كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

الفصل الثالث :

العولمة الأمريكية

 

لقد ولَّدت أمريكا التي انتقلت إلى لعب دور المنتصر في "الحرب الباردة" جملة من المشاكل الجديدة للعالم كله. ومن بين هذه المشاكل لا تحتل المرتبةَ الأخيرةَ المشكلةُ الفكريةُ المتعلقة بالتراجع الغادر للمنتصر عن المبادئ التي وفرت له الدعم والاعتراف الواسعين. إن جريمة الولايات المتحدة الأمريكية بحق الديمقراطية المعاصرة تكمن في أنها حولتها إلى وسيلة من أجل تحقيق أطماعها الخاصة كدولة عظمى وبذلك حطّت من قدرها. حين كانت تقاومها دولة عظمى تساويها بالقوة كانت تتحدث عن النظام العالمي الجديد, وعن التعددية والمركزية التعددية وعن المشاركة المتساوية في الحلول, وعن المبادئ العمومية للديمقراطية والعدالة. لكن ما إن انهارت منظومة الموانع والتوازنات المرتبطة بالنظام ثنائي القطب, حتى صارت الدولةُ العظمى المرشحة للعب دور الطليعة الديمقراطية العالمية تستعرض على الفور مبدأ قوة الغاب, وتستبيح الضعفاء, معلنة على نحو مكشوف عن ادعاءاتها بالسيادة الكاملة على العالم. لقد سمَّت, من غير أن تشعر بأقل حرج, الفضاء ما بعد السوفييتي كله بما فيه أوكرانيا والقوقاز منطقة مصالح قومية لها.

يكتب زبيغنيف بجيزينسكي([1]) أحد استراتيجي السيادة الأمريكية العالمية قائلاً: " لم تصر دولةٌ غير أوراسية المدار الرئيسي في العلاقات بين الدول الأوربية أول مرة في التاريخ وحسب, بل صارت الدولة العظمى الأعتى في العالم([2])".

 

لم تتعرض القارة الأوراسية مرة واحدة في التاريخ إلى تحدٍّ بالسيادة العالمية. لكن المحتلين السابقين امتازوا عن المحتلين الجدد بصفتين. أولاً - لم يرتكزوا على المبادئ الديمقراطية, أي لم يضللوا الرأي العام العالمي. وثانياً – كانوا محتلين من أبناء القارة الأصليين, الذين كان عليهم أن يشاركوا في تحمل نفقات النظام الذي أقاموه في القارة وأن يتحملوا مصاعبه. أما في حال الاحتلال الأمريكي للقارة الأوراسية فإننا نتعامل من جهة مع غدر غير مسبوق من دولة لم تنتصر بقوة السلاح, وإنما بقوة الشعارات الديمقراطية التي رمتها جانباً في الحال ما إن أنجز العمل؛ ومن جهة أخرى مع معايير المحتل المزدوجة, الذي لا يعتبر القارة الأوراسية مكان إقامته الذي يستحق الاهتمام بنوعيته, ولا يرى فيه إلا خزان ثروات ومكب نفايات فقط.

سيكون على مؤسستنا الليبرالية, التي وجدت, مثلها في ذلك مثل البلاشفة, "العدو الرئيسي" في بلدها, والحليف الرئيسي وراء المحيط, أن تفكر بسؤال لم يناقش حتى الآن نقاشاً عاماً, وهو: أين المفر الآن من "المثالية السياسية" التي خدعت على هذا النحو نخبتنا السياسية سريعة التصديق؟ هل نواجه المثالية الديمقراطية بـ"الواقعية السياسية" - بحقيقة السياسة القاسية المتعلقة بالحقائق الأبدية: القوة هي التي تحكم العالم, والأنانية القومية هي التي تحكم مطامح الدول العظمى, وأن الأفضل الدخول في المفاوضات على أساس الكمون الملهم وليس على أساس الإيمان بالمبادئ, وأن المصالح الأرضية الآثمة تختبئ وراء الشعارات المنمقة؟ كان هذا سيعني أننا نتخلى عن قياس مذهب التقدم لصالح مذهب الشك المحافظ, الذي يرى الأفكار والتصرفات من وراء ستارة "النظام الجديد" قديمةً قدم العالم. يبدو من هذه المواقف غدر أمريكا العظمى, التي خدعت عشاقها الديمقراطيين المغرر بهم, سخافةً لا يمنع من رؤيتها سوى العمى المذهبي لـ "التعاليم العظمى" الجديدة.

إن في مثل هذا التناول الكثير من الحقيقة, لكنه, من وجهة نظري, مشوب بالنزعة التخفيضية المعروفة التي تعيد الأحداث الجديدة والسوابق إلى صيغة ثابتة معروفة منذ زمن. أما الأهم فيكمن في أن الأنموذج القياسي "للواقعية السياسية" هذا جبري ويلغي السؤال عن البدائل الممكنة والمحبذة. نجد في مثل هذه الحال أننا نتعامل مع تحدي عظمة متطرفة, لا تستطيع الإنسانية عموماً وروسيا خصوصاً قبوله بسلبية, وبالتالي سيتفاقم في الغالب السؤال عن البدائل في المستقبل القريب.

في هذه الحال سيكون علينا, عوضاً عن مناقشة الحقائق الأبدية لسياسة القوة, أن نقوِّم عولمة أمريكا الدولة العظمى باعتبارها أخطر تجربة عالمية, وأن نتأمل في منابع هذه التجربة وأسسها. لذلك, إلى جانب حكمة الشك, التي تمخضت عنها الحقائق المرة عن عدم الكمال على الأرض, أن نتسلح بتصورات تسمح لنا أن نقوِّم عن جدارة ما الذي تدخله في التاريخ المبادرات المرتبطة بتكبر "الإنسان الجديد", الذي يفصِّل العالم وفاقاً لغطرساته.

جرى لدينا حتى الآن وصف "الإنسان الجديد" وتقويمه في نطاق الاختبار البلشفي الشمولي. كدنا نصدق أن هذا الاختبار هو مغامرة الزمن الجديد الأخيرة, التي ستسود من بعدها أخيراً الحكمة والعدالة. لقد جعل التحدي العولمي الأمريكي الكثيرين يصحون, وشكّل مقدمة لرسم لوحة أكثر عمومية لـ "روح فاوست([3]) ", المتأرجحة بغير انقطاع, والتي تغريها أكثر فأكثر مجازفات "العصر" المزعزعة للعالم. تبين أن المواجهة في شخص الدولتين العظميين المتصارعتين لم تكن بين المجازفة والسلوك الطبيعي, ولا بين الإنسانية واللا إنسانية, وإنما بين نوعين مختلفين من المجازفة التي تتم المراهنة فيها بكل شيء. صارت المجازفة البلشفية العالمية معروفة من البداية إلى النهاية. أما المجازفة العالمية الأمريكية فما زال علينا أن نعيها ونوصِّفها.

كان الإحساس بدرجة المجازفة في الفكرة القابعة في أساس الولايات المتحدة الأمريكية ملازماً للآباء المؤسسين للدولة العظمى الجديدة. يكتب أرتور شليزنغر([4]): "في الفترة المبكرة من الجمهورية كانت الفكرة الغالبة أن أمريكا هي اختبار يجري خلافاً للتاريخ, ومحفوف بالمخاطرة وإشكالي بنتائجه([5])".

وعلى الرغم من أن وعي أمريكا الذاتي ووعي أنصار التجربة الأمريكية في البلدان الأخرى يتغذى اليوم بوهم "النظام الطبيعي", الموروث عن عصر التنوير, فإن التناول الأجدى للتاريخ الأمريكي يتكشف بوساطة نظرية المخاطرة التجديدية. يدور الحديث عن تاريخ بلد ليس له جذور ثقافية – تاريخية عميقة, ويعاني من عقد طفولية واعتداد طفولي بالنفس, وميّال إلى الأنانية الخطرة. لقد امتلك هذا البلد بين يديه اليوم إمكانات لا سابق لها. فهل سيستطيع استعمالها بما يكفي من التعقل, من غير أن يسقط في الخفة المَرضية؟ إن المطالبات الأمريكية الحالية بالعالم أحادي القطب - أي بالسيادة المطلقة على الكوكب – تجبرنا على الشك في هذا الأمر.

إن المؤلف في هذا العمل الذي بين أيديكم لا يضع نصب عينيه مسألة تحليل مذهب أمريكا الجيوسياسي الجديد, ومنطق القطبية الأحادية كمنطق. إذ تم بحث هاتين المسألتين في إصدارات أخرى([6]).

إن مادة التحليل هنا لن تكون الدولة الأمريكية بقدر ما سيكّونها المجتمع الأمريكي الذي ولَّد مرض المسيحيانية العظمى ونزعة السيادة والعسركيتاريا.

ليس تحليل العُقد الجيوسياسي, بل التحليل السوسيوثقافي لهذه العقد, التي تمنع استقرار الفكر والطبع الأمريكيين - هذه هي الطريق التي ستفتح آفاقاً جديدة أمام النظرية السياسية المدعوة إلى الكشف عن "نواقص الذاتي" الخاضعة للتصحيح في تركيب العالم العولمي.

التحليل السوسيوثقافي للعولمة الأمريكية

نضج التحليل السوسيوثقافي الجديد لحال المجتمع الأمريكي والآفاق أمامه بسبب من ادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية الجادة برسالتها العولمية في العالم, المرتبطة بإعادة صياغته صياغةً شاملة وفاقاً لأنموذجها. لذلك فإن السؤال عن ماذا تحمل أمريكا حقاً للعالم قد تحول إلى أحد الأسئلة الأساسية المعاصرة. سيدور حديثنا حول عُقَد الوعي السيادي ووعي الدولة العظمى القادر على تعريض البشرية لكارثة لم يسبق لها مثيل وتفوق كل ما سبقها من كوارث. إنها, في المقام الأول, عقدة "الإنسان الجديد" المنسلخ عن العالم القديم. لقد اعتدنا أن ننسب هذه العقدة للبلشفية. لكن المفاتن المريرة للصحوة "ما بعد الليبرالية" تكمن في أنها تسمح برؤية ملامح الشبه المدهش بين المتصارعَيْن على السيادة العالمية. أحدهما اندثر في اللا وجود؛ وعلى العالم الآن أن يمعن التفكير في كيفية التخلص من الآخر, الذي تبين أنه لا يقل "غلواً".

تأسست الولايات المتحدة على يد المهاجرين. ولا زالت عقدة الوعي المهاجر تطعن الثقافة السياسية الأمريكية إلى الآن متغذية بموجة الهجرة التالية. لا أحد يترك منزله السابق ببساطة. ولفعل ذلك يحتاج المرء إلى أسس اقتصادية أو سياسية أو فكرية خاصة. الوعي المهاجر مليء بالاستياء من الماضي والحنين إليه والحقد عليه, وهو مليء كذلك بالآمال الخفيفة والتعطش إلى الثأر. هذا الاقتران بين الاستياء أو الحقد على العالم (القارة) القديم المهجور وبين الإيمان بأرض الميعاد الجديدة – هو النمط الأصلي الأهم للوعي الأمريكي.

يكتب ليرنير: "إن فلسفة التصور الأمريكي للعالم هي التالية: أمريكا هي العالم الجديد بينما العالم المتبقي كله, ما عدا أمريكا, هو العالم القديم... هذا يضع الأمريكيين في وضع استثنائي باعتبارهم أناساً أوفياء للطبيعة ما يمكن اعتباره مبرراً للتدخل في شؤون العالم, وبالقدر نفسه أساساً لعزل أمريكا عن العالم, المتورط في خلافات ميئوس منها. على هذا النحو يعتبر دورا أمريكا باعتبارها أمةً ناسكةً وباعتبارها أمة محرِّرة دافعين متلازمين في التاريخ الأمريكي وفي الوعي الأمريكي...([7])".

وهكذا, فمن جهةٍ الاستياء الحانق من وطن الأجداد المهجور, ومن جهة أخرى الأمل في الحصول على وطن جديد لا يعوق فيه أي نوع من أنواع المضايقات والأوهام السابقة السعيَ إلى النجاح. على هذا النحو لا يتسم الوعي الأمريكي بالانسلاخ البارد عن العالم المتبقي, بل بالمواجهة الجدلية, التي يمكن أن تغذي تارةً سياسة الانعزالية القاسية وتارةً النزعة التدخلية المسيحيانية.

خيل أن المهاجرين من الأجيال التالية استطاعوا التخلص من مثل هذه العقد وتمكنوا من تكوين نفسية الشعب المتأصل, الذي يبني علاقاته مع الآخرين بوقار هادئ. لكن العناية الإلهية شاءت أن تجعل من التاريخ الأمريكي سلسلة مستمرة من موجات الهجرة المغذية لعُقد "الإنسان الجديد" غير المتأصِّل, ونفسية الارتداد عن العالم القديم. ليس من قبيل المصادفة أن يشير المحللون إلى أن أكثر الوطنيين الأمريكيين حنقاً هم المهاجرون من الجيلين الأول والثاني. تتغذى هذه الوطنية المهتاجة من جهة بالاستياء الذي لم يفتر بعد من الحياة السابقة ومن الوطن السابق, وبالسعي من جهة أخرى إلى الاعتراف السريع في المكان السابق وإلى استعراض الوفاء. ليس نادراً أن تصير جماعات المهاجرين الجدد تحديداً هي المروجة للعظمة والنزعة العسكرية الأمريكية: ينظرون إلى جبروت أمريكا العالمي كضمانة لهم أن العالم القديم لن يجرؤ على التدخل في مصيرهم ومكانتهم الجديدين.

على هذا النحو, تميز تكوين أمريكا منذ بدايته كبلد من العالم الجديد بالمواجهة المانوية مع العالم المتبقي, باعتباره عالماً غارقاً في الآثام. إنه ليس بلداً نشأ إلى جوار بلدان أخرى, وإنما هو عالم جديد مواجه للعالم القديم بكل شيء - هذه هي صيغة الوعي الذاتي الأمريكي.

طبعاً, كان ممكناً أن يسير التاريخ في وجهة مغايرة. كان في مقدور الناس الذين تركوا وطنهم القديم أن يحملوا معهم عقدة مشاعر الحنين والذاكرة المضطربة، مما كان سيؤدي إلى تحويل القارة الجديدة إلى محمية ثقافية مصونة من السرقات الإيديولوجية والسياسية.

حدث هذا في بعض الأحوال – حدث, مثلاً, للمهاجرين الروس من أتباع الطقوس القديمة([8]). لكن الاتجاه الغالب كان مختلفاً ومرتبطاً بثنائيات الطبيعي - الاصطناعي المعروفة. تعتبر ميتافيزيقيا الانسلاخ عن الماضي الثقافي المركِّبَة الضرورية "لنشوء الإثنية" الأمريكية؛ ما كان للأمة الجديدة أن تظهر لو لم تكن المجموعات التي شكلتها مستعدة للانفصال عن ماضيها. لذلك صار التقليل من شأن الإرث الثقافي والذاكرة الثقافية ذاتها العقيدة الفكرية الإلزامية لـ "المجتمع الأمريكي الجديد". صارت أغنى التقاليد الثقافية للبلدان التي انطلق المهاجرون منها عرضة للاستخفاف باعتبارها من المخلفات التي ينبغي على الأمريكي الحقيقي أن يتخلص منها بأسرع ما يمكن.

وهكذا فقد أرسي في أساس بناء الدولة الأمريكية رهاب ثقافي غير مزدوج المعنى. إن الرزوح على المستوى الفردي تحت وطأة "العُقَد" الثقافية يعوق المفتش الأمريكي عن النجاح في الوصول إلى أهدافه غير معرض عن الوسائل التي كانت الثقافات "القديمة" ستعتبرها مدانةً.

أما على المستوى الجماعي, القومي - الدولتي, فإن هذا الرزوح كان سيشكل ظاهرة ازدواجية المواطنة وكان سيعوق تكوين أمريكيين"مائة بالمائة" وأوفياء من غير قيد أو شرط. في وقت لاحق سيستخدم أنصار السيادة الأمريكية على النطاق العالمي هذا الأسلوب في التدجين تجاه أمريكا على حساب الانفصال عن "الثقافات السابقة", مكونين جيشاً من الأتباع المتحمسين من بين أولئك المستعدين وفاقاً لهذا الأساس أو ذاك للانسلاخ عن ثقافاتهم القومية.

على هذا النحو, كما المجتمع المدني الأمريكي المؤمن بأخلاق النجاح الفردي كذلك الدولة الأمريكية, التي استعدت في أثناء حروب القرن العشرين العالمية لتنفيذ "رسالتها العالمية", موبوءة برهاب الثقافة. إن الذاكرة الثقافية على المستوى الفردي تعوق بالقدر نفسه الذي تعوق به الحساسية الأخلاقية استخدام "تقنيات النجاح" التي تَعِد بفاعلية قصوى. منطقياً, تقود الداروينية الاجتماعية الأمريكية بقوانينها حول الاصطفاء الطبيعي وبقاء الأقدر على التكيف إلى محاربة الثقافة التي تحجب "حقيقة" الوضع الطبيعي وتمنع من تقبلها.

على المستوى الجماعي (القومي) تقع الذاكرة الثقافية في أمريكا في موقع الشك باعتبارها عائقاً أمام احتواء المهاجرين السابقين وأمام تأقلمهم (وأمريكا كلها مؤلفة منهم في نهاية المطاف). أخيراً, وعلى مستوى الدولة العظمى
(أو ما فوق الدولة العظمى) فإن التقليل من قيمة الإرث الثقافي باعتباره من مخلفات التقليدية البغيضة يفرضه برنامج العالم العولمي ذاته باعتباره عالماً أمريكياً مركزياً, أو شبيه بالأمريكي, وهذا مستحيل من غير تقليلٍ حاسم من شأن الثقافات الأخرى باعتبارها ثقافات غير معاصرة, أو غير معاصرة بما يكفي.

من هنا تصير مفهومة تلك الطاقة البلشفية, التي شرع يحارب بها أنصار "العالم الجديد" الأمريكي الإرث الثقافي القومي في بلدان "العالم الثاني" السابق وفي الفضاء ما بعد السوفييتي.

أستطيع, كوني شخصاً مرتبطاً ارتباطاً حرفياً بالمجتمع السياسي, أن أشهد على ظاهرة مدهشة, هي تحول مدرِّسي الشيوعية العلمية ودعاة نمط الحياة السوفييتي إلى دعاة الثقافة السياسية الأمريكية "الأكثر تقدماً" وإلى دعاة نمط الحياة الأمريكي. لا ينحصر الأمر في انسياق الناس المعتاد, الذين يتبعون بغير اعتراض الإرشادات الجديدة من الأعلى. بل يكمن الأمر أيضاً في التشابه المدهش بين "إنسان البلشفية الجديد" و"إنسان الأمريكانوية الجديد", فهما يتمتعان بوحدة معينة في البنية الذهنية.

استولى "الإنسان الجديد" البلشفي على بلد مليء بـ "الأناس القدماء", المثقلين بحِملِ الثقافة والأخلاق القديمتين. كان ينبغي تسريع رحيل الجيل القديم بكافة الوسائل, فمن غير ذلك ما كان في مقدور الحياة الجديدة المليئة بالحماسة البربرية و"الاضطراب" الفكري أن تزدهر في روسيا. لقد خفضت عمليات التطهير الشاملة والجوع والإبادات الجماعية في فترة التحول إلى المجتمع التعاوني وفي معسكرات الاعتقال حجم "الحمل القديم" جسدياً. أضيف إلى هذه الإبادة الجماعية الجسدية إبادة جماعية روحية: لقد حدث إغراق قسري لقارة الثقافة القديمة. أخرج كهنة التعاليم الجديدة إلى النور من بين الإرث السابق كله "الديمقراطيين الثوريين" - على الرغم من "جفافهم" الثقافي وعقمهم - أما ما تبقّى فكان ينبغي أن ينتظم كله على أساس حرفية "التعاليم" المستعارة.

وهاهو التاريخ يتكرر أمام أعيننا على نحو مدهش. بات "صبيان شيكاغو" العازمون على إعادة بناء روسيا ما بعد الشيوعية يشتكون مجدداً من الإرث الثقافي, الذي ينبغي أن يخضع لتطهير شامل جديد. تبين أن "أنصار الحرية" راديكاليون أكثر من الشيوعيين, فهم يتهمون هؤلاء الأخيرين بأنهم ظهروا تحديداً على أرض الواقع على شكل تقليديين مستورين حملوا معهم الأساطير الثقافية وأساطير العظمة الروسية القديمة في غلاف جديد. لا يخجل ليبراليونا كذلك من التصريح بأن "الديمقراطية الحقيقية" و"السوق الحقيقية" لن تسودا في روسيا إلا حين يغيب الجيل القديم كله عن المسرح.

تتجه السياسة الاجتماعية والاقتصادية الحالية بوضوح نحو مساعدته على الرحيل بأسرع وقت ممكن.

ومن جديد تترافق الخصخصة الليبرالية, كما جرى عند التحول البلشفي إلى المجتمع الصناعي والمجتمع التعاوني, بتطهير ثقافي لا سابق له. صارت "الأخلاق" و"الثقافة", مثل "الوطنية" و"الوطن" كلمات بذيئة في الإيديولوجية الجديدة المعادية للذهنية القومية. تكمن خصوصية "الثورة الثقافية" الليبرالية مقارنة بالثورة الثقافية البلشفية في أنه كان على "الإنسان الجديد" - الفاتح والمحطِّم للعالم القديم - حينذاك أن ينتقل من المستقبل الذي سرعان ما سينبغي بناؤه؛ أما الآن فقد تبين أن "الإنسان الجديد" حاضر بكل بهائه وروعته - لقد قدم إلينا من وراء المحيط على هيئة منتصر في "الحرب الباردة".

صارت مهمة التلمودية الليبرالية أبسط وأقرب إلى الأرض مقارنةً مع التلمودية الماركسية - اللينينية: فعوضاً عن البحث عن ملامح المجتمع الجديد والإنسان الجديد في نصوص "التعاليم", صار مقدراً رؤيتها الآن بالعين المجردة - في هيئة الأنموذج الأمريكي. هكذا تحولت الطوباوية المذهبية الماركسية إلى "واقعية" خانعة لمقلّدي تجربة ما وراء المحيط. لقد نقل علماء السياسة الخارجون من الشيوعية العلمية, والواضعون نصب أعينهم القطيعة الحاسمة والنهائية مع الماضي اللعين, انبهارهم الإيديولوجي أمام المستقبل المشرق إلى أمريكا.

يتطلب النظام السياسي الأمريكي والثقافة السياسية الأمريكية ونمط الحياة الأمريكي, وفاقاً لقوانين "الليبرالية العلمية" بحثاً دؤوباً ودراسة لا تقل دقةً عن نصوص الشيوعية العلمية.

فهنا وهناك يتبين أن المستهدف الرئيسي هو "الثقافة القديمة" و"الأخلاق القديمة". لكن مكان المفوض البلشفي بات مشغولاً الآن بالمفوض الأمريكي - ممثل "الليبرالية المحاربة", المفتش بيقظة لا تعرف النوم وبحماسة حانقة عن آثار العقلية القديمة والأخلاق القديمة والمجتث لها.

لقد سمي هذا سابقاً نضالاً ضد المخلفات البرجوازية, أما اليوم فيسمى نضالاً ضد مخلفات الشمولية. على هذا النحو, يكمن في أساس "الأسطورة التطهيرية" القديمة والجديدة منطق التبسيط التخفيضي. فمن موقع المفوض البلشفي جرى إرجاع أغنى طبقات الثقافة وأكثرها تنوعاً إلى مركِّبة "البرجوازية" وحدها. لقد وضعت الثقافة القديمة كلها موضع الشك باعتبارها مولدة لابنة الزنا التاريخية المرعبة - البرجوازية. والآن تقع الثقافة كلها موقع الشك باعتبارها مولدة للشمولية.

ليس من قبيل المصادفة أن يتحول مؤلَّف "الثقافة المدنية" لـ أ. ألموند وس. فيربا إلى بيان للعملية الثقافية الأمريكية المعاصرة, التي تنشر أنموذجها في العالم كله. تنقسم في هذا المؤلف في واقع الأمر التقاليد الثقافية العالمية كلها إلى قسمين: أمريكي وغير أمريكي. ولم تُستثن من الشكوك بالادعاءات الشمولية إلا الثقافة الأمريكية. أما الثقافات الأخرى فتقوَّم على أنها ثقافات مثقلة بهذا القدر أو ذاك بجراثيم التسلط والشمولية. اختصاراً, وبالتطابق التام مع أحكام التقدم الإيديولوجي المانوية, يُنظر إلى العالم وكأنه سائر من الماضي الشمولي نحو المستقبل الليبرالي الشبيه بالأمريكي. وكما هو مألوف في مثل هذه الأحوال يجري التفريق هنا بين الأعداء اللدودين والمرافقين الإيديولوجيين. يتعرض القسم الأول للإبعاد, ويخضع الآخرون للتصنيف ولانتقاء من يحتمل أن يكون ذا فائدة بينهم.

تنسب ثقافات حضارات الشرق العظيمة وروسيا إلى الفئة الأولى - باعتبارها ثقافات معدة للتنسيق النهائي خلال الانتقال الحقبوي من الشمولية إلى الديمقراطية العولمية. في ما يخص الثقافة الأوربية الغربية فإن النظر فيها لا يتم بتقدير قيمتها حق قدرها, وإنما ينظر إليها فقط باعتبارها "عرضية" وانتقالية - في سياق التحول العولمي المشار إليه.

فما هو المعيار الذي يسمح بتقويم الجودة الديمقراطية لهذه الثقافة أو تلك وقياس درجتها؟ لدى تحليل البيانات الأحدث لليبرالية الأمريكية نكتشف باستغراب أن المعيار هنا سلبي تماماً. تبين أن مقياس الصلاحية المفيدة للثقافة في المجتمع العولمي القادم هو الفراغ - التحرر من المعايير والدوغمائيات السابقة بما فيها الأخلاقية.

 


 

([1]( - زبيغنيف بجيزينسكي (تولد عام 1928) رجل دولة وعالم اجتماع أمريكي, شغل بين عامي 1977 – 1981 منصب مساعد الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي.

 

 تقدم عام 1970 بنظرية دخول المجتمع الأمريكي في ما يسمى "المجتمع ما بعد الصناعي". حارب الشيوعية بحدة وهو من مدبري السياسات الأمريكية المتعلقة بحقوق الإنسان

 

 (المترجم).

 

([2]( - بجيزينسكي. رقعة الشطرنج العظمى. موسكو: العلاقات الدولية, 1988 ص 11.

 

([3]( - فاوست هو بطل الأساطير الشعبية الألمانية, وشخصية رئيسية في الأدب والفن العالميين, إنه رمز السعي الإنساني إلى معرفة العالم. وأصل هذه الشخصية هو الدكتور يوهانس فاوست
(1480؟ - 1540) الفلكي المتشرد. جرى الحديث أول مرة عن اتحاد فاوست مع الشيطان في الكتاب الشعبي "قصة الدكتور فاوست" (1587). كما اشتهر بالعنوان ذاته

 مؤلف "فاوست" لغوته, و"الدكتور فاوستوس" لمانّا (المترجم).

 

([4]( - أرتور شليزنغر الأصغر (تولد عام 1917) عالم تاريخ أمريكي. ممثل الاتجاه الليبرالي في التاريخ الأمريكي المعاصر. أهم أعماله هي الأعمال المتعلقة بتاريخ الولايات المتحدة في القرنين التاسع عشر والعشرين (المترجم).

 

([5]( - أرتور شليزنغر. حلقات التاريخ الأمريكي. موسكو. التقدم. 1992.ص22.

 

([6]( - من بين آخرها: بانارين ألكسندر. التنبؤ السياسي العولمي. موسكو. ألغوريتم. 2000. والمؤلف نفسه. البديل الروسي. نيويورك.The Edwin Mellen Press, 1999.

 

([7]( - ليرنير م. تطور الحضارة في أمريكا. موسكو. رادوغا. 1992 الجزء الثاني ص 456.

 

([8]( - تيار ديني نشأ في روسيا في نهاية القرن السابع عشر بنتيجة الانشقاقات الدينية, وكان يدعو إلى المحافظة على القواعد الكنسية القديمة ومرتكزات الحياة السابقة وقد

 تعرض أتباع هذا التيار إلى الاضطهاد وهُجّروا إلى خارج روسيا. (المترجم).

 

 

 

 

 

 

التحليل السوسيوثقافي للعولمة الأمريكية

نضج التحليل السوسيوثقافي الجديد لحال المجتمع الأمريكي والآفاق أمامه بسبب من ادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية الجادة برسالتها العولمية في العالم, المرتبطة بإعادة صياغته صياغةً شاملة وفاقاً لأنموذجها. لذلك فإن السؤال عن ماذا تحمل أمريكا حقاً للعالم قد تحول إلى أحد الأسئلة الأساسية المعاصرة. سيدور حديثنا حول عُقَد الوعي السيادي ووعي الدولة العظمى القادر على تعريض البشرية لكارثة لم يسبق لها مثيل وتفوق كل ما سبقها من كوارث. إنها, في المقام الأول, عقدة "الإنسان الجديد" المنسلخ عن العالم القديم. لقد اعتدنا أن ننسب هذه العقدة للبلشفية. لكن المفاتن المريرة للصحوة "ما بعد الليبرالية" تكمن في أنها تسمح برؤية ملامح الشبه المدهش بين المتصارعَيْن على السيادة العالمية. أحدهما اندثر في اللا وجود؛ وعلى العالم الآن أن يمعن التفكير في كيفية التخلص من الآخر, الذي تبين أنه لا يقل "غلواً".

تأسست الولايات المتحدة على يد المهاجرين. ولا زالت عقدة الوعي المهاجر تطعن الثقافة السياسية الأمريكية إلى الآن متغذية بموجة الهجرة التالية. لا أحد يترك منزله السابق ببساطة. ولفعل ذلك يحتاج المرء إلى أسس اقتصادية أو سياسية أو فكرية خاصة. الوعي المهاجر مليء بالاستياء من الماضي والحنين إليه والحقد عليه, وهو مليء كذلك بالآمال الخفيفة والتعطش إلى الثأر. هذا الاقتران بين الاستياء أو الحقد على العالم (القارة) القديم المهجور وبين الإيمان بأرض الميعاد الجديدة – هو النمط الأصلي الأهم للوعي الأمريكي.

يكتب ليرنير: "إن فلسفة التصور الأمريكي للعالم هي التالية: أمريكا هي العالم الجديد بينما العالم المتبقي كله, ما عدا أمريكا, هو العالم القديم... هذا يضع الأمريكيين في وضع استثنائي باعتبارهم أناساً أوفياء للطبيعة ما يمكن اعتباره مبرراً للتدخل في شؤون العالم, وبالقدر نفسه أساساً لعزل أمريكا عن العالم, المتورط في خلافات ميئوس منها. على هذا النحو يعتبر دورا أمريكا باعتبارها أمةً ناسكةً وباعتبارها أمة محرِّرة دافعين متلازمين في التاريخ الأمريكي وفي الوعي الأمريكي...([7])".

وهكذا, فمن جهةٍ الاستياء الحانق من وطن الأجداد المهجور, ومن جهة أخرى الأمل في الحصول على وطن جديد لا يعوق فيه أي نوع من أنواع المضايقات والأوهام السابقة السعيَ إلى النجاح. على هذا النحو لا يتسم الوعي الأمريكي بالانسلاخ البارد عن العالم المتبقي, بل بالمواجهة الجدلية, التي يمكن أن تغذي تارةً سياسة الانعزالية القاسية وتارةً النزعة التدخلية المسيحيانية.

خيل أن المهاجرين من الأجيال التالية استطاعوا التخلص من مثل هذه العقد وتمكنوا من تكوين نفسية الشعب المتأصل, الذي يبني علاقاته مع الآخرين بوقار هادئ. لكن العناية الإلهية شاءت أن تجعل من التاريخ الأمريكي سلسلة مستمرة من موجات الهجرة المغذية لعُقد "الإنسان الجديد" غير المتأصِّل, ونفسية الارتداد عن العالم القديم. ليس من قبيل المصادفة أن يشير المحللون إلى أن أكثر الوطنيين الأمريكيين حنقاً هم المهاجرون من الجيلين الأول والثاني. تتغذى هذه الوطنية المهتاجة من جهة بالاستياء الذي لم يفتر بعد من الحياة السابقة ومن الوطن السابق, وبالسعي من جهة أخرى إلى الاعتراف السريع في المكان السابق وإلى استعراض الوفاء. ليس نادراً أن تصير جماعات المهاجرين الجدد تحديداً هي المروجة للعظمة والنزعة العسكرية الأمريكية: ينظرون إلى جبروت أمريكا العالمي كضمانة لهم أن العالم القديم لن يجرؤ على التدخل في مصيرهم ومكانتهم الجديدين.

على هذا النحو, تميز تكوين أمريكا منذ بدايته كبلد من العالم الجديد بالمواجهة المانوية مع العالم المتبقي, باعتباره عالماً غارقاً في الآثام. إنه ليس بلداً نشأ إلى جوار بلدان أخرى, وإنما هو عالم جديد مواجه للعالم القديم بكل شيء - هذه هي صيغة الوعي الذاتي الأمريكي.

طبعاً, كان ممكناً أن يسير التاريخ في وجهة مغايرة. كان في مقدور الناس الذين تركوا وطنهم القديم أن يحملوا معهم عقدة مشاعر الحنين والذاكرة المضطربة، مما كان سيؤدي إلى تحويل القارة الجديدة إلى محمية ثقافية مصونة من السرقات الإيديولوجية والسياسية.

حدث هذا في بعض الأحوال – حدث, مثلاً, للمهاجرين الروس من أتباع الطقوس القديمة([8]). لكن الاتجاه الغالب كان مختلفاً ومرتبطاً بثنائيات الطبيعي - الاصطناعي المعروفة. تعتبر ميتافيزيقيا الانسلاخ عن الماضي الثقافي المركِّبَة الضرورية "لنشوء الإثنية" الأمريكية؛ ما كان للأمة الجديدة أن تظهر لو لم تكن المجموعات التي شكلتها مستعدة للانفصال عن ماضيها. لذلك صار التقليل من شأن الإرث الثقافي والذاكرة الثقافية ذاتها العقيدة الفكرية الإلزامية لـ "المجتمع الأمريكي الجديد". صارت أغنى التقاليد الثقافية للبلدان التي انطلق المهاجرون منها عرضة للاستخفاف باعتبارها من المخلفات التي ينبغي على الأمريكي الحقيقي أن يتخلص منها بأسرع ما يمكن.

وهكذا فقد أرسي في أساس بناء الدولة الأمريكية رهاب ثقافي غير مزدوج المعنى. إن الرزوح على المستوى الفردي تحت وطأة "العُقَد" الثقافية يعوق المفتش الأمريكي عن النجاح في الوصول إلى أهدافه غير معرض عن الوسائل التي كانت الثقافات "القديمة" ستعتبرها مدانةً.

أما على المستوى الجماعي, القومي - الدولتي, فإن هذا الرزوح كان سيشكل ظاهرة ازدواجية المواطنة وكان سيعوق تكوين أمريكيين"مائة بالمائة" وأوفياء من غير قيد أو شرط. في وقت لاحق سيستخدم أنصار السيادة الأمريكية على النطاق العالمي هذا الأسلوب في التدجين تجاه أمريكا على حساب الانفصال عن "الثقافات السابقة", مكونين جيشاً من الأتباع المتحمسين من بين أولئك المستعدين وفاقاً لهذا الأساس أو ذاك للانسلاخ عن ثقافاتهم القومية.

على هذا النحو, كما المجتمع المدني الأمريكي المؤمن بأخلاق النجاح الفردي كذلك الدولة الأمريكية, التي استعدت في أثناء حروب القرن العشرين العالمية لتنفيذ "رسالتها العالمية", موبوءة برهاب الثقافة. إن الذاكرة الثقافية على المستوى الفردي تعوق بالقدر نفسه الذي تعوق به الحساسية الأخلاقية استخدام "تقنيات النجاح" التي تَعِد بفاعلية قصوى. منطقياً, تقود الداروينية الاجتماعية الأمريكية بقوانينها حول الاصطفاء الطبيعي وبقاء الأقدر على التكيف إلى محاربة الثقافة التي تحجب "حقيقة" الوضع الطبيعي وتمنع من تقبلها.

على المستوى الجماعي (القومي) تقع الذاكرة الثقافية في أمريكا في موقع الشك باعتبارها عائقاً أمام احتواء المهاجرين السابقين وأمام تأقلمهم (وأمريكا كلها مؤلفة منهم في نهاية المطاف). أخيراً, وعلى مستوى الدولة العظمى
(أو ما فوق الدولة العظمى) فإن التقليل من قيمة الإرث الثقافي باعتباره من مخلفات التقليدية البغيضة يفرضه برنامج العالم العولمي ذاته باعتباره عالماً أمريكياً مركزياً, أو شبيه بالأمريكي, وهذا مستحيل من غير تقليلٍ حاسم من شأن الثقافات الأخرى باعتبارها ثقافات غير معاصرة, أو غير معاصرة بما يكفي.

من هنا تصير مفهومة تلك الطاقة البلشفية, التي شرع يحارب بها أنصار "العالم الجديد" الأمريكي الإرث الثقافي القومي في بلدان "العالم الثاني" السابق وفي الفضاء ما بعد السوفييتي.

أستطيع, كوني شخصاً مرتبطاً ارتباطاً حرفياً بالمجتمع السياسي, أن أشهد على ظاهرة مدهشة, هي تحول مدرِّسي الشيوعية العلمية ودعاة نمط الحياة السوفييتي إلى دعاة الثقافة السياسية الأمريكية "الأكثر تقدماً" وإلى دعاة نمط الحياة الأمريكي. لا ينحصر الأمر في انسياق الناس المعتاد, الذين يتبعون بغير اعتراض الإرشادات الجديدة من الأعلى. بل يكمن الأمر أيضاً في التشابه المدهش بين "إنسان البلشفية الجديد" و"إنسان الأمريكانوية الجديد", فهما يتمتعان بوحدة معينة في البنية الذهنية.

استولى "الإنسان الجديد" البلشفي على بلد مليء بـ "الأناس القدماء", المثقلين بحِملِ الثقافة والأخلاق القديمتين. كان ينبغي تسريع رحيل الجيل القديم بكافة الوسائل, فمن غير ذلك ما كان في مقدور الحياة الجديدة المليئة بالحماسة البربرية و"الاضطراب" الفكري أن تزدهر في روسيا. لقد خفضت عمليات التطهير الشاملة والجوع والإبادات الجماعية في فترة التحول إلى المجتمع التعاوني وفي معسكرات الاعتقال حجم "الحمل القديم" جسدياً. أضيف إلى هذه الإبادة الجماعية الجسدية إبادة جماعية روحية: لقد حدث إغراق قسري لقارة الثقافة القديمة. أخرج كهنة التعاليم الجديدة إلى النور من بين الإرث السابق كله "الديمقراطيين الثوريين" - على الرغم من "جفافهم" الثقافي وعقمهم - أما ما تبقّى فكان ينبغي أن ينتظم كله على أساس حرفية "التعاليم" المستعارة.

وهاهو التاريخ يتكرر أمام أعيننا على نحو مدهش. بات "صبيان شيكاغو" العازمون على إعادة بناء روسيا ما بعد الشيوعية يشتكون مجدداً من الإرث الثقافي, الذي ينبغي أن يخضع لتطهير شامل جديد. تبين أن "أنصار الحرية" راديكاليون أكثر من الشيوعيين, فهم يتهمون هؤلاء الأخيرين بأنهم ظهروا تحديداً على أرض الواقع على شكل تقليديين مستورين حملوا معهم الأساطير الثقافية وأساطير العظمة الروسية القديمة في غلاف جديد. لا يخجل ليبراليونا كذلك من التصريح بأن "الديمقراطية الحقيقية" و"السوق الحقيقية" لن تسودا في روسيا إلا حين يغيب الجيل القديم كله عن المسرح.

تتجه السياسة الاجتماعية والاقتصادية الحالية بوضوح نحو مساعدته على الرحيل بأسرع وقت ممكن.

ومن جديد تترافق الخصخصة الليبرالية, كما جرى عند التحول البلشفي إلى المجتمع الصناعي والمجتمع التعاوني, بتطهير ثقافي لا سابق له. صارت "الأخلاق" و"الثقافة", مثل "الوطنية" و"الوطن" كلمات بذيئة في الإيديولوجية الجديدة المعادية للذهنية القومية. تكمن خصوصية "الثورة الثقافية" الليبرالية مقارنة بالثورة الثقافية البلشفية في أنه كان على "الإنسان الجديد" - الفاتح والمحطِّم للعالم القديم - حينذاك أن ينتقل من المستقبل الذي سرعان ما سينبغي بناؤه؛ أما الآن فقد تبين أن "الإنسان الجديد" حاضر بكل بهائه وروعته - لقد قدم إلينا من وراء المحيط على هيئة منتصر في "الحرب الباردة".

صارت مهمة التلمودية الليبرالية أبسط وأقرب إلى الأرض مقارنةً مع التلمودية الماركسية - اللينينية: فعوضاً عن البحث عن ملامح المجتمع الجديد والإنسان الجديد في نصوص "التعاليم", صار مقدراً رؤيتها الآن بالعين المجردة - في هيئة الأنموذج الأمريكي. هكذا تحولت الطوباوية المذهبية الماركسية إلى "واقعية" خانعة لمقلّدي تجربة ما وراء المحيط. لقد نقل علماء السياسة الخارجون من الشيوعية العلمية, والواضعون نصب أعينهم القطيعة الحاسمة والنهائية مع الماضي اللعين, انبهارهم الإيديولوجي أمام المستقبل المشرق إلى أمريكا.

يتطلب النظام السياسي الأمريكي والثقافة السياسية الأمريكية ونمط الحياة الأمريكي, وفاقاً لقوانين "الليبرالية العلمية" بحثاً دؤوباً ودراسة لا تقل دقةً عن نصوص الشيوعية العلمية.

فهنا وهناك يتبين أن المستهدف الرئيسي هو "الثقافة القديمة" و"الأخلاق القديمة". لكن مكان المفوض البلشفي بات مشغولاً الآن بالمفوض الأمريكي - ممثل "الليبرالية المحاربة", المفتش بيقظة لا تعرف النوم وبحماسة حانقة عن آثار العقلية القديمة والأخلاق القديمة والمجتث لها.

لقد سمي هذا سابقاً نضالاً ضد المخلفات البرجوازية, أما اليوم فيسمى نضالاً ضد مخلفات الشمولية. على هذا النحو, يكمن في أساس "الأسطورة التطهيرية" القديمة والجديدة منطق التبسيط التخفيضي. فمن موقع المفوض البلشفي جرى إرجاع أغنى طبقات الثقافة وأكثرها تنوعاً إلى مركِّبة "البرجوازية" وحدها. لقد وضعت الثقافة القديمة كلها موضع الشك باعتبارها مولدة لابنة الزنا التاريخية المرعبة - البرجوازية. والآن تقع الثقافة كلها موقع الشك باعتبارها مولدة للشمولية.

ليس من قبيل المصادفة أن يتحول مؤلَّف "الثقافة المدنية" لـ أ. ألموند وس. فيربا إلى بيان للعملية الثقافية الأمريكية المعاصرة, التي تنشر أنموذجها في العالم كله. تنقسم في هذا المؤلف في واقع الأمر التقاليد الثقافية العالمية كلها إلى قسمين: أمريكي وغير أمريكي. ولم تُستثن من الشكوك بالادعاءات الشمولية إلا الثقافة الأمريكية. أما الثقافات الأخرى فتقوَّم على أنها ثقافات مثقلة بهذا القدر أو ذاك بجراثيم التسلط والشمولية. اختصاراً, وبالتطابق التام مع أحكام التقدم الإيديولوجي المانوية, يُنظر إلى العالم وكأنه سائر من الماضي الشمولي نحو المستقبل الليبرالي الشبيه بالأمريكي. وكما هو مألوف في مثل هذه الأحوال يجري التفريق هنا بين الأعداء اللدودين والمرافقين الإيديولوجيين. يتعرض القسم الأول للإبعاد, ويخضع الآخرون للتصنيف ولانتقاء من يحتمل أن يكون ذا فائدة بينهم.

تنسب ثقافات حضارات الشرق العظيمة وروسيا إلى الفئة الأولى - باعتبارها ثقافات معدة للتنسيق النهائي خلال الانتقال الحقبوي من الشمولية إلى الديمقراطية العولمية. في ما يخص الثقافة الأوربية الغربية فإن النظر فيها لا يتم بتقدير قيمتها حق قدرها, وإنما ينظر إليها فقط باعتبارها "عرضية" وانتقالية - في سياق التحول العولمي المشار إليه.

فما هو المعيار الذي يسمح بتقويم الجودة الديمقراطية لهذه الثقافة أو تلك وقياس درجتها؟ لدى تحليل البيانات الأحدث لليبرالية الأمريكية نكتشف باستغراب أن المعيار هنا سلبي تماماً. تبين أن مقياس الصلاحية المفيدة للثقافة في المجتمع العولمي القادم هو الفراغ - التحرر من المعايير والدوغمائيات السابقة بما فيها الأخلاقية.

 

<< ميتافيزيقيا "الفراغ" باعتبارها أساساً للعولمة الأمريكية

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

<< تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا