يتميز الوعي الذاتي في العهود ما بعد القروسطية كلها بخصوصية
واحدة عامة, هي أن هذه العهود كلها تعرف نفسها قياساً على
البرجوازية, وكل منها يطلق على هذه الطبقة واسعة الحيلة اسما
خاصاً ويرسم لها هيئة خاصة به. البرجوازي البطل - الفاتح الأول
والمغامر في عصر النهضة, البرجوازي البوريتاني()
في عصر الإصلاح, البرجوازي - "الإنسان الطبيعي" و"الأناني
العاقل" في "عصر التنوير", البرجوازي ضيق التفكير في القرن
الماضي(),
البرجوازي المحتكر والإمبريالي, المحرض على الحروب العالمية في
القرن العشرين, ـ هذا هو الفهرس غير المكتمل للنص العظيم, الذي
يسمى ـ الحداثة.
يتميز عصرنا بتعريف جديد للذات وفاقاً لتلك الشخصية التاريخية
المشار إليها, وهو يكشف هيئة جديدة من هيئاته.
ارتبطت مغامرات الوعي الاجتماعي المعاصر الرئيسية, كما جرت
العادة منذ عصر النهضة, بتغير العلاقات مع الطبقة البرجوازية.
لقد خيل لنا حتى وقت قريب أن ذلك الحكم التاريخي الذي أطلقه
كارل ماركس عليها كان حكماً نهائياً. قد يبدو الأمر اليوم, تحت
تأثير مقلدي التعاليم العظيمة الجديدة, وكأن تقويم سلطة
البرجوازية السلبي هو من صفات روسيا الريفية ما قبل
الديمقراطية. إن كل من اشتغل بدراسة الغرب في أعوام الستينات
والسبعينات لا يستطيع إلا أن يشهد بأن طليعة الغرب الفكرية
كلها مع الحركة الشبابية القريبة منها قد وقفت في علاقتها مع
طبقة الرأسماليين موقفاً منهجياً مناهضاً للاستبداد, وبأن هذا
الموقف ذاته يعتبر تقليداً راسخاً من تقاليد سلاطين
الفكر المثقفين
اندلعت آخر ثورة معادية للبرجوازية في الغرب في نهاية
الستينات, وكان يمكن اعتبارها وفاقاً لبعض المعايير عالميةً.
ملأ أتباع ماركس وماو وماركوزه()
القاعات والمطابخ الطلابية على البواخر في جميع بلدان الغرب؛
انتقل الإلهام المناهض للبرجوازية من السوربون المنتفضة إلى
باريس, ولاقت صدى في كاليفورنيا المنتفضة وفي صمود "المتاريس
الحمر" في ألمانيا وإيطاليا. لم يساور الشك أحداً في أن النظام
البرجوازي ينبغي أن يستبدل بآخر, ودارت النقاشات بخصوص من
ينبغي أن يفعل ذلك وكيف, وما الأسس الثقافية والاقتصادية للعصر
ما بعد البرجوازي.
بيد أن الثورية الفطرية للطليعة الفكرية والشبابية فُرِضت على
"الحرب العالمية الباردة" بين الغرب البرجوازي والشرق الشيوعي.
راحت في أثناء ذلك حركات المثقفين والشباب المماثلة في بلدان
"المعسكر الاشتراكي" تصير أكثر موالاة للبرجوازية وللغرب.
وعوضاً عن الأممية الثورية الموحدة, المضادة لنوعي المجتمع
القمعي التكنوقراطي معاً, مما كان سيتماشى مع منطق الثورة
العالمية, بدأت صحوة شاملة أو إزاحة "اليساريين" تحت ضغط الغرب
المنتصر في "الحرب الباردة".
هكذا شوه منطقُ الحرب العالمية منطقَ الثورة العالمية وحوَّل
نظارات الطليعة الفكرية. ما إن انتصر الغرب على الشرق الشيوعي
حتى أزيلت حقيقة النشأة الغربية الفاوستوية للشيوعية نفسها من
الوعي, وصارت الشيوعية تُطابَق مع أسلوب الإنتاج الآسيوي ومع
مخلفات الاستبداد الشرقي. باختصار, لم يشأ المنتصرون أن
يتقاسموا مع المهزومين المسؤولية لا عن الحرب الباردة ولا عن
عيوب المجتمع القمعي التكنوقراطي.
طُلِب من الشرق الشيوعي المهزوم تعويضات حرب إيديولوجية,
مرتبطة بضرورة أن ينسب هذا الشرق إلى نفسه عيوب المعاصَرَة
كلها مرجعاً إياها إلى ضغط المخلفات الآسيوية. (كلنا يذكر كيف
أخذ البلاشفة في وقت ما مثل هذه التعويضات الإيديولوجية من
روسيا "البيضاء" المهزومة, مرجعين إخفاقات سياستهم وفشلها كلها
إلى ضغط "البيئة البرجوازية الصغيرة" الفلاحية. وقد قرر حكامنا
"الديمقراطيون" احتكاماً إلى بعض المؤشرات, أن التعويضات لم
تؤخذ بالكامل من روسيا القديمة - إنهم يحاولون الآن أن يأخذوا
حصتهم مرجعين إخفاقات "إصلاحاتهم" إلى مخلفات الروح المشاعية
المتأصلة).
احتاج الغرب في مثل هذه الظروف إلى مفكر يساعده على رد
الاعتبار الجذري للطبقة البرجوازية المتسيدة, مزوداً إياها
بهيئة مختلفة تماماً عن تلك التي تكونت في الوعي الاجتماعي تحت
تأثير النقد الماركسي والماركسي الجديد للرأسمالية. لكنه لم
يعثر بين أساتذة الفكر الأحياء على مثل هذا المفكر - تبين أن
جميع الأساتذة تقريباً كانوا "يساريين". وُجِد هذا المفكر بين
المتوفين الذين لم يكن قد استدعي رصيدهم الفكري فعلياً بعد,
ولذلك بدا غير مبدد. كان هذا المفكر هو ماكس ويبر.
بدا خطاب ويبر عن الرأسمالية معاكساً للحديث الماركسي في
النقاط الجوهرية كلها. ليس المكان هنا لمناقشة إن كان ويبر قد
وضع نصب عينيه مهمة تفنيد ماركس على نحو منهجي أم لا. فالمهم
أن الأمر المطلوب والمجنَّد إيديولوجياً اليوم هو هذا الجزء
بالذات من إرثه الفكري الواسع.
تتلخص فاعلية ماكس ويبر اليوم في أنه عمل ضمن قياس المركزية
الثقافية الرائجة اليوم. إذا كان ماركس قد فسر نشأة الرأسمالية
بمنطق تطور التبادل والقيمة التبادلية, فإن ويبر استطاع أن
يجذِّر الرأسمالية في الثقافة, وبذلك رفع عنها أهم اتهام تتهم
به وهو عداؤها للتقاليد الثقافية والأخلاقية كلها.
لقد طرح ماكس ويبر مسألةً قوميةً "ألمانيةً" صرف: وهي برهنة
أسبقية ألمانيا في مسألة تكوين الحداثة الأوربية كلها. كانت
ألمانيا في ذلك الوقت, كما هو معلوم, (وقبل انضمامها إلى حلف
الناتو) موضع شك لدى العالم الأنغلو - أمريكي, واعتبرت بلداً
"غير غربي تماماً" - وبلداً مهمشاً من قِبل الأسرة الأطلنطية.
طرح المفكر الألماني قضية نشوء الرأسمالية من روح التقشف
البروتستانتية. بذلك, وباعتبارها نواة ثقافية للحضارة, لم تبرز
التقاليد الأخلاقية - الدينية على أنها شيء ما من خارج
الرأسمالية لا ينفك يوجه اللوم لها, بل على أنها أساسها.
تتعلق نقطة الاختلاف الرئيسية بين ماكس ويبر وكارل ماركس
بطبيعة التراكم الرأسمالي الأولي. فلدى ماركس تذكِّرنا ملحمة
التراكم الأولي بـ "ثورة إجرامية عظيمة" وهي موصوفة على أنها
من عمل المغامرين المستعمرين ومخصخصي عصر التسييجات الوقحين,
الذين أفقروا الغالبية الفلاحية وشردوها, وأنها من عمل
المرابين عديمي الضمير وغيرهم من ناهبي الخيرات الوطنية. واضح
أن هذا الإرث يطبع التاريخ الرأسمالي كله بطابعه الذي لا يمحى
ويحتم منطق القطيعة ليس مع ماضي البشرية كلها وحسب وإنما مع
مستقبلها أيضاً.
يقدم ماكس ويبر تفسيراً مغايراً تماماً للتراكم الأولي.
فالتراكم لديه ليس عملية نهب لملكية الآخرين ولا نتيجة
"الفطنة" اللاإنسانية لدى شتى أنواع الأنذال, المكونين طبقة
جديدة من الناس, والذين لا يملكون تربة ولا وطناً, بل هو, على
العكس من ذلك, امتناع معلل دينياً عن شتى أنواع التبذير
والإسراف, وهو زج كل ما كان سينفق حتماً في جو التسيب النهضوي
السابق على المسرات الحسية في دورة العمل.
الإصلاح لدى ويبر هو عبارة عن رد فعل على النهضة اللذوية وعودة
جديدة إلى التقشف الديني. يولد النمط السوسيوثقافي اللوثري
والكالفني الاستثمار لأنه يعتبر تحديداً روح الاستهلاك
اللامسؤولة والتراخي الذي يغض الطرف عن حسيتنا الخاطئة مدانين
سلفاً. تنبثق الملحمة الرأسمالية لدى ويبر لا من "عدم مخافة"
المغامرين والماجنين من الله, الذين يرفضون كل الموانع
والمعايير, بل من الخوف الديني العظيم لدى الناس الذين فقدوا
إيمانهم بالخلاص الجماعي المضمون, الذي تهبه الكنيسة
الكاثوليكية.
قدم ويبر فضح لوثر للضمانات الروحية المزعومة للمؤمنين على أنه
مبادرة لفضح الضمانات الاجتماعية الجماعية, الذي سيقوم به في
ما بعد منتقدو الأبوية الدولتية الاشتراكية. بفضل ويبر يتم
اليوم اعتبار نقد لوثر للطليعة الكنسية الكاثوليكية التي سمت
نفسها عقل العصر وشرفه وضميره, والضامنة لرعيتها الخلاص الأبدي
إن هي أخلصت وانصاعت لها كلياً, مماثلاً للنقد الليبرالي
الديمقراطي للطليعة الشيوعية التي تدعي أيضاً تنفيذ رسالة
إنقاذ الرعية البروليتارية.
سمى لوثر هذه الضمانات تلاعباً تقوم به طائفة "مخلصي الروح"
المحترفين, أما طلب مثل هذه الضمانات من قبل سواد الناس فشجبه
باعتباره انعدام إرادة دينية آثم. كان من شأن إعلانه عن عدم
وجود ضمانات الخلاص الدينية الممنوحة من علٍ بوساطة الكنيسة أن
يحرض الإرادة الدينية الفردية, والتنسك الفردي - لكن ليس
باعتباره نشاطاً رهبانياً يخرج الفرد من الحياة اليومية, بل
باعتباره إنجازاً في الحياة اليومية مشهوداً بوساطة المعايير
المحسوسة الخاصة.
بهذا الصدد ينقب ماكس ويبر في علم الآثار الثقافي الديني ويخرج
منه مصطلح "beruf"
- المهنة باعتبارها رسالة, أو الرسالة الدينية المتجسدة
بالمهنة. إذا كان الزهو يعتبر في الأزمنة السابقة إثماً ووداعة
النفس والدماثة فضيلة فإن الدماثة اليوم تعدُّ طريقاً سهلة
للخلاص, الذي يمكن الوصول إليه في الواقع بالاجتهاد الدنيوي
المعلل دينياً في الأمور اليومية.
صار الله منذ زمن الانقلاب البروتستانتي يفقد صفات الإله
المسيحي السابقة, الذي يفضل "الفقراء بالروح", وبدأ يذكرنا
أكثر فأكثر بإله إسرائيل في العهد القديم, الذي لا يخلِّص
الجميع بل المختارين فقط - القادرين على إنجاز مأثرة صحوة
الضمير والتوبة مرة واحدة, بل على حياة التقشف اليومية
المنهجية. لماذا سعى المتقشفون البروتستانتيون على هذا النحو
إلى النجاح في أمورهم العملية اليومية؟ لأنهم, إذ فقدوا ضمانات
الخلاص الجماعية التي قدمتها لهم الكنيسة من قبل, عانوا من ضغط
انعدام الثقة المغمّ ومن الخوف وقد عالجوا ذلك بالعمل. "كانت
الوسيلة الوحيدة أمامه لكي يخفف, وهو المعرض لمثل هذا الضغط,
(أي البروتستانتي - ألكسندر بانارين) من انعدام الثقة ومن عدم
التوفيق النفسي, ,... هو أن ينغمس في العمل من غير أن يرفع
رأسه()".
لكننا لن نستطيع تقدير أبعاد ذلك الانقلاب في وجهات النظر تجاه
الرأسمالية, المرتبط بماكس ويبر, إلا حين لا نكتفي بالتأويلات
النفسية والسياسية الثقافية لخطابه عن الرأسمالية. تذكرنا
تضحية البروتستانتي التقشفية لدى ويبر في جانب جوهري من
جوانبها بالتضحية البشرية التي قدمتها البروليتاريا. تبين أن
عمل البروليتاري لدى ماركس هو ذلك الجوهر صانع المعجزات, الذي
يعتبر منبع القيمة المضافة, ويساعد بذلك على تجاوز التصور
البدائي عن الاقتصاد الرأسمالي باعتباره اقتصاداً مرتكزاً على
النهب ونزع الملكية وإعادة التوزيع. تشكل هذه الأخيرة,
احتكاماً إلى ماركس, المقدمة الأولى فقط للرأسمالية؛ لاحقاً لن
تتصرف الرأسمالية كمنظومة طفيلية تلتهم الثروات المتكونة من
قبل, بل كمنظومة منتجة تكوِّن الثروات - وهذا كله بفضل عمل
العمال المأجورين, الذين لا ينتجون القيمة وحدها وإنما القيمة
المضافة أيضاً باعتبارها منبعاً للنمو الاقتصادي العام.
إن سر التقشف البروتستانتي لدى ماكس ويبر يذكرنا في جانب من
جوانبه على نحو مدهش بسر البروليتاريا الماركسية. فبفضل
اجتهاده اليومي المتواصل وامتناعه المنهجي عن التهام الفوائض
كوَّن المستثمر - البروتستانتي "قيمة مضافة ما" والأدق ربحاً
يختلف نوعياً عن أنواع الربح التقليدية بأنه يحتوي إلى جانب
القسم المخصص للاستهلاك على قسم متنام مخصص للمراكمة.
وهكذا يرتبط التراكم البرجوازي بالتضحية - أي بالامتناع عن
مسرات الروح الاستهلاكية المنفلتة, مما لا يتطلب إيماناً
دينياً متوقداً وحسب, بل إرادة دينية أكبر. مأثرة مثل هذه
الإرادة مطلوبة للانتقال من تلقائية الاستهلاك اللامسؤول إلى
قسرية التراكم. تذكر روح تضحية البروتستانتي الويبرية بروح
تضحية البروليتاري الماركسي من خلال عدد كبير آخر من المؤشرات.
لنتذكر أن البروليتاي لدى ماركس محروم من الثقافة, ومن أوقات
الفراغ ومن كافة منجزات الحضارة وأفراحها المرتبطة بـ "البنية
الفوقية" البرجوازية الطفيلية.
إنه يعرف جيداً أن عمله وحده هو المنتج - هو الذي يبني الثروة
الاجتماعية, في الوقت الذي تجتهد فيه فئات المجتمع الأخرى إما
في إعادة توزيع هذه الثروة, وإما في نهبها مباشرةً. من هنا
ينبع شك البروليتاريا الطبقي, المعروف من تجربة البناء
الاشتراكي, تجاه الإسراف البرجوازي وتجاه النشاط المرتبط
بالبنية الثقافية الفوقية وبمحاولات إكساب العلم والثقافة
والتعليم وضعاً مستقلاً قيماً بذاته. لقد بين للجميع "التناول
الطبقي البروليتاري" المشهود ضيقَ الأفق النفعي الذي لا يحتمل
لـ "الثقافة البروليتارية", المستعدة لأن تضع موضع الشك
البوهيميا المثقفة "البرجوازية" - أنصار العلم النظيف والفن من
أجل الفن وتلاحقهم جميعاً.
بيد أننا إذا قارنا علاقة ديكتاتورية البروليتاريا بالثقافة
والحضارة مع علاقة التقشف البروتستانتي بهما فإننا سنصاب
بالدهشة لتطابقهما الذي لا يقبل ازدواجاً في المعنى. نظرت
البرجوازية الصغيرة ذات الخصال البروتستانتية (في روسيا -
أتباع الطقوس القديمة) نظرة شك عظيم إلى نشاط الطليعة المثقفة,
والبوهيميا المتجملة المحتشدة حولها. لم يكن من قبيل المصادفة
أن تهاجر البوهيميا الفنية كلها إلى الجنوب الكاثوليكي مع تحرك
الإصلاح البروتستانتي شمالاً باتجاه اسكندينافيا والجزر
البريطانية: صارت لهم باريس وروما ومدريد مكاناً للكرنفال
الجمالي – أي "العيد الذي يبقى معك دائماً".
كان في عصر النهضة ثمة تفاهم متبادل بين البرجوازي المغامر
والفنان المغامر: كان كلاهما يؤكد مشروعه التحرري على أنقاض
ثقافة القرون الوسطى. بعد الانقلاب البروتستانتي, الذي حول
البرجوازي إلى ذلك المقتر غير الباحث عن الربح على درب
المغامرات الاستعمارية المتهورة بل على درب إنكار الذات
المنهجي في الحياة اليومية, امتدت بين الطليعة اليسارية,
الفنية والسياسية والبرجوازي البوريتاني هاوية حقيقية. لم يرفض
البوريتانيون تشبُّع الحياة الأرستقراطية باعتباره "عبثاً" لا
يرضي الله وحسب, بل رفضوا أيضاً اختبارات الطليعة المثقفة
الأخلاقية, التي ازدرت أخلاق البرجوازية الصغيرة التافهة.
فسر ماركس عداء البرجوازية "لفروع الانتاج الروحي المعروفة"
ببخلها المعهود وانحطاط الطبقة البرجوازية التي لا تعترف إلا
بالتناول النفعي للواقع. أما ويبر فكان سيفسر هذا العداء
بالاستناد إلى التقليد التقشفي, الملزِم بالنظر بعين الريبة
إلى شتى أنواع الإسراف الكمالي الثقافي, المضعف للإرادة
الدينية والمحفوف بالإغراءات الخطرة جميعها.
وهكذا نرى أن ماركس لم ينجح, على الرغم من سعيه كله إلى
الالتزام بصرامة التحليل الاقتصادي العلمي, في تجاوز ازدواجية
المعنى عند وصفه البرجوازية. فهو من جهة يدعو إلى صرف الانتباه
عن كافة الأحوال المرتبطة "بربح النهب ونزع الملكية الناجم عن
التغريب" مهما كانت هذه الأحوال متكررة, ويدعو إلى فهم
الممارسة الاستثمارية البرجوازية على أنها إنتاج قيم موسعة لا
تخِلُّ بقوانين التبادل المتكافئ, ومن جهة أخرى يدين طوال
الوقت البرجوازية من موقع النقد الأخلاقي القديم, الذي يرى في
الثروة البرجوازية نهباً وإعادة توزيع للثروات.
يرسم ماكس ويبر, بخلاف ماركس, هيئة منهجية للبرجوازي كمتقشف
يرفض مغامرات إعادة التوزيع الاقتصادي القديمة, ويقر بأن
الثروة القانونية التي ترضي الله هي الثروة المكتسبة بمآثر
إنكار الذات لا بتجليه المادي - الاستهلاكي المباشر وحسب بل
بمعنى نظام انضباط التقشف الروحي والثقافي أيضاً. في الحال
الأولى يكون خصم البرجوازي هو النّصاب الأرستقراطي, وفي الحال
الثانية البوهيميا الحاذقة, المسؤولة عن ثورات الحداثة
الأخلاقية جميعها, بما فيها الثورة الجنسية الأخيرة.
باختصار, قلب ويبر بطريقة خاصة أفق
الماركسية معلناً فعلياً أن أساس الثروة الاجتماعية ليس
استغلال البروليتاريا بقدر ما هو التقشف الذاتي البوريتاني
للبراجوازية الصغيرة البروتستانتية, التي حولت الطاقة الدينية
إلى طاقة استثمارية لا تلتهم ربحها بل تراكمه منهجياً
وتستثمره. أما تقشف البروليتاريا فيحمل طابعاً سطحياً بما فيه
الكفاية وغير مأمون الجانب عموماً فهو مفروض عليها من الخارج.
في حال أضعفت الكوابح الخارجية قد تتحول البروليتاريا سريعاً
إلى مهلهلين يطلبون "الخبز والفرجة" أو إلى مستهلكين عديمي
المسؤولية يحتقرون أي واجب أو أخلاق.
على العكس من ذلك يتميز التقشف البرجوازي البوريتاني بطابع
داخلي معلَّل تعليلاً عميقاً, وما دامت منابعه الدينية -
الأخلاقية لم تنضب بعد فإن الحضارة الصناعية المعاصرة غير
مهددة بالانحدار إلى مستوى حضارة المهلهلين والعدميين المنحطة.
على هذا النحو إذا كان البرجوازي يظهر لدى ماركس, وخصوصاً في
"المخطوطات الاقتصادية بين عامي 1857 - 1859" باعتباره مبدداً
عديم الإحساس بالمسؤولية لثروات الطبيعة والثقافة التي لم
يصنعها بنفسه (المقدمات البيئية والعلمية الروحية العامة
للنموالاقتصادي), فإنه لدى ويبر يظهر, على العكس من ذلك,
باعتباره الضامن الأكبر والأخير لهذه الثروات.
يستحق منا الاهتمام الخاص جانب آخر من الانقلاب البروتستانتي,
لم يوله أتباع ويبر العناية اللازمة إلى الآن.
إن الذي مثَّل الرأسمالية التقليدية ما قبل الإصلاحية بالأساس
هو الديسبورة المرابية, التي لم يكن لها وطن والتي أفقرت
السكان المحليين بشعور خالٍ من المسؤولية. لم يمكِّن الانقلاب
البروتستانتي من تأميم الدين وحسب ("الدين دين أصحاب الأرض"),
بل أمم أيضاً الطبقة الاستثمارية. وكما تأسست العبودية القديمة
على القبض على البرابرة الغرباء واسترقاقهم باعتبارهم ليسوا
أناساً حقيقيين, تأسست المراباة كذلك على علاقات الاحتقار
والانسلاخ اللامسؤول عن السكان المحليين من قبل الغرباء -
أصحاب رأس المال المقرَض. إن المراباة هي بنسبة معينة مغامرة
استيلاء وإعادة توزيع شبيهة تماماً بالمغامرة الاستعمارية التي
أقدم عليها فاتحو الهند الغربية.
لم يُعِد الانقلاب البروتستانتي وحسب تشكيل أساس الثروة
البرجوازية بإحلال تقشف المراكمة محل مغامرة إعادة التوزيع, بل
مكن أيضاً من عملية التجذير القومي للاستثمار. بمقدار ما كانت
تستبدل بالعلاقات من النوع "دخيل - ساكن أصلي" العلاقات بين
أبناء وطن على صلة وثيقة في ما بينهم, ويمتلكون أرضاً واحدة
ومصيراً مشتركاً, كانت تستبدل أيضاً بأخلاق أساتذة الخداع
الباطنية أخلاق الشراكة والمسؤولية الأهلية.
إننا, على الأرجح, لن نتمكن من الغوص في منابع انتصار
"الديمقراطية" على الشيوعية إذا لم نأخذ في الحسبان حقيقة
إعادة الاعتبار الويبرية لطبقة الرأسماليين, ومنظومة الآمال
الجماهيرية المهيجَّة إيديولوجياً والمتأسسة على الفرضيات
الويبرية. كانت الجماهير, المصدومة بنظام امتيازات السلك
الوظيفي ونظام التوزيع الخاص المغلق, تأمل في أن يحل محل نخبة
الموظفين الإقطاعيين الحزبيين الجدد, المتنعمين على حساب
"الشح" الشامل, البرجوازي الويبري المتقشف, الرافض باحتقار لأي
امتيازات أو خيرات مجانية لصالح مبدأ التعبير المنهجي عن الذات
والاستقلالية. كان ينبغي أن يحل محل مبددي الثروة الاجتماعية
الموظفين الذين حمتهم الدولة دائماً ولم تطلب منهم تقديم حساب
اقتصادي حقيقي, أصحاب ملكية خاصة يشعرون بالمسؤولية, ويغوصون
في فوضى السوق كما يغوصون في مياه مقدسة مطهِّرة. كان يفترض
عندئذ أن انهيار الموانع السياسية والإيديولوجية السابقة سيجعل
المجتمع كله حراً آلياً, وأن عمومية هذه الحرية ستتحول بالقدر
ذاته من الآلية إلى مسؤولية مدنية عامة.
لقد قدر لي أن أكتب عقب الخصخصة لدينا مباشرة, أن الافتراضين
المذكورين كانا وهميين. فسقوط الرقابة الحزبية السابقة لم يحرر
المجتمع بل حرر من كافة أشكال المسؤولية المدنية والسياسية
الأخلاقية السلك الوظيفي السابق, الذي طبق الأيديولوجية
البائدة كما جاء على لسان أحد شخصيات دوستويفسكي: "إذا كان
الله غير موجود فكل شيء مباح". لقد مات الله في نظر أولئك
الملحدين منذ زمن بعيد, لكن ثقل الرقابة الحزبية قد خفف إلى حد
معلوم عن المجتمع عواقبَ موت الله ذلك, فديماغوجية "الوعي
الشيوعي" الحزبي لم تكن وسيلة خداع للجماهير فقط, وإنما كانت
أيضاً كابحاً داخل الأوساط العليا ذاتها.
كما تبين, فقد غالى المجتمع السوفييتي في تقدير ذاته: لقد صب
التحرر من الرقابة الحزبية - الإيديولوجية في صالح "الأقوياء",
والذين يعيشون حياةً برجوازية منذ زمن طويل وسراً عن الآخرين,
ولم يفعل شيئاً سوى أنه زاد من ضعف الآخرين, الذين لم يكن
لديهم لحظة "الانقلاب الديمقراطي" رساميل أو نفوذ سياسي كاف
للدفاع الفاعل عن أنفسهم ضد جور المخصخصين الموظفين. إلى جانب
قابلية القسمة الطبقية هذه غير المتوقعة للحرية التي غدت
بكاملها ملكاً لسلك الموظفين السابقين, تم اكتشاف إشكالية تلك
العلاقة بين الحرية والمسؤولية, التي سلمت بها الليبرالية
الجديدة.
أمر مدهش, لكن اللامسؤولية صارت عامةً: تملصت الأوساط العليا
من أخلاق الواجب كما تتخلص من رقابة كريهة, فيما انقادت
الطبقات الدنيا وراء إغراء الإباحة الشاملة المعلنة, من غير أن
تعقل أن الذي يفوز دائماً في ظروف الاستباحة الشاملة هم
الأقوياء والذين يخسرون هم الضعفاء. وبالمناسبة - وكان هذا
أيضاً مفاجأة أخرى من مفاجآت المرحلة ما بعد السوفييتية - حتى
مفهوما الأقوياء والضعفاء لم يتطابقا على الإطلاق مع المعنى
الموجود في إيديولوجية الليبرالية. لقد سلمت الأيديولوجية بأن
الضعفاء هم أولئك الذين اعتادوا الاتكال على الرعاية الأبوية
الحكومية, أما الأقوياء فهم أولئك المستعدون للمنافسة في السوق
الحرة, والمستغنون عن أي نوع من أنواع التأمينات السرية.
أما في الواقع فتبين أن "الأقوياء" هم تحديداً أولئك الذين
تمكنوا من استخدام منظومة الضمانات والامتيازات الوظيفية
لإعادة توزيع الثروة القومية لصالحهم, أما "الضعفاء" فهم, على
العكس من ذلك, أولئك الذين تركوا وشأنهم, لكن مع حقوق وإمكانات
مخفضة مسبقاً مما يستثنيهم في الحقيقة من المشاركة الكاملة في
فضائل المجتمع المدني المبادر.
سلك المخصخصون الموظفون منذ البداية سلوكاً بعيداً تماماً عن
سلوك "متقشفي المراكمة", الذين يراكمون منهجياً فتات الأرباح
التي يحصلون عليها من أجل استثمارها لاحقاً في اقتصاد النمو.
بل على العكس, فقد سلكوا سلوك البوهيميا اللامسؤولة التي حصلت
مجاناً على ثروة لم يكن لها يد في جمعها وتنوي استغلالها في
سبيل لذة منفلتة انفلاتاً لم يسبق له مثيل. إن التحليل
السوسيوثقافي الموضوعي لسلوكهم لا يدلنا على أخلاق المراكمة
الذاتية التقشفية, المرتبطة بالتقييد الذاتي الداخلي المنهجي,
بل يدلنا على تزاوج سيكولوجية البوهيميا المنفلتة مع سيكولوجية
"الجسارة" الاستيلائية المتحولة أكثر فأكثر, وعلى نحو مكشوف,
إلى إجرامية. ويتبين أن المقارنة بين طبقة "الروس الجدد"
(و"الجدد" الآخرين في الفضاء ما بعد السوفييتي وما بعد
الاشتراكي كله) والبرجوازية الصغيرة البوريتانية المسؤولة,
التي بنت الرأسمالية الوطنية وهي تعي تماماً تجذرها في الوسط
المحلي والتقاليد المحلية لا تقل إثارة للإحباط.
تبين أن بوهيميا الموظفين, التي حصلت على الملكية الجديدة
إضافة إلى الامتيازات القديمة, غير قادرة من حيث المبدأ على
السير في الطريق الصعبة, طريق التوفير والشراكة والمسؤولية.
لقد قامت باكتشاف مذهل, هو أن الربح الاستثماري القديم المرتبط
باقتصاد النمو لا يمكن أن يقارن بربح المراباة, المرتبط
باستثمار رأس المال في المضاربات في الأهرامات المالية وبألعاب
مثل "МММ".()
لقد سموا هذا كله الاقتصاد النقودوي الأحدث, الفطري, كما
يزعمون, في المجتمع المعلوماتي المعاصر, فألعاب المضاربات
المالية كلها مرتبطة, أولاً, بالحصول على المعلومة الأسبق حول
سوق الأوراق المالية وبيئة الرأسمال الصوري ككل, وهي ثانياً -
تذهل بلا مادية الثروة ذاتها, التي تظهر كما يبدو من الهواء
مباشرة - إلى جانب نمو المؤشرات العينية وحتى بخلافه.
من الواضح أننا نتعامل هنا مع سفسطة مكشوفة. فالمقصود عادة
بالاقتصاد المعلوماتي, طبقاً لأحكام النظرية ما بعد الصناعية
المتكونة, هو الإنتاج المستوعب للعلوم, وكذلك العلم والتعليم
وشبكة الاتصالات والمعلوماتية والاستثمارات التي تعطي مردوداً
اقتصادياً أكبر من الاستثمار في الإنتاج المادي. أما هنا
فالمقصود بالاقتصاد المعلوماتي هو التعامل برأسمال مضاربات
قصير الأمد يعني طرح إنفاقه اللامسؤول من الثروة الحقيقية
مباشرة.
يعني "اقتصاد المضاربين الماليين المعلوماتي" منظومة من
الآليات, التي يتم بوساطتها تأمين رأسمال لا مادي فاقد لأي
رباط يربطه بعملية الإنتاج الحقيقية للثروة الاجتماعية. بنتيجة
ذلك تتحول النخب المالية إلى أسرة "مقامرة", قادرة على نهب
شعوب وقارات بأكملها في ساعات معدودة ماسحة مدخرات مئات
الملايين من البشر وجهودهم. تعني مثل هذه المنظومة ترميم
المزدوجة المتضادة: الديسبورة المرابية - السكان الأصليون, أي
شطب ممتلكات الرأسمالية ذات النوع الويبري.
تختلف أسرة المضاربين الماليين المقامرين, وفاقاً للمؤشرات
جميعها, عن أسرة المتقشفين المراكمين البروتستانتية القديمة.
فالمقامر لا يقتصد, ولا يحد من خياله اللذوي, ولا يؤجل تحقيق
الرغبات. وكلما كان حصوله على الثروة أسهل, تمادى بالتصرف بها.
يفرض نفسه بهذا الصدد السؤال عن طبيعة العقلانية ذاتها,
وبالأخص العقلانية الاقتصادية. تشير النظرية المعاصرة حول نشأة
الإنسان إلى أن ما يلعب الدور الحاسم في صيرورة مَلَكَة
التفكير العقلاني والوعي ووعي الذات لدينا هو آليات كبح
الرغبات التلقائية. وقعت إستراتيجية حظر الرغبات, التي ستحصل
في ما بعد على اسم "السعادة المؤجلة", في صلب السلوك العقلاني
اقتصادياً. إن عملية المراكمة مرتبطة بحظر الرغبات
الاستهلاكية, وهذا ما مكن منه خصوصاً التقشف البروتستانتي. لقد
ارتبط الفرق نفسه بين إنتاج وسائل الإنتاج وإنتاج مواد
الاستهلاك بإستراتيجية حظر الرغبات. لولا تقييد نبضات المجتمع
اللذوية لما كان بالإمكان تطوير إنتاج وسائل الإنتاج وزيادة
معدل التراكم.
يجري انطلاقاً من وجهة النظر هذه إغفال التشابه المذهل بين
نوعين من أنواع التقشف: التقشف البروتستانتي المرتبط بالنبض
اللذوي الملجوم باسم المراكمة, والتقشف البروليتاري, المرتبط
بتغذية إنتاج وسائل الإنتاج مع الإهمال الواضح لإنتاج مواد
الاستهلاك. إن تدمير جو التقشف هذا, ورفض فكرة "السعادة
المؤجلة" باسم التلبية الفورية للرغبات الاستهلاكية, قد قوض
العقلانية الاقتصادية بدلاً من أن يوفرها, خلافاً لتأكيدات أهل
السوق ما بعد السوفييتية لدينا. تبين أن المجتمع المندفع في
السباق من أجل النجاح الاقتصادي السريع غير قادر على صرف
الأموال على تجديد الأصول المهتلكة, وعلى بناء احتياطيات طويلة
الأمد من أجل العملية الإنتاجية في المستقبل, متمثلة في البنية
التحتية غالية الثمن, وفي الصناديق الأساسية و كذلك في العلم
والتعليم. راحت تُهدم هذه البداية كلها باطراد, مع العلم أن
المستهلك العادي, الذي راح ينظر باستحسان أول الأمر إلى هذا
التدمير لمنظومة "الإنتاج من أجل الإنتاج" المكروهة من قبله,
قد وجد نفسه في نهاية الأمر جالساً قرب الطست المكسور().
لقد دعوه من قبل إلى الانتظار حتى تبدأ المراكمات تعطي
المردود؛ والآن ليس ثمة ما ينتظره, لأن الثروة المحولة إلى
نقود رنانة
أو "المسيلة" وقعت في يد الأولغرشيات, وهي تندفع مغادرة البلاد
إلى الخارج.
يتبين على هذا النحو أن التضاد بين المستثمرين والمستهلكين
الآملين بالحصة الأكبر من المراكمة, لم يُحلَّ لصالح
المستهلكين, بل لصالح المختلسين الذين خططوا لإخراج ثرواتهم من
"هذه البلاد غير المضمونة". وعندئذ أصيب المستهلكون بضرر أكبر
من ذي قبل - لقد هبط مستوى الاستهلاك الحقيقي بالمقارنة مع
الفترة السوفييتية عدة مرات. لكن ليس المستهلكون وحدهم من تضرر
- لقد تضررت أيضاً الحضارة ذاتها في بلد وقعت فيه الأموال,
التي كانت مخصصة من قبل لدعم البنية التحتية المعاصرة ورأس
المال البشري وتطويرهما, في يد ديسبورة المضاربين الماليين
النشطة. يستحق منا الاهتمام
الفارق ذاته بين المصرف
والمؤسسة الصناعية باعتبارهما مؤسستين اجتماعيتين.
تمثل المؤسسة الصناعية باعتبارها مؤسسة اجتماعية المجتمع كله.
ففيها العمل ورأس المال مجبران على التعاون من أجل الحصول على
توافق معين. ببساطة, لا يمكن أن تقوم عملية الإنتاج من غير حد
أدنى من التوافق بين هذين العنصرين. لا يقل أهمية عن ذلك أن
المؤسسة ملزمة بالبحث عن توافق معين
مع الوسط الاجتماعي
والثقافي المحيط, الذي يغذيها بعصائره - أي بالقوة العاملة
وبمنظومة تأهيل الكوادر وبالمعلومات وبالأحكام الثقافية
الاجتماعية اللازمة.
أما المصرف فأمر مغاير تماماً. إنه عبارة عن تجسيد لرأس المال
اللامادي الممثل على شكل نقود. نجاح رأس المال هذا أو عدمه غير
مرتبط عملياً بمؤشرات التقدم العام الحقيقية, مثل نمو إنتاجية
العمل المادية, وحال الوسط الاجتماعي المحيط, وصحة السكان
ومقدرتهم على العمل. المصرف هو عبارة عن "واقع افتراضي" غير
متجذر في الواقع الاجتماعي المحيط.
حتى المؤسسات الإنتاجية السوفيتية العامة, التي كانت تضع نسبة
تصل حتى 90% من أرباحها تحت تصرف المركز, كانت على الأقل تبقي
في أماكن تواجدها البنية التحتية التي كونتها, وتبقي الكوادر
المؤهلة وتقاليد العمل ومهارات العمال - أي تبقي كل ما ينتمي
إلى الرأسمال البشري باعتباره أساساً لأي ثروة. أما المصرف فلا
يترك شيئاً: يكفيه أن ينقل موجوداته إلى مكان آخر حتى تظهر في
المكان صحراء قاحلة - ويسود الواقع الافتراضي على الواقع
المادي. ولا يمكن تدمير هذا الأخير تحت هجوم منظومة تحويل
الثروة القومية الافتراضي إلى لامادية إلا في جو اجتماعي معين
- في جو يقوض فيه التقشف, القادر وحده على تأمين إخضاع أهداف
الأنانية الاستهلاكية قصيرة الأمد لإستراتيجية البقاء والتطور.
وهكذا, نرى أن البرجوازية المالية المعاصرة, المجسدة لمفهوم
النهج البرجوازي الأحدث بمجمله لا تتطابق, ولو بمعيار مهم
واحد, مع الصورة التي رسمها لها محامي الطبقة البرجوازية
الملهم ماكس ويبر. لقد تصور ويبر التوافق بين البرجوازيين
وبقية المجتمع على أساس الأخلاق البروتستانتية. كان في مقدور
البرجوازية المتقشفة, المضحية بمسرات الحياة الخاصة باسم
المراكمة, أن تطلب من المجتمع تضحيات مماثلة, وحينئذ كان لديها
الحظ في أن تحظى بتفهمه لها.
لكن برجوازية المقامرين الماليين المولعين, التي غطت العالم
كله بشبكة عنكبوتية, والتي حققت ذاتها في فضاء افتراضي لا يسري
فيه مفعول قواعد الحياة الطبيعية, ليس لديها أي أساس كي تعتمد
على الاعتراف والدعم من قبل المجتمع. تتجلى الكارثة التي حلت
بالطبقة البرجوازية الجديدة في فقدانها الكامل للشرعية. لا
يمكن لأحد أن يصف الثروة البرجوازية الجديدة بأنها غير طفيلية
- لقد فقدت كل صلة تربطها بكل ما يمكن أن يحظى بالاعتراف من
قبل المجتمع أو ما يستحقه.
في زمنه كان الانتقال من رأسمالية المراباة القديمة إلى
الرأسمالية المنتجة من النمط الويبري يعني أن البرجوازية صارت
منذ الآن تذكي صحبةَ المجتمعِ لعبةً ذات محصلة إيجابية. اعتمد
نمو الربح على نمو إنتاجية العمل وعلى نمو المؤهلات والتعليم,
وعلى النمو المنتظم في الرأسمال البشري وكذلك في كل ما ينتمي
إلى خيرات الحضارة المحسوسة بدرجة أقل والمرتبطة بجوها الروحي
وأخلاقها وقيمها. أما الآن فيزاح الربح المنتج على يد "الربح
من الاغتراب", هذا الربح الربوي القديم الذي يعني نموه الحسمَ
المباشرَ من المجتمع: انخفاض الاستثمارات, تدهور شروط الحياة,
تفكيك البنى التحتية, انحطاط العلم والثقافة والتعليم المرافق
لانحطاط أخلاق المجتمع ومنظومة قيمه.
يعني هذا كله موت الأسطورة الويبرية في الثقافة السياسية
المعاصرة. إن أدلة البراءة التي منحها ماكس ويبر للبرجوازية لا
يمكن استخدامها سلفاً مع البرجوازيين المنتمين إلى التشكيلة
المالية المضارباتية الجديدة. لكن البرجوازية الفاقدة لأدلة
البراءة الاجتماعية مضطرة أكثر فأكثر للانسلاخ عن المجتمع
المحيط بها وإلى الانغلاق في مجموعة دولية خاصة ما عادت تتكل
على الدعم الأهلي الواسع, بل على دعم قوى ما فوق قومية
وعولمية, لديها ما لديها من مخططات بخصوص العالم المعاصر.
طبعاً ستتجدد محاولات التمديد الاصطناعي لـ "النهضة الويبرية",
وستتجدد معها محاولات التمديد لأسطورة البرجوازي الكادح
والفاضل. إنهم يصدرون في ألمانيا المؤلفات الكاملة لماكس ويبر,
التي يريدون أن يضفوا عليها وضع النص المقدس الشارح لكل شيء,
كما كان وضع الإصدار الثاني (الكامل) لمؤلفات كارل ماركس في
الاتحاد السوفييتي. لكن مآل هذه المحاولات كلها هو الفشل: تبين
أن الأسطورة الويبرية أقصر عمراً من الأسطورة الماركسية التي
لم ينعكس موتها في مصير الدولة السوفيتية العظمى وحده, بل
انعكس أيضاً في مصير المشروع الحضاري ما بعد الرأسمالي عموماً.
يبدو أن الأسرة الفكرية "التقدمية" ستظل صامتة مدة ما متظاهرة
بأن شيئاً لم يحدث. لكن إطالة الصمت إلى أمد طويل غير ممكنة.
وعلينا أن نتوقع تصميم أسطورة جديدة عن البرجوازي, الذي يغير
صورته من عصر إلى عصر مثل بروثيوس(),
محدداً سلفاً "زيغزاغات" النظرية ومنعطفاتها الغريبة.
الثورة
الثقافية العولمية
>>
الفصل الثالث
العولمة الأمريكية
>>