتبارهم
مستهلكين للثروات فإنهم يطلبون لقاء نقودهم المنفوخة موجودات
ثابتة - ويحصلون عليها بنهب المجتمع كله. تنكشف أمامنا هنا
المفارقة الأساسية للنظرية النقودية. فإذ تبرز هذه النظرية
باعتبارها نظرية "نقود ثمينة", لا تنصح بإنفاقها على شكل قرض
رخيص لأشكال النشاطات الاقتصادية غير المضمونة, ما لم نتكلم
على الإنفاق على الرعاية الاجتماعية التي تعيل "غير القادرين
على التكيف" كلهم, فإنها تطلب في الوقت نفسه استقلال البنوك,
باعتبارها مراكز السلطة والقرار, عن أشكال الرقابة الاجتماعية
التقليدية, بما في ذلك الحكومية منها.
لكن البنوك المتحررة من مثل هذه الرقابة تبدأ تشتغل بإنتاج
النقود من أجل النقود عوضاً عن أن تحافظ من وراء النقود على
الوسائل المحفزة لأنواع أخرى من الأنشطة. بدأ النقوديون من نقد
الممارسة السوفييتية "الإنتاج من أجل الإنتاج", مطالبين بإخضاع
المنتجين للرقابة من جانب السوق؛ وها هم ينتهون بتبرير
المضاربة بالنقود من أجل النقود المتحررة من الرقابة القانونية
من جانب المجتمع. وكل هذا يتم إبرازه على أنه منطق التطور
الاقتصادي الموضوعي الذي لا بديل له.
السابق
الفصل الرابع :
الثورة
الثقافية العولمية
>>
الفصل الثالث
العولمة الأمريكية
>>