كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

الفصل الرابع

نقد البرجزة ما بعد البنيوي - في خدمة البرجوازيين الجدد

سيكون خطابنا عن البرجوازيين الجدد أحادي الجانب إلى حد كبير إن لم نتساءل عن المقدمات السوسيوثقافية لثأرهم. ما كانت ثورتهم الثقافية لتنجح لو لم تجد لها صدى في الجو العام لعصرنا. سمَّت فلسفة العصر الرائدة هذا الجو جو ما بعد الحداثة. تعني ما بعد الحداثة بالدرجة الأولى تحلل الذات الحداثوية - تلك الذات المتماسكة والمعتمدة على ذاتها, والتي قدِّر لها أن تصوغ المشاريع الجريئة للمستقبل وأن تحققها في الحياة.

يسمي النقاد الليبراليون اليوم هذه المشاريع طوباويةً, لكن هذا ليس سوى استنتاج سطحي. المراد, طبعاً, بالطوباوية هو ما ينتج عن الخيال المنفلت البعيد عن الواقع. لكن ناشطي الحداثة لم يكونوا قط حالمين ولينّي العريكة على هذا النحو. لا ينبغي أن نحكم عليهم بالمعايير الأنتولوجية وحدها – أي بغرض مطابقة مقاصد الواقع الموضوعي - بل بالمعايير الأنثروبولوجية أيضاً.

هنا تحديداً يبرز أصعب ما في الأمر: أن نشرح لماذا ولَّدت المقاصد البعيدة عن الواقع مثل هذه الطباع الساطعة والقوية, وهذه الإرادة الجبارة والتنظيم الحديدي. ركز التحليل ما بعد الحداثوي اهتمامه على هذه النقطة الرئيسية تحديداً. فقد بين استناداً إلى تحليل فرويد([1]) النفسي أن ما يكمن في أساس الحداثة باعتبارها عملية اجتماعية - تاريخية هو عملية كبت الرغبات التلقائية - أي تحويلها إلى مشروع عقلاني.

نستطيع أن نتحدث هنا من وجهة النظر المعرفية عن عملية العقلنة الممارساتية – ومن وجهة النظر العملية عن عملية المراكمة. الامتناع عن المسرات وعن تلبية الرغبات الفورية, وعن استرقاق الطبيعة (طبيعتنا الخاصة, الداخلية, والخارجية المتوضعة من حولنا) - هذه هي الآليات التي تَكوَّن بوساطتها إنسان الحداثة المعبأ إلى أقصى حد.

يرى النقد ما بعد البنيوي وما بعد الحداثوي والفرويدي الجديد في هذا تجلياً للبرجزة البغيضة, التي ينبغي "تفكيكها". لقد شرع هذا النقد يفلق الذات الحداثوية و"يشتتها" ويفككها, مستخدماً كحليف له ضغط البداية الطفالية الحياتية اللاواعية. شكلت الحضارة البرجوازية لهذا السبب بعينه كتيبةً هائلةً من طلائع المراكمة, مما قيد بالأغلال العنصر الطفالي القابع في كل فرد منا - إنه ذلك العنصر نفسه الذي يعلن عن ذاته ببكاء الطفل حين يرغب في شيء ما. تمرد الأبناء على الآباء, واللاواعي على الواعي, والبداية الأنثوية على البداية الذكورية والمشاعر على العقل - كل هذا في نظر ما بعد الحداثويين أنواع مختلفة للإستراتيجية المعادية للبرجوازية, التي اتخذت لنفسها حليفاً ما يمكن أن نسميه الواقعية الطفالية المنفرة من العمل والنظام والانضباط الذاتي.

كانت النجاحات التي حققها نقد "الثقافة البرجوازية القديمة" ما بعد الحداثوي, كما يمكننا أن نحكم اليوم, سلبية في الواقع. يكمن السر في أن هذا النقد قد راهن على التخفيض - أي أنه تغاضى عن كل ما لم يتطلب جهداً, وأثبط من عزيمة الجهد نفسه ملصقاً عليه بطاقة الاضطهاد.

لكن, هنا تحديداً, حدث ما لم يكن متوقعاً. إذ استخدمت البرجوازية ذاتها بفاعلية أكثر من الآخرين مساعي ما بعد الحداثة المعادية للبرجوازية. لقد أدت إستراتيجية التحرير إلى تحرير البرجوازيين من ضرورة الالتزام بفضائل البرجوازية الكلاسيكية جميعها: عدم التغاضي عن الانفعالات التلقائية, السعي إلى الاحتراس في العلاقات إلى أقصى حد, والحد من الاستهلاك لصالح المراكمة, وإتباع نمط عيش منهجي منضبط وخاضع لمشروع الإثراء.

يبين لنا صرفُ الانتباه عن الربح الصناعي نحو الربح الناجم عن ألعاب المضاربات المنفلتة, والانتقالُ من الاستثمار الكلاسيكي "الممل" إلى الولع ببناء الأهرامات المالية وغيرها من أنواع النصب, نمطَ الشهوانية ما بعد الحداثوية المعروفة اللامنضبطة, التي لا تفكر قط في ترويض ذاتها كرمى لواجب ما أو عمل ما.

لقد اندرج كما لم يندرج من قبل تمرد "الاستثمار" المضارباتي, الذي لم يعترف بأية حدود وبأية قواعد للعبة وغير الأهل للمراكمة المنهجية وغيرها من تجليات تلبية الرغبات المؤجلة, في المشروع ما بعد الحداثوي "لتفكيك" مؤسسات "المجتمع القمعي" ومعاييره جميعها. كما تبين فإن ما بعد الحداثويين واللاتركيبيين قد سعوا إلى غير ذلك: لقد استثمر حماستهم البرجوازي - البروثيوسي, المتمكن تماماً من فن التحول. ولم يبق أمام الطليعة ما بعد الحداثوية المصعوقة سوى أن تراقب بأية منهجية جريئة سيحقق خصمها اللعين البرجوازي مشروعها الخاص بتفكيك الثقافة والأخلاق محرراً بذلك نفسه من المعايير الضابطة كلها.

كان البرجوازي يشعر, كما صرنا نشك الآن, بالضيق منذ زمن بعيد من ذلك النظام المعياري المنظم عقلانياً ذاته الذي نسبوا إليه حق تأليفه. لقد كان الأول من بين جميع الفئات الاجتماعية الأخرى في المجتمع المعاصر الذي حقق (لنفسه) طوباوية ما بعد الحداثة الجديدة, المرتبطة بالتفكيك الشامل للبدايات الكابحة لحياة اللذة الطفالية. لقد تخطى بمسافة كبيرة "هامشيي المجتمع البرجوازي" أمثال الشباب والنساء والملونين, والأقليات الجنسية, الذين علقت إستراتيجية الرفض العظيمة المعادية للبرجوازية آمالها الكبيرة عليهم, في الطريق نحو أقصى درجات الانفلات الحسي والتحلل الجنسي والإباحية غير الخاضعة للكبت والأنانية الطفالية اللااجتماعية.

وهل يعقل الآن أن هذا البرجوازي لا يحق له الاعتماد على تفهم المجتمع المتضايق أيضاً, ومنذ زمن بعيد, من النظام "القمعي الشمولي" والمتعطش لأن يرمي عن كاهله الأغلال كلها؟ صار هذا البرجوازي يعتبر منذ الآن أن في إمكانه أن يعلن لخصومه الثائبين إلى رشدهم: إن نقدكم الموجه لي كله معدوم الذمة, وهو أقرب إلى الحسد من أن يكون استياءً مشروعاً. لقد نفَّذت المشروع المضاد للشمولية والمضاد للقمع, الذي قستموه عليكم, إنني أحيا بمعايير الفرد المتحرر إلى أقصى حد, الذي تريدون أن تصيروا مثله متضايقين منذ زمن طويل من كل ما تفوح منه رائحة الواجب والمسؤولية. فأي واجب وأي مسؤولية تطلبون مني اليوم؟

يكمن تناقض مشاعر النظرة ما بعد الحداثوية إلى هذه المشكلة أيضاً في استحالة العثور هنا, من حيث المبدأ, على حل لمسألة كانت تعتبر من قبل على هذا القدر من الأهمية, وهي هل يدور الحديث عن الإرادة الشريرة – أي عن العزم على الابتعاد عن المعايير الاجتماعية باسم ممارسات الظل أم, على العكس, عن انعدام الإرادة - أي الضعف الأخلاقي والنفسي الشديد الذي يعاني منه إنساننا المعاصر, الذي ما عاد قادراً على بذل أي جهود منهجية وأي تضحيات مع ما يرافقها من توتر.

ونضيف أن هذه الازدواجية في المعنى موجودة في الثورات كافة - الاجتماعية والإجرامية. ما الذي ساد حين أغرى البلاشفة جنود الحرب العالمية الأولى بشعار "تسقط الحرب" - أي بالدعوة إلى الفرار, وحين أغروا الفلاحين ومهلهلي المدن بشعار "اسرق المسروق": هل ضغط الإرادة الشيطانية اللااجتماعية أم ضغط العجز اللااجتماعي, غير القادر على تحمل عبء أي واجب؟

الأسهل هو توزيع هذه النقطة إلى جانبين, فننسب للأول الإرادة الشيطانية, وللثاني دور ضحاياها السلبيين. لكن, إذ نحاكم محاكمة صارمة, علينا أن نعترف بأن الحديث حين يدور عن الضحايا والتضحيات فإن هذه المفاهيم يجب أن لا ننسبها على الأرجح إلى الفارين والنهابين وحارقي الضياع, بل إلى أولئك الذين حزموا أمرهم على المقاومة المسلحة - أي إلى متطوعي الجيش الاختياري. علينا أن نقر بأن مقاومة الآخرين جاءت متأخرة ومن غير المحتمل أن تكون مبدئية: لقد استاءوا فقط حين وجه نزع الملكية البلشفي الإجرامي مباشرة ضد الشركاء السابقين ورفاق الطريق الطبقيين.

تكمن خدعة أولئك الذين يحطمون النظام القائم لأطماعهم الخاصة في إعلانهم أن النظام ذاته ذو مطامع خاصة وغير قانوني. فقد سمى البلاشفة كل المعايير الحضارية التي تحرجهم برجوازيةً؛ وسمى "الديمقراطيون", الذين مهدوا الطريق باسم "الخصخصة" أمام الثورة الإجرامية العظمى, هذه المعايير ذاتها شموليةً, وسموا أنفسهم مناضلين ضد الشمولية. واتخذ هؤلاء وأولئك من الضعف والإثم البشريين المتبرمين من المعايير والواجبات الاجتماعية حليفاً لهم. وفي الحالين معاً لم يحرر مشروع التحرير سوى أولئك الذين تعاطوا بمهنية أكبر مع إسقاط النظام وكانوا مستعدين لاستغلال الفوضى الناجمة استغلالاً حرفياً.

المحترفون هنا ليسوا أولئك الذين يتصرفون بحماسة, بل أولئك الذين يعرفون مسبقاً باسم أي شيء يتم فعل هذا. علينا أن نعترف من وجهة النظر هذه أن الديمقراطيين من النمط ما بعد الحداثوي لم يكونوا محترفين حقيقيين في نضالهم ضد "القمع الشمولي" - لقد خدم نشاطهم التهديمي أهدافاً من غير المحتمل أن تكون قد خطرت لهم على بال.

المرجح أن المعيار الأضمن للتفريق بين الإصلاحية المنتجة فعلاً وغير المنتجة هو العزوف المنهجي عن لعبة التخفيض الاحتيالية - أي عن التغاضي عن دناءة الغرائز والضعف, التي من السهل جداً إغراء الجماهير بها من غير أن يٌقدَّم لها شيء بالمقابل.

لقد حان الوقت على ما يبدو لصياغة قانون خاص للعصور الإصلاحية الثورية: كلما كانت عملية التغاضي الاستفزازية عن الغرائز واسعةً ازدادت الفوائد التي يجنيها من هذه العملية نازعو الملكية ومغتصبوها. بالتالي فإن عملية إطلاق "الشهوانية المقموعة" والغرائز اللااجتماعية المدبرة على أساس أنها عملية "معادية للبرجوازية" ستأتي حتماً على هوى أسوأ أنواع البرجوازية, أي البرجوازية غير القادرة على تقييد ذاتها. يمهِّد تصاعد عملية التقويض الموجهة ضد المعايير المعتبرة "قمعيةً" السبيل لحدوث تعاقب تاريخي بين المالكين البرجوازيين هو الأكثر إثارة للإحباط: إنه يمهد السبيل لإزاحة الرأسمالية المنتجة بوساطة رأسمالية المضاربات والمراباة غير المنتجة, لأن المضاربات والمراباة وغيرها من ممارسات اقتصاد الظل هي أفضل ما يندرج في الأنموذج القياسي لراديكاليي "إطلاق الشهوانية".

لنطرح الآن السؤال التالي: لماذا تقترن عملية إسقاط القيم اقتراناً على هذا القدر من العضوية بتوجهات العولمة؟ سينفعنا هنا مفهوم آخر من مفاهيم "النقد" ما بعد البنيوي وما بعد الحداثوي للبدايات المعيارية. يدور الحديث بالأخص حول مفهوم تعددية النص المقترحة من قبل رولان بارت([2]). أقرت النظرية التفسيرية([3]) منذ زمن بعيد أن عملية تفسير أي نص هي عملية لا نهائية من حيث المبدأ, وكل مفسر جديد ستستنهَض همته من تعددية النص المتأصلة, ومن تعددية رموزه وحتى من ازدواجية المعنى فيه.

لكن التحليل النصي ما بعد البنيوي يذهب أبعد من ذلك ملحاً على أن كلية أي نص ليست أكثر من أسطورة. "لا يسعى التحليل النصي إلى شرح ما الذي يوجب هذا النص المأخوذ بكليته باعتباره نتيجة لسبب معين؛ يكمن الهدف أغلب الظن في رؤية النص وهو ينفجر ويتناثر في الفضاء البيننصي...([4])".

ضمن هذا الأفق تحديداً يتم تقبُّل معايير الأخلاق والثقافة. فعوضاً عن تفسيرها تفسيراً أحادي المعنى يُنظر إليها مثل نص "متفجر ومتناثر في الفضاء البيننصي". والفضاء البيننصي هو عالم الثقافات القومية العولمي, هذه الثقافات التي بعضها يتعايش مع بعض ويتصادم.

عوضاً عن أن يتبنى "مواطن العالم" العولمي الموقف السلفي باعتباره نصيراً وفياً لأحد النصوص المتصارع بعضها مع بعض يفضل أن يمثل دور مقارِن النصوص السفسطائي, المستغل لنقاط التناقض في ما بينها. يقارن "مواطن العالم" المعاصر بين النصوص لا من أجل انتقاء النص الأقرب إلى الحقيقة من بينها بل لكي يقنع نفسه والمحيطين به بأن مشكلة الحقيقة عموماً ليس لها حل, وينبغي الاستعاضة عنها بمسألة "العقد المؤقت" بين الذات وتلك المنظومة التي تناسبه اليوم أكثر من غيرها من بين المنظومات المعيارية.

هنا ينبغي أن نجري تدقيقاً ضرورياً لكي نشرح الأثر العدمي الذي لم يتوقعه بعض أنصار العالم العولمي والمواطنة العالمية ذوي النفوس الأكثر طيبة. لقد توقع هؤلاء وجوب أن يتم في العالم العولمي استبدال بمعايير التعصب القومي الأناني "البدائية" معاييرَ أخرى عمومية وإنسانية أرحب, لا تضمن سلوك الناس الحضاري على نحو لا يقل عن المعايير السابقة وحسب, بل تتفوق عليها في هذا المجال.

باختصار, لقد حسب بذلك ليبراليو العولمة, الذين حافظوا على "ولائهم السلفي" للقانون والنظام (شرط تمتعهما بمستو حضاري لا شك فيه) أن يتم الاستبدال بجملة المعايير المثيرة للريبة معاييرَ أخرى عظيمة وغير مثيرة للشك – أي معايير إنسانية عامة. أشار لهم "خبراء المعاصرة" الأكثر إغواء أن البحث ذاته عن معيارية راسخة وواضحة يدل على عودة التفكير الشمولي الدوغمائي القمعي. يعني العالم العولمي في أفقه ما بعد الحداثوي "الأصيل" الخلاص من أي معيارية قسرية, أي من أي معيارية غير مقدَّمة للفرد على شكل تعاقد اختياري ومؤقت معه.

لا يرتحل الفرد العولمي المعاصر وحسب في فضاء كوكبنا الفيزيائي باحثاً عن المكان الأفضل له. إنه يرتحل في فضاء الثقافة البيننصي, من غير أن يتلكأ في أي مكان عاقداً الاتفاقات المؤقتة وحسب مع الوسط الاجتماعي الذي يصادفه في الطريق. عندئذ تمتلك ترحالاته الفضائية و"البيننصية" اتجاهاً معيناً: إنه يهاجر من الأماكن التي تكون فيها المعايير أقسى إلى الأماكن ذات الفضاء المعياري المفرغ, حيث لا يطال التنظيم ممارساته ولا "حسيته" ولا تخضع للمصلحة العامة.

بذلك, تعرض مشروع التحرير, الذي حلم به إصلاحيو التشكيلة السابقة وثوريوها, للتحول. عوضاً عن التقدم في تطوير الحرية المتحقق في الزمن التاريخي, يتحقق هذا التقدم في الفضاء. ويتبين أن من صاروا أكثر حرية هم ليسوا أولئك المتواجدين في قمة الثقافة أو الذين يحملون في ذاتهم برنامج تطوير البشرية الذاتي, مدخرين أسمى إنجازات الحضارة, بل أولئك الأكثر قدرة على الحركة – أي الذين منحوا حق الترحال عبر العالم من غير عائق والذين لديهم القدرة على هذا الترحال مادين ألسنتهم للمرتبطين قسراً بأماكنهم وبالتالي للأوفياء قسرياً.

يتبدل أيضاً ضمن هذا السياق مفهوم وسائل الإنتاج, التي حدد امتلاكها منذ قديم الزمان وضع الفئات الاجتماعية السائدة. الآن ينبغي, كما هو واضح, أن يدور الحديث عن وسائل تأمين أقصى قدر من الحركة العبرقومية, إذ أن عصر ما بعد الحداثة هو عصر ثأر القادرين على الحركة من المتجذرين, وثأر النسبويين من الأصوليين. ولا يقاس بالأخص اليوم تفوق الشركات العبرقومية على الشركات الوطنية بالمعايير السابقة مثل مقياس رأس المال وغيره من الموارد المعبأة, بقدر ما هو منحصر في حصانتها ذاتها - أي في تحررها من معايير التبعية القسرية والرقابة الاجتماعية.

التملص من الرقابة, ومن "طغيان المعايير" - هذا هو تعريف العولمة الأدق, والأكثر تطابقاً, بالمناسبة, مع فرضيات ما بعد الحداثة. يكمن هنا أيضاً سر تطابق الليبرالية الجديدة مع العولمة. فالمجتمع الليبرالي المفتوح هو مجتمع النص "اللابنيوي", أي المجتمع الذي يرتكز فيه التحرر من المعايير على حرية الهجرة في فضاء ما بين الثقافات وما بين البلدان.

هل يمكن التسليم بتطابق أولي ما بين مؤشرات القدرة القصوى على الحركة والمؤشرات التي كانت تثمنها عالياً الكلاسيكية الثقافية السابقة, بما فيها كلاسيكية التقدم - درجة التطور ودرجة التعليم والأخلاقيات والمسؤولية؟

يصعب على أنصار العولمة المعاصرين كما يبدو البرهنة على ذلك؛ لذلك فهم يفضلون ببساطة التملص من المعايير التي استخدمتها الثقافة السابقة, بإعلانهم أنها سلفية. يختلف عملاء العولمة عن رسل التنوير و"طليعيي التقدم" السابقين بأنهم, عوضاً عن أن يحسنوا الوسط الاجتماعي - الجغرافي الموجود ويطوروه, يفضلون تركه في الغالب مصطحبين معهم في أثناء ذلك الموارد الضرورية لتطويره والتي أصبحت قابلة للحركة. إنهم لا ينتظرون إلى جانب مواطنيهم الآخرين حتى يبدأ منطق التقدم التاريخي يعطي ثماره, ولا يؤهلونه لذلك - إنهم يحبذون, عوضاً عن الترحال الصعب في الزمن, الترحال الأسهل في الفضاء. قد يكون هذا تحديداً ما يسمى اليوم "نهاية التاريخ".

 


 

([1]( -زيغموند فرويد (1856 -1939) طبيب نفساني وعالم نفس نمساوي, مؤسس التحليل النفسي. طور منذ عام 1938 في بريطانيا نظرية تطور الفرد الجنسي النفسي, ويُرجِع الدورَ الرئيسي في تكون طباعه ومرضه إلى معاناة طفولته المبكرة. عمم مبادئ التحليل النفسي على شتى مجالات الثقافة الإنسانية – الميثولوجية والفلكلور والإبداع الفني والدين...إلخ. أهم أعماله "تفسير الأحلام" (1900),

 "محاضرات في السلوك والتحليل النفسي" (1910), "أنا وهو" (1923). (المترجم).

 

([2]( - رولان بارت (1915 – 1980) – رجل ثقافة فرنسي من أتباع الاتجاه الرمزي. باحث في لغات الأدب والموضة والدعاية والتصوير

 ومؤلف كتاب "الميثيولوجيات" (1957) , و"منظومة الموضة" (1967) (المترجم).

 

([3]( - hermenueutic – علم تفسير النصوص ذات المعاني المتعددة أو غير الدقيقة (القديمة في الغالب) (المترجم).

 

([4]( - استشهاد بـ : إيلين ي. مرجع سابق ص 161.

 

التالي

السابق

جورج زيمِّل ضد ماكس ويبر>>

الثورة الثقافية العولمية >>

الفصل الثالث  العولمة الأمريكية  >> 

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

 << تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا