كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

الفصل الخامس :

السياسة ما بعد الحداثوية:

                            كيف تظهر الأنظمة الكومبرادورية

 

الآليات الاجتماعية النفسية للكومبرادورية:

  الغرب باعتباره مجموعة مرجعية

 

لقد دلت التجربة على أن العالم العولمي ليس عالماً مترابطاً كما يؤكد لنا الليبراليون الجدد بقدر ما هو تابع - أي مُدار من قبل مركز واحد. في الوقت نفسه تعني العولمة شيئاً أكبر: إنها تشير إلى أن الزعيم العالمي المعاصر يرتكز إلى مكتسباته الاقتصادية والثقافية أكثر مما يرتكز إلى المكتسبات العسكرية التقليدية. يدور الحديث عن تجربة التبادل العولمي غير المتكافئ والذي لا يفترض نهب الأطراف الاقتصادي وحسب, بل السلطة الروحية عليها أيضاً - أي تلك السلطة نفسها التي يمكنها أن تُكسِبُ السمعة والمهابة أو الخزي والعار, التي تقدس أو تدنس, التي تضفي الشرعية أو تحرم منها.

لشرح هذه الظاهرة الأخيرة ثمة لدى علم النفس الاجتماعي المعاصر مفهوم أساسي هو المجموعة المرجعية. يظهر لدى المجموعات الأدنى مكانة في المجتمع المعاصر الخالي من الطبقات, وحيث تعيش الفئات الاجتماعية المختلفة إحداها على مرأى من الأخرى, وتتبادل المعلومات بحرية في ما بينها, شعور بالحسد تجاه المجموعات الأعلى مكانة, وسعي إلى تقليدها. بكلمات أخرى يتميز المجتمع اللاطبقي بوحدة معينة في المعايير السوسيوثقافية - أي بميدان مشترك للمطامح, لكن بعض الفئات ترى هذه المعايير واقعيةً وملائمة, بينما يراها بعضها الآخر بعيدة المنال من غير أن يؤثر ذلك على كونها آسرة. بهذا المعنى تحديداً يتحدث علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي عن الانقطاع بين الانتماء الاجتماعي الفعلي والانتماء الاجتماعي المحبَّذ الذي تجسده المجموعات المرجعية. يعتبر الشباب في المدن مجموعة مرجعية للشبان القرويين, الذين يحاولون تقليدهم في كل شيء, وبقدر ما يستطيعون - أي يحاولون الانخراط في صفوفهم, ويعتبر سكان العاصمة مجموعة مرجعية لسكان الأطراف, الذين يرون فيهم مشرِّعين للآراء والأذواق, ويعتبر ممثلو المهن الطليعية المرموقة مجموعة مرجعية لممثلي المهن الأكثر شعبية وغير المرموقة, وما شابه ذلك.

تجري على النطاق العولمي تسوية مماثلة للميدان السوسيوثقافي العالمي (في بعض العلاقات على الأقل): يستوعب سكان الدول الأقل تطوراً معايير الحياة في الدول المتطورة, التي تصير في نظرهم مقياساً. فكيف نقوِّم هذه الظاهرة؟ قد يكون تقويمها في التقاليد التنويرية المتفائلة إيجابياً – باعتبارها تبادلاً "للمنجزات الطليعية" وتحقيقاً لرسالة المتطورين التنويرية الحداثوية إلى المتخلفين وغير المتطورين. لكن من وجهة نظر الواقعية السوسيوثقافية يمكن أن نرى هنا منبع الكارثة الزاحفة. في حقيقة الأمر: أن تتم تسوية ميدان المطامح وفاقاً لمعايير الدول المتطورة لا يعني بعد أن التسوية تطال إمكانات الطرفين أيضاً. تشهد الإحصاءات على أن "الشق" الاقتصادي الفعلي بين مركز العالم وأطرافه لا يقصر بل يزداد طولاً. بالتالي تولد ممارسة المعيار السوسيوثقافي الواحد نوراستينيين([1]) - أي أولئك الذين لا يقيسون قط مطامحهم إلى تجربتهم الواقعية ومحيطهم الواقعي. تنشأ ظاهرة الاغتراب السوسيوثقافي الجماعي عن المهنة المزاولة وعن الفئة الاجتماعية المنتمى إليها والتي يبدأ هذا الانتماء إليها يصير بمثابة فشل, وحتى دليل بؤس. ألا يكمن في هذا منبع انحطاط الكثير من الممارسات المعاصرة؟ فحين ينجز الناس أعمالهم مع نور يرون فيه معنى حياتهم شيء, وحين يرون فيه لعنة البؤس شيء آخر. الأرض المهجورة والمهن المهجورة ووطن الأجداد المهجور - هذه هي نتائج هذا الانقطاع بين الانتماء الفعلي والانتماء المرجعي. حين كانت لا تزال الأوهام حول إلحاق الأطراف الاجتماعية السريع بمنجزات الطليعة الاجتماعية موجودة كان يمكن أن نعتبر أن الطليعة تُلحق و تعلي إذ تغرس معاييرها. هكذا تحديداً بُنيَ "الحلم الأمريكي", و"الحلم السوفييتي", ومن ثم الحلم العالمثالثي حول الإمكانات المتساوية المقبلة والنجاحات التي لا يعيقها شيء. لكن حين تبخرت هذه الأوهام فإن الوقت قد آن للتفكير بأن "الطليعة" لا تُلحق بقدر ما تغري وتفسد غارسة لدى أنصارها وعياً طوباوياً واهماً يرتكز على آمال غير واقعية. لقد وصفت في علم النفس الاجتماعي منذ زمن بعيد أمراض الشخصية الواقعة على تخوم الثقافات - أي المغتربة أو المغرِّبةِ ذاتها عن فئتها الاجتماعية وثقافتها السابقتين, لكن غير الملتحقة بعد بفئة وثقافة جديدتين التحاقاً تاماً. عدم التوافق بين الأهداف والمعايير, ووهمية التوجهات, والانتقالات الفورية من الإحساس بالنشاط إلى الإحساس باليأس, وعدم الاستقرار النفسي العام, والطابع "المفاجئ" للسلوك - هذا هو قدر الشخصية الحدودية.

سنضطر إلى أن نعترف بأن كلا منا في ظروف العالم, الذي يتبادل رمزية المكانة أكثر من الإنجازات الحقيقية, يكاد يشعر بنفسه شخصية حدودية تبحث يائسة عن التوازن الثابت بين مطامحها وإمكاناتها. يمكننا القول إن إنسان المجتمع التقليدي, الذي تملأهم الرغبة في اتهامه باللاعقلانية والإبهام, يفكر بعقلانية أكبر ويحدد لنفسه أهدافاً عقلانية أكثر بكثير من الإنسان المعاصر المغرى بـ "الأمثلة الطليعية" والأوهام.

علينا الآن أن نقوم ظاهرة هذه الشخصية المتمزقة بين الرغبات والإمكانات في سياق السيادة العولمية. صار واضحاً أن المدعو إلى لعب الدور الحاسم في إستراتيجية عالم القطب الواحد ليس سياسة الاحتلال بل سياسة جذب النخب الوطنية إلى جانب المحتل وتحويلها إلى معينة له.

لقد صار المجتمع الاستهلاكي في الغرب, وبالدرجة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية, تبعاً لمعايير موحدة, مجموعة مرجعية للكثيرين, وهم مستعدون لمقارنة سلوكهم بها. إن النخب الوطنية التي لا تركز الثروة والسلطة في يدها وحسب بل تجسد أيضاً البريق والمكانة, تزداد نجاحاً في بسط النفوذ على المجتمع كلما سهل عليها لعب دور القائد المتطوع - أي المجموعة المرجعية التي تكون في نظر الآخرين مادة للتقليد. ولا تظهر التأثيرات العولمية إلا حين ترى هذه النخب عينُها مجموعتها المرجعية متمثلة في الغرب المتقدم. هنا, تحديداً, يتاح المجال لقيام توافق موالٍ للغرب بين النخب المفتونة والجماهير السائرة وراءها. تبايع النخب الغرب طوعاً, والجماهير مستعدة لتفهمها في ما يتعلق بهذا الأمر. على هذا التوافق تبنى السياسة الكومبرادورية المعاصرة. حين يحدث الاستسلام في مجال الثقافة - أي الاغتراب عن تجارب الآباء, وعن التقاليد الوطنية لصالح أخرى مستعارة فإن الاستسلام السياسي يصير مسألة وقت لا أكثر. هذه هي الجذور السوسيوثقافية العامة والآليات النفسية الاجتماعية للعولمة المعاصرة الموالية للغرب وأمريكا. لكن علم النفس الاجتماعي وعلم الثقافة يدلاننا فقط على المقدمات العامة للاستسلام الطوعي أمام الاستعمار الغربي العالمي. من الضروري أن نشرح بأي شكل استطاع هذا الخلل العام في توازن الوعي المتمزق بين الانتماء الفعلي والانتماء المرجعي أن يصير أساساً للممارسات الخاصة, بما فيها الممارسات السياسية وتقنيات الاحتيال الخاص. سيساعدنا في شرح هذا الأنموذج القياسي لما بعد الحداثة, الذي حل محل أنموذج الحداثة القياسي السوسيوثقافي العام.

الأنموذجان القياسيان الليبرالي وما بعد الحداثوي في السياسة

لم يعمل أحد لدينا بعد على تحليل منابع الوعي ما بعد الحداثوي, على الرغم من أن أنصار ما بعد الحداثة صاروا يحاولون الاستحواذ على سلسلة من المواقع الأساسية في بعض مجالات الإنتاج الروحي. عموماً, العمل على تحليل منابع ما يقسمون بإخلاصهم غير المشروط له ليس من مهام الأنصار.

يخيل أن ما يعتبر أساساً للتطور ما بعد الحداثوي الحالي في الثقافة هو اختلال التوازن الشامل في الوعي, المتمزق بين تجربة المتوافر وتجربة المرغوب فيه, والمشتغل, كي لا يصاب بالجنون بسبب من ذلك, بالتقليل من قدر هذا أو ذاك وبالتأكيد على موقف النسبية الشاملة. تشير بوضوح الموضوعة ما بعد الحداثوية حول "أسلوب محاكاة" الوجود المعاصر إلى المنابع المشار إليها. لا يدور الحديث دوماً في المرحلة الأولى عن المحاكاة, بل عن النسخ الحثيث لمصير الآخر وثقافته. يتم إضفاء وضع المحاكاة أول الأمر على الثقافة الخاصة "المهجورة" و - بشكل أعم - على الممارسات الاجتماعية المهجورة, التي يحلمون باستبدال ممارسات أعلى "مكانة" بها. يمكن تقويم هذا باعتباره محاولة أخيرة وأمل أخير مرتبطين بالمشروع الحداثوي السابق. المرحلة ما بعد الحداثوية هي مرحلة ثانية تحل بعد أن يُفهم أنه لن يقدَّر للشخصية المعاصرة المزدوجة لا الالتحاق الأكيد بالتجربة المعيارية, ولا العودة إلى التجربة السابقة المهجورة. وحين ذاك يضفى وضع المحاكاة على المجموعة الفعلية وعلى المجموعة المعيارية وعلى الذات نفسها المترددة على الدوام بينهما. عندئذ فقط تظهر "الحساسية ما بعد الحداثوية" التي تتميز "بانعدام الثقة الإبستيمولوجي" الجذري. أين يكمن "انعدام الثقة" سيئ الذكر هذا؟ يمكن تقويمه في المجال السياسي المثير لاهتمامنا بالتضاد مع الأنموذج القياسي الليبرالي الكلاسيكي, الذي يقسم إصلاحيونا بالوفاء له اليوم أيضاً من غير أن يعترفوا (لأنفسهم, أو أغلب الظن للآخرين) بأنهم قد أخضعوه منذ زمن لمراجعة جذرية ما بعد حداثوية. بالمناسبة, ليست ثقافات الغرب هي المراكز الحقيقية للحساسية ما بعد الحداثوية, بل ثقافات الأطراف القريبة المستغربة, التي تنتمي إليها الثقافة ما بعد السوفييتية. يعيش الإنسان الغربي "في منزله" - في شروط التطابق الكبير جداً بين الانتماء الفعلي والانتماء المرجعي - أكثر من أنصار الغرب في دول الأطراف. بهذا المعنى يعتبر على هذا النحو أو ذاك ريفياً سعيداً لا حاجة له إلى مقارنة سلوكه بمعيار بعيد. من هنا تنتج مفارقة أن الكلية التقليدية وليس انعكاسية الوجود هي التي تميز اليوم الغرب أكثر مما تميز الشرق, وخصوصاً ذلك العالم البيني الذي نعيش نحن وإياكم فيه.

وهكذا, على أي مسلمات اتكأت الكلاسيكية الليبرالية؟ علينا الاعتراف بأن "الخطاب" الليبرالي طبيعاوي. إذ يقبع في أساس أنموذج العالم هذا "الإنسان الطبيعي" ذو "المتطلبات الطبيعية". يشمل المفهوم الأساسي للكلاسيكية السياسية - أي المصلحة, في ذاته الفرضيتين التاليتين معاً: "الإنسان الطبيعي" الأبدي والمتطلبات الفطرية "الطبيعية" أي التي لا يوحي بها أحد ولا يتلاعب بها. أما المجتمع فينقسم على النحو الطبيعي ذاته إلى مجموعات تعتبر الأساسية منها تلك المجموعات المشكلة للقيمة والمجموعات الاقتصادية السياسية - أي التي تمثل الأرض والعمل ورأس المال. تتمثل هذه المجموعات الراسخة في المجال السياسي بالأحزاب. دور هذه الأحزاب هو تمثيل المجموعات المذكورة في منظومة السلطة الحكومية ومراقبة الالتزام بتوازن مصالحها. على هذه الفرضيات الطبيعية والفطرية والراسخة تبنى نظرية الديمقراطية التمثيلية.

هذه النظرية في أساسها واقعية على نحو عميق لأنها تشترط أن:

أ ) الناس يعرفون جيداً أين تكمن مصلحتهم الحقيقية؛

ب) يحسنون إخضاع نبضهم ورغباتهم للمصالح طويلة الأمد؛

ج) لا يستصعبون البحث عن وسائل أكثر ملاءمةً تؤدي إلى تلبية هذه المصالح.

إن فلسفة ما بعد الحداثة تهاجم تحديداً وبالدرجة الأولى فرضيات العقلانية الليبرالية الكلاسيكية هذه. إنها, من جهة, تنكر جوهرها الطبيعي الذي يمس المتطلبات الطبيعية للإنسان الطبيعي, وتنكر من جهة أخرى وضع هذا الأخير باعتباره ذاتا مستقلة تتمتع بالمعرفة العقلانية التي تجمع بين التفكير السليم واكتساب التجربة الحياتية.

إن أحد المفاهيم الأولية في فلسفة ما بعد الحداثة هو الرغبة. فعند الرغبة تلتقي الشهوة الجنسية الفرويدية اللاواعية (الليبيدو) وآثار المثالية الذاتية القديمة المخرِجة العالمَ الموضوعي من مجال الرؤية. والرغبة لا تعني المصلحة قط. فالمصلحة تُبنى موضوعياً عن طريق اقتران المتطلبات الثابتة بوسائل تلبيتها الاجتماعية – رأي بالوضع الاجتماعي الملائم, وبالمشاركة الحقيقية في القرارات وما شابه ذلك. باختصار, يدور الحديث حول الجوهر الأنثروبولوجي وخصائصه الاجتماعية.

أما الرغبة فتنتمي إلى ما يمكن أن يبدو في هذه الآونة مقبولاً من الناحية الذاتية. وهذا في مصطلحات الفلسفة الكلاسيكية القديمة هو المجال الحدودي للصفات "الثانوية" حيث يتضافر الواقعي مع الوهمي والمتوافر مع المتخيل, ويكون في مقدورها أن تتبادل الأمكنة.

تمتلك الرغبة في الوقت نفسه الوضع النفسي للاوعي الفرويدي - أي تلك القوة العفوية المظلمة التي تنتظر وحسب فرصة الانفلات من رقابة الوعي. مع العلم أنه لو "تمنى" فرويد بنفسه النجاح للوعي في صراعه مع اللاوعي فإن ما بعد الحداثويين سيقفون متيمنين بأسلافهم اللافرويديين إلى جانب اللاوعي رغبة منهم في الدفاع عنه من طغيان الوعي. واضح أن الحديث هنا لا يمكن أن يدور عن إستراتيجيات ما لإخضاع الرغبات للمصلحة المضبوطة عقلانياً. في هذه النقطة تحديداً تقع فلسفة ما بعد الحداثة, إذ ترغب في تحرير الشهوة الجنسية من القمع العقلاني, في فخ المفارقة المميزة لها. إن هذه الفلسفة لا تحرر الشخصية بل تقدمها إلى سلطة منظومة الاحتيال السائدة. يتلخص الأمر في أن الرغبة, بخلاف المصلحة, تتصف بالتقلب الشديد, والأهم هو أنها تخضع لتقنية الاستبدال. تنصاع الرغبة للإرضاءات الرمزية متعددة الأشكال, التي لا يكون لها في أغلب الأحوال أي علاقة بمصالح الشخصية الواقعية. ليس مصادفة أن القول الرائج في "ثقافة ما بعد الحداثة العمومية" (والعائد للأديب الأمريكي س. فيش) ينص على أنه:"لا معنى للاهتمام بأن يكون المرء محقاً, المهم أن يكون مثيراً للاهتمام". فلنلق نظرة إلى ظاهرة جيرينوفسكي([2]): لم يهتم هذا المعلم في التهريج السياسي قط بأن يكون محقاً, لقد رأى أن هدفه في أن يبقى "مثيراً للاهتمام". من وجهة نظر العقلانية التمثيلية كان ينبغي أن يطرد جرينيوفسكي منذ زمن من السياسة الكبرى - فهو يفرط على الدوام في اتخاذ مواقف متعارضة تعارضاً مباشراً مع متطلبات الناخب المعارض الذي يمارس التضليل بحقه. حين يعلن أنه معارض للنظام الكومبرادوري, ومستعد لأن لا يقف أمام أي شيء من أجل حماية "روسيا العظيمة", فإنه ينفذ بمنهجية, في مجلس الدوما الحكومي وخارجه, أوامر الكريملين المباشرة ويدافع عن مصالح الأولغرشية. فما الذي يبقى في هذه الحال للناخب؟ يبقى إرضاءٌ رمزيٌ إلى حد معين لرغبات اللاوعي المذعنة للكلمة اللاذعة ولسلوك مشاكس من قبل بهلول
سياسي ما.

لقد ارتكزت التقنيات السياسية جميعها التي استخدمت من قبل نظام بوريس يلتسين على مسلمة الخطاب ما بعد الحداثوي الرئيسية - أي على الاستعاضة عن المدلول بالدال, وعن المؤشرات الموضوعية المنتمية إلى الواقعية الاجتماعية الحقيقية بالرموز.

ترتكز ما بعد الحداثة بهذا الخصوص إلى المبدأ الذي صاغه أحد مؤسسي البنيوية اللغوية وهو فرناندو دو سوسيور([3]): "الدال غير معلَّل, أي اختياري في علاقته مع المدلول المعني, الذي ليس له أي صلة طبيعية به في الواقع([4])".

إن علم اللغة الشكلاني لدى سوسيور يناضل ضد تأثير المرجعية – أي المدلول في لغة الواقعية الذي يثقل منظومة اللغة الرمزية "بقيودها الطبيعية. لهذا تحديداً يعتبر اللغويون أتباع سوسيور استثناء المرجعية ضرورياً وشرطاً لتطور اللغة([5])".

يمكن نسب ما قيل إلى علم السياسية المعاصر. إن استثناء مرجعيات مثل المصلحة الطبقية الموضوعية, والمطلب الاجتماعي الطبقي, والإرادة الطبقية السياسية (إرادة المجموعة), من غير أن نتحدث عن فرضيات مثل "الجوهر الميتافيزيقي الكاذب" وقوانين التطور الاجتماعي الموضوعية, صار شرطاً للتطور السريع وغير المعتاد في المعرفة السياسية الذرائعية, التي تحضِّر الوصفات لصالح التقنيات السياسية.

نصطدم هنا أيضاً بمفارقة أخرى تمس القرابة المدهشة بين الكلاسيكية الليبرالية السياسية و"المادية التاريخية" المستخف بها اليوم. استندت المادية التاريخية (مثلها مثل صيغتها السياسية المخففة - أي الشيوعية العلمية) إلى الفرضيات ذاتها التي استندت إليها الليبرالية الكلاسيكية: حول المصالح الموضوعية لمختلف الفئات الاجتماعية, وحول أن هذه المصالح تجد انعكاساً ملائماً في الوعي السياسي الذي يصوغ متطلباته الاجتماعية ومشاريعه السياسية, وحول الارتقاء الاجتماعي باعتباره عملية تاريخية طبيعية خاضعة لقوانين صارمة, وما شابه ذلك. لم يكن الاختلاف مع الليبرالية يمس الفرضيات العقائدية - المناهجية المتعلقة بالواقع الاجتماعي المحيط بقدر ما كان يمس التعاطف الطبقي أو الكراهية الطبقية.

تبدو اليوم فرضيات الموضوعية والتمثيلية هذه من علياء ما بعد الحداثة المكشوفة سذاجةً قصوى موروثةً عن العصر السابق. وتتم على أساس الأحكام ما بعد الحداثوية إعادة هيكلةٍ شاملةٍ للممارسات السياسية ولمنظومة تقنيات السلطة كلها. عندئذ تكمن مأساوية الوضع الهزلية في أن هذا, عادةً, لا يثير لدى علماء السياسية الجامعيين المُحْدثين أدنى شك, فيستمرون في خبز مؤلفاتهم بحماسة الناسخين, ويعيدون إنتاج الكلاسيكية الليبرالية المنسية منذ زمن, والمتعلقة بالمجتمع المدني ودولة القانون وحقوق الإنسان غير المغتربة, وصيغ التمثيل السياسي وغيرها. ليس في مقدور هذا كله اليوم إلا أن ينوِّم الوعي الاجتماعي في البلد الذي يريدون إقناعه بأن مصائبه الأساسية قد انتهت مع الانتصار على الشمولية, وأن كل شيء الآن مرتبط بكم سيكون دقيقاً هذا الوعي في نسخ المنظومة السياسية التمثيلية للديمقراطيات الغربية. لا يدور الحديث في واقع الأمر عن التمثيل, بل عن إنتاج النظام السياسي, الذي لا يعكس أي واقعية موضوعية أو قوانين تطور بمقدار ما يعبر عن الإرادة الجشعة للسلاطين الجدد, ولأولئك الذين يحكمون من الخارج.

لا تشرح نظرية الانعكاس الطبيعيانية في الواقع سوى القليل: النظرية الأكثر استنباطيةً, والأهم من ذلك, النظرية الأكثر تكيفاً مع العلاقة التكنولوجية بالواقعية السياسية هي نظرية الإنتاج ما بعد الحداثوية, المبنية على أساس الفرضيات الرمزية. وسأشرح في الحال للقارئ البعيد عن المواضيع اللغوية: علم الدلالة هو فرع من علوم اللغة يدرس معاني الكلمات (أي أنه, بالمعنى المعروف, وريث نظرية الانعكاس الكلاسيكية), أما الرمزية فهي الفرع الذي يدرس منظومات الرموز. ويستند الفرق بينهما على الفرق بين الدال والمدلول. بالتالي, فإن ما بعد البنيوية باعتبارها أحد تيارات ما بعد الحداثة, تتمادى في تأكيد استقلالية الكون الرمزي عن واقعية المدلول. إذا سحبنا هذا على السياسة فإنه سيعني أن المرجعيات, التي كانت الكلاسيكية السياسية تضبط بوساطتها نظريتها وسلوك الطبقة السياسية اليومي – أي المصالح الموضوعية, القوانين والتوجهات الموضوعية, إرادة الناخب ومتطلباته الاجتماعية وما شابه ذلك - ستُركَن جانباً اليوم. صارت تُستبدل بالوظائف التمثيلية, التي كان يقوم بها السياسيون الممنوحون سابقاً وثائقَ أمرٍ مكتوبة بخط الناخبين المفكرين تفكيراً عقلانياُ, وظائفَ لإنتاج الواقع الرمزي الثاني, أو, إذا ما تكلمنا بلغة معاصرة, لإنتاج "العالم الافتراضي". إن "الحساسية ما بعد الحداثوية" اليوم لا تميز سياسيي التشكيلة الحديثة المحترفين بأقل مما تميز المحترفين من بين اللغويين والأدباء والفلاسفة أتباع تعاليم ما بعد البنيوية.

يؤكد ما بعد البنيويون أن الواقع الذي يتعامل معه أي إنسان, باعتبار هذا الإنسان مخلوقاً متكوناً بوساطة الثقافة, هو في نظره ليس حقائق الحياة وظواهرها, بل إنه هذا النص الثقافي أو ذاك. يخيل لنا أننا نتقبل الواقع الموضوعي ونتكلم بصوته, أو, من موقع آخر, بصوت "أنانا" الداخلية, الملتصقة بهذا الواقع. في حقيقة الأمر "يتكلم بنا" هذا النص الثقافي أو ذاك. نحن أقل التصاقاً بما يسمى الواقع الموضوعي, الذي صار في مرحلة ما بعد البنيوية أصغر في جانب من جوانبه من "الشيء بذاته" الكانطي – أي صار ظل الظلال, لكننا أكثر التصاقاً بنصوص الثقافة التي تكوِّن ردود أفعالنا الذهنية كلها. إن ما يزيد تعقيد الوضع, إضافة إلى ما سبق, هو أن عدد النصوص التي تغرق الإنسان في فضائه المجازي اليوم عظيم, وهي غير متجانسة - أي لا يتوافق واحدها مع الآخر. من هنا ينبع مفهوم الـ "بيننصية" - أي المراكبة المتبادلة لجملة النصوص التي لا تتشرعن وفاقاًَ لمقياس ارتباطها بالواقع بل وفاقاً لمقياس ترابطها مع النصوص الأخرى "المرموقة". يمكننا بسياستنا أن نفلس البلاد, أن نفقر أغلبية سكانها, أن نحرم هذه الأغلبية من أبسط خيرات الحضارة - ونستطيع في أثناء ذلك أن نشرعن بنجاح هذه السياسة بالاستناد إلى نص الليبرالية المتمتع بالسمعة, أو الرأي العام الغربي وما شابه ذلك. إن تعاملتم مع الواقع كواقع فستنهال عليكم آلياً جملة من الواجبات التي ينبغي عليكم حلها - وإلا فعليكم الاعتراف بعدم أهليتكم. أما إذا تعاملتم مع الواقع باعتباره نصاً متعدد المعاني (يستوعب عددا من المعاني بعضه لا يتوافق مع بعض) فسيكون في مقدوركم أن تقلبوا الأفق, وعوضاً عن اهتمامكم بنيابيتكم - أي ملاءمتكم لمتطلبات الواقع الموضوعية - فإنكم ستهتمون بإعادة صياغة هذا الواقع, وتكييفه مع مصالحكم وسلوككم وممارساتكم. حين يعتبرون في السياسة الشعب الذي تتمثل رغبته في نشاط السياسيين المختلفين ذا سيادة حقيقية فهذا شيء, وحين يتعاملون معه كنص متعدد المعاني, يفعِّلون فيه هذه المعاني تارةً, وتلك المعاني تارةً أخرى, أو يخلطون صفحاته, أو حتى يمزقونها,
أو يفصحون عن أمر فيه ويصمتون عن أمر آخر.. الخ فهذا شأن آخر.

تفترض البيننصية, باعتبارها مفهوم عمل للسياسي الممارِس, أن توضع في أمكنتها المرجعيات الاجتماعية لجملة الاستشهادات المنتقاة بعناية. فلتحضير التقنيات الفاعلة في العمل مع الناخب لا يتم تصنيف هذا الأخير طبقاً لتنوع مصالحه الحقيقي وخصوصية حاله الاجتماعية ووضعه المادي بل طبقاً لبنية نصية منتقاة مسبقاً. لنقل إنكم ستعيدون "مماثلة" القسم المحروم والمنهوب من السكان مستعيضين عن هذا الواقع بـ "النص الشيوعي" الذي تمقته الأوساط الاجتماعية. هنا عليكم أن تهتموا بأن يتحدث هؤلاء المحرومون من تلقاء أنفسهم, أو, الأضمن, أن يجري الحديث عنهم بإلحاح, لا بمصطلحات الواقع الاجتماعي - الاقتصادي الحقيقي, بل بمصطلحات نمطية لنص "سلفي" موضوع مسبقاً موضع شبهة. ليتحدث هؤلاء المحرومون أكثر فأكثر لا عن حقوقهم المغتصبة وتجاوزات السلطة الفعلية وسوء استخدامها الصلاحيات بحقهم, بل عن الماركسية اللينينية وديكتاتورية البلوريتاريا والصراع الطبقي ونمط الحياة السوفييتي وما شابه ذلك. ضعوا مكان الناخب نصاً منطوقاً بمهارة, تستطيعون أن تحسبوا مسبقاً رد فعل الثقافة المعاصرة والرأي العام المتنفذ عليه - وستثأر بذلك التقنية السياسية من الواقع. كذلك تماماً ينبغي عليكم أن تتصرفوا تجاه أفعال السلطة - إذا كانت هذه السلطة سلطتكم. حاولوا الإقلال من الاستشهاد بالنتائج العملية المحددة لنشاطها - فقد يتهمونكم بالتلاعب. يصير الأمر مغايراً تماماً إذا تسنى لكم تقديم أفعال السلطة والسلطة ذاتها على أنها نص ديمقراطي مقبول وحسن السمعة. السلطة تنظم إقرار الدستور الديمقراطي في الحياة, السلطة مهتمة بحقوق الإنسان, السلطة تدخل في علاقة شراكة مع الغرب, السلطة تبني علاقات السوق وما شابه ذلك. تعني المفردات التي أبرزناها اللفظات الدلالية التلاعبية لـ "النص السلطوي", التي تسمح بحرف انتباه الحديث السياسي الاجتماعي عن شواهد التجربة المحبطة. إذا كنتم واثقين من أن هذا النص أو ذاك سيحظى بالشرعية في الثقافة ويتمتع بمواصفات القبول, فيكفي أن تقدم أفعال السلطة على أنها مطابقة لهذا النص وأنها تجسيد له - وسيتم اعتبار السلطة نفسها سلطة شرعية.

أما نصيب الواقع الحقيقي فلن يكون أكثر مما يسمى لدى جاك ديريدا([6]) "أثراً". "الأثر" هو تلك الذكرى المتخافتة المطرودة بسبب من التواجد الطازج للنص المصاغ. تعتبر السياسة رسالة فيها "تواجدٌ مزدوج المعنى – أي انعدام الأثر... الإمكان الابتدائي للاختلافات البديلة كلها, التي اعتبرها عصر "المركزية الكلامية الأنتولوجية الغائية" أصلية وبدهية من تلقاء نفسها([7])".

هنا يتطلب الأمر سلسلة من الإيضاحات. الأنتولوجيا والأحكام الأنتولوجية هي توجُّهٌ نحو الوجود بأوليته واستقلاله الذاتي في علاقته مع وعينا الذاتي, وتعني المركزية التيوقراطية الإيمان بالقيم السامية (الدينية - احتكاماً لمنابعها), وتعكس المركزية الغائية الإيمان بالذات المستقلة التي تضع أمامها الأهداف, وتحسن الإجابة عن السؤال" لأي غرض؟" أو "باسم ماذا؟". وأما المركزية الكلامية فهي الإيمان بأن الواقع يخضع للقوانين العقلانية المختبرة.

تستبدل ما بعد الحداثة بالأنتولوجيا شبه اللغة - أي شاشة اللغة التي تفصلنا فصلاً أكيداً وجذرياً عن مادة الواقع الخام, هذا الواقع الذي لسنا في حال تسمح لأي منا, نحن المذابين في نصوص الثقافة, بأن نقول عنه جملة مفيدة.

تتعامل ما بعد الحداثة مع القيم السامية على نحو لا يقل جذرية. فقد أصبنا باليأس منذ زمن طويل في الواقع كثير النصوص, حيث هم النصوص الأوحد هو أن يناقض بعضها بعض, لا من انتقاء النص "الحقيقي" بين عدد هائل من النصوص المزيفة وحسب, بل حتى من انتزاع النص الذي نرغب فيه, إذ أن رغباتنا ذاتها تتغير بسرعة كبيرة ولا نعرف في الواقع ماذا نريد حقاً. حيث لا يوجد نص دلالي مركزي لا يمكن أن تكون قيم سامية - توجد فقط نبضات متزامنة تستفزها فسيفساء النصوص التي تستفز وعينا. إننا نشعر دوما,ً عوضاً عن كلية الوعي السابقة الموحية بالفكرة الرئيسية وبمنظومة الأولويات المرتبطة بها, بـ "خلوص" ما غير مريح أو بنشاز بين النصوص يمنعنا من الانقياد بحبور إلى أي شيء - للإحساس بالحب, لقراءة الكتاب المفضل, لإيديولوجيا سياسية الخ. إننا نحقق التفكيك, أو نقوم بنشاط التفريق الذي يبرد مشاعرنا وحماساتنا. يقول داريدا: "التفريق هو ذلك الذي تصير بفضله حركة الدلالة ممكنة فقط حين يكون كل عنصر موصوف بأنه "متوافر" ويعتبر حقيقياً على المسرح مرتبطاً بشيء ما مختلف أكثر من كونه يحتفظ في ذاته بصدى متولد عن صوت العنصر السابق, وحين يتحطم في الوقت نفسه من ذبذبة علاقته الخاصة بعنصر المستقبل...".([8])

يبرز "التفريق" في وقت واحد باعتباره سماً يقضي على مشاعرنا كلها, وباعتباره ترياقاً ضد سم الحماسة التي خذلتنا أكثر من مرة في القرن العشرين.

يفترض إضعاف موقف المركزية الكلامية علاقة مختلفة تماماً بالواقع عن تلك التي علمتنا إياها الثقافة الكلاسيكية. فإذا ما سحبنا هذا على السياسة فإننا سنرى التعبير الواضح عن هذا الاختلاف في التباين بين أحكام الليبرالية الكلاسيكية و"ليبرالية" ما بعد الحداثة الحالية.

لنعر انتباهنا إلى ذلك الكم من الاهتمام الذي تعيره التقنيات السياسية المعاصرة لما يسمى صناعة الصورة (Imagemaker) - أي تصميم "الشكل اللازم" للسياسي. تتطلب الكلاسيكية أن ينفذ السياسي - النائب, أو عضو البرلمان, أو رئيس السلطة التنفيذية أومن شابههم وظائف تمثيلية أو نيابية, أي أن ينطق بصوت الناخب وأن يمثل مصالحه في منظومة السلطة. السياسي هنا هو إلى حد ما متلق سلبي, أو, إن شئتم, وسيط مرهف يلتقط النبضات من الأسفل, من جانب الناخب. أما السياسي المعاصر ما بعد الحداثوي فلا يبرز بعلاقته النيابية, بل بعلاقته التقنية - الإرادوية تجاه الوسط المحيط. من هنا ينبع الاهتمام بتصميم الصورة. الصورة هي هيكل اجتماعي نفسي مزدوج المعنى ودقيق لا يرتبط بمصلحة موضوعية محددة, بل يرتبط برغبات مزدوجة المعنى. لا تمتاز الرغبة بقابليتها للحركة والمرونة فقط؛ فالأمر الأساسي فيها هو أنها مكشوفة للتلاعب و"ترغب" في أن تخضع للتلاعب. إن سيكولوجية الرغبة تشمئز من الشفافية الكلاسيكية والعقلانية - إنها تتسم بازدواجية المعنى المرتبطة بموقف التقاء المغري والمغرى الذي تُستفَز رغبته رداً على استفزاز المغري. لهذا السبب يهتم صانعوا الصورة بكاريزما السياسي. تعتبر الكاريزما من وجهة نظر العقلانية الكلاسيكية مفهوماً مقيتاً, فهي تفترض رفض وضع الاختيار العقلاني الموزون لصالح التصنع الجماعي. لم يهتم الناخب الكلاسيكي بصورة السياسي الساحرة بل بأمانته التمثيلية - بوفائه للمطالب التي يحملها. تفترض نظرية الاختيار العقلاني ذاتها الوعي البارد الذي يدرك بدقة مصالحه ويشتري السلعة السياسية لا بتأثير الانطباع المتكون عن علبتها أو تصميمها بل احتكاماً إلى المقاييس الوظيفية والمهارية. تقوم التعديلات المعاصرة على نظرية الاختيار العقلاني بتنازلات لصالح الممارسات الاحتيالية مفرِّقة بين الاحتياجات الأولية التي لا تخضع للاحتيال من جانب الدعاية والإعلان وغيرهما, وبين الاحتياجات الثانوية التي يكون المستهلك بخصوصها مستعداً إلى حد معين للخوض عن وعي في اللعبة مع المغرين المحترفين.

أما علم صناعة الصورة المعاصر فيسير أبعد من ذلك في هذه الطريق, ساعياً إلى طمس أي فرق بين الاحتياجات الأولية (الحقيقية) والحاجات المستفَزَّة, متبعاً بهذا الخصوص أحكام ما بعد الحداثة, التي تتطلب طي مسألة "المرجعية", أي طي الواقع الموضوعي.

حتى المنظومة السياسية نفسها في الأنموذج القياسي ما بعد الحداثوي تفسر على نحو رمزي - أي باعتبارها نصاً ليس له أي فهم صحيح وحيد. ويتبين ذلك من التضارب مع التناول الوظيفي المنظوماتي السابق (تولكوت بارسونس([9])), الذي يفترض رسماً صارماً وحيداً للأدوار والوظائف! " حرَّمت "العقلانية البيروقراطية" لدى ماكس ويبر كذلك تعددية التأويل وافترضت تجسيداً ميكانيكياً دقيقاً "لأحرف القانون" في الحياة. إن ما يضفي على الوضع طرافة خاصة هو حقيقة أن أنصار دولة القانون قد عرضوا منذ وقت قريب جداً للنقد المدمر إرادية " القضاء الاشتراكي", الذي لم يكن القضاة يهتدون فيه بحرفية القانون بل بـ "وعيهم الحقوقي الاشتراكي".

ويتبين, فجاءة, أن بناة دولة القانون ما بعد السوفييت قد انطلقوا في استبداد يبدو الإبداع القوميساري الحقوقي بالمقارنة معه كأقصى درجات الحذلقة الألمانية. لا توجد لا في القانون الأساسي ولا في القانون الجنائي مواد يمكن أن تخضع لتفسير وحيد ولا تحتوي على ثغرات مقصودة تضع الممارسة تحت تصرف "التفسيرات" المأجورة. يقولون: ما شأن فلسفة ما بعد الحداثة هنا حين يدور الحديث عن النوايا غير النظيفة لدى نخب السلطة الذين يحدثون عمداًُ الثغرات في القانون من أجل ممارساتهم التي في الظل؟ لكن الفرضية الأساسية لما بعد البنيوية تتأكد هنا: تتجلى أي ظاهرة من ظواهر الاختبار التجريبي في سياق الثقافة. صحيح أن الممارسات في الظل والتساهلات تجاهها من جانب القضاء كانت موجودة دائماً, لكن حين لا تتمتع بالمصادقة الثقافية ولا تجد لنفسها أدلة البراءة في نصوص الثقافة السائدة شيء, وحين تنبع أدلة البراءة هذه من "حساسية ما بعد الحداثة" المغروسة من الأعلى. شيء آخر.

إن إلغاء مرجعية كالناخب, وتحويل الممارسات السياسية إلى نص مستقل يشكله المحترفون من السياسة, واضح على جميع المستويات.

عن أي وظيفة "نيابية" (تمثيلية) للسياسة يمكن أن يدور الحديث إذا كان أفراد اشتهروا من الفضائح, وليس لهم أي حظ في أن ينتخبوا في أماكن إقامتهم قد انتخبوا في دائرة تشوكوتسك القومية أو في كارتشايفو - تشركيسيا حيث لم تطأ أقدامهم من قبل. واضح أننا في هذه الحال لا نتعامل مع السياسة بوظيفتها التمثيلية المدعوة إلى عكس تجربة الناخب وآماله ومصالحه, بل نتعامل مع السياسة باعتبارها "نصاً" أبدعه محترفون لتحقيق مصالحهم الخاصة.

في هذه الحال تصبح ثنائية السياسة الفكرية الأساسية والحقوقية, المرتبطة بالقسمة إلى أغلبية سياسية وأقلية سياسية. إننا نرى كيف يبدأ يتجزأ على نحو ماكر حزب السلطة, الذي لا يملك أية حظوظ في الحصول على دعم الأغلبية وبذلك يؤكد على نحو شرعي صلاحياته, إلى عدد من الأحزاب والمجموعات المستقلة كما يقولون, والتي يوكل إلى الكثير منها لعب دور "المعارضة". وبعد أن يعبر هؤلاء المعارضون إلى الدوما, إذ ينتدبهم الناخبون باعتبارهم معارضين تحديداً, يعلنون أنهم يدعمون حزب السلطة ومرشحه للرئاسة. هل يمكن عند ذلك الحديث عن إرادة الناخب ووظائف السياسة التمثيلية؟ لا, إننا نتعامل هنا مع إنتاج نتيجة معطاة مسبقاً, ويتم الحصول عليها عن طريق "التفكيك" المنهجي لكل ما يفسر تفسيراً واحداً, وغرس تعددية المعنى وازدواجية الأحاسيس - أي "لعبة الرموز", التي يخدع فيها المحترفون حتماً "هاوي الكلاسيكية الديمقراطية العظيم" - الناخب.

لا يجوز خلط "اللعبة" ما بعد الحداثوية مع إجراءات الانتخاب الديمقراطي العقلاني. يتحقق الانتخاب العقلاني دائماً في مصطلحات المنطق مزدوج المعنى, حيث تفعل فعلها قوانين التجانس, والتناقض, والثالث المستثنى. إن ألعاب ما بعد الحداثة تحطم الخطاب المعقلن, مقحمة بطريقة شيطانية "الثالث" الغامز واللامز, الذي لا مكان له في المنطق الطبيعي. يعلن السيد ما بعد البنيوي جاك ديريدا عن تحطيم قالب الثقافة العقلاني الذي تحمل المعارضات والخيارات فيه طابعاً ذا معنى واحد. ثمة في قالب ما بعد الحداثة الثقافي مكان "للعبة المصطلحات المتناقضة اللانهائية": الواعي/ واللاواعي, الوجود / العدم, المدلول/ الدال, الحقيقة/ الاختلاق, الرائع/ الشنيع, الحقيقة/ الوهم وما شابه ذلك. تجنح ما بعد الحداثة باستمرار, فضلاً عن أنها تسلم بالتغلغل المتبادل وغير المحسوس لهذه المصطلحات التي "يلطخ" واحدها الآخر, نحو الجانب الشيطاني "اليساري", ونحو "تعددية معانيه المكررة" في مواجهة صف الأخلاق والثقافة "اليميني". بكلمات أخرى, تعطى الأفضلية الواضحة للمفاهيم السلبية التي تعني "اللاوعي", "العدم", "الاختلاق", "الشنيع", "الوهم". ففيها, كما يحاولون أن يؤكدوا لنا, غنى تعددي أكبر, وتعددية معاني أنقى, وحتى أن فيها تسامحاً أكبر من أحادية المعنى الأصولية التي يتصف بها ذلك الذي يمثل الحق والحقيقة. بكلمات أخرى لا تتمتع الرذيلة مقارنة بالفضيلة بأفضلية تعددية المعايير وحسب, بل تتمتع أيضاً بأفضلية التسامح التعددي (البليورالي) ("عش, ودع غيرك يعيش"). أما الشيء الرئيسي فهو أن الرذيلة أكثر تكيفاً من الفضيلة ومنطقها القاسي مزدوج المعنى مع الألعاب الإستراتيجية ومع أوضاع اللعب لدى معاصرتنا الخاطئة.

ينبغي أن يذكِّر هذا القارئَ الذي لم ينس بعد جامعات الماركسية اللينينية و"موجز تاريخ الحزب الشيوعي لعموم روسيا (البلاشفة)" بشيء ما. وسأكون أكثر دقة: إن هذا يذكرنا على نحو مدهش بالديالكتيك الماركسي اللينيني, الذي انتصر بفضله البلاشفة المثقلين بـ "المنطق الشكلي" على الديمقراطيين البرجوازيين. فقد اتكل أولئك أيضاً على انتصار الفكر الاقتصادي السليم, وعلى أغلبية الناخبين التي منحتهم الأفضلية في الجمعية التأسيسية. باختصار, لقد اتكل قدماء الديمقراطيين الروس كثيراً على الواقع الموضوعي, وعلى مصالح الناخب الجماهيري, وعلى غير ذلك من الحقائق والمواد التاريخية الطبيعية. أما البلاشفة فكانوا هم أول من اكتشفوا لأنفسهم أن السياسة لا تعكس الواقع, بل تبدعه, مستبدلة بالطبيعي المبتكرَ والمقحمَ والمشغولَ. يمكن أن نقوِّم من علياء التجربة ما بعد السوفييتية الأحدث "زعرنة البلشفية السياسية" المعروفة, التي لا تقيم وزناً لقواعد اللياقة السياسية, على أنها سابقة لألعاب ما بعد الحداثة مع الواقع, هذه الألعاب الموجهة للاستعاضة عن المدلول بالدال, عن الواقع بالقانون. حصل بنتيجة الاختبار البلشفي العمال على شارات الطبقة السائدة, وحصل الفلاحون على شارات أصحاب الأرض, وحصل السكان كلهم على شارات الديمقراطية الاشتراكية. وبغض النظر عن مضرة البلاشفة باعتبارهم كثيري صراخ محليين, ومثقفين مهلهلين ناقصي التعليم, فقد كانوا احتكاماً لدستورهم أعقد من الديمقراطيين البرجوازيين, فهم احتفظوا في وعيهم في آن معاً بسلسلتين من المصطلحات غير المتوافقة: الديمقراطية (التي أقسموا بها بديماغوجية) ونقيضها, سلطة السوفييت ونقيضها سلطة الحزب الحقيقية, العلانية المكثرة في الكلام, والكواليس المخابراتية "الصموتة", تجارة المفرق والموزع الخصوصي وما شابه ذلك. لقد ولدت هذه "الألعاب الديالكتيكية" مع الواقع نمط رجل الظل السياسي, والشخصية ذات القعرين, وخطيب المنابر مزدوج المشاعر, الذي يحرص أشد الحرص كي لا يعكس حديثه المليء بالحماسة الكاذبة الواقع الحقيقي وليستعيض على نحو متحذلق عن ما هو واقعي بما يجب أن يكون. قارنوا بين الخطيب البلشفي باعتباره "متحذلقاً متحمساً", "يحفظ في فكره" تحديداً ما لا يمكن إعلانه وبين خطيب رومانسي قديم لا ينطق إلا بما يشعر به حقاً, وستفهمون التعقيد الشيطاني للأنموذج البلشفي, الذي أعطاه الأفضلية الحاسمة في النضال السياسي.

إن كل من ينسب للبلشفية اليوم جذور التقليدية الضاربة, كما يزعمون, في عمق الأنموذج المشاعي الأصيل إما لا يفقه شيئاً في "الديالكتيك" البلشفي, وإما يخفي خيوطاً ما تحت سطح الماء.

 

لهذا السبب حفظت النخبة السياسية ما بعد السوفييتية دروس ما بعد الحداثة بهذه السهولة, إذ جعلتها تجربتها السابقة كحزب للكهنة المتغامزين من وراء ظهر الشعب مستعدة تماماً لهذا. كان يكفي تجاوز نكسات الميتافيزيقيا الطبيعاوية, التي تجلت في معايير "المادية التاريخية" مثل الحتمية التحتية والفوقية, المتطلبات الأولية (التحتية), والمصلحة الطبقية وما شابه ذلك - ليتأمن الانقلاب ما بعد الحداثوي. كانت الممارسات الإرادوية للبلشفية تصطدم طوال الوقت "بمخلفات" نظريتها الطبيعاوية. وقد انعكس هذا في نظرية الواقعية الاشتراكية, حيث اقترن فعل أمر الإحلال الرمزي لما هو حقيقي محل ما هو لازم اقتراناً عجيباً بعدم تقبل علم الجمال الطليعي, وفي السياسة, حيث توضع مرجعية كالشعب في مركز الخطاب تارةً, وتختفي تارةً أخرى إذ يستعاض عنها برمز طليعاوي منسوب للحزب. لقد قيدت نكسات المذهب الطبيعي السياسي هذه في حقيقة الأمر الإبداع المهني لدى الطبقة السياسية, التي أثقلت كاهلها التقييدات النابعة من ضرورة أخذ "الواقع الراكد" في الحسبان ليس من الناحية النظرية وحسب, بل على شكل التزامات معلنة إيديولوجياً أمام الشعب. لقد بسَّط ديمقراطيو العولمة الجدد هذه الالتزامات القديمة, فـ "عالم العولمة" بخلاف واقعيات الوجود القومي - هو على الأغلب بناء الوعي الحاذق, الذي لا يجوز البحث له عن "مرجعية" مباشرة في عالم الحقائق المبرمة.

 


([1]( - المصابين بالنوراستينيا (النهك العصبي) (المترجم).

([2]( - فلاديمير جيرينوفسكي ( 1946) سياسي روسي, عمل منذ 1983 محامياً لدار "مير" للنشر, وصار منذ عام 1991 زعيماً للحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي. ومنذ عام 1993 زعيم الكتلة البرلمانية المسماة باسم الحزب ذاته في مجلس الدوما الروسي. (المترجم).

([3]( - فرناندو دو سوسيور (1857 – 1913). لغوي سويسري. درس اللغات الهندية الاوربية, ومشكلات المعرفة اللغوية العامة. كان أول من اقترح دراسة اللغة باعتبارها منظومة (بنية). كشف عن طبيعة الرمز اللغوي معتبراً علم اللغة قسماً من علم منظومات الرموز. (المترجم).

([4]( - سوسيور ف. أعمال في المعارف اللغوية, موسكو. 1977. ص 101.

([5]( - الاقتباس من إيلين ي. ما بعد البنيوية. اللاإنشائية. ما بعد الحداثة. موسكو. 1996, ص 24.

([6]( - جاك ديرريدا (ولد عام 1930) - فيلسوف فرنسي قريب من البنيوية. ينتقد الميتافيزيقيا باعتبارها أساساً للثقافة الأوربية. يربط التغلب على الميتافيزيقيا بالبحث عن منابعها التاريخية عن طريق التفكيك التحليلي للمفاهيم التي تشكل أساس الأنتولوجيا, وفي مقدمتها مفهوم الوجود (المترجم).

([7]( - الاقتباس من: أفتونوموفا ن. س. المشاكل الفلسفية في التحليل البنيوي في العلوم الإنسانية. موسكو, 1977 ص.163.

([8]( - Derrida J. Position. P.,1972. P. 13

([9]( - تولكوت بارسونس (1902 - 1979) - عالم اجتماع ومنظر أمريكي, أحد ممثلي التحليل الوظيفي البنيوي الأساسيين في علم الاجتماع. عمل في جامعة هارفورد منذ عام 1927 أهم مؤلفاته "بنية الفعل الاجتماعي" (1937), و"المنظومة الاجتماعية"(1952). (المترجم).

 

السابق

جورج زيمِّل ضد ماكس ويبر>>

نقد البرجزة ما بعد البنيوي - في خدمة البرجوازيين الجدد

الثورة الثقافية العولمية >>

الفصل الثالث  العولمة الأمريكية  >> 

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

 << تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا