أين تكمن خصوصيات إستراتيجيتها؟ إنها مرتبطة
بمفهوم السلعة باعتبارها معياراً عمومياً شاملاً
لكل شيء. أولاً, يدور الحديث حول إكساب ظواهر
الحياة والثقافة كلها حرفياً شكلاً سلعياً,
وهذا معناه, شكلاً مغترَباً, من أشكال
القيمة التبادلية. حتى هذه
اللحظة كانت الثقافات ثنوية: فقد احتوت إلى جانب
ما يباع ويشترى في السوق على صندوق متاح للقيم
المخصصة للاستخدام الشخصي والجماعي. يعتبر الحب
والإلهام والحقيقة والجمال في كل ثقافة سليمة
قيماً غير معدة للبيع. كذلك لم تكن للبيع القيم
الجماعية المجرَّبة: اللغة الأم وأرض الأجداد
المقدسة, والأراضي القومية والمصالح الوطنية
والواجب الوطني والعسكري.
أما السلطة الاقتصادية الدولية, المتمثلة اليوم
بسلطة الدولار, فتنظر بغيرة مرضية إلى كل هذه
القيم غير المعدة للبيع والمتاحة للجميع. وما دامت
هذه القيم موجودة ستشعر هذه السلطة بأنها محدودة
وغير مكتملة: حيث يوجد أناس لا يمكن شراؤهم
تنتظرها المفاجآت والمطبات غير السارة. إن النقد
الحالي "ما بعد الحداثوي" للقيم الأبدية التي لا
تفنى قد يقدر حق قدره في ضوء غطرسة السلطة
الاقتصادية العالمية, المملوءة عزماً على القضاء
على "آخر" بؤر المقاومة. ما دام كل شيء على الأرض
لم يتحول إلى سلعة لها ثمنها ومعروضة للبيع, لا
يمكن أن تعتبر السلطة الاقتصادية شاملةً - تامة
وتطال كل شيء. لهذا السبب تعتبر الليبرالية
السائدة كلَّ ما ليس له وضع السلعة, وما ليس له
قيمة تبادلية معترف بها, من مخلفات التقليدية. يتم
تصوُّر ختام الحداثة على أنه ختام عملية تحول
القيم القديمة إلى سلعة عادية, لها بائعها
ولها شاريها.
بكلمات أخرى, تشعر السلطة الاقتصادية بنفسها كاملة
السيادة حيث هو محددٌ بدقة لمن ينبغي أن تدفع وكم
ستدفع لقاء أي قرارات أو أفعال نافعة لها.
إن الإستراتيجية الأمريكية المعاصرة الهادفة إلى
احتلال العالم مرتبطة تحديداً بمنطق السلطة
الاقتصادية هذا. وما دام المفكرون الوطنيون
والزعماء والقادة السياسيون يناهضون أمريكا فإن
العالم يبدو غير عقلاني ومخالفاً للحساب ومليئاً
بالمفاجآت.
لكن حين يزاح أولئك الأشخاص المُشار إليهم من قِبل
مالكي البضائع, الذين يبيعون فكرهم وحنكتهم,
وقدرتهم على التأثير على مسار المفاوضات أو مسار
المعارك, فإن العالم يتخذ على الفور هيئة السوق
المألوفة ويصير متوقعاً وخاضعاً للسيطرة. تقاس
السلطة في مثل هكذا عالم بكمية الدولارات المخصصة
للرشوة. في هذا العالم وحده يصير مالكو الكمية
الأكبر من النقود أصحاب السلطة الأكبر آلياً. من
هنا يتضح أن أول خطوة على طريق بناء عالم القطب
الواحد هو التشهير العالمي بالقيم غير الاقتصادية
- التنظيف الشامل للثقافة من الجيوب القيمية
المواجهة لتوسع البداية التبادلية.
يدور الحديث عن الثورة الثقافية العولمية الجديدة,
المرتبطة بتدمير المقدسات القومية. الخطوة الثانية
هي خصخصة الكمون القومي من قبل النخب الحاكمة
المتحولة إلى مالكته المحتكرة له باعتباره سلعة.
تكمن مفارقة أمريكا الديمقراطية, التي تخوض هجومها
العولمي, في أنها تنبذ على نحو منهجي مفهوم سيادة
الشعب السياسية الأساسي للديمقراطية. يتلخص الأمر
في أنه أين ما وجدت مثل هذه السيادة فإن المصالح
القومية لا يمكن أن تكون, وفاقا لتعريفها,
مادة للبيع والشراء. ولكي يتم ذلك على النخب
الحاكمة أن تخصخص هذه السيادة, لتحصل على الحرية
الكاملة والابتعاد عن الرقابة على تصرفاتها في
السياسة الدولية. ينبغي أن تصير المصلحة القومية
سلعة, أن تصير النخبة الحاكمة مالكتها غير المقيدة
بأية وثائق أوامرية من جهة الأمة.
ينبغي إلى جانب ذلك أن يتم تأمين شرط تقني محدد هو
الفضاء التمويلي العالمي الواحد, المرتكز إلى عملة
دولية واحدة. في مثل هذا الفضاء وحده تستطيع النخب
الحاكمة المختلفة أن تبيع بضاعتها الخاصة – أي
مصالحها القومية من غير معوقات, حاصلة بالمقابل
على المكافأة النقدية المستحقة.
إذا وُجد في مثل هذا الفضاء أيضاً زعماء سياسيون
غير مستعدين لاعتبار المصالح القومية سلعة معدة
للتبادل فستجند ضدهم آلة التشهير المهولة, التي
تسهل لاحقاً استخدام التقنيات العسكرية السياسية
الأشد قسوة.
يصير في هذا السياق مفهوماً الهجوم غير المسبوق
على زعماء قوميين مثل رئيس بيلاروسيا ألكسندر
لوكاشينكو أو رئيس يوغسلافيا سلوبودان ميلوسوفيتش.
لقد برزا كمخلين بـ "قانون القيمة" وكممثلين
للثقافة السياسية ما قبل الاقتصادية, المخرجة
للمصالح القومية من نطاق التبادل المالي. إنهما لم
يوجها التحدي بذلك إلى أمريكا شخصياً وحسب - بل
وجها التحدي لـ "الإنسان الاقتصادي" باعتباره
أنموذجاً سوسيوثقافياً سائداً, يجوب العالم حاملاً
رسالة جديدة. تتلخص هذه الرسالة في جعل جميع القيم
السابقة غير المغترَبة وغير القابلة للبيع والشراء
قيماً غير مغتربة وقابلة للتبادل. إن هذا يمس
القيم غير المغتربة بفضل وضعها الروحي وكذلك القيم
غير المغتربة بفضل وضعها الطبيعي الجغرافي.
ما دامت القيم غير المغتربة موجودة في مكانها فإن
السلطة العولمية غير ممكنة. ووحده إدخال هذه القيم
في دورة البيع والشراء العالمية يؤمن لأولئك الذين
ركزوا في أيديهم أموال العالم السلطة التامة
فعلياً على العالم.
لتحليل "الإنسان الاقتصادي" باعتباره أنموذجاً
سوسيوثقافياً ينبغي علينا أن نتمتع بالحدس الملائم
- أي بحدس السلطة. كان يُنظر في أكثر الأحيان من
قبل إلى "الإنسان الاقتصادي" على أنه أنموذج
برجوازي صغير عادي "لا يهتم بالسياسة". ووحده
الأفق المقترب لانتهاء عملية اغتراب القيم كلها
وانتهاء ترجمتها إلى لغة التبادل قد سرَّع في فضح
هذا الأنموذج لذاته بوصفه أنموذجاً شمولياً جديداً
لا تزيد الأنموذجات الشمولية السابقة مقارنة به
على أن تكون أكثر من تلميذة له.
يتلخص الأمر في أن "الإنسان الاقتصادي", الذي أعطى
لكل ما هو غير مغترب حتى الآن وغير قابل للتبادل
مكافئه المالي المناسب, هو وحده الذي يقضي على
تعددية أشكال السلطة تماماً كما يقضي على تعددية
المراكز العالمية لصالح شكل واحد ومركز واحد. إن
"الإنسان الاقتصادي" ينفض العالم من جديد من أسفله
حتى أعلاه, مبرزاً فيه منطلقاً واحداً وجوهراً
مطلقاً واحداً -
هو النقود. يدور الحديث في كل مكان
- بدءاً من المداولات البرلمانية حول بيع الأراضي
وشرائها وحتى المداولات الجيوسياسية حول إعادة
تقسيم العالم - عن الأمر ذاته: تحويل السلطة
المالية, أو على نحو أدق, سلطة الأولغرشية المالية
العالمية, إلى سلطة شاملة.
هاكم ما يكتبه بهذا الصدد واحد من أنصار المشروع
الليبرالي الجديد: "... يفترض المشروع الليبرالي
إزالة تامة لكافة القيود على حق ملكية الأرض. يمكن
للأرض أن تباع وتشترى على نطاق غير محدود, ويمكن
لها أن تؤجر وتخضع لأي نوع من أنواع الاستخدام بما
في ذلك الاستخدام السيئ. إنها تصير سلعة مطلقة
مثلها كمثل أي سلعة أخرى... ينعكس نمطا العلاقة
بالأرض باعتبارهما ملكية في علاقة "الليبرالي" وفي
علاقة "المحافظ" بها بوصفها مساحة"().
يشكل الارتباط بأرض الوطن في حقيقة الأمر عقبة
أمام السلطة العولمية الاقتصادية (المالية) من جهة
السلطات الأخرى الأكثر تقليديةً. تبين أن للمشروع
الليبرالي, الهادف إلى تحويل الوطنيين السابقين
إلى "مواطني عالم" لا يعرفون وطناً, ثمن لم يشك
الكثيرون إلى الآن في وجوده. هذا الثمن هو إبعاد
كافة الدوافع الإنسانية المعروفة حتى الآن من قبل
الدوافع الاقتصادية.
وحده المحرض العولمي أحادي البعد هو الذي يبني
مجتمع "مواطني العالم" العولمي. إن عملية التجرد
عن الحدود القومية والتقاليد والمقدسات تتطابق مع
التجرد عن كافة النوعيات الثقافية لصالح الكم
التبادلي المقاس بالنقود, ويهيئ لنا هذا التجرد
سلطة عولمية جديدة.
"لا تفترض النظرة الليبرالية - الديمقراطية من حيث
المبدأ وجود جيوسياسة. إنها موجهة نحو الفرد
الإنساني المتجرد باعتباره حاملاً لحقوق وحريات
معينة؛ الدولة هي نتاج اتفاق الأفراد المتجردين,
ولجسدها المحدد (أرضها) طابع عشوائي. لهذا فإن
التوسع الليبرالي لا يعرف حدوداً لأن كمون التعميم
لا يعرف حدوداً. إنه ينتهي منطقياً حين يخضع كل
شيء للتجريد. من هنا ينتج الارتباط المنطقي بين
الإيديولوجية الليبرالية - الديمقراطية ومذهب
العولمة... يفترض التوضع الجيوسياسي التقليدي وجود
عدة مراكز في العالم مختلفة نوعياً ويمكن أن
تتصارع في ما بينها... هذا هو شكل العالم متعدد
الأقطاب. أما التوضع العولمي فيفترض مركزاً
واحداً, أو على نحو أدق, انتفاء وجود مركز بمعنى
المركز"().
إن أمامنا اعترافاً ثميناً بأن السلطة الجديدة
المولودة أمام أعيننا, والمؤسسة على قاعدة التجرد
عن كل ما هو متميز نوعاً وأصيل, هي سلطة شمولية -
أي لا تعترف بأية قيود مساحية وغير مساحية, وترفض
رفضاً مباشراً قيم المركزية التعددية الديمقراطية.
لماذا إذن تشجع الولايات المتحدة الأمريكية في هذه
الحال السيادة الإثنية في العالم غير الغربي
كله؟ ألا يتناقض هذا مع قانون التجريد والنمطية
الواحدة المشار إليه, والذي يقودنا إلى سلطة
شمولية من نوع جديد؟
عند التدقيق يتبين عدم وجود تناقضات هنا. إن
انقسام الفضاءات الكبرى السابقة هو شكل معروف لنا
من أشكال خصخصة السلطة - الملكية, وتعميم علاقات
البيع والشراء. لقد كانت المصالح الجماعية في
التكوينات الدولتية ما فوق الإثنية الكبرى محمية
من البيع والشراء, وخارج مجال التبادل. ويعني
تكوين عدة سيادات إثنية مكان الدول الكبرى الواحدة
ذات السيادة إرسال كل ما لم يكن من قبل قابلاً
للتبادل أو قابلاً للبيع - أي المصالح
القومية, إلى السوق. لكن من أجل هذا الأمر
ليس مطلوباً من النخب الحاكمة الجديدة أن تتحرر من
سلطة المراكز "الإمبراطورية" السابقة فقط, وإنما
مطلوب منها أيضاً أن تتحرر قدر الإمكان من الرقابة
من قبل مواطنيها الخاصين, وأن تبرز بصفتها موردة
حرة فعلية للسلعة الخاصة المطلوبة في سوق العولمة.
هذه السلعة هي المصالح القومية, المرتبطة بالتحكم
بالثروات الخاصة والأرض والعلاقات الدولية وما
شابه ذلك. تحصل النخب الوطنية ( والأدق في مثل هذه
الحال أن نقول - اللاوطنية) على إمكان الانتساب
إلى طائفة النخبة العالمية المالية, المتمتعة
بكافة الإمكانات التي تقدمها العولمة ما إن تتحول
إلى بائعة للسلعة الإستراتيجية الأهم - الأراضي
والموارد الوطنية. يشهد التاريخ على أن شراء ذمم
قادة القبائل القادرين على تهديد الإمبراطورية قد
اختبر في روما القديمة وفي بيزنطة.
يختلف الوضع الحالي عن الأوضاع السابقة بميزتين:
أولاً -
لم يكن يوجد حينذاك شكل موحد عام للقيمة
التبادلية. كان في مقدور المركز الإمبراطوري
والأطراف القبلية أن تدخل أو لا تدخل في علاقة بيع
المصالح الجيوسياسية أو شرائها - ارتبط كل شيء
بالوضع التاريخي المحدد. لا بل كانت مادة البيع
ذاتها تتبدل من حال إلى حال. أما اليوم فالعلاقات
بين مانح الرشوة الإمبراطوري الموحد ومستلمي
الرشوة القبليين منتظِمة بنزعة الانتقال من تعددية
السلطات العالمية إلى السلطة المالية العولمية ومن
تعددية النخب إلى النخبة المالية العالمية
الواحدة. والولايات المتحدة الأمريكية لم تصر مركز
العالم إلا لأنها تمكنت من لعب دور مركز العالم
المالي ومصدر العملة الموحدة العالمية. (ليس من
قبيل المصادفة أنها تشعر بمثل هذه الغيرة من ظهور
عملات منافسة مثل اليورو الأوربي والين الياباني).
لقد نظمت الولايات المتحدة الأمريكية, بتنظيمها
الفضاء المالي العالمي الموحد باعتباره فضاءً
للسلطة العولمية, السوق ذاتها, حيث النخب المحلية
تبيع المصالح القومية. لا يتم في هذه السوق تبادل
سوى العملة الموحدة, ولا يسود إلا
الزبون الموحد - الدولة العظمى
بانية عالم القطب الواحد.
ثانياً ـ
لا تخضع عملية "التحول إلى السيادة" القبلية اليوم
إلى قوانين نشوء الإثنيات, بل لاتجاهين اثنين
ملازمين للعولمة:
1 - تحول علاقات البيع والشراء إلى علاقات شاملة
وسائدة.
2 - انسلاخ النخب المحلية عن شعوبها وخضوعها
للسلطة المالية العالمية.
ننتقل هنا إلى مشكلة جديدة تمس التهديد بإبعاد
الشعب باعتباره ذاتاً مستقلة في التاريخ وصاحبة
سيادة. من غير إضعاف عالمي لمادة تاريخية, كالشعب,
ومن غير تفتيتها, يستحيل الوصول لا إلى خضوع النخب
الوطنية السابقة للسلطة المالية العولمية, ولا
لجعل علاقات البيع والشراء شاملة بإخضاع كافة
مجالات الوجود الاجتماعي وكافة ظواهر النشاط
الإنساني لها.
فما الذي يوطد هذه المادة؟ إن أساسها هو وحدة
الأرض (مكان التطور), والتاريخ الذي
يكون منبع الذاكرة الثقافية الجماعية ومنظومة
القيم المعيارية, التي تلعب دور الموجه للسلوك
الجماعي والفردي. وتعبر عن هذا كله اللغةُ, التي
تجعل باستمرار هذه الوحدات الثلاث حيويةً في وعي
الشعب المعني.
الفكرة التقدمية المضفية أهمية فائقة على
المستجدات العقلانية ميالة لتحديث مفهوم "الشعب"
ناسبةً إليه تحولات شكلانية مجردة. في واقع الأمر
حتى الانقلابات الأعظم في الزمن الحديث المرتبطة
بثورات الحداثة الاقتصادية والسياسية لم تزعزع
مادة كالشعب. لم تلغ لا منظومة الملكية الخاصة ولا
نشوء التشكيلات ما فوق الإثنية المسماة أمما
سياسية مكان الوحدات الإثنية قانونَ الوحدات
الثلاث المكونة لتماثل الشعب الجماعي.
نستطيع في هذا السياق أن نقدر تحدي العولمة حق
قدره: من المتوقع أن تظهر أول مرة في التاريخ مكان
التماثل الجماعي لذوات التاريخ الكبرى, المتمثلة
بالشعوب, ذراتٌ اجتماعية مبعثرة - أي "مواطنو
عالم" مرتحلين بحثاً عن النجاح. إنهم غير مقيدين
بشيء, ولا يوجد لديهم قيم سامية ولا مقدسات جماعية
- توجد مصالح فردية تحرضهم على أن يكوِّنوا تارةً
صلات اجتماعية مؤقتة, وتارةً قطعها تبعاً لحال
السوق المتغيرة.
يدور الحديث عن شيء أكبر من الملكية الخاصة
الكلاسيكية. لقد بقيت لدى الجماعات المسماة أمما
سياسية, إضافة إلى مؤسسة الملكية الخاصة, التي
تجعل الناس بعضهم يواجه بعض, مؤسسات أخرى مسؤولة
عن وحدة مخزون الشعب الذي لا يتجزأ.
حين يتحدثون عن فضاء الأمة الاقتصادي والسياسي -
الحقوقي والتعليمي - الإعلامي الواحد فإنهم يقصدون
عموميات ما غير مجتزأة, تشكل بكليتها بنية التطور
القومي التحتية والمجرى الرئيسي لمصير الشعب.
والعولمة المعاصرة تتطاول أول مرة في تاريخ
البشرية على أسس المصير الجماعي هذه وعلى
التماثل, وتفترض القيام بخصخصة شاملة
تستبعد حتى طرح السؤال نفسه عن الفكرة القومية
والمصالح القومية والأولويات والأمن وما شابهها.
في الوقت ذاته لم تبق, عموماً, شكوك لدى أحد في أن
"علية" المجتمع و"سواده" غير متساويين سلفاً أمام
عملية الخصخصة هذه. فالمخصخِصون الشاملون لا
للثروات الاقتصادية وحدها وإنما للجغرافية منها
والاجتماعية والثقافية هي النخب السلطوية؛ وتذرير
الشعب المتحول إلى جمهور منتشر ومحروم من البدايات
الموطدة له ضروري لا من أجل أن يشترك هذا الشعب في
ملحمة النهب الشامل المشوقة, بل لكي لا يبدي أي
مقاومة.
أعلن بطلان مفعول إجراءات ومعايير فصل الممتلكات
القومية غير المغتربة عن ما يمكن أن يخضع للخصخصة
وما يمكن الاتجار به. علينا في أثناء ذلك أن لا
نسقط من اعتبارنا ما ظل إلى الآن غير واضح
للمخصخصين المحليين. تعني أمركة العالم الشاملة
المرافقة لصيرورة المجتمع العولمي المفتوح أن
مشاريع الخصخصة الشاملة الوطنية ما هي إلا مرحلة
انتقالية مؤقتة. إنهم لا يجعلون النخب الحاكمة في
العالم غير الغربي ملاكاً خاصين
لثروات الأمم المادية وغير المادية إلا لكي
يستطيعوا باعتبارهم ملاكاً غير خاضعين للمساءلة
أمام أحد بيع أملاكهم لصاحب العالم الفعلي,
الذي لديه ما يدفعه. طبعاً, لا تستطيع الولايات
المتحدة الأمريكية أن تشتري ثروات الكوكب بالسعر
الحقيقي مضروباً بجهد عديد الشعوب الكبير. بالتالي
تفترض العولمة القيام بلعبة التخفيض
التي تضم مرحلتين.
في المرحلة الأولى تشتري النخب
المحلية الجشعة الممتلكات الوطنية بأبخس الأسعار -
لا بقيمتها الحقيقية, وإنما بقيمة "متفق عليها"
مرتبطة بالتكافل والتضامن مع الزعامات
الكومبرادورية. ففي روسيا, وتحت راية خصخصة
الملكية الشعبية العامة, "بيع" ما قيمته تريليون
دولار وثروات طبيعية غير مقدرة الثمن بما لا يزيد
على 5 مليارات دولار().
في المرحلة الثانية يشتري مالك
الدولار الرئيسي في العالم من تلك "الزعامات"
نفسها الثروات الوطنية المجزأة ومبخوسة القيمة
بسعر ليس سعر سوق بقدر ما هو سعر سياسي مرتبط
بضمانات الأمن وغيرها من الضمانات السرية.
مفهوم لماذا يجري البيع بين الأمَّة والمخصخصين
الحاكمين في شروط غير متساوية و"خارج السوق":
فالسلطة لا تستطيع إلا أن تتحول إلى امتياز, وكلما
كانت السلطة بعيدةً عن الرقابة كانت الامتيازات
أوسع. لكن البيع التالي بين المالكين المحدثين من
السكان الأصليين و"المشتري" الرئيسي لثروات الكوكب
يتم في ظروف غير متساوية بالقدر نفسه. يتلخص الأمر
في أن الشروط التي يُخلُّ بها خلال عملية العولمة
هي ليست شروط الوجود الطبيعي للشعوب وحدها وإنما
شروط الوجود الطبيعي للنخب الوطنية أيضاً وشروط
تأديتها الطبيعية لوظائفها. لقد خرجت اليوم بنية
السلطة التحتية كلها, وخرج نفوذها وقدرتها على
اتخاذ القرارات الفعلية لا الشكلية, وحصانتها
الإعلامية وحصتها من السمعة وغير ذلك من علامات
"الاشتراك" في السلطة من تحت السيطرة الوطنية
وباتت تنظم من قبل مراكز السلطة العولمية.
في مثل هذه الظروف لا يمكن سلفاً "للتبادل
البضاعي" بين المراكز المذكورة والنخب
الكومبرادورية المحلية, التي لا تشعر بدعم حقيقي
من الأسفل, أن يجري وفاقاً لقوانين السوق
التنافسية الطبيعية. ثمة هنا جانب يملي سعره
وشروطه والجانب الآخر مجبر على القبول. على هذا
النحو يتبين أن ما يسمى مجتمعاً عولمياً مفتوحاً
(مستباحاً) هو في الواقع منظومة نزع ملكية, تؤمن
نقل الثروات القومية المستباحة ومبخوسة القيمة إلى
أيدي أولئك الذين لا يتحكمون بالتدفقات الدولارية
وحدها, وإنما ببنية الحضارة التحتية
المعاصرة كلها.
يكمن الأمر الأهم هنا في فهم الصلة الوثيقة بين
"الإصلاحات" المحلية التي تسلم الممتلكات القومية
إلى أيدي المخصخصين الحاكمين و"الإصلاح" العولمي,
الذي يضمن النقل التالي لهذه الخيرات إلى أيدي
أصحاب العالم الفعليين.
آلية هذه الصلة شفافة بما فيه الكفاية. كلما كانت
الخصخصة الوطنية أوقح وملكية الأولغرشية المحدثة
أقل قانونيةً قلت لدى هذه الأولغرشية أسس الوثوق
بمواطنيها والاعتماد على وفائهم. لكن الخوف من
شعبها يجبرها على البحث عن الضمانات في الخارج,
وعلى اللجوء إلى استخدام كافة الوسائل لإرضاء من
يستطيعون تقديم ضمانات الأمن لها والاعتراف بها -
أي قبولها في عداد نخبة "مواطني العالم". لذلك
ينتج أنه كلما كان تقويم الملكية الوطنية التي
انتزعها المخصخصون من شعوبهم أقل عدلاً ازداد بخس
قيمة هذه الملكية في سوق العولمة, حيث "المشتري"
الرئيسي هو الدولة العظمى المنتصرة. ببساطة,
تصرَّف الثروات المنهوبة, كقاعدة عامة, بسعر بخس.
ليس من قبيل المصادفة اليوم أن تشن في الولايات
المتحدة الأمريكية وغيرها من بلدان الغرب حملة
لفضح "المافيا الروسية". تقتضي منفعة الأمريكيين
وشركائهم الإعلان عن أن الثروات المخصخصة من قبل
التحالف الكومبرادوري في روسيا غير قانونية. وبذلك
تفقد هذه الثروات قيمتها آلياً في سوق العولمة. في
مثل هذه الظروف تواجه المخصخصين الروس مسألة غير
بسيطة: كيف يمكن الحؤول دون نقل الثروات لاحقاً
إلى مالكي النظام العولمي العالمي - أصحاب العالم
أحادي القطب, وفي الوقت نفسه عدم التطاول على
حصيلة الخصخصة الوظيفية - الإجرامية؟ بكلمات أخرى:
هل يمكن تدعيم حصيلة المرحلة الأولى من الخصخصة –
أي المرحلة الوطنية, وتجنب المرحلة الثانية, التي
تنساب فيها انسياباً طبيعياً الثروات المنتزعة من
الأمة, والمتحولة إلى ثروات "منقولة" - مغتربة
وقابلة للتبادل - إلى أيدي الزبون الأغنى والأكثر
نفوذاً؟
يفترض حل هذه المسألة رفض فكرة المجتمع العولمي
المفتوح لا بل يفترض أيضاً إعادة "الستار الحديدي"
بهذا الشكل أو ذاك.
أليس هذا هو التوجه المحسوس اليوم في روسيا بعد
انتخابات كانون الأول من عام 1999؟ سيكون على
الحكام الجدد في روسيا ما بعد اليلتسنية أن يحلوا
التناقض الناشئ في المرحلة السابقة. لقد خُصخِص
أكثر من نصف الملكية القومية من قبل سلك ضباط الـ
ك ج ب السابق, لكن في أثناء ذلك كان يمثل روسيا
على المسرح الدولي إلى حد معين أتباع المجتمع
العولمي المفتوح. ووفاقاً لقانون هذا المجتمع
محكوم على الملكية المخصخصة أن تقع عاجلاً أم
آجلاً في أيدي أصحاب العالم أحادي القطب - أي
القابضين على كافة أنواع "الضمانات الحضارية" التي
يشعر مخصخصونا غير الشرعيين, المنسلخين عن شعبهم,
بأنهم بأمس الحاجة إليها.
تخطو النخبة الروسية الخطوات الأولى الهادفة
لتطويق هذه العملية. المنطق هنا بسيط: إذا كان
القسم الأكبر من الملكية المخصخصة يعود لموظفي
الأجهزة الأمنية فبالتالي ينبغي أن تكون السلطة
السياسية العليا ممثلة بهم أيضاً بالاسم. في هذا
تحديداً تتلخص "ظاهرة بوتين". لكن
في حقيقة الأمر الأصعب هنا لم يأت بعد.
لتطويق انسياب الملكية المخصخصة إلى أيدي أسياد
العالم القابعين وراء المحيط تطويقاً مضموناً إلى
حد ما لا ينبغي فقط تقوية موقف روسيا في التجارة
مع أمريكا, بل ينبغي تقوية مواقف المخصخصين غير
الشرعية داخل البلاد بالحصول على أدلة البراءة في
نظر الشعب. من غير دعم الشعب بوصفه ذاتاً جماعية
مؤثرة تأثيراً فاعلاً يستحيل بناء دولة قوية, ومن
غير دولة قوية يستحيل تطويق آليات المجتمع العولمي
المفتوح التي تحتم مسبقاً إعادة توزيع الملكية على
النطاق العولمي. من غير الاعتماد على الشعب تصير
الحظوظ الأكبر للانتساب إلى النخبة المالية
الدولية من نصيب ذوي الأصول الغريبة الذين
يُقبَلون في هذه الأوساط بشكل أفضل لعدم الشك في
إصابتهم بالوطنية و"عقد النقص الإمبراطورية". لكن
حتى هؤلاء أيضاً, كما يدل مثال بوريس بيريزوفسكي,
قد يتعرضون للاستخفاف كمنبوذين من الأوساط
العولمية إذا لم تكن وراء ظهورهم "مجموعة ضغط"
كالدولة القوية والمهيبة. بالتالي سيكون محتماً
على الشعب - الذي وقع كما يبدو الطلاق بينه وبين
العلية الليبرالية إلى الأبد - أن يعيد تقرير
مصيره ويفكر من جديد في وضعه.
على المدى البعيد لا تشكل النخب الكومبرادورية,
على الرغم من استحالة التكهن بسلوكها, مشكلة
حقيقية لـ "أصحاب العالم" الأمريكيين, وإنما
الشعوب. وينبغي أن نقول إن لدى "التقنيين"
الأمريكيين إستراتيجيتهم المرتبطة بتحويل الشعوب
إلى حشود مشتتة وطيعة. هذه الإستراتيجية هي
مذهب السلوكية
(behaviourism)().
لم يصغ المذهب السلوكي لوحة العالم الأمريكية
وحسب, بل اعتبِر أيضاً أساس الممارسات الاجتماعية
والسياسية الخاصة بالمجتمع الأمريكي. هذه هي
الحادثة النادرة التي تتطابق فيها المبادئ
والإستراتيجيات الرسمية مع بداهات جماهير المجتمع
التي تمس السلوك اليومي.
أتى المذهب السلوكي من علم النفس الاجتماعي - هذا
العلم الذي يتمتع في المجتمع الأمريكي بأهمية
خاصة, لأن المجتمع المحروم من الجذور والروابط
التاريخية الطبيعية مضطر إلى اللجوء إلى تقنيات
خاصة تعوض غياب الوحدة العضوية. لقد أعاد المذهب
السلوكي الاعتبار العلمي للفردية الأمريكية
و"أخلاق النجاح" الأنانية, وبهذا المعنى لعب في
المجتمع الأمريكي دوراً لا يقل عن الدور الذي
لعبته الشيوعية العلمية في المجتمع السوفييتي. لكن
إذا كانت مسلمات الشيوعية العلمية قد اختلفت عن
التجربة اليومية, وهذا ما حتمه تآكل الإيديولوجية
الشيوعية, فإن مسلمات المذهب السلوكي تأكدت في
أغلب الأحيان بالحياة اليومية الأمريكية. أين تكمن
هذه المسلمات بالأساس؟
1 - لا تعتبر هذه المجموعة أو تلك الخلية الأساسية
في المجتمع, بل الفرد المكتفي
ذاتياً, والذي تحمل صلاته بمحيطه الاجتماعي طابعاً
اتفاقياً شرطياً, وطابعاً متقلباً.
يعتبر المذهب السلوكي على هذا النحو المنظومة
الاسمية التي تلح على أن الاجتماعي العام
(الجماعي) غير موجود واقعياً كأرضية
لا تتجزأ, وإنما اسمياً فقط.
والواقع الاجتماعي الفعلي هو الأفراد - الذرات,
المتفاعلون في ما بينهم على أساس براغماتي ونفعي
خالص.
2 - يميز الفراغ الموجود بين الناس - الذرات
الاجتماعية المعزولة - كلاً منهم من الداخل أيضاً.
إن مفهوم العالم الشخصي الداخلي الذي تسلم به كل
ثقافة غنية مرفوض هنا رفضاً منهجياً. يُنظر إلى
الشخصية على أنها "صندوق أسود" سيبرنيتيكي يجبر
المراقب على تسجيل التلازم بين الشهقات
("الحوافز") والزفرات ("ردود الأفعال") وتنظيمه.
لا يرفض المذهب السلوكي على هذا النحو الأفكار
الجماعية العليا, المتعلقة بتماثل الناس الجماعي
وحدها وإنما يرفض أيضاً الأفكار الداخلية الخاصة
بخزانة العالم الإنساني الداخلي. وتُنبَذ هذه وتلك
باعتبارها لاعقلانية. بالفعل, إذا حددنا العقلانية
الاجتماعية بعلاقات التبادل المتكافئ فينبغي علينا
عندئذ أن نقوِّم المشاعر الداخلية
والقيم الجماعية باعتبارها عقبة
أمام إجراءات السوق التقويمية.
لقد صاغ المذهب السلوكي على المستوى "البدائي"
الأمريكي ما يصوغه أنصار العولمة المعاصرون
ليطبَّق على الإنسانية كلها.
والمقصود هو إجراءات التحلل الاجتماعي
والثقافي وتفكيك الناس, الباترين الجذور القومية
والمتحولين إلى ديسبورة "مواطني العالم" الرحل -
أي إلى نازحين عديمي المبادئ ولا يعرفون أي قيود
ثقافية وأخلاقية وغير ذلك من القيود الداخلية. لا
يعرف فرد - ذرة المذهب السلوكي غير القيود
الخارجية, المرتبطة بضغط الذرات الأخرى. إنه حين
يلعب هذا الدور لا يشعر بنفسه مقيداً لا بالتقاليد
ولا بالأخلاق ولا بأي قيم أخرى. إنه يشعر بنفسه
مقامراً حراً ومن المهم أن يخدع
الآخرين جميعاً.
إن نظرية التبادل باعتبارها عقيدة نمط الحياة
الأمريكي, الذي لا ينسحب على علاقات الناس
الاقتصادية وحدها وإنما يتعداها إلى علاقاتهم كلها
بغير استثناء, تفترض أن المجتمع هو عبارة عن فضاء
نيوتني فارغ تتحرك الذرات المعزولة فيه متصادمةً
تصادماً دورياً.
في ما بعد عارضت المدرسة المعرفية البديلة للمذهب
السلوكي في علم النفس الاجتماعي مسلمات علم الذرات
الاجتماعي ونظرية التبادل الميكانيكي المرتبطة به.
لقد برهنت على أن من طباع الناس بتأثير من
"طبيعتهم الثقافية" ذاتها اللجوء إلى إجراءات
التصنيف الاجتماعي المرتبطة بتكامل الـ "أنا"
الفردية والـ "نحن" الجماعية وباختلاف الـ "نحن"
عن الـ "هم". يُبرِز المعرفيون السلسلة الفكرية
التالية المرتبطة ببناء تماثل المجموعات الراسخ:
- المماثلة الاجتماعية الملازمة لانضمام الفرد
إلى هذه المجموعة أو تلك؛
- المقارنة الاجتماعية (مع المجموعات الأخرى)؛
- المفاضلة ما بين المجموعات (رسم الحدود مع
المحيط الخارجي, المرموز له بـ "هم")؛
- التمييز ما بين المجموعات, المرتبط بوضع علامة
أعلى للمجموعة المنتمى إليها مقارنة بمجموعات
الآخرين().
سعى السلوكيون – أي أتباع علم الذرة الاجتماعي, من
غير أن يجادلوا في حقيقة تكونات المجموعات ذاتها,
إلى إلباسها طابعاً نفعياً براغماتياً مختلقاً.
لقد صوروا الأمر على نحو جعلوا فيه "الروبينزونات"
الأصلاء, غير المحتاجين داخلياً إلى أحد, يدخلون
في تحالفات مؤقتة لأهداف براغماتية وأنانية خالصة.
بيد أن المدرسة المعرفية, التي تسلحت بمناهج أخضعت
للتنقية بما فيه الكفاية, برهنت خلال مراقباتها
وتجاربها العديدة على أن تصنيف المجموعات يحتوي
إلى جانب المحرضات ذات الصفة البراغماتية على
"بقية" ما غير واضحة إطلاقاً في سياق نظرية
التبادل, وتشهد على أن التماثل الجماعي لدى أي
إنسان يحمل طابعاً ذاتياً ثميناً.
يتلخص تناقض زمننا في أنه على الرغم من قبول
اعتراضات المدرسة المعرفية على المذهب السلوكي من
قبل المجتمع العلمي, وعلى الرغم من أنها باتت
معترفاً بها, إلا أن النظرية الليبرالية الأحدث
تحاول ترميم مسلمات علم الذرة الاجتماعي البدائي
وإجبارنا على أن نصدق النظرية الروبنزونية
البرجوازية العائدة إلى القرن الثامن عشر.
كان المذهب المعرفي مركزياً ثقافياً منذ البداية,
وقد دل على دور البنى الرمزية في حياة الإنسان.
أما المذهب السلوكي فهو مركزي اقتصادي وميال إلى
مطابقة الموقف الواقعي مع الأنانية الفردية
المنهجية, وهو يستخف بكل ما لا يندرج في إطار مخطط
نظرية التبادل معتبراً إياه سلفية لاعقلانيةً.
يوحِّد الواقع الرمزي في المذهب المعرفي عالمين لا
يقيم لهما المذهب السلوكي وزناً: عالم الأفكار
والقيم الجماعية ما فوق الفردي
وعالم الشخصيَّة الداخلي غير الراغب
في التحول إلى ردِّ الفعل الحيواني المنعكس وفاقاً
لبافلوف().
تظهر عوضاً عن ذات السلوكيين "المستجيبة"
و"متبادلة التأثير" ذاتٌ منفعلة, حساسة تجاه القيم
و"تفهم علم النفس" - أي تظهر شخصية لها شأن
بالثروة الجماعية غير المخصصة, التي تسمى - ثقافة.
لماذا إذاً يرفض المجتمع الليبرالي المتنطح إلى
لعب دور طليعي, بهذا القدر من المنهجية أموراً
واضحة ولا يأنف من الرهاب الثقافي المكشوف؟ إن سبب
هذا لا يكمن وحسب في مصالح المخصخصين الجدد
الجشعة, المضطرين إلى الانسلاخ عن الثقافة
والأخلاق كرمى لما يعتبرونه أثمن - وهو الملكية
المكتسبة بأي وسيلة.
يتلخص الأمر في أن دنيا الاستثمار الخاص ذاتها هي
دنيا ذرات (دنيا اسموية). في بعض الأحوال الأخرى
المسموح بها والمتعلقة بالمشاركات الجماعية
والقيمية الحتمية وما يرتبط بها من تفضيلات تصير
مفاهيم نظرية السوق الأساسية - المنافسة والتبادل
المتكافئ, والوسط المتوازن غير المحمي - خارج نطاق
الاستخدام. ينسحب هذا الأمر نفسه على الديمقراطية
التمثيلية – الشكلية أيضاً. لا تصير الانتخابات
الديمقراطية إجراءً لكشف ما لم تكن معرفته ممكنة
مسبقاً إلا حين يسلك المواطنون, لا سلوك الأعضاء
الأوفياء في المجموعات الاجتماعية, بل سلوك الذرات
الحرة التي تغير تفضيلاتها السياسية وفاقاً
للمنفعة وتقلبات السوق, وإلا سيكون معروفاً مسبقاً
توزع الأصوات الكامن - طبقاً لانتماء الناخب
المجموعاتي (الطبقي).
بالتالي فإن مجتمع السوق الديمقراطي يهمل عن
قصد الواقع الثقافي والاجتماعي ما فوق
الذري - وإلا وضعت أسسه ذاتها موضع المساءلة. لذلك
يعتبر التجرد من الأفكار الجماعية وشجب التماثل
الجماعي الراسخ فعلين قسريين للمجتمع الذي يعلن أن
عقيدته هي "المنافسة الشريفة" والديمقراطية. من
المحرم على النظرية الليبرالية المعاصرة أن تلحظ
أن ما يصطدم فعلاً في السوق وما يتفاعل في السياسة
هو ليس الذرات الاجتماعية المعزولة وإنما
المجموعات ذات المواقع غير المتساوية سلفاً.
لقد بدت اكتشافات المدرسة المعرفية, المتعلقة
بالتحيز الجماعي الذي لا ينضب (في ما يخص أفراد
المجموعة المنتمى إليها), واللاتحيز (في ما يخص
المجموعة الأخرى), قريبة جداً بالمعنى من نظرية
الماركسية الطبقية, حتى تم الاعتراف بها على مستوى
النظرية الاجتماعية الكبرى. لذلك "نسبت" هذه
الاكتشافات إلى "التقليدية", بإعلان التماثل
الجماعي والواقع ما فوق الذري من مخلفات السلفية
الاجتماعية.
نرى الآن, إذ نجمل نتائج القرن العشرين أن النسخة
الماركسية "للمجموعاتية" الطبقية والنسخة
الليبرالية لعلم الذرات الاجتماعي هما عبارة عن
تجريد للحالات الحرجة.
لا تبدو النسخة الماركسية صحيحة إلا إذا تحدد مصير
الفرد الاجتماعي بانتمائه المجموعاتي (الطبقي)
حصراً, وليس ثمة أهمية محسوسة للميزات أو النواقص
الفردية. أما النسخة الليبرالية - الاسموية فصحيحة
حين يتم التسليم بأن ليس للانتماء المجموعاتي
المقبل أي تأثير على وضع الفرد الاجتماعي ومستقبله
وبأن كل شيء يتحدد بالميزات والجهود الشخصية
حصراً. تستند نظرية الطبقة الوسطى الليبرالية
المعاصرة بالكامل على هذه الفرضية الأخيرة. إن
الطبقة المتوسطة ضمن هذا السياق هي ليست مجموعة
خاصة إلى جانب المجموعات الأخرى, بل هي اجتماع
للأفراد المتميزين, الذين يدينون بالنجاح لأنفسهم
حصراً ويحجمون عن محاولات التماثل الجماعي
والطبقي.
يحاول المسيحيانيون الأمريكيون اليوم غرس فهم
العالم هذا في البلدان الاشتراكية السابقة, وهم
بذلك يصبون إلى هدف مزدوج.
أولاً -
المساعدة على استقرار الأنظمة ما بعد الشيوعية,
التي تعتبر في أغلب الأحوال موالية
للأمريكيين. فهم يقترحون على السكان
المثقلين بـ "الإصلاحات" أن لا يصدقوا أعينهم - أن
لا يعيروا اهتمامهم لحقيقة الاستقطاب الاجتماعي
غير المسبوق, ولحقيقة تقسيم المجتمع إلى "علية"
فاسدة مرتبطة بتضامن جماعي وإلى "سواد" مزروب في
غيتو وأن يمنوا النفس, عوضاً عن الواقعية
المغمَّة, بأنموذج الطبقة المتوسطة الحرة" المعطى
إيديولوجياً.
ثانياً -
التفكيك التدرجي لمفهوم "سلفي" كالشعب باعتباره
ذات التاريخ الجماعية. ما دام هذا المفهوم موجوداً
ومحافظاً على قدرته على إظهار إرادته فمن غير
الممكن اعتبار انتصار الأمركة في العالم "كاملاً
ونهائياً". لكن هنا أيضاً تبدو شروط المسألة
متناقضة على نحو يستحيل حله. برهنت المدرسة
المعرفية في علم النفس الاجتماعي تجريبياً على أن
آليات التماثل الاجتماعي تؤثر تأثيراً أشد في
المجموعات المفرقة والمهزومة.
"المجموعات الدخيلة تحديداً, أي المجموعات التي
تعرضت للفشل الدائم, هي التي تبدي التحيز الأشد
داخل المجموعة (التحيز للمجموعة المنتمى إليها. -
ألكسندر بانارين) ليس ضمن إستراتيجية التفاعل
المتبادل بين المجموعات وحدها وإنما في مستوى
الإدراك ما بين المجموعات()".
يُضعِف النجاحُ بحد ذاته, وخصوصاً إذا كان يؤكد
فرضية تكافؤ الفرص الاسموية - بغض النظر عن هذا
الانتماء الجماعي أو ذاك - التماثلَ الجماعيَ:
تُطرد نفسيةُ الـ "نحن" المتيقظة من قبل نفسية الـ
"أنا" المنفتحة.
لكن, كيف يمكن في ظروف الأنظمة نصف المحتلة, التي
تعشق أمريكا أكثر من شعبها وتسوقه للنهب وتعرضه
للتدنيس, قمع التيقظ النفسي للـ "نحن" المشتتة
واختلاق أنموذج الـ "الأنا المنفتحة والإنجازية؟
بغض النظر عن سخف الإجراء الواضح لم يقطع
المسيحيانيون الأمريكيون وتلامذتهم النجباء في
البلدان الأمل في اندثار المادة الجماعية - أي
الشعب.
إنهم يحسبون حساب أن يكون مصير النخب, وخصوصاً في
روسيا, متقلباً وخاضعاً لقانون التعاكس: نادراً ما
يستلم الحكام اللاحقون عصا التتابع ممن سبقوهم,
وغالباً ما يعلنون أن أفعالهم كانت إجرامية. وحده
اختفاء الشعب - أي تحويله إلى ديسبورة من
"العولميين " الرحل قد يشكل ضمانة ليس "للمنتصرين"
الأمريكيين وحدهم بل للطوابير الخامسة في البلدان
الأخرى أيضاً.
يقترب المذهب الليبرالي الأحدث من حل هذه المسألة
بمخزون متجدد تجدداً كبيراً. تعتبر مفاهيم
الليبرالية الكلاسيكية مثل المبادرة الذاتية
والمسؤولية الأهلية, والتنظيم الذاتي الأهلي,
ولأسباب مفهومة, غير خالية من الخطورة إذا طبقت
على الشعوب المراد حرمانها من سيادتها. لذلك يجري
التشديد على نظرية التبادل. يريدون
تحويل الأمة إلى خليط غير منظم من الصيارفة عديمي
المسؤولية, الذين يُخرِجون إلى السوق المنظمة من
قبل المنتصرين كل ما يطلبه الزبائن الخارجيون.
تسمح نظرية الخصخصة الشاملة منطقياً بتحول سكان
البلاد الشامل إلى أسرة من الصيارفة المتنافسين
تنافساً شديداً في ما بينهم. ونسأل كيف يشعر الشعب
المبعد عن عملية الخصخصة منذ البداية بأنه صيرفي,
وماذا في إمكانه أن يصرف؟
في مقدور تقنيي الليبرالية السياسيين الاعتراض(وهم
في وسطهم الضيق) على أن تفكيك البلاد لا يحتاج
مطلقاً إلى تحويل السكان كلهم إلى تجار بالمصالح
الجماعية - يكفي أن تصاب مجموعات التأثير
الأساسية, التي تتحكم بعقد الأمة العصبية, بعدوى
هذه الروح وأن تُحوَّل إلى مجموعات مرجعية
تكون مثالاً للتقليد.
لتحقيق هذا الهدف ينبغي رسم خريطة تقنية خاصة
للبلاد, وأن توضع عليها النقاط التي ترمز إلى
مراكز التأثير ومجموعاته, التي تغطي كامل المساحة,
ثم تأمين خطوط الاتصال بين هذه النقاط. يبدأ
الفضاء المحصور بين هذه الخطوط يتموت - ونحصل
عوضاً عن البنيان الشعبي الواحد على خليط مدار من
الخارج.
تحمل هذه المحاكمات طابعاً قيمياً: سيجد فيها من
يخافون من انهيار البلاد "عقلانية" خاصة.
لكن تعالوا لنطرح السؤال طرحاً نظرياً صارماً: هل
مفهوم الخصخصة الشاملة والتذرير الاجتماعي مثبت من
حيث المبدأ؟ بكلمات أخرى: هل يمكن الاستغناء عن
الملكية الجماعية بالمعنى الواسع للكلمة وعن الذات
الجماعية القيِّمة على هذه الملكية؟
<<
عصيان أم ديكتاتورية؟