كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

الفصل الثاني :

«بند العولمة الخامس»:

 

اليهود في عالم القطب الواحد

 

المسألة اليهودية محظورة اليوم؛ إن كل الذين ترهبهم حساسية هذا الموضوع يزجون به, عن قصد أو بغير قصد, في غياهب معاداة السامية. تفضل الأسرة السياسية والعلمية الصمت. كان في الإمكان قبول هذا الأمر لو أن التاريخ قدّر لهذه المسألة أن تظل لاحقاً أيضاً في حال "السبات".

إنني أنطلق من مقدمة مغايرة: إن بانتظار حضارتنا في بداية الألف الثالث هزات وتطورات أخرى غير مرئية. وسيُطرح في سياقها الكثير من المسائل المصيرية, ومن بينها المسألة اليهودية, في صيغ جديدة, وربما غير متوقعة. لذلك من الخطر الشديد إبقاء هذه المسائل غير مطروقة, ومحافظةً على شكل عقد ومخاوف في اللاوعي. وفاقاً للنظرية النفسية التحليلية يعطي التلفظ بالعقد المخفية ضمانات إضافية بعدم اقتحامها المفاجئ منظومة قراراتنا, وتضفي على سلوكنا علنية أكبر ولياقة عقلية أكبر. ويخيل أن المسألة اليهودية بالذات هي المسألة الأكثر رزوحاً تحت ثقل المخاوف والعقد. إن التلفظ بغير المطروق والمخفي في هذه المسألة يعطينا إمكانات إضافية من أجل الحفاظ عليه في جو واقعيتنا ورقابتنا الحضارية.

 

"نهاية التاريخ" بالأمريكية

 

يبدو أن القدر قد حكم على اليهود أن يكونوا "عولميين". فوضعهم مزدوج المعنى ذاته باعتبارهم شخصيات وقفت منذ القدم على تخوم الثقافات من غير أن تتطبع حتى النهاية في الوسط الذي أقامت فيه, ومن غير أن تتقبله حتى النهاية, يكوِّن نفسية ذلك الانسلاخ ذاته, الذي عرَّفناه سابقاً على أنها مقدمة ذاتية رئيسية للعولمة.

إن الوعي اليهودي المعاصر ينظم تراتيبية خاصة من ثلاثة أنواع للعولمة - العولمة الغرائبية المرتبطة بالأوهام حسنة النية حول النظام العالمي الجديد, والعولمة الباطنية المرتبطة بالإحساس العالمي للنخب الكوسموبوليتية غير المدرك من "جماهير السكان الأصليين", وأخيراً عولمة الدولة العظمى الإمبريالية, المرتبطة بادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية العولمية.

يحب اليهود اليوم أمريكا حباً متعصباً. وينتهي الحديث مع المفكرين اليهود المعاصرين دائماً تقريباً بإطراء الرسالة الأمريكية في العالم وبالنعوت المزدرية بحق الوطنيين السلفيين, المقاومين لمشيئة عصرنا العولمية, التي تجسدها هذه الرسالة. إن أي تشكيك بالحق الأمريكي في تنظيم كوكبنا يلاقى بردة فعل الإحساس بالإهانة, حتى يكاد يخيل أن الولايات المتحدة الأمريكية هي "أرض ميعاد" اليهودية. بماذا يمكن تفسير هذا الموقف البعيد عن التعددية (البليورالية), والمرتبط بالاستعداد لوضع البيض كله في سلة واحدة أو, بكلمات أخرى, بالاستعداد لتقاسم الخطر الناجم عن المغامرة الأمريكية الناظمة للعالم؟

المرجح أن الأمر يتلخص في أن اليهود صدّقوا أمريكا مرتين. أولاً, صدّقوا أنها تجسد فعلاً مُثُل "المجتمع المفتوح" الكلاسيكية, هذا المجتمع الخالي من حواجز التمييز العنصري والأوهام التي تعيق تطبع الغرباء تطبعاً ناجحاً. وثانياً, صدّقوا أن المخططات الأمريكية لإدارة العالم هي واقعية حقاً وليس ثمة أي بديل حقيقي لها – وكل السيناريوهات الأخرى تقود البشرية إلى الفوضى أو إلى الديكتاتوريات العسكرية. في هذا القسم من الرأي يختلف الفرقاء. يفترض بعضهم أن اليهودية العالمية تستخدم الولايات المتحدة من أجل تحقيق أهدافها, وبعضهم الآخر – وأنا من بينهم - يفترض أن أمريكا في هذه الحال تستغل آمال اليهود وتخدع وعيهم.

إنني لا أتحدث عن من يصنفون كمساعدين للمسيحيانيين الأمريكيين سعياً وراء الأجر الجيد - هنا لا يجوز الحديث عن تلاعب, وإنما عن صفقة. إنني أتحدث عن الأوهام حسنة النية, التي تولد المتعصبين.

احتكاماً إلى بضع مؤشرات ثمة الكثيرون من اليهود ينتظرون مرة أخرى "نهاية التاريخ", وينتظرون معها الحل "النهائي" للمسألة اليهودية. ارتبط هذا الحل النهائي في بداية القرن بالأممية الشيوعية, التي ستزيل, لا الحدود والحواجز القومية وحدها, بل والقوميات ذاتها أيضاً مع اللغات القومية - وبذلك تحوِّل البشرية كلها إلى ديسبورة سعيدة, لا تعرف وطناً. يرتبط حل المسألة اليهودية الآن بـ "المجتمع المفتوح" العولمي. أمس كانت لا تزال ملحوظة في خطوط كفاف هذا المجتمع المفتوح بضعة ملامح من المشروع التنويري, المؤسس على فرضيات العمومية والتعددية والديمقراطية. اليوم صار يبرز على نحو مكشوف أكثر المحتوى الإمبراطوري.

يبدو الأمر وكأن العالم اللاغربي كله تقريباً غارق في الشر, وتحويله إلى أرض المعياد مستحيل. ليس ثمة لزوم أيضاً لوضع الآمال على قوى التقدم المُغْفلة, التي تنقل آلياً الإنسانية السعيدة نحو المستقبل المشرق. ويبقى مخرج وحيد: الاتكال على أمريكا في تنفيذ رسالة الرقابة الديمقراطية على غالبية الكوكب غير الديمقراطية. الضمانات لليهود في هذا العالم المليء بالشك مرتبطة بالحضور العولمي الأمريكي. بالتالي ينبغي أن تضعف إلى أقصى حد كل السيادات الذاتية القومية القادرة على معارضة هذا الحضور, وينبغي أن تفرض الرقابة العالمية الأمريكية في كل مكان, وينبغي أن تَنْفَذ إلى كل شيء.

واضح أن الحديث في أثناء ذلك ما عاد يدور عن ذلك الوعي, الذي ينتظر بدماثة تطور النزعات الموضوعية التي تقود باتجاه محدد مسبقاً. يدور الحديث عن اختيار الموقف المرتبط بالمخاطرة والصراع والضراوة. في الواقع إذا عُلِّقت الآمال كلها على الحماية الأمريكية العولمية فإن من الضروري قدر الإمكان تقويض موقف الدول القومية في العالم كله وتقويض الموقف الوطني "الدفاعي" القابع خلفها. صار الناس المحتفظون بهذا الموقف يُعتبرون أعداء أمريكا وأعداء اليهود بآن معاً, إنهم الغالبية الحمراء – البنية الشريرة التي تعيق الحل النهائي لمسائل بناء العالم بالطريقة الصحيحة الوحيدة.

لنسأل أنفسنا السؤال التالي: ألسنا نتعاطى مع إصدار حكم نهائي جديد على التاريخ الإنساني قبل الأوان؟ ألا ندفع الإنسانية هنا باستعجال نحو النهاية, التي لا تناسبه, والتي لا تعتبر في حقيقة الأمر نهاية؟

هل يمكن التأكيد بأن أميركا ستنجح في مهمة وضع اليد نهائياً على العالم؟ فعبر تاريخ الإنسانية الممتد منذ آلاف السنين وحتى الآن لم يشهد أحد مثالاً لهذا. لقد نشأت الإمبراطوريات العالمية وظهرت مشاريع الاحتلال التي هزت العالم, لكن كان يمر بعض الوقت وتتناثر "الدول الألفية" مثل منزل من ورق اللعب. وكان يخيَّل لحاملي هذه المشاريع في كل مرة أن كل شيء قد حسم نهائياً "ولا قدر آخر".

إذاً فلنتخيل أن اليهود في أغلب البلدان التي لا زالت تقاوم الادعاءات الإمبراطورية العولمية الأمريكية قد اكتسبوا في نظر السكان المحليين سمعة راسخة بأنهم "طابور خامس" أمريكي, ثم انهار المشروع الأمريكي: ألن تفوح من هذا رائحة المجازفة الكبيرة جداً لكل من ربط مصيره بهذا المشروع قبل الأوان وبغير تبصر؟

وحتى إذا تخيلنا أن الاحتلال الأمريكي للعالم قادم فعلاً فهل تبدو السيطرة الأمريكية كافية للتدخل السريع والفاعل في جميع "أطراف العالم " المحتلة بهدف الحؤول دون الأعمال المعادية للسامية وضمان الرفاهية والاستقرار لليهود؟ ألن يكون لدى الإدارة العالمية الكثير من الهموم الأخرى, حتى تركز قواها كلها من أجل حل المسألة اليهودية وحدها؟

أخيراً, من غير الممكن استثناء الخطر الآخر: ألن تتغير شعارات فاتح العالم ذاته ومبادئه حين تتكلل خططه بالنجاح؟ وإذا ما بدا للمحتل مفيداً استخدام ديماغوجية معاداة السامية من أجل توطيد السلطة في المواقع وخداع جماهير السكان الأصليين, فهل سيقدر على التغلب على هذا الإغراء؟ باختصار, ووفاقاً للعديد من الاعتبارات, يبدو الحل الحالي "الأحادي" للمسألة اليهودية المرتبط بالتوجه الاستثنائي نحو الولايات المتحدة الأمريكية ورسالتها العالمية, أقل إيثاراً من الحل التعددي التقليدي, المرتبط بتطبيع اليهود في بلدان إقامتهم وبعلاقتهم الوفية بالسكان المحليين.

لنتناول الآن المسألة من جانب مغاير. حين يدار الحديث عن ذلك الشعب ذي التقاليد القديمة مثل هذا القدم, والذي سطر صفحات ناصعة في تاريخ البشرية الوجداني, وفي مسيرة تشكيل وعيها التاريخي لذاتها, فإن اعتبارات التوفيق والأمن البراغماتية هي غير كافية على نحو جلي. يخيَّل لي أن "صيغة خلاص" اليهود الأمريكية أكثر إثارة للشك في الحسابات الكبرى من الحسبة التي تبدر عن الوعي الاستهلاكي المعاصر المتعطش إلى التوفيق المادي والراحة والأمن فقط.

تدخَّل اليهود في تاريخ إمبراطورية عالمية رائعة وغريبة عنهم – هي الإمبراطورية الرومانية, وقد أوقع هذا التدخل أحد أعظم انقلابات الإنسانية الروحية المتعلقة بحل مسألة التناسب بين الجسدي والروحي, بين القوة والأخلاق, بين المفيد والعادل, حلاً جديداً. وبعد ذلك, وحتى قيام ثورات العصر الحديث العظيمة وقف اليهود إلى جانب المستائين والمظلومين, ورموا معهم القفاز في وجه القوة المتسيدة غير المعتادة على مواجهة المقاومة. كان الطبع اليهودي منذ قديم الزمان مناهضا للاستبداد وملهماً في المواقف التي تطلبت إهانة القوة المتغطرسة وتقديم الوعد للضعفاء الذين يفتحون أفقاً تاريخياً جديداً نوعياً.

هل نستطيع القول إن التوجه "المركزي الأمريكاني" الحالي لعدد كبير من اليهود يتماشى مع هذا التقليد العظيم؟ ليس مرجحاً أن أشياع "الرسالة العولمية" الأمريكية الحاليين بسيطون إلى هذا الحد ليصدقوا أن الدافع الحقيقي للتوسع الأمريكي الجيوسياسي هو الاهتمام فعلاً بحقوق الإنسان. سيبدو تمظهر الرقة الساذجة أمام سياسة عالم القطب الواحد الأمريكية غير مقنع ومزيف إلى درجة أن عزة النفس البسيطة لا تسمح بالتعبير عنه. إن المركزية الأمريكية اليهودية الحالية لا تعبر عن الحماسة والحنين العاطفيين بقدر ما تعبر عن الاتكال على القوة والسلطة.

إن المنهج التوحيدي اليهودي الذي ناهض عبر القرون التجارب الوثنية لخلق الأصنام والإغراءات بالنجاح اللحظي, يكاد أول مرة في التاريخ يسلم مواقعه لشياطين الغرور الاستهلاكي التافه والخنوع المتباهي برعاية القوة العالمية.

نفسياً, يمكن تفسير هذه التبدلات في الوعي, المرتبطة بتحول الخنوع والخوف إلى فخر وتحول الضعف إلى "قوة حديدية" عديمة المشاعر. لنتذكر أن المفوضين البلاشفة كانوا يؤكدون دائماً على "الأناس الحديديين" الجدد الذين يدوسون الأخلاق القديمة. لكن "إنسان البلشفية الحديدي" انتفض في وجه الأقوياء, مدافعاًً عن الضعفاء, وبذلك كان مخلصاً لتعاليم الإرث الروحي اليهودي – المسيحي.

يتحدث الوثنيون الجدد الحاليون بلغة مغايرة. إنهم يظهِرون أول مرة بعد الانقلابات الفاشية في أوربا احتقارهم للعرق الدوني, عرق المنحوسين وغير القادرين على التكيف. وليس مهماً أن العنصرية في هذه الحال لا تستخدم معايير أنثربولوجية يثبتها علم الجينات بل تستخدم, أساساً, معايير السوق والمعايير الاقتصادية. لقد أُكسِبت نظرية السوق اليوم ملامح الاصطفاء الطبيعي العنصري الذي لا يرحم غير القادرين على التكيف - حتى لو تبين أن الحديث يدور عن غالبية البشرية.

بعث أم انحطاط

هيا بنا نمعن الفكر في الآفاق المختلفة في الحالين: حين يدور الحديث عن اتحاد الأقلية اليهودية مع الأغلبية المظلومة وحين يدور الحديث عن الحال المعاكسة – عن اتحادها مع الأقوياء, ومع سادة العالم اليوم ضد الأغلبية المنحوسة و"السلفية".

واضح أن ما ينتظرنا هنا ليس فقط العواقب السياسية الخاصة التي ما زالت غير متكهن بها كثيراً. يدور الحديث عن التحدي الحقيقي للتقاليد الإنسانية العالمية كلها, التي اعتُبِرت نقطة انطلاقها انقلابات "الزمن المحوري" العظيم التوحيدية. وعلينا في المقام الأول أن نقرر النتائج الأخلاقية. تفترض العولمة المركزية الأمريكية "ثورة أخلاقية" حقيقية, محفوفة بالتشكيك بأحكام الوعي الكلاسيكية جميعها, المتعلقة بالتضامن مع المحرومين وبروح الرأفة والحساسية الأخلاقية.

ليس من قبيل المصادفة أن تجد كلماتٌ مثل "العدالة الاجتماعية", "المساواة", التضامن", "التعاطف" مكاناً لها بين عداد الكلمات التجديفية في اللغة العولمية الحديثة, إلى جانب "الوطنية" و"خدمة الوطن" و"الإخلاص للتقاليد الشعبية". إننا نرى هنا, من جهة, تحدياً لأخلاق التنوير السياسية, المُسخّرة لخدمة الفقراء وغير المتنورين. ومن جهة أخرى تحدياً للأخلاق الإنسانية العامة بمجملها, فحيث يدور الحديث عن وجوب نزع أي حواجز تَعوق اصطفاء السوق الطبيعي يصير المستهدف هو الإحساس الأخلاقي ذاته. لم يشهد تاريخ البشرية بعد مثل هذا القدر من الاتكال الصريح على القوة والنجاح المتحولين إلى مؤشرين مطلقين وقيمين للجودة, وإلى معيارين نهائيين لكل من هو جدير بالعيش على الأرض, ولكل من هو غير جدير بذلك. أليس في مثل هذا الموقف – والكثيرون من المنظرين والمؤلفين اليهود لا يأنفون من لعب دور طلائع مؤيدي هذا الموقف - مغامرة مزدوجة؟

أولاً - تؤكد هذه المغامرة أسوأ مخاوف "السكان الأصليين" من اليهود ومن "أخلاقهم الطائفية تجاه جماعتهم", إنها, بكلمات أخرى, تؤكد أسوأ فرضيات معاداة السامية.

وثانياً - هذه مغامرة داخلية, تمس تحديداً الآفاق الروحية وسمعة اليهودية في العالم. يدور الحديث في هذه الحال عن دوافع الإبداع الروحي ومنابعه. بدا التاريخ اليهودي على مر الكثير من القرون وكأنه انشطر مخلفاً أنموذجين متطرفين. نجد في الجهة الأولى أنموذج المرابي والصيرفي والتاجر, الذين يتحدد نجاحهم بمقياس الابتعاد عن الأخلاق العامة وبعلاقتهم غير العاطفية مع محيطهم الاجتماعي. ونرى في الجهة الأخرى أنموذجات ساطعة ومتوهجة على نحو غير عادي وتصبو إلى تقاليد القداسة والنبوة العظيمة, ولا تسمح للنار المقدسة بأن تنطفئ في عالمنا البارد. ليس ثمة أي شك في أن أنصار العولمة لن يسمحوا بانقطاع التقاليد التجارية - الرِبوية, وما يسمونه اليوم اقتصاد السوق يذكرنا أكثر ما يذكر بالمراباة القديمة عديمة الخجل المرتبطة بالديسبورة المترحلة لكهنة العجل الذهبي, وليس بأخلاق ويبر البروتسانتية.

في هذا السياق يبدو مغايراً تماماً أفق التقليد الآخر, الذي تدين لـه اليهودية بمتناقضات مصيرها التاريخي العظيمة وسمعتها الوجدانية. والمخاطرة بأن يختفي التناقض اليهودي العظيم اليوم من العالم, وبأن نحصل على نمطية أحادية عوضاً عن الازدواجية الغامضة في المصير والوعي اليهوديين, كبيرة جداً. لكن هل سترضى الأنفة اليهودية بمثل هذا الحل لمصيرها, وهل يكفيها أن تُعتَبر تجسيداً لأخلاق النجاح التجارية الاستهلاكية؟

إنني أتبنى موقف "نقد القدرة على الفكر" الكانطي([1]), حيث يجري التفريق بين أفقي الموهبة والعبقرية في الثقافة. الموهبة لدى كانط واقعية جداً وتمتاز بمقدرتها على تجنيد جميع المقدمات المتوافرة, ونَظْمها في إطار منطق واحد يقود إلى نتيجة ناجحة. أما العبقرية لدى كانط فهي على الأرجح رومانسية أكثر منها واقعية, وتحمل تجلياتها طابعاً صوفياً - إنها ليست من هذا العالم, إنها تحتوي استجابة لعالم جبلي آخر, ونور نجوم أخرى.

ونسأل أنفسنا إذ نترجم هذا إلى اللغة المعاصرة: هل ثمة علاقة بالإلهام الإبداعي الكبير لنشوات الوعي الأخلاقية – الدينية المنطلقة إلى ما وراء أفق هذا العالم, الذي لا تكتسب فيه الأهميةَ الحاسمةَ إلا الثمار الناضجة وشروط البداية فقط؟

ألا يكون نفاد الأفكار التأسيسية الكبرى, التي يتحدث عنها اليوم الكثيرون من محللي الثقافة والعلم, متعلقاً, تحديداً, بالفتور الكبير الذي أصاب الوعي الأخلاقي – الديني, وبما فعله بالثقافة جيل العصر ما بعد الديني الثاني؟ لقد برز الملحدون الأوائل, كما حزر دوستويفسكي, كمتعصبين للإيمان - وإلا لماذا كانوا سيتعصبون؟ لقد آمن الثوريون الحانقون ومناهضو الاستبداد وبناة الجنة على الأرض بأعجوبة التحول والميعاد والمتناقضات, التي أوصت بها المسيحية: عن النعيم النهائي للفقراء بالروح, الذين سيرثون الأرض, وعن نعيم المطرودين بسبب من الحقيقة, ونعيم الحزانى والودعاء. إن داروينييّ العولمة الاجتماعيين الجدد يُقومون الأفق أمام الفقراء والحزانى والودعاء على نحو مغاير. إنهم غير ميالين لأن يروا في الواقع المحيط وفي التاريخ الإنساني مؤشرات "البعد الآخر", التي لا تقود قط إلى حيث يشير منطق الاصطفاء الطبيعي, والتحليل البراغماتي كله. هل الوعي العقلاني تماماً والبراغماتي قادر على القيام بفتوحات عظيمة في الثقافة؟ ألا يتهددنا فقدان البعد الثاني المتسامي نحو الصوفية اليهودية - المسيحية, نحو الذرى الجبلية, بأن نفقد في الوقت نفسه الإلهام الإبداعي الكبير وبتحويل فروع الثقافة كلها إلى خدمة المنفعة؟

لمن الثقافة والعلم مدينان بالإضاءات والاختراقات الأعمق: ألأولئك الذين يوجههم الطلب الاجتماعي المصاغ بدقة, وحال السوق, أم لأولئك الذين لا يتبعون المنفعة بل الإلهام السامي؟ حتى قواعد العلم الاجتماعية البعيدة عن النشوات الروحية الصوفية تشير إلى الفرق الواضح بين دوافع المعرفة التطبيقية والتأسيسية, فالأخيرة مرتبطة بتجنيد منابع الروح الإبداعية غير النفعية.

لنعد إلى المسألة اليهودية. هل سيوافق اليهود, في حال معرفتهم الدقيقة لا للعواقب السياسية وحدها, بل الروحية أيضاً, على تجاوز الازدواجية في مصيرهم ووعيهم نهائياً لصالح الاتجاه الواحد والمعنى الواحد, الذي يروج له براغماتيو العولمة, أي لصالح الثقة التامة بهذا العالم الذي تحددت فيه تراتبية المنتصرين والمهزومين, القادرين على التكيف وغير القادرين عليه, المختارين والمنبوذين؟

إن القطيعة مع غالبية الكوكب غير القادرة على التكيف لصالح حلف المنتصرين وسادة هذا العالم ليست محفوفة بالمخاطرة السياسية وحدها.

هذه القطيعة محفوفة بفقدان تلك البكرية الروحية, وبفقدان فتوحات الوعي النبوي المنتشي, التي ارتبط بها ذلك القدر من المرات الكثيرة التي دان بها العالم بالقيادة الروحية لليهود.

يعني هذا في حقيقة الأمر فقدان التماثل المتسامي نحو التقاليد التوراتية, ونحو نص العهد القديم الذي تنبأ بالظفر النهائي, لا لذلك الذين انتسب إلى أسياد هذا العالم ليقاسمهم نجاحاتهم, بل لذلك الذي لم يفزع غير مرة من نبذه, ولذلك الذي يحسن الانتظار.

 يجازف اليهود المتكيفون مع وضع السيادة الأمريكية في العالم بما هو أكبر من المخاطرة البراغماتية - إنهم يجازفون بتسخيف التاريخ اليهودي كله, ويغامرون بموت الأسطورة اليهودية في الثقافة. لقد بلغت معضلة التاريخ اليهودي الأزلية اليوم حدتها القصوى. إما التطبع النهائي الذي لا عودة عنه في معسكر المنتصرين, معسكر أسياد هذا العالم, وإما الحفاظ على التماثل غير المرتبط بمؤشرات اللغة والعرق التجريبية بقدر ما هو مرتبط بالحل المحدد لمسألة الرسالة. إذا تبين أن سيادة أمريكا في العالم عولمية حقاً ونافذة إلى كل مكان فإن على اليهود, الذين جعلوا خيارهم لصالحها, أن يذوبوا وسط المنتصرين. إن أي انتكاسةِ عزلةٍ, وأي تباعد سيكونان خطرين إلى أقصى حد بسبب من استياء جماهير الأطراف المحتلة من ممارسات "الطابور الخامس" الشهير. ما كان "البند الخامس" سيئ الصيت, الذي يُشبَّه منذ اليوم بممارسات "الطابور الخامس", ليبقي لليهود أي خيار آخر غير الذوبان كلياً بين المنتصرين, وغير التأمرك الخارجي والداخلي. وقد بتنا نلحظ اليوم بعض أعراض هذا التقمص اليهودي لـ "عرق الأسياد" الأمريكي. يبدو هذا لبعضهم انبعاثاً, لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الشريحة التي ولدتها التقاليد اليهودية النبوية الكبيرة فإن الأنسب هو الحديث عن خطر الانحلال.

لكن علينا أن نقول إن لهذا القدر من "تأمرك" الوعي اليهودي الجماعي مقدماته ذات الطابع ما فوق الفردي أو ذات الطابع البنيوي. يتلخص الأمر في أن لدينا اليوم تطابقاً مذهلاً في عمليات ازدواج بنى الوعي التي تشمل أمريكا الرسمية و"الطليعة الليبرالية" اليهودية في بلدان العالم المختلفة. وتبرز هذه الازدواجية في اللحظة ذاتها التي يجري فيها تقرير مصير الإرث الأعظم من موروث البشرية – أي إرث التنوير (الحداثة).

 

ربط التنوير مصيره, من بين مستويات دينامية الارتقاء الإنسانية الثلاث الممكنة - العولمي (الكوكبي), والقومي (ما فوق الإثني), والقبلي (الإثني), بالمستوى الثاني. صارت حقبة التنوير حقبة تشكيل الأمم الموحدة الكبرى عن طريق صهر الإثنيات المتجاورة والثقافات الفرعية في جماعات اجتماعية تاريخية كبيرة, تكتسب فضاءً اقتصادياً وسياسياً – حقوقياً وتعليمياً – إعلامياً كبيراً موحداً. إذا رمزنا إلى توافقية المستويات العولمي والقومي والمحلي بالأحرف ع – ق – م فإن صيغة التنوير ستبدو خصوصاً بعبارتها الفرنسية الكلاسيكية على النحو التالي: 0 - ق – 0 (يسحب المستويان العولمي والمحلي إلى خارج القوسين, وتكتسب العبارة المستوى الأوسط – القومي).

أنتج التاريخ الثقافي والسياسي الألماني صيغته المغايرة بعض الشيء:
0 -ق - م (يسحب المستوى العولمي إلى خارج القوس باعتباره تجريداً, وتصير العبارة العملية مؤلفة من تزاوج المستويين القومي والمحلي الإثني الإقليمي مع سيادة القومي غير المشروطة). نضيف على الفور أنه حتى هذا التنازل الخاص للبداية المحلية والإثنية القومية قد لعب دوره الدراماتيكي في تاريخ الشعب الألماني السياسي والوجداني.

وها نحن نلحظ اليوم محاولة إعادة تشكيل بنية الحداثة ذاتها عن طريق تحريك جهود التقدم كلها من المستوى القومي الأوسط إلى المستوى العولمي. والذي ينشِّط هذه المحاولة هو المجمع الإمبراطوري الأمريكي والديسبورة اليهودية المؤيدة لـه في المناطق. يدك الأمريكيون حصون الدول المستقلة الكبيرة القومية بآلتهم الصناعية - العسكرية والمالية والدبلوماسية, أما الديسبورة اليهودية فتنخرها بـ "تهكمها" الذي يطال كل شيء ويفتته. لقد خدم هذا التهكم اليهودي قضية التنوير في وقت ما خدمة أمينة على الرغم من أن الدافع إليه ربما لم يكن تنويرياً بقدر ما كان مرتبطاً بفرضية الشعب المختار القديمة. كانت قضية التنوير في زمنها في حاجة إلى رجالات ينتفضون بقوة ضد الأصنام القديمة وكذلك ضد كل ما هو فاسد وبدائي ومحلي. لقد نظف "التهكم" التنويري المكان لعموميات التقدم – الفضاءات الموحدة الكبيرة, المخصصة من أجل تحقيق ذات الإنسان الجديد, الذي ما عاد يمثل خصوصيةً إثنية إقليمية ومحلية, بل أمةً سياسيةً موحدة, في أسسها, ودينامية وناظرة لا إلى الماضي بل إلى المستقبل. 

صار رجال الفكر اليهود, غير المقيدين من حيث التعريف بالوسط الإثني المحلي وعاداته, معاوني التنوير الأنشط في عملية التنظيف هذه. يحرم إله إسرائيل الغيور تحريما تاماً عبادة الآلهة الأخرى وخلق الأصنام. لذلك تغذى التهكم اليهودي, الموجَّه منذ قديم الأزل ضد الأصنام الوثنية الغريبة عن اليهودية, بعقدتي العهد القديم التفوق والشعب المختار. لم يشعر اليهود بالأسف على أصنام الآخرين؛ لكنهم شعروا بالوقت نفسه بالغيرة منها باعتبارهم أناساً مرشحين تقليدياً للاحتكار ككهنة إيديولوجيين ومرشدين للبشرية – ورثة طائفة اللاويين.

كان من الصعب على عمل التنوير التنظيفي الموجه ضد الأصنام القديمة كلها أن يكون نافذاً وغير مهادن إلى هذا الحد لولا طباع الطليعة اليهودية, التي أضفت على كل جديد في الحداثة شكلاً راديكالياً أعظمياً. لكن كمن في هذا أيضاً خطر مرتبط بازدواجية بنية الوعي اليهودي ذاتها. كان صعباً جداً على الطليعة التقدمية اليهودية الالتزام عند وسط التنوير الذهبي - على مستوى الدولة – الأمة. لقد راحت تنجذب, باعتبارها ديسبورة كوسموبوليتية غير مرتبطة بأطر الإخلاص الوطني, نحو"العولمة", نحو مستوى "مواطني العالم" غير المقيدين بأي قوانين قومية. وكانت لا تفعل شيئاً, باعتبارها مجموعة إثنية خاصة مجروحة ويحركها الإحساس بالتكافل والتضامن تجاه أفرادها, غير الانزلاق نحو مستوى الباطنية القبلية والغمز التآمري لأقرانهم في القبيلة. مع العلم أن مفهومي الباطني والقبلي هذين قد تضافرا على نحو عجيب وغامض حتى أن إجراءات معرفتهما وفصلهما كانت صعبة جداً ليس فقط على المراقبين من الخارج بل على الطليعة اليهودية نفسها.

 

المُلْك والقداسة

 

تلخص التناقض الدراماتيكي في أن المحاولات اليهودية لجعل الحداثة راديكاليةً, وإكسابها شكل ثورات سياسية وثقافية لا تقبل الحلول الوسط قد انقلبت في أحيان كثيرة إلى سقوط في سلفية العهد القديم القبلية. بهذا المعنى يبدو ذا دلالة كبيرة جداً مصير الفكرة الاشتراكية التي استحوذ عليها المفوضون البلشفيون واحتكروها.

بدأت الاشتراكية, على غرار غالبية الحركات العظيمة في عصر الحداثة, تتطور في مستوى الدولة – الأمة الأوسط (غير العولمي). لقد أكسبها هذا رسوخَ العمليةِ التاريخيةِ الطبيعية, المرتبط بتحقيق الذات من قبل الأمم العظمى الخارجة من التنوير والتي تحل مشاكل مستقبلها على شكل إبداع ذاتي مستقل. كان في مقدور كل شعب من الشعوب أن يحقق بطرقه الخاصة مُثُل الاشتراكية الملهمة والمُعْدية, التي تؤلف خلاصة إرث أوربا التنويري العام. كمنت خصوصية التنوير الأكثر نفعاً في فطرية نبضه: لم تكن أهدافه ومقاييسه ومثله مصوغة بطريقة مذهبية متشددة ما ومفروضة على الأغلبية, بل عكست أفضل آمال هذه الأغلبية ذاتها, التي اجتاحتها روح الحداثة من غير أن تلحظ هي نفسها ذلك. ليس مصادفة أن المنورين كانوا يتوجهون على الدوام إلى الإنسان الطبيعي وإلى "طبيعته" – كانوا يشمئزون من العلاقة الوصائية - المتعالية بالجماهير, التي وثقوا بـ "عقليتها" وثوقاً كاملاً. فكيف كانت ستبدو الاشتراكية المتماشية مع أحكام الطبيعة التنويرية هذه؟

واضح أنها لا يمكن أن تكون شيئاً يتنافى مع تجسيد مطلب الشعوب الاجتماعي الناضج, ومع التعبير عن آمالها. لنتذكر شعارات البلشفية الأولى, التي سرقتها من حزب الأغلبية – حزب الاشتراكيين الثوريين (الإسير): "السلم للشعوب", "الأرض للفلاحين", "المصانع للعمال". هذه الشعارات, التي عكست المرحلة الديمقراطية العامة من الثورة الاجتماعية الناضجة, لم تكن تحتوي في ذاتها على أي شيء دوغمائي – فئوي, ولا على أي باطنية مصطنعة غريبة عن الفكر الشعبي السليم. لم تغتصب مثل هذه الاشتراكية ولو قليلاً "طبيعة" الإنسان اليهودي الجديد وتطابقت مع المبدأ المعبر عن كرامته: "أن يكون سيد نفسه" – أن يكون شخصية مستقلة غير خاضعة لوصاية, وتلتزم بأسمى مثل العدالة.

كان مبدأ وحدة العمل والملكية هو التعبير الأسمى عن هذه "العدالة الطبيعية". ينبغي أن تعود الأرض لأولئك الذين يعملون بها – أي للفلاحين؛ والمنشآت الصناعية لأولئك الذين يكدحون فيها – أي للتعاونيات العمالية. وفي حال تحقيق روسيا ذلك كانت ستحصل على مجتمع الاشتراكية التعاونية, الخالي من المذهبيات المتطرفة الضيقة مثل رفض السوق والمال, ومن الإنتاج وفاقاً لخطة واحدة مصوغة من قِبل بيروقراطية الرقابة القوميسارية المتكوِّنة والعارفة بكل شيء.

كان ينبغي أن يبرز المنتجون التعاونيون والأفراد في المدن والأرياف كمنتجي بضائع لا يملكون أي امتيازات خاصة من خارج السوق, وكمتحررين من ضغط المجموعات السابقة صاحبة الامتيازات. إن الشخصية المركزية لمثل هذه الاشتراكية الشعبية ليست ما يسمى البروليتاريا, بل المستثمر الكادح المستقل. وهذا يمكن أن يكون إما مستثمراً فردياً (أسرياً) مزارعاً أو حرفياً, وإما مستثمراً تعاونياً في المؤسسات التعاونية في المدن. يدل نطاق الحركة التعاونية ذاته في روسيا, التي شملت عشية الانقلاب البلشفي عشرات الملايين من السكان ذوي المبادرة الذاتية, على الطابع التاريخي الطبيعي الناضج لهذه الثورة الاجتماعية الاقتصادية. فما الذي يفعله في هذه الظروف المفوضون البلشفيون الذين استولوا على السلطة؟

إنهم يراقبون تفتح الحياة العفوي هذا كله بغيرة كهنة التعاليم الأممية العظيمة, المهددة بأن تبقى من غير عمل. لقد جابهوا اشتراكية الفلاحين والعمال الروس العفوية والمحرومة من أي نوع من أنواع الصرامة المذهبية بالمذهب الاشتراكي العولمي, الناضج في عقول موسى الجديد - مرشد الجماهير العمياء والعنيدة وغير العارفة "بمصالحها الحقيقية".

عموماً, فيما يخص موسى هذا – والحديث يدور عن ماركس, فإن من الضروري أن ندقق مشيرين إلى أنه كان في الوقت نفسه وريثاً لفكرة العهد القديم حول الشعب المختار وابن التنوير المؤمن بأن التقدم إجمالاً يتطابق مع تحقيق ذات الإنسان اليهودي الجديد. لقد تجلت الميول السلفية لدى ماركس إلى فكرة الشعب المختار, التي تجبرنا على تذكر الأصل القديم ما قبل المسيحي, في أن المكان في المجتمع الاشتراكي المقبل لديه لن يكون مخصصاً للجميع بل استثناءً للبروليتاريا التي سينبغي عليها أن تكون حفارة قبر الطبقات الأخرى.

لكن ماركس على الأقل, واحتكاماً لكل شيء, وثق تنويرياً بالمبادرة التاريخية الحرة لهذه الطبقة. يستعرض مؤسس البلشفية الخطوة الجديدة على طريق انسلاخ التعاليم الفئوي عن الاختبار التجريبي وعن مصالح الجماهير اليومية. فحتى الطليعة البروليتارية, كما هو معروف, لم تكن تستحق ثقته الحقيقية, لأن "الوعي الاشتراكي "الصحيح", كما يعلن في مؤلفه "ما العمل؟", لا تستطيع تكوينه حتى البروليتاريا بقواها الخاصة: من يكوِّنه هم كهنة ماركسيون خاصون, يبثون في الجماهير البروليتارية ما لا تحتويه في ذاتها وهو – الوعي الاشتراكي الصارم. تنتج عن هذه الصرامة المذهبية اشتراكية مختلفة تماماً, ليس فيها ما هو مشترك مع العلنية والبساطة التنويريتين, - تنتج اشتراكية المفوضين الفريسيين – الأوصياء على "العقيدة" وحماتها.

خيل للمفوضين البلاشفة أول الأمر أنهم يقدمون, عوضاً عن نسخة الاشتراكية الوسطية والمتهاودة والاشتراكية الديمقراطية والمذنبة بالتنازلات لـ "الفوضوية البرجوازية الصغيرة", الأنموذج الصحيح الوحيد, والمنطقي الجريء والذي لا تشوبه شائبة مذهبياً. صار التنوير ذاته عندهم موضع شك لبساطته تحديداً – أي تطابقه مع نبض التحرر العفوي وتحقيق الذات الذي تمَلَّك جماهير البشر في عصر الحداثة. لقد شهرّوا بكل المساعي الديمقراطية العامة والشعارات باعتبارها متهاودة وغير كافية ومشوبة بروح الحلول الوسط مع البرجوازية البغيضة.

إلغاء الرقابة غير كاف من أجل حرية الكلمة الأصيلة, والدساتير الديمقراطية غير كافية من أجل حرية الإبداع السياسي, والتشريعات المتعلقة بالمسألة العمالية غير كافية من أجل حل هذه الأخيرة حلاً فعلياً, إلخ...

وها هم نقاد "الديمقراطية البرجوازية" المحدودة أولئك يمسكون بزمام السلطة ويشكلون بسرعة كبيرة وعلى نحو لم يلحظوه هم أنفسهم مجتمعاً مفصلاً وفاقاً لأنموذج فوق سلفي, خيل أن التاريخ قد دفن أمثاله نهائياً.

وهنا تباغتنا التناقضات الأكثر إثارة للغم في تلك الاشتراكية غير الراغبة في أن تكون شعبية وقومية, وإنما عولميةً موحَّدةً, وغير أمينةً لمشيئة الحياة بقدر ما هي أمينة للنص المقدس. ويسقط على نحو مفاجئ مغالو الحداثة البلشفيون في سلفية العهد القديم القبلية وفي اللاحداثة المنهجية وفاقاً للقانون الغامض القاضي بتحول العولمي إلى قبلي ما إن يتحطم المصطلح الوسط – القومي العام.

لنأخذ أحد أحجار الزاوية في هذا المذهب, وهو مبدأ التخطيط البيروقراطي الشامل. تكتشف الثورة الاقتصادية البلشفية هنا تحديداً ملامح اللاحداثة المنتهية. هل يمكن في الواقع تصور أن حياة هذا المجتمع الكبير الاقتصادية, بعلاقاتها ومبادراتها ووسائطها التي لا تحصى كلها, يمكن أن تضبط بمجموعة أوامر مركزية مقرة مسبقاً؟ واضح في الواقع أن أنموذج المجتمع الصغير ينبعث هنا – أي أنموذج مشاعات أفراد القبيلة, الذين بعضهم يعرف بعضاً معرفة شخصية ويديرون اقتصاداً عينياً. لقد قدمت الطوباوية البلشفية اللاسوقية, تحديداً, الشكل المحول لهذا الاقتصاد العيني, الخارج من أطر معايير المجتمع الصغير الطبيعية والمتطلب, لهذا السبب, إقامة بيروقراطية شاملة.

 يعتبر جديدُ البلشفية في البناء الدولتي السياسي والإيديولوجي شكلاً آخر أشد إثارة للانطباعات من أشكال التحول المعكوس من "ما فوق المعاصَرة " إلى ما فوق السلفية. لا يستطيع أي مراقب أن لا يذهل من القدر الذي تذكِّرنا به المُثل الشيوعية ما فوق الحداثية عن المجتمع اللادولتي بمُثُل إسرائيل في العهد القديم في زمن عصر القضاة. المجتمع الموجَّه والمدار من الكهنة – القضاة, هو, حتى وفاقاُ لمعايير الشرق القديم, عبارة عن أنموذج غير مأنوس للملل التيوقراطية تيوقراطيةً راسخة, حيث لا يراقب السلوك الخارجي فقط وإنما نمط أفكار الملة نفسه.

إن هذه اللهفة على المجتمع, المرتكزة على مبادئ العقائدية النافذة إلى كل شيء وعلى الإلهام المنتشي المستمر, تشير إلى أنموذج الوعي القبلي اليهودي الأقدم. يرى هذا الوعي أن أي دولتية تقصر رقابتها على سلوك الأتباع الخارجي, وغير مبالية بالضرورة بما يكنونه في سرائرهم, هي امتهان لا يطاق لكل ما ينبغي في نهاية الأمر تدبيره على الأرض. لا ينتقد مثل هذا الوعي "عنف الدولة" انطلاقاً من المواقف التنويرية التي تترك للمواطنين حرية تقرير الذات الداخلية الوجدانية, وإنما من مواقف التيوقراطية الكهنوتية مع ما تحمله من رقابة مستبقة على الأفكار والآراء.

يعكس سفر الملوك الأول في العهد القديم المواجهة بين المُلك والقداسة, وبين البيروقراطية الإدارية الدولتية الباردة والوصاية الكهنوتية الدافئة (لا بل الحارَّة),. حين توجه الحاكم صموئيل طالباً النصيحة من الله ذاته للرد على طلب الشعب المتعب من الوصاية الكهنوتية الشاملة والراغب على الأقل في إضفاء شيء من أجواء الحياة الاجتماعية على رقابة الدولة القيمية الحيادية (البيروقراطية العقلانية), أجابه الله بروح الواقعية المتشائمة قائلاً: "اسمع لصوت شعبك في كل ما يقولون لك. فهم لا يرفضونك أنت, بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم". (التوراة, صموئيل الأول 8: 1 - 7). منذ ذلك الحين والوعي اليهودي محتفظ بالحنين إلى المجتمع الأصيل, غير المطلع على أحكام المُلك الخارجية, لكن المذعن لأحكام القداسة الداخلية وحدها.

إن تاريخ الدولتية البلشفية السياسي – العقائدي كله هو عبارة عن تضاد بين الملك والقداسة, تضاد بين العقلانية البيروقراطية الإدارية والعقائدية الحزبية الكهنوتية. ويتوافق ابتلاع الدولة المتنامي من قِبل الحزب توافقاً تاماً مع أنموذج العهد القديم هذا, الذي يرشد إلى التضييق على المُلك بالكهنوت كما يرشد إلى مَثَل اجتماعي وثقافي سامٍ.


 

 


([1]( - إيمانويل كانط (1724 -1804) فيلسوف ألماني ومؤسس الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. أهم أعماله "نقد العقل الخالص", "نقد العقل

 

 التطبيقي". كوَّن الاعتراض على علاقات التبعية للنظام الإقطاعي الخلفية الاجتماعية للتعاليم الأخلاقية الكانطية لذلك فهو يعتبر من وجهة النظر

 

 هذه منظِّراً للبرجوازية الناشئة. لم يكن كانط فيلسوفاً وحسب, بل كان عالماً أيضاً, إذ كان من أوائل الذين وضعوا نظرية علمية عن تشكل

 

 الشمس والأجرام السماوية (المترجم).

 

 

 

<<

الفصل الثالث

العولمة الأمريكية

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

<< تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا