كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

آفاق ثورة الوعي القادمة

 

من وجهة نظري ينبغي توقعها من جهة حركات الاحتجاج الاجتماعية التي تشعر بأن عربدة مثل هذه "العولمة الحسية" تمسها مباشرة.

إن ظهور مثل هذا الاحتجاج من جانب الغرب ضعيف الاحتمال. فثقافة الجملة الحسية الوحشية هذه هي في نهاية المطاف منتجه, وهي الاستمرار المنطقي لمشروع "تحرير الجسد" الذي طرح منذ عصر النهضة.

تبين أن هذا المشروع يحمل الكثير من الإغراء للآخرين - لقد لامست الجاذبية الخاصة الكامنة في ثقافة الجملة الغربية, والمرتبطة بأحكام التسريح الشامل للفرد, روح الجيل الشاب في الشرق, الذي مل من أن يكون معبأً. أراد الجميع أن يصيروا مرحين ومتحررين وغير ملتزمين تجاه أي أحد كان. هكذا تكوَّن نمط "العالم الجديد الرائع" - مزيج من الطوباوية واللاطوباوية.

الآن فقط, ومع غروب الحداثة الغربية صرنا نعي الأسباب العميقة لقدرة هذا النمط على العدوى. لقد كمن السبب الرئيسي في عموميته. تبين أن الغرب ممثلاً بثقافة الحداثة يتخلى عن حقوق التأليف العائدة له وعن خصوصيته كلها - الحداثة مجردة من الشخصية بمقدار ما هي عمومية ومخصصة للجميع. لقد داهم محبي الأوطان ومحبي الأعراق والمدافعين عن خصوصية الثقافة الوطنية جميعهم شعور خاص إما بالذنب أو بالنقص أمام "مشروع التحرر" هذا الموجه للجميع بغير استثناء. لقد شعر الرافضون لهبة الحداثة المنزهة هذه, أو قوَّمهم الآخرون, بأنهم كمثل المقترين المتجهمين الذين وجدوا أنفسهم في سوق العيد. اعتُبِرت الحداثة بمثابة عيد يدعو إليه منظموه الغربيون الجميع بسخاء وكرم ضيافة – فقط شرط أن يسمح لهم بذلك الآباء والمسؤولون المحليون المتسلطون. لقد أُعلن العصيانٌ الثقافي ضد أولئك "الآباء والمسؤولين" في الثقافات اللاغربية كلها من قبل أولئك الذين خيل لهم تحديداً أن الغرب يدعوهم إلى الحياة الجديدة بينما يمسك بهم الراعون المحليون الغيورون والمضِرُّون.

 

فما الذي حصل اليوم؟

 

يعلن اليوم المبادرون إلى برنامج الحداثة الغربي أول مرة منذ إشهاره أنه ليس للجميع وإنما من أجل المختارين فقط, من أجل الأتباع, من أجل "المليار الذهبي".

حين كان "الستار الحديدي" لا يزال قائماً نشأ لدينا إحساس بأن الحضارة الغربية تدعونا بإلحاح إلى الانعتاق والحرية, أما الشموليون المحليون فيمسكون بنا ويحاصروننا بكل قواهم. لكن لم يمض بين سقوط الستار الحديدي واتفاقيات شينغين, التي دل فيها الغرب بصراحة على أن برنامجه مخصص لجماعته فقط, أكثر من خمس سنوات.

طبعاً, يمكن أن نرى في اتفاقات شينغين, التي يشترط فيها الغرب حصصاً وكفاءات مختلفة موجهة ضد سيل المهاجرين القادمين من خارجه, رد فعل دفاعي طبيعي - فالكل يملك الحق في الدفاع عن بيته. لكن الأمر ينحصر تحديداً في أن اتفاقيات شينغين قد تلفظت أول مرة بالمعايير المزدوجة: بمقدار ما تُزال معوقات التبادل والتواصل الأخيرة بين الدول المنتمية إلى النطاق المختار - أي الاتحاد الأوروبي, يجري تشديد الحواجز في طريق من يعتبرونهم غير مكتملين - أي الخارجين من تركيا وأفريقيا الشمالية وآسيا, وطبعاً, من أوربا الشرقية الاشتراكية السابقة وروسيا. صار الغرب من جديد وأمام أعين الجميع مجتمعاً عرقياً مغلقاً.

لكن الحديث يدور اليوم عن أمر ما أكبر من الانغلاق البسيط. لقد نشأ في الغرب مشروع لاحداثوي موجه ضد مخططات التطوير الوطني لبلدان العالمين الثالث والثاني السابق. وقد سمي تسمية بريئة تماماً - برنامج "الاستقرار الاقتصادي الواسع" أو اللبرلة الاقتصادية. تقترن اللبرلة بالحرية الكبرى وتقترن الحرية بالحداثة, وبذلك قد يبدو للوهلة الأولى أن الحديث يدور عن غصن جديد من أغصان الحداثة - أي عن تجذير "مشروع التحرير" الموجه للجميع.

لكن الحديث, وكما اضطر بسرعة أنصار الليبرالية الغربية المصدقين إلى أن يتأكدوا, دار تحديداً عن قطف ثمار "انتصار" الغرب في الحرب الباردة والتوصل إلى نزع سلاح العالم الثاني المهزوم لا التقني العسكري وحسب بل الاقتصادي أيضاً, وكذلك الحؤول دون نهوض العالم الثالث الاقتصادي الوطني والسياسي.

كوَّن الغرب في أثناء "الحرب الباردة" مثلثاً عولمياً ذا سطوة, مدعواً إلى تفكيك صناعة ذلك القسم من العالم الذي لا يعتبره الغرب تابعاً له, ولا يدخل في نطاق المختارين. يضم هذا المثلث صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. إن هذا الثلاثي مدعو إلى فرض رقابة لا تكل ولا تمل على سلوك الحكومات الوطنية في العالمين الثالث والثاني السابق بهدف معرفة إلى أي حد يجري تنفيذ برنامج التفكيك الصناعي المنهجي - أي تقليص الصناعات التحويلية الوطنية والعلم والتعليم والتطوير الثقافي. يقضي البرنامج مباشرة بإفلاس الصناعة الوطنية إفلاساً شاملاً لتتحول مؤسساتها إلى مؤسسات "سائلة" - أي قابلة للبيع بأبخس الأثمان للسادة الأجانب بهدف تصفيتها باعتبارها غير مربحة, ولا تندرج في التقسيم العالمي الجديد للعمل, ولا تتوافق مع "المعايير" المعروفة.

يكمن جوهر هذا التقسيم الجديد للعمل في أن على البلدان غير المنتمية إلى نطاق الدول صاحبة الامتيازات, أن تتخلى إلى الأبد عن حقها في أن يكون لديها صناعتها التحويلية الخاصة وإنتاجها المستوعب للعلوم (فثمة من هم أجدر وأمهر) وأن توافق على أن تلعب دور المورد للمادة الأولية الرخيصة (مبخوسة القيمة) واليد العاملة عوضاً عن محاكاة طليعة العالم ما بعد الصناعية.

 

 

يؤدي برنامج اللبرلة الاقتصادرة القسرية, حين يحطم الصناعة الوطنية والاقتصاد الزراعي في البلدان الواقعة تحت الوصاية, إلى أن يصير سكان هذه البلدان مجبرين على الاعتماد على البضائع المستوردة؛ وعندئذ تزداد أسعار بضائع الطلب اليومي الداخلية لتبلغ مستوى الأسعار العالمية مع هبوط في الوقت ذاته في الأجور على شكل قفزات. لقد تساوى ثمن قوة العمل في البلدان الاشتراكية السابقة مع مؤشرات دول العالم الثالث الأفقر, وهي في الوقت الحالي أقل بـ 70 مرة تقريباُ عما هي عليه في بلدان منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي([1]).

لكن في أثناء ذلك يقوم مثلث السلطة الاقتصادية العولمية المذكور على الفور باعتراض أدنى محاولة من أجل فرض الرقابة على الأسعار أو حماية الصناعة الوطنية والسوق الداخلية بتدابير حمائية معتبراً إياها "سلوكاً غير ليبرالي", ويستحق أقسى أشكال القمع.

فلنتأمل, ما معنى هذا؟ إن معناه أن اللبرلة الاقتصادية المفروضة قسراً, والتي أدت إلى "الإبادة الاقتصادية" - أي قتل الصناعة الوطنية ستجر خلفها إبادة مباشرة - أي اضمحلال السكان المحليين. لقد أعلن "الليبراليون" أن هدفهم الاستعاضة عن الأسواق الوطنية بالسوق العولمية الواحدة. تبين بالنتيجة أن البضائع المباعة في هذه السوق الجديدة مخصصة للأقلية صاحبة الامتيازات - فالأغلبية غير قادرة على امتلاكها برواتبها الزهيدة.

ويزداد الوضع صعوبة بسبب من أن تفكيك الصناعة الوطنية يترافق مع تفكيك منظومات الضمان الاجتماعي التي شُهِّر بها إيديولجياً وسياسياً باعتبارها من مخلفات الشمولية وتشجيعاً للكسالى وغير القادرين على التكيف. بنتيجة ذلك أخرج أكثر من نصف سكان البلدان غير المنتمية إلى نطاق الدول المختارة إلى ما وراء حدود منظومة الحداثة والمجتمع الاستهلاكي الجماهيري. ويبقى مصيرهم هو نمط الحياة الهامشي - أي العودة إلى أكثر أشكال الاقتصاد العيني بدائيةً, وإلى حياة البؤس أو التحول إلى الممارسات الإجرامية. وهذا كله يشوه صورتهم بدوره في نظر المؤسسة العالمية المتسلحة بالأساطير العنصرية عن الأعراق والثقافات وحتى الحضارات القاصرة والإجرامية.

 

ضمن هذه الشروط يكتسب الخطاب عن الحسية الاستهلاكية اللذوية وتحرير الجسد والتخلي عن العقد القومية الشائخة شكلاً مختلفاً تماماً. لقد بدا برنامج إصلاح الحسية الليبرالي على الطريقة الكوسموبوليتية الواحدة جذاباً للكثيرين في السابق في ظروف الحداثة المنفتحة الموجهة للجميع بغير استثناء. حين يشككون بقيم مجموعتي من أجل دعوتي إلى مجموعتهم ففي مقدوري أن أفكر في الأمر. لكن حين يستخفون بغطرسة بالقيم القريبة مني ويفهمونني في أثناء ذلك بوضوح أن تلك القيم التي يواجهونها بها باعتبارها أنموذجية ومعاصرة هي مسبقاً ليست من أجلي فلن يبقى أمامي سوى أن أرنو من جديد إلى قيمي الخاصة.

تجري أمام أعيننا تطورات لم يكلف أحد نفسه بعد أن يقومها كما ينبغي. أولاً, تجري إعادة بناء الوعي الاستهلاكي الجماهيري. كان الجميع سابقاً, في ظروف "الإنتاج كرمى للإنتاج" الإشتراكي يشعرون بالنقص الاستهلاكي: كان من الصعب تحويل النقود إلى بضائع, ولذلك كان الاستيراد لسد النقص يغري مثل الثمرة المحرمة. أما الآن, في ظروف تراجع الصناعة الوطنية تحت وطأة البضائع المستوردة, التي يتم الإعلان عنها بإلحاح بينما تجعلها الأجور بعيدة المنال, فقد تغير الفهم الاستهلاكي تغيراً نوعياً. كانت السلعة المستوردة في السابق تغمز لمستهلكنا على نحو تآمري: إن من دواعي سرورها أن تجد نفسها بين يديه, لكن الحواجز الإيديولوجية تمنعها. أما الآن فما عادت منظومة الاستيراد الاستهلاكي تغري بمشروع التحرر: لقد وصلتنا على شكل منظومة انتقائية صريحة ترجعنا إلى التقسيم الطبقي القديم.

يتلخص الواقع الجديد في أن بضائعنا آخذة في التناقص أكثر فأكثر, بينما يوجد على البضائع المستوردة ختم التفرقة العنصرية - أي بُعدها عن متناول السكان المحليين المطرودين من صفوف "المجتمع الاستهلاكي الجماهيري". ومثل إجراءات الطرد هذه مبررة من قبل الدعاية الليبرالية المعاصرة, التي تتحدث, حين يتعلق الأمر بالأشياء (البضائع), عن المجتمع الواحد المفتوح, وتتحدث, حين يتعلق الأمر بالناس, عن العالم المفصول عنصرياً, الذي تصير فيه "العقليات الفاسدة" مبرراً للاستثناء والتمييز.

فكيف إذاً علينا أن نقوِّم خصوصياتنا الثقافية وذهنيتنا بعد أن دمغوها بعلامة الطرد؟ يمكن, طبعاً, الاستمرار أيضاً في ممارسة جلد الذات مؤكدين أننا "نحن الأرقاء وليسوا هم", فهذا شأن المازوشيين الصريحين. لكن الوضع يختلف لدى من حافظ على شعوره بالكرامة الشخصية. فحين يرفضون قبولك في "المجتمع الجيد" مستندين لا إلى تلك المواصفات التي لك الخيار في أن تتخلص منها من خلال التربية والتعليم, بل إلى مواصفات تجعلك منذ البداية, كما يقولون, لا تستحق جهود التنوير, لا يبقى أمامك سوى خيار واحد: أن تحب في نفسك علامات الطرد هذه وأن تجعلها رمزا لكرامتك.

لقد تعرض الوعي الزنجي في الولايات المتحدة لمثل هذه التحولات تحديداً منذ وقت غير بعيد. كان رد الفعل الأول العبودي أو الدهمائي على التمييز العنصري من جانب السادة البيض - هو شعورهم بالأسف لخصوصياتهم العرقية, وشعورهم بعقدة المهانة, والرغبة في الاختباء. لكن رد فعل مختلف ونوعاً مختلفاً من تقرير الذات الثقافي بدآ ينضجان تدريجاً لدى الزنوج: عليهم أن لا يكرهوا الزنجي فيهم, بل عليهم أن يحبوه وينموه, وأن يتقبلوا جوهرهم الزنجي على أنه دلالة على شأن لهم بأمر ما سامٍ وأصيل, ومهما شاؤوا فإنهم لا يستطيعون انتزاعه. ما إن سما الزنوج الأمريكيون إلى مثل هذا الوعي الذاتي حتى استجاب المجتمع الأبيض على النحو الملائم: لقد حصل الزنوج فعلاً على امتيازات معروفة وحصص مصانة هدفت إلى الإيحاء لهم بأن أمريكا هي بلدهم الأم وليست زوجة أب غادرة.

إننا نعيش اليوم في مثل تلك اللحظة التاريخية ذاتها, إذ نضج رد الفعل الملائم على انقلاب الغرب المعروف. لقد انتهى مشروع الغَرْبَنة العالمي في تلك اللحظة التي قرر فيها الغرب أن المجتمع المحدَّث المعاصر (الصناعي وما بعد الصناعي) هو حكر على الغرب وحده, أو أنه, كأقصى حد, حكر على "الغرب الجديد" أيضاً الذي بني في منطقة المحيط الهادئ الأسيوية. ما إن أعلنوا للآخرين أن قسمتهم هي أن يقبعوا في مناطق إقامة جبريةٍ أبديةٍ ممهورةٍ بختم الطرد العنصري حتى انتصب أمام هؤلاء الأخيرين خياران: إما أن يكرهوا أنفسهم على طردهم, أو أن يروا في هذا الطرد مؤشر المكانة الخاصة فيعيدون الاعتبار لأنفسهم ويحبونها.

إننا نرى هنا تحديداً نقطة انطلاق ثورة الوعي الأحدث التي ينبغي أن يقوم بها في الوقت ذاته العالمان الثالث والثاني السابق. لقد اكتشفت الآن عمليتا إفقاد الحسية وطنيتها وصفتها الاجتماعية, اللتان تميز بهما انقطاع الفرد الغربوي عن تقاليده الثقافية الخاصة وخروجه من منظومة التوافق الوطني, الطريق المسدودة اللتان تسيران فيه. على إثر ذلك سينكشف أفق جديد مرتبط بإكساب هذه الحسية صفة اجتماعية جديدةً. وسنقتني من جديد جسداً بمنزلة أعضاء الروح عوضاً عن الجسدية المجرَّدة المستجيبة فقط لأكثر النبضات والإيقاعات والمهيجات بدائيةً الآتية من "صناعة المتعة" العالمية, وسنقتني حسية مندفعة إلى الأعلى لا إلى الأسفل, نحو أشكال الغرائزية الحيوانية البدائية.

لا يمكننا أن نتوقع إلا في سياق الوعي المازوشي الضارّ إلى أقصى حد ردَّ فعل مغاير على عنصرية الغرب الجديدة - أي إهانة الذات وشجبها. ينبغي أن نتوقع من جانب ذوي الطباع السليمة إلى حد ما رد فعل مختلف من حيث المبدأ. إن نقد الذات مقبول أمام شريك قادر هو نفسه على نقد ذاته وليس مستعداً لاستغلال نقدنا لذاتنا استغلالاً سيئاً. لكن نقد الذات أمام شريك يعلن منذ البداية حقه في أن يكون مختاراً واستثنائياً يتحول إلى إيماءاتِ موافقةٍ خانعة للقوي والوقح, وإلى شذوذ مازوشي.

انطلاقاً من ذلك علينا أن نتوقع تحولات جديدة في الحسية الجماهيرية. ستكون حسيةً تكشف من جديد عن المشهد الطبيعي الأم, وعن الثقافة الأم, واللغة الأم. أما تلك الحسية التي لا وطن لها لدى أولئك الذين أستعجلوا فنزعوا عن أنفسهم ثيابهم الوطنية وغسلوا علامات انتمائهم الثقافي الخاص فهي محرومة منذ الآن من كل جاذبية. فأن تنزع عنك ثيابك الرثة على أمل الحصول على زي جدي شيء, وأن تنزعها كي تبقى عارياً ومحتقراً ومنبوذاً فهذا شيء آخر. وهذا تحديداً ما يجري اليوم لأولئك الذين اسرعوا فتخلوا عن تقاليدهم الوطنية وعن أخوَّتهم السلافية وعن تماثلهم الأرثوذوكسي من أجل أن يتم قبولهم بأسرع ما يمكن في البيت الأوروبي, وفي دائرة المختارين. لقد وجدوا أنفسهم في وضع المنبوذين والمحتقرين عوضاً عن نادي المختارين.

في هذه اللحظة تحديداً تولد "الحسية الجديدة" لدى أولئك الذين لا زالوا محافظين على مشاعر الشرف والكرامة. يظهر نمط جديد نوعياً من الحساسية الانفعالية والانتخابية. تصير تلك السمات ذاتها, التي تتبين بوساطتها "الإدارة الاستعمارية" وحاملو ثقافتها ضحايا اصطفائيتها, السماتِ الأكثر صوناً والأكثر تكريماً وحتى الأسمى مكانة. لكن لكي يتحقق فعلاً إضناء الروح الجديد هذا وإضناء الحسية, ولكي يكتسب شكلاً إبداعياً بناءً, يحتاج الأمر إلى نخبة مضادة نشطة تحسن ملء جعبة الحسية الجديدة بمحتوى ثقافي لائق. إن المهمات الماثلة أمام هذه النخبة المضادة جسيمة؛ وهي تتلخص في إعادة تأويل برنامج الحداثة الغربي الآخذ في الانحطاط أمام أعين الجميع والمحفوف بالتحول إلى لاحداثة واصطفاء كوكبي جديد.

 

انبعاث فئة المثقفين باعتباره شرطاً للبديل الإنساني

تحدثنا سابقاً عن أن الثقافة الإنسانية المعاصرة مثلها كمثل الثقافة الفيزيائية تضم مسلمة حول ثنوية جسيمية تموجية خاصة. تقع في جهةٍ الظواهر الثقافية التي تمتلك طبيعة "تموجية". والحديث يدور عن نتاج المخيلة الإبداعية الحرة الذي يصنع خارج الطلب الإنتاجي المحدد والموجه إلى المستقبل البعيد نوعاً ما – أو إلى عالم القيم الذي لا يبحث عن تأكيدات من جانب الواقع, بل هو الذي يحاكمه بنفسه نيابة عن هذه المُثل أو تلك. إذا ما سحبنا ذلك على الظواهر التي من هذا النوع فمن اللازم فعلاً الحديث عن البنية التموجية والآثار التموجية. لا يمكن من حيث المبدأ حصر منبع مثل هذا النوع من الإشعاعات الثقافية بمعنى رابطة إنتاجية أو جغرافية دقيقة.

يدور الحديث عن الأفكار التي "تسبح في الهواء" والتي تتغذى بجو العصر العام ومنظومة توقعاته. ويكون فعل هذه الأفكار عندئذ ذا طابع إشعاعي عام: ينتظر أول الأمر جميعَ الغارقين في حقل التأثير الثقافي المناسب تحولٌ في الوعي يكاد لا يلحظ. باختصار, إننا نصطدم هنا فعلاً بطاقة حقل تشع بحرية في الفضاء وليس بعمليات من النوع الجبري المعتاد, حين تظهر نتيجة محددة رداً على سبب محدد.

ونصطدم بالإضافة إلى ذلك بالوصفات المعرفية المحددة التي نحصل عليها من منابع محددة رداً على طلب عملي محدد. يمكننا في هذه الحال الحديث عن الظواهر الثقافية ذات الطابع الجسيمي: إنها تسلك سلوك "الجسيمات" المحصورة في الفضاء بإحكام, والتي يمكن حساب مسارها ووصفه بيانياً.

يدور في الغرب منذ زمن طويل صراع ضار بين نوعي المعرفة هذين (والمجموعات الاجتماعية الواقفة خلفهما). وقد اتخذ هذا الصراع في الخمسينات والستينات شكل الصدام بين المذهب العلمي([2]) والمذهب اللاعلمي. لقد أظهر جيل التكنوقراطيين الجديد فاتورة الحساب للثقافة الإنسانية المتكونة, متهماً إياها بعدم المقدرة الشاملة على التكيف مع القرن التقني. تم اتهام الثقافة الإنسانية بعدم المقدرة على تقديم وصفات معرفية "مفيدة فعلياً", وتنفع في نقل هذه التكنولوجيا أو تلك.

لا زال الجيل الأقدم من الأوربيين يذكر جيداً تلك النقاشات الحامية التي دارت بخصوص دخول دول ذات تقاليد كاثوليكية – فرنسا وإيطاليا, ومن ثم شبه جزيرة البيرينيه السوق المشتركة, التي صار اسمها في ما بعد الأسرة الأوربية. كان شرط دخول السوق المشتركة المعلن هو التحديث – ليس الصناعي التكنولوجي والاقتصادي فقط, بل الثقافي أيضاً. ولم يخجل أنصار التحديث في فرنسا, مثلاً, من إصدار حكمهم على الثقافة الوطنية كلها متهمين إياها بالتقليدية غير القابلة للانصلاح وبتعصبها للبرقشة التزيينية وطلاقة اللسان و"الأبواق". مع العلم أن المحدثين الموجهين تكنوقراطياً لم يكونوا ميالين في الحقيقة إلى تسجيل أي فارق بين التقليدية – أي السلفية الفولكلورية – وبين الكلاسيكية الإنسانية, مثلهم في ذلك كمثل طليعة الجماليين في القرن العشرين. وقد كتب عالم الاجتماع والاقتصادي الفرنسي وأحد أشهر إيديولوجيي المحدثين جان فوراسته([3]) عن ذلك مباشرة: " لا يحسن الإنسان السلفي الذي يفكر بطريقة أسطورية وسحرية, وفرنسي الجمهورية الرابعة كذلك (!) إدراك الأشياء المحددة – إنه يدرك "الأفكار", ناسباً إليها قوة عجيبة"([4]).

وهكذا جرى الفصل بين التكنوقراطيين العارفيين "بالأشياء المحددة" من جهة وفئة المثقفين الإنسانية الشائخة التي تؤمن كالسابق بسحر الأفكار من جهة أخرى.

مع مرور الوقت تكاملت أوربا الكاثوليكية مع المنظومة التحديثية الأطلنطية وظهر محل الغرب المنقسم غرب متضامن, راح يظهر الآن كشف الحساب لثقافات العالم المتبقي. لم تعد النخبة التكنوقراطية هي المجسِّد للمشروع التحديثي العدواني, بل النخبة الاقتصادية, وبالدرجة الأولى المالية, التي راحت تدافع باستماتة عن الأشياء وتشهِّر بالأفكار.

لكن "الأشياء" الآن صارت تتمتع بسمة غالبة مختلفة: ما عادت الميزة التي تقدمها على "الأفكار" كامنة في قدرتها على التحول إلى تكنولوجيا بقدر قدرتها على التحول إلى نقود رنانة. صار الحد الفاصل الممتد منذ اللحظة بين ظواهر الطبيعتين "التموجية" و"الجسيمية" يفصل ما هو محسوب اقتصادياً وقادر على الإتيان بالفائدة ضمن المدد المحددة عن ما لم يجر التحقق منه اقتصادياً. مع الإشارة إلى أن نمط التحقق الاقتصادي لا يتطابق قط مع ما يتوقعه الفكر الطبيعي السليم. ليس المعيار الفعلي هنا هو تماسك المُعامِل المدروس. تُمنح الظواهرُ المنتمية إلى العالم الافتراضي, لكن القادرة على الإتيان بالفائدة, وضعَ الأشياء الواقعية, أما الظواهر التي قد يتجسد فيها منتج الطبيعة الحقيقي وكدح الناس الحقيقي فيمكن أن تبُخَس قيمتها حتى الصفر من قبل التقنيات الاقتصادية المعنية. بالتالي, فإن خط الفصل بين من يمكن نسبهم إلى فئة موردي المعرفة الجسيمية وبين من يتماثلون باعتبارهم مولدين لظواهر الطبيعة التموجية ما عاد اليوم يمر من حيث كان يمر من قبل.

صار طليعيو الحداثة السابقون – أي النخبة التكنوقراطية ورؤساء الإنتاج الصارمين ومتكبرو المذهب العلمي المستخفين بالإنسانية غير الصارمة, يجدون أنفسهم اليوم في مرتبة المهمشين والسلفيين. يتجلى هذا بأوضح أشكاله في روسيا. حين عبرت البرجوازية الجديدة عن حقدها تجاه رؤساء الإنتاج الاشتراكيين كان من الممكن الظن أن الحديث يدور حول صراع مبادئ: تنظيم الإنتاج الخاص وتنظيم الإنتاج الحكومي. لكن بعد مضي بعض الوقت تبين أن الحد الفاصل يقع في منطقة أخرى: بين مبدأ الإنتاج ومبدأ المضاربة والمقامرة لدى صانعي الربح "من الهواء".

كان من المتبع في فلسفة الثقافة فهم البرجزة على أنها تعبير عن الهَبَّة البروميثيوسية لمطوعي الطبيعة – أي تلك العملقة التي أوصى بها عصر النهضة. وبالتوافق مع ذلك تحدد وضع المعرفة العلمية الطبيعية "الدقيقة" المتميز بمفهوم الإنسان البروميثيوس الذي يتعامل مع المادة الطبيعية المقاوِمة. لم يكن الشيوعيون هم الذين ابتدعوا فكرة الدفاع المستميت عن الإنتاج المادي باعتباره مجال العمل الحقيقي, بل كانت مغروسة في عمق أحكام الثقافة الفاوستية الغربية, وفي فكرة تطويع الطبيعة. رأى إنسان الحداثة المبكرة في الطبيعة واقعيةً أصلية أو أولية, لا يمكن أخذها بالكلام المعسول – والأمر يحتاج إلى معرفة علمية صارمة. أما العلوم الإنسانية ففهمت على هذه الخلفية على أنها فن ذاتوي خالص يتعامل مع "الاصطناعيات" الثانوية والمجازيات والانفعالات.

 

اليوم تبدل كل شيء. اتجه برجوازيو التشكيلة الأحدث إلى عالم الذاتية الإنسانية المطواع مباشرةً, وما عادوا يقدرون عالياً المعرفة الأساسية السابقة بل الفنون الاحتيالية. "صناعة السوق", "صناعة المستهلك", "صناعة النقود" - ما عاد لأشكال الأفعال هذه كلها علاقة مباشرة بالمبدأ الإنتاجي, وبمعارك الإنسان البروميثيوس مع المادة الطبيعية. صارت الذاتية مبدأ النوع الجديد من الاقتصاد - أي اقتصاد المضاربات الاحتيالي. لقد جرى استنفاد الهبَّة البروميثيوسية النهضوية أمام أعيننا مع ظهور الاقتصاد الافتراضي الجديد. بات يُنظر إلى رؤساء الإنتاح القديمين المتعاملين مع "الصناعة" الحقيقية على أنهم سلفيون محجوبة عنهم إمكانات الذاتي اللامحدودة. كانت تكمن من قبل في أساس الأسواق الجديدة, عادةً, اكتشافاتٌ تكنولوجيةٌ جديدة تولِّد منتجات صناعية جديدة نوعياً. أما الآن فنرى في الغالب عوضاً عن ذلك توسعاً في إضفاء الشكل النهائي الجديد. صارت الحلول التكنولوجية القديمة تباع للمستهلك بشكل جديد يعتمد على حيل التصميم كلها والدعاية الواسعة.

على هذا النحو تقبع في أساس هذه السلعة الجديدة معرفة احتيالية, ما عادت موجهة إلى الطبيعة بل إلى حسيتنا المتبدلة والمخدوعة. يؤكدون اليوم أن قرابة 60% من سعر السلعة هو من نصيب الريع العقلي. لكن ينبغي أن ندقق: يدور الحديث في الأساس عن الريع الطفيلي. ففي أساس هذا الريع لا يكمن نمط العقل البروميثيوسي السابق الذي غاص بشجاعة في عالم المادة السفلي وأخرج منه الأسرار الجديدة؛ لا, الذي أمامنا هو عقل منحط غريب عن إنجازات العملقة السابقة ويفضل اللعب على النزوات ونقاط الضعف البشرية.

ينبغي على خلفية ذلك الاعتراف بتقادم فرضية العلم باعتباره قوة إنتاجية مباشرة. ما عاد مثل هذا العلم الموجه للكشف عن صفات أساسية جديدة في المادة يلزم الشركات المعاصرة. باتت مثل هذه الاكتشافات مكلفة جداً مالياً, والحصول عليها إشكالي دائماً. حتى أن نمط الباحث الجديد غير المعتاد على العمل في منظومة مستقلة تحمل اسماً مجازياً هو "الجامعة", بل في شركات علمية مرتبطة بطلبات السوق, أقل قدرة بكثير على التعامل مع المطامح العلمية السامية - إنه يفضل أخذ ما هو موجود بين يديه وما يعد بمردود سريع.

يتحدث عن أبعاد الانقلاب الحاصل في هذا المجال أحد التحولات الحاسمة التي تشهد على سقوط العلم الفاوستي في الخطيئة – أي عودته إلى الفترة ما قبل الكوبرنيكوسية. يدور الحديث حول مبدأ الدحض. ظهر نوع المعرفة الجديد الذي ينتمي في الحقيقة إلى المعرفة العلمية في الفترة الكوبيرنيكوسية حين التفت الباحث من الطراز الجديد إلى دراسة الطبيعة ذاتها مبتعداً عن المجادلات الكلامية, وتسلح بالتجربة والاختبار باعتبارهما وسيلتا التحقق من الفرضيات. يمتاز نمط المعرفة العلمي عن غير العلمي بأنه يخضع لمبدأ الدحض– أي يمكن التحقق من موثوقيته على أساس المراقبة والتجربة. أما أنواع المعرفة التي لا يجري التحقق منها فلا تعتبر علمية.

فما الذي نراه اليوم؟ إننا نرى توسعاً سريعاً على نحو غير عادي لنمط المعرفة التحايلي الذي يُبنى مسبقاً على نحو يستطيع معه تجنب مبدأ الدحض (التحقق الموثوق). لقد أعلن حاملو هذا النوع الجديد من المعرفة التحايلية غير المدحوضة, التي لا تزال مرجعيتها ("حقيقتها النهائية") غير مدركة من حيث المبدأ, عن أنفسهم في المجتمع وحظيوا بتأثير غير مسبوق فيه. أول تلك الشخصيات التي تلعب دوراً هائلاً في نشاط المؤسسات الاجتماعية وفي تشجيع نمط خاص من الممارسات هو الحقوقي. إذا قارنا الحقوقي السابق مع الحقوقي الحديث فإن الفارق سيبدو جلياً للعيان. كان نمط النظام الحقوقي السابق يجذب إلى مبادئ المعرفة العلمية العاملة ضمن المنطق الثنائي "نعم – لا". لقد وُضِعت القوانين الحقوقية على نحو يمكن معه التمييز بدقة بين السلوك الحقوقي والسلوك اللاحقوقي, وفي حال الجريمة الحكم على نحو محدد: مذنب
أو غير مذنب.

أما الآن فيصوغ الحقوقيون, الذين لا يخدمون فيميدا بل السوق, القوانين بشكل متناقض قصداً. هذا معناه عدم وجود أي علاقة مباشرة بين القانون والمواطن: تسلل إلى ما بينهما وسيط – مؤوِّل قادر على تفسير هذا المعيار الحقوقي أو ذلك في المجال الواقع بين "بريء" و"يستحق أقصى درجات العقوبة". يمكن الحصول على الجريمة ذاتها على عقوبة تتراوح من السجن لمدة عام إلى السجن المؤبد. على هذا الأساس لا يجري الإخلال إلى أقصى حد بتوازن المعرفة الحقوقية الفاقدة موجهاتها الدقيقة وحسب, بل يحدث أيضاً خلل شديد في توازن الممارسات الاجتماعية, التي باتت مطابقتها الآن والوصل بينها مستحيلان لأن المخرج الحقوقي الواحد مفقود. يفقد المجتمع القدرة على تشجيع الممارسات الشرعية وعلى معاقبة غير الشرعية منها بهدف القضاء عليها تدريجاً.

 

حدث مثل هذا التطور في المجال الاقتصادي كذلك. ثمة مكان هنا أيضاً لتوسع المعرفة غير المتحقَّق منها وغير المدحوضة والمنسلخة أكثر فأكثر عن الحقائق الموضوعية. لقد تحول المحاسب مثله كمثل الحقوقي إلى مفسِّر متمتع بصلاحيات واسعة جداً في تأويل الحقائق الاقتصادية. فمثلاً, كانت قيمة رأسمال الشركة في السابق تقوَّم على أساس قياس موجوداتها (الاحتياطي البضاعي المادي مضافاً إليه المديونية) والأصول الأساسية (المعدات الصناعية والممتلكات التي يزيد عمر خدمتها على عام واحد).

تضم اليوم قيمة الشركة جملة من العوامل المنتمية إلى "العالم الافتراضي". يدور الحديث عن تقويم التوقعات الاستهلاكية المتكونة حول الشركة المعنية وعن آفاق حصولها على القروض من هذا المصرف أو ذاك, وعن سمعتها بين الموردين والزبائن وعن تقويمات نوعية موظفيها الذين يعيشون في الوسط المنافس المحيط بهم وما شابه ذلك. تشكل سمعة الشركة اليوم, وفاقاً لبعض المعطيات, قرابة 82% من قيمتها السوقية. بالتالي يمكن التأثير على قيمتها السوقية هذه تأثيراً حاسماً بتنظيم تيارات المعلومات الملائمة عبر وسائل الإعلام وغيرها من القنوات لتغيير صورة الشركة بهذا الاتجاه أو ذاك.

كان تأرجح أسعار السوق مسموحاً في السابق, في العصر الكلاسيكي, لكن كان مفترضاًً عندئذ وجود مرجعية نهائية تعود إليها هذه الأسعار على هذا النحو أو ذاك كما يعود الأبناء الضالون إلى منازلهم تماماً. كانت في نظرية القيمة الكلاسيكية نفقات إنتاج اجتماعية ضرورية تضم الأرض والعمل ورأس المال. اليوم هذا المعيار الموضوعي مفقود. وما يسمى الريع العقلي الذي يؤثر تأثيراً حاسماً على سعر السلعة لا يتعلق في حقيقة الأمر بنوعية السلعة الاستهلاكية الحقيقية, بل يتعلق في الأساس بالمواصفات الرمزية التي تمس سمعتها. كما هو معروف فإن حامل سمات السمعة هي المجموعات المرجعية([5]), التي تعتبر مشرِّعة للموضة وزعيمة الرأي. فإذا أخذنا في اعتبارنا أن الغرب الاستهلاكي اليوم هو المجموعة المرجعية لمستهلكي السلعة في العالم كله فإننا سنفهم أن البضائع القادمة من الغرب تتفوق آلياً بالصورة وبالتالي بالسعر أيضاً.

 

لكي تكتسب بضائع البلدان غير الداخلة في عداد المجموعة المرجعية العالمية السمعة الاستهلاكية المناسبة يحتاج الأمر إلى اجتراح الأعاجيب الابتكارية. وبالعكس, لكي نكوِّن قيمة رمزية ملائمة في الغرب فإننا لا نحتاج إلى عبقرية خاصة – تعمل من أجل ذلك أنماط الوعي الاستهلاكي الصارمة وطاقة التقويمات والتوقعات الموافقة. على هذا النحو تختلف نوعية الريع العقلي ذاتها بين الشرق والغرب: المطلوب من السلعة القادمة من الشرق, من قبل البلدان غير الداخلة في المجموعة المرجعية الاستهلاكية, أن تحتوي في ذاتها فعلاً على حلول تكنولوجية جديدة وتحسيناً في النوعية الحقيقية. أما السلعة القادمة من شركات الغرب المرموقة التي يرتبط ريعها في الأساس بسمعة الشركات المشمولة بأوسع أشكال الدعاية, فلا تحتاج إلى أي شيء من هذا القبيل: تكفي بضعة حلول تصميمية لا تمس الجوهر بل الشكل.

هكذا يرتسم التفاوت في الريع العقلي المعاصر: فهو يحتوي في بعض الأحوال على معرفة جديدة حقاً وعلى حلول تكنولوجية وتصميمية, وفي أحوال أخرى يضم ذاتية الرأي المتحايل عليه والمتعلق بالرضى الرمزي.

لكن, ما عدا هذا الانقطاع, أصاب الاقتصاد المعاصر انقطاع أكثر اتساعاً: بين التيارات المالية والتيارات السلعية. عام 1996 قُدِّر حجم الصفقات اليومي بالعملة الأجنبية بتريليون دولار 15% منها فقط صبت في المجريين السلعي والاستثماري([6]).

فلنمعن الفكر في ماهية طبيعة هذه المعرفة التي تسمح باستخلاص الربح من المضاربات المالية, المنتمية إلى "الاقتصاد الافتراضي". واضح أن هذه المعرفة تختلف عن ذلك النوع المتحقَّق منه والموجَّه إلى الظواهر والحقائق الواقعية التي ترتبط بها صيرورة الحداثة الأوربية والاقتصاد المنتج والتقدم التقني العلمي. إن أمامنا نوع جديد من السحر, والأدق من الشعوذة, التي تختلف عن ممارسات الحداثة السامية من الناحيتين المعرفية والممارساتية الأخلاقية. إنه بالمعنى المعرفي موجَّه لا إلى الموضوعي بل إلى الذاتي – إلى الاحتيال على التوقعات الإنسانية؛ وبالمعنى الممارساتي الأخلاقي يدور الحديث عن حلول ممارسات إعادة التوزيع محلَّ الممارسات الإنتاجية.

إذا كان الرأسمالي هنري فورد([7]) في أثناء صيرورته غنياً جعل لكل أمريكي سيارة خاصة به فإن السيد سورس([8]) يترك أولئك الذين عمل معهم باعتباره رأسمالياً خاليي الوفاض بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد حصل أحدهما على الربح في أثناء عملية إنتاج حقيقية, في إطار اللعبة الاقتصادية ذات المحصلة الإيجابية, أما ربح الثاني فيعني الطرح من الآخرين, وكلما كان هذا الربح أكبر ازدادت خسائر هؤلاء الآخرين. لذلك حين يتحدثون إلينا عن الاقتصاد "المعلوماتي" الجديد, حيث يأتي الربح بنتيجة المقامرة بسعر صرف العملات وغيرها من تلاعبات المضاربات وإعادات التوزيع, فإن من حقنا أن نسأل عن طبيعة هذه المعلومة. إنها ليست المعلومة التي تكشف للإنسانية ما لم تكن تعرفه قبل الآن وما سيصير منذ الآن ملكاً أبدياً لها, وما سيدخل في حصالة المعرفة الكونية. بل العكس, فالحديث يدور عن الاحتيال, عن المعرفة التي تكوِّن توقعات كاذبة والتي تختفي ما إن ينقضي الأمر.

كان بمقدورنا الاكتفاء بإثباتات حيادية لو أن المضاربين بالعملات الصعبة قد أبقوا الأرقام الفلكية في العالم الافتراضي بعد أن حصلوا عليها. لكن الأمر كله ينحصر في أن النقود التي تم الحصول عليها في الاقتصاد الافتراضي ستشترى بها البضائع في الاقتصاد الحقيقي, الذي يتطلب الكدح وعرق الملايين من الناس الباقين من غير أي شيء. وكما أن المعرفة الاقتصادية الافتراضية من الناحية الإبستيمولوجية لا تتلاءم مع مبدأ الدحض – أي التقويم بغرض التوافق مع الواقع المبني على أساس مثل هذه المعرفة فإن العلاقات الاقتصادية لا تتلاءم مع مبدأ التبادل المتكافئ. لا يدور الحديث في هذه الحال عن التذبذب المؤقت حول السعر الحقيقي, بل يدور عن الخطين المتوازيين وغير المتقاطعين اللذين يتعلق احدهما بنفقات الإنتاج الحقيقية والآخر باللعب بالدرر.

لنلتفت الآن إلى نمط آخر من المعرفة المعاد دحضها – أي المعلومة التي توزعها وسائل الإعلام. تقوم وسائل الإعلام انطلاقاً من موقع العقل السليم والتوقعات السليمة بوظيفة إطلاع الجمهور بشكل فعال على الأحداث الجارية في العالم. أما في الواقع فإن خصوصية وسائل الإعلام هذه مقارنة بأنواع المعلومة السابقة تكمن في أنتاج المعرفة غير المدحوضة بالجملة.

أولاً, إن لها الحق في إكساب هذه الظاهرة أو تلك صفة الحدث: يصير ما تتحدث عنه بإلحاح وسائل الإعلام حدثاً هاماً بغض النظر عن الأبعاد الحقيقية لما حصل؛ أما ما تصمت عنه لسبب من الأسباب فلا يصير حدثاً قط – ويبدو الأمر وكأن ما حدث لم يحدث فنحن فلا نعرف عنه شيئاً.

ثانياً, تمتلك وسائل الإعلام إمكان إضفاء العلامات التقويمية "زائد" أو "ناقص" على الأحداث والسلوكات – ومرة أخرى بغض النظر عن المعنى الحقيقي لما حدث والنتائج الحقيقية المترتبة عليه. يعتبر الصحافيون والمعلقون العاملون في وسائل الإعلام المفسرين لمغزى ما حدث والمفككين لشيفرته مسترشدين باعتبارات مختلفة – أوامر السلطة, إرادة الزبائن الأغنياء أو مالكي وسائل الإعلام أو صانعي الدعاية فيها, المصالح الداخلية في الشركة. ومهما كان الأمر فإن الخاسر هو القارئ والمشاهد العادي, فهو, بخلاف المرجعيات المذكورة أعلاه, محروم من إمكان صياغة طلبه للمفسِّرين من وسائل الإعلام. لذلك فإن مخيلتهم التفسيرية لا تحصل على النبض الملائم وتتجه في وجهة مختلفة تماماً.

وعلى هذا النحو أو ذاك فإننا لا نتعامل في حال وسائل الإعلام مع صوت الواقع نفسه بل مع تحويل هذه الأشكال أو تلك إلى لوبيات – مما يتعارض مع مبدأ التمثيلية.

إننا نتعامل مع ظاهرة جديدة بديلة لتلك التي ميز ظهورها الحداثة. تَحدَّد عصر الحداثة على أساس توحيد المعرفة الدقيقة (المتوافقة مع مبدأ الدحض) مع الإنتاج المادي. هكذا ظهرت منظومة الإنتاج الموسَّع – أي الاقتصاد في شكل اللعبة ذات المحصلة الإيجابية. أما اليوم فإننا نلحظ عملية معاكسة: توحيد المعرفة غير المدحوضة (غير المتحقق منها) مع الممارسات المضارباتية الإجرامية التي تولد الاقتصاد الطفيلي باعتباره جملة من الألعاب ذات المحصلة المساوية للصفر (ربح بعضهم الأعظمي يعني إفقار الآخرين الأعظمي).

إننا نشاهد عملية بناء هرم أرضي على غرار هرم "МММ" الشهير, الذي يستولي على قمته من يدير لعبة المضاربات الافتراضية هذه. لكن هذا لا يعني أن كل الفوارق بين المعرفة الحقيقية والافتراضية مثلها كمثل الفوارق بين الاقتصاد الحقيقي المنتج واقتصاد المضاربات ستختفي نهائياً. فلحظة الحقيقة ستحل عاجلاً أم آجلاً, لكنها ستكون من نصيب أولئك الموجودين عند قاعدة الهرم والذين سوف يكون لزاماً عليهم تحمل العواقب. إن هذه الأغلبية تحديداً هي صاحبة المصلحة الحقيقية في العودة إلى المعرفة الحقيقية والاقتصاد الحقيقي المنتج.

اليوم تتقرَّر حرفياً مصائر الحداثة, وهذا معناه مصائر العالم. هل سيقدر للعالم أن يعود نهائياً إلى الاقتصاد الذي يغتني بعضهم على حساب إفقار بعضهم الآخر, أم أن الحداثة قد تلتقط نفساً آخر – مع تجدد الهبَّة الإبداعية الفاوستية؟

للإجابة عن هذا السؤال يلزمنا أن نقوِّم مرة أخرى ظاهرة البرجوازيين الجدد, والأسس السوسيوثقافية العامة لممارساتهم الاقتصادية. إن للتخلي عن الاقتصاد المنتج والالتفات إلى أعمال المضاربات المرتكزة على أنواع المعرفة غير المدحوضة أساسين على أقل تقدير. فمن جهة نفاد منابع النزاهة الأخلاقية والمثابرة ما كوَّن شخصية قليلة الصبر عصابيةً وغير قادرة على بذل الجهود المنهجية واتباع إستراتيجيات "المتعة المؤجلة".

إننا نرى في كل مكان - في الكدح ومجال الأعمال وفي العلاقات العاطفية هذا النمط الغائي الساعي إلى الحصول على كل شيء من غير جهد, ومن غير آمال يملؤها التوتر ومن غير ذلك "الصبر العظيم" الذي يقبع في أساس جميع الإنجازات الإنسانية الراسخة على هذه الأرض. يبين "الغريب" الموصوف أروع وصف من قبل ألبرت كامو([9])هذه الصيغة من العلاقة المتبادلة بين الإنسان والعالم. البرجوازي الجديد في جوهوه هو هذا الإنسان الغريب ذو الوعي المهاجر أو الاستعماري الذي لا شأن له بما سيحدث في ذلك الوسط الذي مسته ممارساته المدمرة. البرجوازي الجديد هو ليس ذلك العصابي اللذوي الخائف من بذل الجهود الحقيقية وحسب– إذ تشاطره هذه الصفة أنماط معاصرة كثيرة أخرى؛ إنه أيضاً المحلل المستهتر غريب الأطوار الذي يحدد نقاط الضعف البشرية لكي يستغلها ومن ثم مغادرة هذا الوسط أو هذه البلاد في الوقت المناسب.

ومن جهة أخرى تسود الألعاب الجديدة ذات المحصلة المساوية للصفر, المستندة إلى النهب والخداع, حيث ينفد الإبداع العلمي الحقيقي, الذي يفتح آفاقاً جديدة أمام العمل والإنتاج. اعتاد الإنسان المعاصر – وهو الإنسان الغربي أو المصاب بعدوى الأنموذجات الغربية والمفتون بها - على فكرة التقدم كما يعتاد على أمر ما مضمون آلياً ومهدى له من قبل التاريخ والزمن ذاته. ما عاد يحسب حساب المقدمات الحقيقية للتقدم – أي المقدمات الأخلاقية, المرتبطة بالامتناعات بهدف المراكمة, والمقدمات الفكرية المرتبطة بالاكتشافات التقنية العلمية الهائلة. وها هو قد شرع الآن, حين راح هذا النوعان من المقدمات ينفدان, وخصوصاً في الغرب, يلبي أكثر فأكثر حاجته السابقة إلى الاقتناء وتحسين وضعه بأساليب غير شرعية مرتبطة بممارسات الظل والممارسات الإجرامية.

باختصار, تفرض الثورة الإجرامية العظيمة نغمتها حيث نفد نبض الثورة التقنية العلمية بينما ظلت محافظة على نفسها تماماً أحكام أخلاق النجاح المعتادة.

يكمن السؤال – وهو حقاً سؤال عصرنا الأساسي – في أين نجد منابع جديدة لروح المواظبة والمسؤولية الأخلاقية والهبة الإبداعية الفاوستية, القادرة على تقديم اكتشافات علمية عظيمة على امتداد العصور كتلك التي ميزت الحداثة الأوربية؟

لقد ربطت نفسها اليوم جميع النخب الحاكمة – الاقتصادية والسياسية والفكرية, بالمعرفة الافتراضية وبالممارسات الافتراضية. تنظر النخب الجديدة إلى سهولة اقتناء الخيرات عن طريق إعادة توزيع الموارد العولمية على أنها امتياز شرعي لها: فهي بالأساس نخبة لتحصل عليها من غير بذل الجهود اللازمة لذلك. تقوم على هذا الأساس أزمة الحضارة غير المسبوقة, وقد أدى إليها انقطاع الوفاق الاجتماعي الرابط بين أسفل المجتمع وأعلاه والذي يلزم الطرفين بالانصياع للقانون والتزام السلوك الحضاري. تسعى النخب الجديدة المستغِلة للمعرفة الافتراضية غير المرتبطة بالمواجهة العملاقية للمادة كما حدث في عصر الحداثة الكلاسيكي, بل بالقدرات الاحتيالية لدى أمثال تارتيوف([10]) الجدد المخادعين الذين يضللون الوسط المصدق المحيط بهم, إلى تثبيت الوضع الراهن بكل قواها.

إن أولئك الذين يروجون اليوم "للأنموذج البينوشيتي" – أي الحكم المستند إلى الديكتاتورية, إنما يثرثرون بالمآرب العولمية. يتلخص الأمر في أن الفصل الأول من المسرحية المطلوبة قد أنجز: استطاعت "الإصلاحات الليبرالية" أن ترمي إلى القاع مئات الملايين من الناس. يمكن تضليل هؤلاء الناس خمس سنوات وحتى عشر سنوات أخرى بتخويفهم من الماضي الشمولي واستمالتهم بالحريات الديمقراطية. لكن قرض الثقة الممنوح من قبل النخب ما بعد الشمولية (تنتمي إلى عدادها أيضاً النخب الغربية الحاكمة التي جنت ثمار الانتصار على المنافس الشمولي) قد نفد تماما اليوم. والمطلوب الآن ديكتاتورية مباشرة, للحفاظ على النظام الاقتصادي الاجتماعي المناسب للنخب الليبرالية الحاكمة.

حان الوقت أخيراً كي نفهم أين تكمن ليبرالية هذا النظام: يدور الحديث عن تفكيك تلك القيود والموانع والتوازنات التي فُرضت على الطبقة البرجوازية وألزمتها بالسلوك الاجتماعي المسؤول. إن هجوم الليبرالية البرجوازية المركَّز على الدولة قائم لأن هذه الدولة صارت اجتماعية وتجبر المستثمرين على هز جيوبهم وتسديد النقود على الضمان الاجتماعي وأخذ مكتسبات الجماهير الاجتماعية بعين الاعتبار. على هذا النحو لا يدور الحديث عن الاستياء الليبرالي النزيه من الإكراه الحكومي والعراقيل البيروقراطية, فالليبراليون يدعمون صراحةً استبداد النمط البينوشيتي؛ بل يدور عن انتفاضة البرجوازيين كرد على انتفاضة الجماهير السابقة التي أنجزت بناء الدولة الاجتماعية والتوافق الوطني.

لهذا السبب ذاته أيضاً صارت الأمم وما تتمتع به من سيادة هدفاً للنقد الشديد. يريد البرجوازيون الجدد بشتى الطرق تحطيم التوافق الوطني المتكون, وإقامة مكانه إما ديكتاتورية (على الطراز البينوشيتي), وإما تدمير السيادة الوطنية من أساسها والاستعاضة عنها بوصاية عولمية تُفرَض على الأمم غير المطيعة (بما في ذلك أمتهم الخاصة, فلدى البرحوازيين الجدد لا يوجد وطن مثلهم في ذلك كمثل بروليتاريي ماركس). يستخدم البرجوازيون العولميون تجاه الأمم المقاومة تدابير افتراضية أنتِجت في ممارسة الخصخصة والاحتكار. إذا كانت سمعة الشركة تشكل كما نذكر 80 % من قيمتها فلإفلاسها ومن ثم شرائها بأسعار بخسة ينبغي تشويه سمعتها.

لقد صارت روسيا اليوم تلك الشركة العملاقة التي توجه ضدها جهود اللاعبين على التخفيض. باتت تلطخ سمعتها بالوسائل كافة. فمن جهة تفعل هنا فعلها مازوشية بعض مجموعات المثقفين الروس العارفين "كم هو لذيذ كره الوطن". ومن جهة أخرى تحدث هذه النشوة المنظمة كلها المرافقة لجلد الذات وإهانتها بحضور مراقبين استراتيجيين من الخارج يحسنون نقل هذا كله إلى لغة الأرقام, لأن سمعة الشركة المفقودة كما نذكر تعني انخفاض قيمتها في المزاد المقبل. يعرف ملطخو سمعة شركتنا أن سمعة البلاد المفقودة تعني انخفاض مكانتها, وتشديد شروط القرض, وإلغاء التفضيلات التجارية, وأخيراً, فقدان الحلفاء الحقيقيين والكامنين والوقوع في العزلة الدولية. كما نرى فإن المعرفة الافتراضية (غير المدحوضة) يمكن أن تستغل بنجاح لا في الألعاب المالية وحسب, بل في الألعاب الجيوسياسية أيضاً.

يدل هذا كله على وجود قوى هائلة في العالم المعاصر ليس لها مصلحة في التطهير الإبستمولوجي للحقل الإعلامي المعاصر – أي العودة عن المعرفة غير المدحوضة إلى المعرفة البديلة العلمية والموضوعية. إنها تستغل ضعف إنساننا المعاصر – عدم مقدرته على الكدح الحقيقي وبذل الجهود المدنية وانكسار نفسه وضمور أجنحة مخيلته الإبداعية. إنها تقول له: إننا نقبلك كما أنت – فابق على ما أنت عليه. أولئك الأخلاقيون – الأصوليون هم الذين يطلبون منك مآثر التحول الأخلاقي وتطهير الروح ويدعونك إلى الامتناع والتقشف, وإلى التعبئة الجديدة. أما نحن فليبراليون تماماً في هذا المجال– إننا مستعدون لأن ندع هذه العمليات كلها وأن ندع هذه الألعاب على التخفيض جميعها تسير سيراً طبيعياً – إلى أن تفقد الحسية المتحررة من قيودها كلها صفتها الاجتماعية نهائياً.

أما بخصوص الصدامات داخل النخبة الفكرية – أي بين أتباع المعرفة العلمية الموضوعية القدامى وأنصار المعرفة الافتراضية غير المدحوضة فثمة لدينا فلسفة قادرة على التشهير بالأوائل وتشجيع الأخيرين.

يدور الحديث عن فلسفة ما بعد الحداثة. إنها هي تحديداً التي تؤكد على نحو صريح ومباشر على عدم وجود أي إجراءات لدى الثقافة المعاصرة بكاملها تسمح بالتمييز تميزاً موثوقاً بين الحقيقة والاختلاق, بين المعرفة والأسطورة, بين الفضيلة والرذيلة, بين الجميل والقبيح. لا بل أكثر من ذلك: النسق الثاني يحظى بالتفضيل أكثر من النسق الأول, فالحقيقة والمعرفة والفضيلة والجمال ساكنة, بينما الاختلاق والأسطورة والرذيلة والقبح ديناميكية لأنها تشعر بعدم اكتفائها بذاتها. إنها تكوِّن مجتمعةً ديسبورة من نوع خاص, مدسوسة في المجتمع المتكوِّن وتتواجد ضمن حيز الملاحظة. والموجود ضمن حيز الملاحظة يحتاج إلى مهارة وحيلة وفطنة أكبر من ذلك الذي تلاحقه الرقابة الاجتماعية والأخلاقية. لذلك تكون الأفضلية لكل ما هو منحرف وخاطئ ومثير للشك - فالعالم المعاصر يستمد ديناميته منه.

لقد أوجزنا هنا بيان ما بعد الحداثة من غير أن نلجأ إلى تزويق – يتم تأكيد كل شيء على هذا النحو حرفياً. لكن المعنى المبطن موجود طبعاً: ألعاب ما بعد الحداثة كلها هي ألعاب ذات محصلة صفرية وبالتالي سيضطر العالم إلى أن يدفع ثمنها عاجلاً أم آجلاً. يتلخص الأمر في أن من سيضطر إلى الدفع هو الأغلبية الصامتة الواقعة عند قاعدة الهرم - "МММ"؛ تستطيع الأقلية كثيرة الصراخ أن تسمح لنفسها بالقيام بالتجارب ما بعد الحداثوية واضعة في اعتبارها أن الذي سيدفع الثمن هو ذلك المحكوم عليه بالصمت.

فمن أين علينا أن نتوقع نهاية هذه اللعبة ما بعد الحداثوية المثيرة التي تكاد تحول تقريباً الممارسات المعاصرة كلها إلى لعبةِ نزعِ ملكيةٍ ذات محصلة صفرية, وإلى رهان مهول يموَّل فيه ربح القليلين الظاهري من إفلاس المتبقين؟

ينبغي أن نبين أن التوجهات المذكورة كلها, القادرة على صدم من لا زال يذكر أفضل وعود الحداثة, لم تبدأ تتجلى اليوم. لكن منطق سلوك البرجوازيين تجاه مواطنيهم "الأقل قدرة على التكيف", مثله في ذلك كمثل منطق سلوك الغرب تجاه اللاغرب لم يتجل بمنهجيته ووضوحه الكامل خلال فترة من الزمن. لقد منعته من ذلك التوازنات المعروفة المتمثلة بالحركة العمالية المنظمة من جهة, والدولة العظمى البديلة, التي كانت تهدد باستمرار نار الثورة العالمية من جهة أخرى. ما إن انهارت العوائق المذكورة أو أضعفت إلى أقصى حد حتى تجلت الشخصيتان التاريخيتان المشار إليهما – البرجوازي والمستعمِر العنصري– بأبهى حللهما.

صارت تُستخدَم الخطابية المعادية للشمولية من قبلهما للتشهير بكل ما كان يحد من شهيتهما من قبل. وصارت معاداة البرجوازية, باعتبارها مقولةً ترمز إلى وجود البديل, محرمة الآن, وسرعان ما صار الليبراليون "التعدديون" لدهشة الجميع "وحدانيين". يتحدثون عن حقوق الإنسان وينفون حقه بالحياة, حارمين إياه من الضمان الاجتماعي والأجر؛ يتحدثون عن الديمقراطية ويدسون في الحال الديكتاتورية "البينوشيتية". يوقفون العمل بحكم الإعدام على المجرمين لكنهم يطلقون النار على البرلمان ويقصفون المدن الآمنة. يتحدثون عن سيادة الشعب ويعلنون في الحال أن "هذا" الشعب لم ينضج من أجل الديمقراطية. يستاؤون من "ثقافة المعونات", التي تولِّد المستجدين الكسولين, لكنهم يشجعون عمليات النصب المالية الضخمة, التي تسمح لمن لا يقلون كسلاً, والأوقح بكثير, بجمع المليارات "من الهواء" حارمين منها الملايين الكثيرة من جماهير العمال.

واضح هنا أننا نتعامل مع استخدام فيه الكثير من التحدي للمعايير المزدوجة تجاه "الأتباع" و"الآخرين". واضح كذلك أن هذا لا يمكن أن يستمر إلى اللانهاية. تُستَشف من نشاط البرجوازيين "الجدد" هذا كله, مثله كمثل نشاط الغرب الجديد "أحادي القطب", عجلة مرضية محمومة – يستشف هاجس من أن الفرصة السانحة قد تنتهي سريعاً وينتبه ضحايا الخداع وينتظمون بهدف المجابهة. وما الديكتاتورية "البينوشيتية" وعالم القطب الواحد (أي الديكتاتورية العولمية) إلا وسيلتان من أجل قمع الأغلبية الجديدة المرمي بها من الحداثة إلى السلفية. هذا معناه أن الأغلبية إذا ما أدركت مصالحها على نحو صحيح فسيكون عليها بذل الجهود ضمن اتجاهين:

أ) حماية الحداثة من ذلك الذي يشوهها بمحاولاته الاغتصابية, محولاً إياها إلى عكسها – أي إلى امتيازات فئوية وعرقية.

ب) تقديم تأويل جديد للحداثة, لأن ثمة ما يدعو إلى الشك بأن سقوط الحداثة في الخطيئة لم يتم مصادفةً – ففيها عيب ما لم يطف إلى السطح إلا اليوم.

واضح أن ما تفعله اليوم الأقلية عديمة الحياء بالأغلبية التي وجدت نفسها ضعيفة ليس عادلاً. لكن على العدل واللاعدل باعتبارهما مقولتين أخلاقيتين في عصر الحداثة أن يحظيا بالاستحسان من جانب المعرفة العقلانية وأن يحصلا على إقرار منها.

 ما هي الإقرارت المثبتة عقلانياً التي يمكن أن تستخدمها الأغلبية بحق الأقلية التي اغتصبت التقدم نفسه وحولته إلى امتياز؟ علينا, كما يخيل لي, أن نتمتع بأكبر قدر من صمم الرضا عن الذات, حتى لا ندرك أن ثمة انفجار تحولي هائل قد بدأ ينضج في الثقافة المعاصرة – إنه رد الفعل على تطرف عالم القطب الواحد اللامعقول من جهة وعلى تطرف ديكتاتوريات الحزب الواحد "الاقتصادية", المحرومة من التوازن الاشتراكي الديمقراطي من جهة أخرى. ربما لن يتخذ رد الفعل هذا شكلاً سياسياً مباشراً. فردود فعل الثقافة "التماوجية" تتفوق على ردود فعل السياسة "الجسيمية" – القابلة للرؤية باستحالة منعها بالوسائل القمعية. تظل الثقافة محافظة على وضع الكنيسة المستقلة الذي تتمتع به – أي لها الحق في حرمان الأقوياء من دخولها.

يخيل أن رد فعل الثقافة الرئيسي الذي ينبغي توقعه في القريب العاجل هو رد الفعل على اللاأصالة. إن خلاصة هذه اللاأصالة هي عالم الاقتصاد الافتراضي. تتأسس اليوم مدرسة ما يسمى الاقتصاد الفيزيائي([11]), الذي يواجه مباشرة بين قيم الاقتصاد المصرفي الأحدث المضخَّمة والمؤشرات الطبيعية, المرتبطة باستهلاك مواد الطبيعة وقوى العمل. واضح أن الاقتصاد الفيزيائي سيكتسب في القريب العاجل تأثيراً فكرياً في معسكر المهزومين لا يقل عن تأثير الاقتصاد السياسي الماركسي الذي كان فيه في وقت من الأوقات.

أغلب الظن أنها ستحصل على اسم المدرسة القارية, أو حتى الحركة القارية. تحدثنا سابقاً عن المواجهة الجيوسياسية بين البحر والقارة, التي يحض فيها البحر تحديداً اليوم على العمليات الافتراضية والاحتيالية – أي على المعرفة غير المدحوضة. سيكون المبادرون هنا دائماً أولئك الذين لديهم موارد طبيعية أقل واستعداد أقل لبذل الجهود الكدحية الحقيقة من أجل تحقيق طموحاتهم المبالغ بها. ليست الأطلنطوية اليوم مفهوماً سوسيوثقافياً وجيوسياسياً وحسب. إنها تعني كذلك وسطاً خاصاً صالحاً لترعرع الألاعيب والأساطير الافتراضية.

وبالعكس, فالقارة الأوراسية مدعوة للدفاع عن "مبدأ الواقعية", بمواجهة "مبدأ المتعة" الأطلنطلي به. إن واقعية القارة - هي موارد طبيعية هائلة وموارد بشرية لا تنضب إذا ما أخذنا الهند والصين بالاعتبار.

أما في ما يخص روسيا ودول منطقة المحيط الهادئ الأسيوية الصناعية الجديدة فإن فرصتها الاقتصادية الخاصة هي اليد العاملة الرخيصة, لكن المؤهلة تأهيلاً عالياً والمدربة. يشكل تضافر رأس المال الطبيعي الهائل والرأسمال البشري أساس اقتصاد القارة الفيزيائي, المواجه لاقتصاد المضاربين الماليين العولميين الطفيلي.

السؤال الأساسي هنا هو هل يعتبر الاقتصاد الفيزيائي في حسابات الثقافة الكبرى سلفياً أم أنه, على العكس من ذلك, فائق المعاصرَة. إنني أتنبأ بتكوّن مدرسة فلسفية طبيعية جديدة توحد المجرِّبين الطبيعيين, والاقتصاديين والأخصائيين في مجال التسويق والمختصين في العلوم الإنسانية – بناة الأنماط المرموقة والمغرية, التي ستكون وظيفتها الحط من قدر صناعة المقلدات والبدائل المضرة بصحة الإنسان الجسدية والأخلاقية. ستكشف هذه المدرسة عن جدارة المنتجات الطبيعية في تناسبها الغامض مع متطلبات الجسد والروح البشريين, المساوي تماماً لتناسبها مع متطلبات العصر العامة المتعلقة بالموثوقية والأصالة. وكما تذكر الرواقيون المتأخرون الإيونيين – أي المدرسة الفلسفية الطبيعية في الحضارة القديمة المبكرة, إذ وجدوا فيها الترياق الشافي من زعزعة الانحطاط الهلنستي, سيترتب على عصرنا أن يتذكر الفلاسفة الطبيعيين في عصر النهضة ويتحالف معهم في صراعه مع "العالم الافتراضي" الحالي.

وهنا سيترتب على المدرسة الفلسفية الطبيعية أن تصطدم مع أساتذة الفن الافتراضي مباشرة - أي مع مؤسسي "الريع العقلي" كثيري العدد, هذا الريع الذي يرفع أضعافاً مضاعفة سعر تلك المقلدات والبدائل, التي "إذ اختارها (الغرب) حرفة نافعة" يرضي بها "ذوق الجائعين"([12]) من السكان الأصليين الساذجين الذين يحسبون المزيَّفات "المرموقة" ثروة حقيقية. ليس لمؤسسي "الريع العقلي" المعاصر في أغلب الأحوال أي علاقة بإنجازات المخيلة العبقرية, التي أدت إلى تحليق الحداثة الكلاسيكية العلمي التقني. إن حب الاطلاع الفاوستي الأصلي النافذ إلى أسرار الطبيعة قد استبدلت به منذ زمن المراوغة الاحتيالية التي ما عادت تستطلع الطبيعة بل نفسية الإنسان المعاصر غير المستقرة.

ينبغي القول إن النمط البرجوازي المضارباتي المعاصر في خصام شديد مع الوسط البحثي للنمط الفاوستي, مفضلاً عليه التحالف مع حشد المصممين وصانعي الصورة الكبير, الذين تنحصر مهمتهم في دس السلعة السيئة للمستهلك في تغليف معاصر. لا زال الضغط على هذا الحلف من الأسفل, من جانب المستهلكين المستائين والمنتجين النزيهين, غير كاف من أجل إسقاطه. للفوز بالمعركة مع العالم الافتراضي من الضروري تحديد المهام في معسكر فئة المثقفين المبدعين. على ذلك القسم الذي لا زال محافظاً على الهبَّة الفاوستية والأخلاق المهنية الحقيقية, أن يدافع عن ما هو علمي حقاً ومتوافق مع مبدأ دحض المعرفة من ضغط الشعوذة الجديدة التي تخدم سحرة صناعة الأشكال الاحتيالية وأولئك الذين يضعون أنفسهم تحت تصرفهم بشهوانية مازوشية.

ستبني المدرسة الفلسفية الطبيعية المقبلة نمطها الثقافي الخاص المتميز برفضه لكل ما هو اصطناعي – كما في منتجات الطلب اليومي كذلك في العلاقات الإنسانية والممارسات الاقتصادية والسياسية. سيصير تابعاً لهذه المدرسة كل من يثير فيه المحتالون و"محركو الدمى" النفور , وكل من يثمن صحوة وعيه وفكره السليم وكرامته. فالصناعة الاحتيالية المعاصرة تعتدي في الوقت نفسه على سلامة فكرنا وعلى كرامتنا, لأن في أساسها تكمن الموضوعة التي تنص على أن من لا ينتمون إلى عداد المختارين لا ينبغي أن يكون لديهم كرامة.

هنا تحدث مواجهة بين مقولتين أنثروبولوجيتين: الحسية السليمة التي تدعو بحزم إلى التماس الأصيل مع العالم والحسية الانحطاطية العصابية المتعطشة إلى التأثيرات الإدمانية وخداع الذات. تشد الأولى إلى الكونية المشرقة, وإلى الطبيعة باعتبارها منبع كل ما هو متناغم وموثوق؛ وتشد الثانية إلى العالم الافتراضي الذي يولد التأثيرات الإدمانية. ينبغي أن يطال هذا التفريق النخبتين الاقتصادية والعلمية, فيعاد الاعتبار إلى قادة الإنتاج والخبراء والمنظِّمين الذين ربطوا مصيرهم بالاقتصاد الفيزيائي الذي بنتج بضائع وخدمات حقيقية والذين يدفعون اليوم إلى الغيتو من قبل رجالات الاقتصاد الافتراضي. وستحدث في المجال العلمي صحوة جديدة لذلك الوسط البحثي المدعو إلى استكشاف أسرار الفضاء العميقة وإنزال النار الكونية إلى الأرض – على شكل منابع طاقة وتكنولوجيات جديدة.

إن طاقة الهبَّة الإبداعية الفاوستية مرتبطة بنبض الثقافة التماوجي – أي بومضات وتألقات تلك الأفكار التي تتولد بفضل الإلهام الحر, وليس تحت إملاءات السلطة السياسية أو الاقتصادية. حين نتحدث عن الأبحاث الأساسية بالمعنى الخاص للكلمة, فإننا نقصد نوعين من الغوص – الغوص في أعماق المادة والغوص في أعماق الحرية. إن هذا وذاك متطابقان على نحو غامض. إن الاستجابة المداهنة والعجولة للمتطلبات النفعية تكتفي دائماً بالمعرفة الملطِّفة – أي بما يوجد على السطح وينفع في أحسن الأحوال من أجل التصحيحات الجزئية – أي "عقلنة" ما هومعروف ويحظى بالرضى.

لقد صار الإنسان الغربي أحاديُ البعد أحاديَ البعد لأنه فقد القدرة على الدفاع عن عالمه الداخلي من تدخلات العلانية العارفة بكل شيء ومن طالبي النافع والممتع. صارت الثنائية الجسيمية التماوجية في الثقافة, التي يتغذى فيها الجسيمي - المتحول إلى سلعة, من طاقات الإبداع الحر التماوجية, تختفي في مجتمع الغرب المعاصر أحادي البعد. لا يعني هذا أن المبدعين من التشكيلة الأساسية السابقة ما عادوا موجودين هناك. بل يعني وحسب أنهم راحوا يصيرون غرباء في وطنهم. إن انتشار النهج المنظوماتي الوظيفي الذي يدعو الجميع إلى تنفيذ الوظيفة المعطاة وإلى خدمة المنفعة لا يترك أوقاتاً أو ثقوباً حيث يمكن للانطوائية الإبداعية المحشورة في الركن أن تختبئ فيها وتلتقط أنفاسها مرة أخرى.

فلنحاول تدقيق مفهوم الفئة المثقفة (الإنتلجنسيا), الذي صار اليوم كلمة نابية على شفاه شتى أنواع الوظيفيين والنفعيين. فئة المثقفين هي تلك الشريحة من الناس المرتبطين مهنياً بجو الإنتاج الروحي والذين يُخضِعون نشاطهم للمبادئ التالية:

أ) خدمة الحقيقة, وليس المنفعة: النفعية هي ما يرافق الحقيقة حتماً, لكن كنتيجة فقط لا كمقصد؛

ب) تثمين الرسالة غير الشكلية التي تقع على عاتق أسرتهم المهنية واعتبارها أسمى من جميع الأوضاع الرسمية والجوائز والتشريفات؛

ت) مواجهة ضغط المعاصَرة ومعاييرها الصارمة بالتقاليد الكلاسيكية, المعتبرة شريكة ضد متطلبات الأوضاع المتقلبة. ثمة لكل مجال من مجالات الإنتاج الروحي كلاسيكيته الخاصة التي تظل مقياساً سامياً ومنبعاً للقدرة الأخلاقية على المقاومة.

ث) أن تكون "واقعية" بالمعنى الفلسفي للكلمة, لا أن تكون اسمانيةً, أي أن تشرح الخاص على أساس الكلي (العام), وليس العكس.

يستحق الأمر التوقف عند البند الأخير, لأنه, تحديداً, قد يواجه الاعتراض الأكبر. يتلخص الأمر في أن المعرفة الدقيقة تدين بولادتها للتخلي عن مبادئ الحكمة التقليدية المتطرفة: يفضل العلم الفاوستي, عوضاً عن البدء بإدراك الكلي, أن ينحدر بالمعقد إلى البسيط, وبالكامل إلى الأجزاء وبالحي إلى غير الحي. لقد أعطت هذه اللعبة على التخفيض – التخفيضية العقلانية – ثمارها, لكن تبين أن النفقات كانت عظيمة: تماوت الطبيعة الذي أدى إلى أزمة بيئية, وإلى ضياع الفهم المتكامل المؤدي إلى تجزيئ المعرفة تجزيئاً لا نهائياً, والفاقد الأفق العام, وإلى نفاد كمون الأفكار الأساسية.

ليس في مقدور العلم الغربي معالجة هذا المرض إلا إذا التفت من جهة إلى وصايا كلاسيكية العهود القديمة, ومن جهة أخرى إلى موروث الحكمة الشرقية العظيمة. لقد قدمت معرفة العهود القديمة, قبل أزمتها في العصر الهلنستي المتأخر, العام على المنفصل, ووضعت الجوهر المخفي في أساس الظواهر. يدور الحديث في الأنموذج القياسي الأفلاطوني عن الأفكار الأولية قياساً على الأشياء والظواهر التجريبية, أما في أنموذج ارسطو القياسي فيدور عن الأشكال التي تنظم المادة. إن أمامنا في الحقيقة عقيدة الأصولية العلمية, التي تطلب اليوم أيضاً سبر أعماق الظواهر, وهناك, تحديداً, إيجاد وحدتها الخفية – أي عمومياتها الأنتولوجية.

قررت الثقافة في الحداثة المتأخرة أن تستغل الظواهر بالمفرق – أي من غير انتظار إيضاح مغزاها الأصلي العام. لقد أعطى هذا الأمر نتائجه المتقلبة, لكن اليوم تحديداً حان الوقت لدفع ثمن هذا التقلب. إذ صارت الطبيعة هشة إلى أقصى حد بات رد فعلها تجاه الاستغلال غير المعتدل من جانب المعرفة غير المهتمة بالمقدمات والعواقب العامة يتخذ على الفور شكل أعطال وأزمات متكررة.

كان في مقدور حتى التقنيات الفظة أن تعطي نتائج مقبولة سابقاً حين لم يكن قد بُدِّد بعد كمون الطبيعة الطبيعي. أما اليوم فيتطلب الحصول على نتائج مماثلة أساليب أكثر نقاء وجهوداً أكثر توتراً.

لقد نضج عموماً الانقلاب الحاسم في التعاطي التكنولوجي مع العالم؛ ينبغي اليوم حتماً أن تسبق معرفة اللوحة العامة التعاطيات الذرائعية لكي تحول دون تدميريتها المتهورة.

لكن لهذا الغرض يحتاج نمط العقلانية الغربي إلى لقاح ثقافي ما من الخارج. تستحق إعادة إنشاء الأحكام الذهنية المتكونة اسم الإصلاح. فكما أنجز الإصلاح الديني في أوربا باعتباره محاولة للعودة الجديدة إلى النص الأولي – أي الكتاب المقدس, كذلك يمكن اعتبار إصلاح المعرفة العلمية ممكناً على أساس العودة إلى كلاسيكية العهود القديمة الطبيعية الفلسفية, وكذلك من خلال التوجه إلى الكلاسيكية الشرقية. إن هذين الشكلين الكلاسيكيين متشابهين في أن النمط "التماوجي" في إدراك العالم فيهما المرتبط بأولوية العام على المنفصل يتقدم على نمط الإدراك "الجسيمي".

إن تحليل الحداثة, وخصوصاً المتأخرة, مرتبط بالإجراءات التخفيضية: يفسر المعقد على أساس البسيط – أي من صفات العناصر المكوِّنة. أما نمط تحليل العهود القديمة مثله في ذلك كمثل النمط الشرقي فيتصف بأحكام معاكسة: يُستَنتج البسيط من صفات المعقد؛ تسير طريق المعرفة على هذا النحو من الأعلى إلى الأسفل, وليس من الأسفل إلى الأعلى كما في العلم الغربي. بات اليوم العلم ما بعد الكلاسيكي المعاصر يستوعب في بعض جوانبه أحكام هذا التحليل القديم. إن الطريق إلى الاكتشافات الأساسية ليست ممتدة الآن عبر تحديد الاختصاصات اللاحق في العلم وعبر إجراءات التحليل "الجسيمي" الأخرى, بل عبر تكاملها, الذي يتمثل في الإجراءات الهادفة إلى اكتشاف العموميات والكليات المُغْفلة.

لا يمكن إدراك مثل هذا التحول في الذهنية العلمية عبر إعادات التنظيم الداخلية وحدها؛ يحتاج الأمر إلى تطور ثقافي عام, ففي نهاية المطاف تتغذى كافة أنواع الإبداع, ابتداءاً من الإبداع الاقتصادي وحتى العلمي والفني, من حقل الثقافة العام. تولد تغيرات التوترات في إطار هذا الحقل طاقةً تغذي أنواعاً من الإبداع أكثر تخصصاً. من الواضح أن النبض "التماوجي" قد أضعف في الثقافة الغربية؛ لقد أزاح التقني ورجل الأعمال تماماً تقريباً الأنماط الحاملة في ذاتها إلهام التوجه الأصولي. سيأتي المدد من الشرق. ومن المرجح تماماً أن المثقف في الغرب سيعتبر في القريب العاجل هو ذاك الذي يستوعب الأحكام الفكرية الشرقية المرتبطة بأولوية العام على المنفصل والسامي على السفلي.

كذلك تماماً ستحظى الأحكام البحثية الأصولية التي صارت معارضة في إطار الثقافة الغربية برد الاعتبار والدعم بتوجهها إلى التقاليد الشرقية.

وهكذا, من المهم في أثناء التفتيش عن البدائل أن لا ننحدر إلى نمط "الريترو", أن لا نتراجع إلى الماضي بحثاً عن المواقف المضمونة – فهي غير موجودة هناك. المضاربون المعاصرون تحديداً, الذين شوهوا أفضل أفكاره, هم الذين يحاولون إحباط عزيمة المعاصرين بخيارات كاذبة: إما الديمقراطية أو الشمولية, إما السوق أو المنظومة الإدارية الأوامرية. في حقيقة الأمر ليس لدى الديمقراطية والسوق اليوم أنداد. البديل الحقيقي موجود داخل الديمقراطية ذاتها وداخل منظومة السوق. يدور الحديث عن إن كنا نفهم الديمقراطية الليبرالية على أنها عودة إلى وضع الاصطفاء الطبيعي الذي تراقب فيه الدولة والمجتمع مراقبةً سلبيةً كيف يزيح الأقوياء الضعفاء, أم أننا نفهم الديمقراطية بمعناها الاجتماعي (وليس الطبيعي) – أي باعتبارها قواعد لعبة حضارية تهيئ إلى حد ما فرصاً متساوية للجميع, وتحمي بذلك المجتمع من تطرف اليمينيين واليساريين.

كذلك الحال في ما يخص الاستثمار في السوق, فالمسألة لا تنحصر في إن كنا نقبله أم لا؛ بل تنحصر في إن كنا نتعامل مع الاقتصاد المنتج باعتباره لعبة ذات محصلة إيجابية أم مع اقتصاد المضاربات الذي يستولي فيه رجال الأعمال والمحتالون الذين لا ينتجون أي شيء حقيقي على ثروات المجتمع غير المحمية.

على عاتق من غير فئة المثقفين ملقاة مسؤولية إيضاح هذه المسائل من غير أن تتيح لمحتالي الرأي العام حرف انتباه الناس عن الاختيار الفعلي والخيارات الحقيقية؟

أضف إلى ذلك أن هذه الخيارات في نهاية الأمر ترتكز كلها على خيار يمس فئة المثقفين مهنياً ويقرر مصيرها التاريخي. يدور الحديث عن طبيعة المجتمع المعلوماتي المعاصر. هل نتحدث عن المعلومة المستندة إلى المعرفة "غير المدحوضة" والموجهة إلى حساسيتنا الذاتية, التي يلعبون عليها بلا خجل, أم أننا نتعامل مع المعرفة العلمية الموثوقة, الخاضعة لمعيار الموضوعية وقابلية التحقق منها. حين يتحدثون اليوم عن "الاقتصاد المعلوماتي" فإنهم يقصدون في الغالب نمط المعرفة الاحتيالي المجند حيث تجري الألعاب المضارباتية الكثيرة. هذا هو اقتصاد "الكازينو العولمي" الذي يشكل رأس المال الدولي.

لكن مفهوم الاقتصاد المعلوماتي قد يتخذ معنى آخر تماماً حين يدور الحديث عن الاكتشافات العلمية البحثية والمعالجات التطبيقية التي تسمح بزيادة إنتاجية العمل الاجتماعي على شكل قفزات. يمكن في هذه الحال فقط الحديث عن التقدم الاقتصادي الحقيقي باعتباره لعبة ذات محصلة إيجابية يكون الرابح فيها هم الجميع.

يخص هذا الخيار نفسه عالم السياسة أيضاً. يمكن قياس التقدم السياسي بنمو الشرائح التي تحصل على سيادتها السياسية – أي التي تحصل على إمكان المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية الأهم. هذه هي الديمقراطية في الواقع. لكن بشرط واحد: إذا كانت منظومة اتخاذ القرارت لا تشبه صندوقاً ذا قعرين, فيقرر بعضهم فعلياً وبين أيديهم معلومة موثوقة, بينما يخيل لبعضهم الآخر أنهم يقررون لأن مشاركتهم السياسية لا تترافق مع إمكان وصولهم إلى المعلومة الحقيقية. إنهم يضعون اليوم الشعب فعلياً أمام خيارين: إذا تبين أنه "قابل للتصديق والإيحاء بما يكفي فإنهم يبقون له الديمقراطية" – أي حق المشاركة في الانتخابات, أما إذا أعلن عن أنه فطن بما فيه الكفاية ولن ينساق وراء الاختيار الذي يروق للنخب الحاكمة فإنهم يحرمونه حينئذ من الديمقراطية بحجة أنه ما زال ناقص الأهلية الديمقراطية.

كما نرى فإن المسألة حول طبيعة المجتمع المعلوماتي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمسألة الأنثروبولوجية التي تمس طابع الحسية المعاصرة. يمكن أن تكون الحسية اجتماعيةً أو لااجتماعية, شُجاعة أو معدومة الإرادة. في الحال الأولى تكون مفتوحة للأسئلة عن الحقيقة والخير والعدالة, أما في الحال الثانية فهي مستعدة للاكتفاء بالأشباح. والذي يورد لها هذه الأشباح هو "المجتمع المعلوماتي" في أقنومه الافتراضي حين تبدأ تفعل فعلها المعرفة غير المدحوضة تحديداً. يجد الطابع المزدوج للمعرفة, التي يمكن تفسيرها على هذا النحو أو ذاك, وعلى شكل "نعم", وعلى شكل "لا", دعامته في الحسية المزدوجة المستعدة في أحيان كثيرة جداً للاكتفاء "بالإرضاءات الرمزية".

بكلمات أخرى, لا يستطيع أولئك الذين يغتصبون الحقيقة مكوِّنين شتى أنواع "الحقائق الافتراضية" أن يمارسوا عملهم بنجاح إلا في وسط اجتماعي يكون هو ذاته سعيد بتعرضه للخداع, ويشك محقاً بأن المعرفة الحقيقية ستُلزِمه بالخيار الشجاع وبالأفعال الحقيقية. حين لا تكون هذه الشجاعة وهذا الاستعداد للقيام بالأفعال موجودين فإن "الخداع الذي يرفع من شأننا أثمن عندنا من ظلمة الحقائق السفلية".

ثمة أساس للشك في عدم إمكان الاستغناء اليوم عن نوع من الاتفاق الصامت بين المخادعين والمخدوعين. لا يخفي المخادعون الحقيقة فقط, بل إنهم في أحيان غير نادرة يهوِّلون منها , موحين بأن لها وجه غرغونة([13]). ألم يُخِفْنا فلاديمير جيرينوفسكي من الحقيقة حين تحدث لأكبر كتلة برلمانية جماهيرية مشيراً إلى أن الحظ قد حالفها حين لم تحصل على عدد الأصوات اللازم دستورياً من أجل تطبيق إجراءات نزع الثقة؟ لقد ألمح بوضوح إلى وجود رد جاهز غير دستوري على الإطلاق في جعبة السلطة لو أن التهديد صار حقيقياً. وكم من مرة قدر لنا أن نقتنع قبل ذلك وبعده أن "ديمقراطيتنا" ما هي إلا ابتسامة المهوِّل, المستعد لاستبدال التكشيرة بها إذا ما أعلنا أننا لا نخضع للتهويل.

فما الذي نحتاج إليه كي تصير حسيتنا شجاعة وتنطق بالحقيقة لا بالألاعيب والأوهام الافتراضية؟ كيف نخرق التوافق الصامت بين المخادعين والمخدوعين, هذا التوافق القابع على ما يبدو في أساس أكبر تزييف لعصرنا – أي تشويه الطبيعة ذاتها بالثورة المعلوماتية؟

إنني ميّال إلى أكثر الفرضيات موثوقية – أي إلى أن الذي يكوِّن الحسية التي تطلب الحقيقة وليس الخداع هو الإيمان الديني. هو وحده الذي يمنح حسيتنا الشجاعة والاستعداد للانفتاح على الحقيقة. ثمة هنا مفارقة من أعمق مفارقات الثقافة: من أجل الاستعداد لفهم الحقيقة الموضوعية يلزم الإيمان؛ على هذا النحو يعتبر نمط الوعي المؤمن قاعدة العلم السوسيوثقافية باعتباره نمط معرفة مدحوض.

تشهد الدعاية ما بعد الحداثوية لتعددية المعنى – أي لتلك المعرفة التي تتملص من حكم التجربة, على المرحلة الأخيرة من عملية العلمنة. لقد حاربت الحداثة الإيمان الديني, لكن أصنامها نفسها – أي التقدم والمساواة والحرية تدل على أشكال متحولة من الإيمان الديني والإلهام الديني. حين نفد هذا الإلهام صارت تختفي في الثقافة المقدرة على قول "نعم" و"لا" – أي المقدرة على التحلي بالمنطق التفريقي ثنائي المعنى. في هذا البند تحديداً صار شكل المجتمع المعلوماتي المعاصر مزدوجاً؛ صار منذ الآن غير واضح إن كان الحديث يدور عن تحول العلم اللاحق إلى قوة منتجة مباشرة – أي قاطرة التقدم الحقيقية, أم أنه يدور عن إنشاء واقع افتراضي قادر على إرضاء رمزي لحسيتنا الطيِّعة.

يدور الحديث في الحال الأولى عن مدلولية التقدم – أي عن التحولات الحقيقية في حياتنا المقاسة بالمعايير الموضوعية المتعلقة بالاكتفاء والكرامة والحرية. أما في الحال الثانية فيدور عن رمزية التقدم, والاحتيال عليه بوساطة الإشارات والرموز. لقد ظهر في زمننا اللاديني الكثير الكثير من الطبائع الضعيفة, المستعدة للموافقة على الإرضاء الرمزي – فقط على أن لا تضطر إلى الانتظار طويلاً وإلى بذل جهود حقيقية. لقد فقدت في أعماق روحها الثقة بشبه الإنسان بالله وما عادت تؤمن ببنوتها له. من هنا ينبع الخوف من أن كل شيء يمكن أن يحدث لها, ولذلك لا يستحق الأمر المخاطرة والرد بشجاعة على التحديات وطلب ما هو حقيقي وليس رمزياً. لكي يحب الناس الحقيقة من جديد ويمتلكوا الشجاعة على النظر إلى عينيها مباشرة – متسلحين من أجل ذلك بالمعرفة العلمية الحقيقية – فإنهم يحتاجون إلى الإيمان.

في الغرب نفدت منابعه منذ زمن بعيد. لذلك فالمنعطف القادم نحو الشرق. ومع أخذ ذلك بعين الاعتبار فإننا نصوغ شكل فئة المثقفين الجديد, مجندين من أجل ذلك البداهات الثقافية والجيوسياسية.

إن قلب فئة المثقفين الأصيلة اليوم في الشرق وعقلها في الغرب. يمنحها الشرق الإيمان والقدرة على التضحية باسم العدالة المغتصبة. أما الغرب فيمنحها العقلانية بأحدث حللها. لا يمكن الدفاع عن المجتمع المعلوماتي بمعناه الأصيل – أي بمعنى النضال ضد الشاذين الافتراضين وأتباع المعرفة غير المدحوضة – إلا بتوحيد الإيمان والمعرفة. يمنح الإيمان حسيتنا الضعيفة الاستعداد لفهم المعرفة الموضوعية وأن لا نتخلى عنها في أثناء اتخاذ القرارت المسؤولة.

 


 

([1]( - Chossudorlsky M. The globalisation of porlerty. New Jersey. 1997. Р. 41.

([2]( - تيار في العلوم الاجتماعية في القرنين 19 و20 هدف إلى مماثلة العلوم الاجتماعية بالعلوم الطبيعية بالأساليب و بالوظائف في المجتمع (المترجم).

([3]( - جان فوراستيه (ولد عام 1907) اقتصادي وعالم اجتماع فرنسي. اعتبر أن التقنية هي العامل المحدد للتطور الاجتماعي, والمؤدي إلى "استبدال الحضارة" المتوالي – الحضارة الأولى (الاقتصاد الزراعي), الحضارة الثانية (الصناعة), الحضارة الثالثة (مجال الخدمات) التي يتم تستبدل بها الحضارة المعاصرة الرابعة (الإنتاج الروحي). (المترجم).

([4]( - Fourastie J. Idees majeures. P. 65.

([5]( - المجموعات التي تعتبر معياراً للمجموعات الأخرى.

([6])   Chossudosky M. Ibid. P. 20.

([7]( - هنري فورد (ولد عام 1863) - مهندس ميكانيك, ومنظم إنتاج بارز, أسس أضخم مصانع السيارات في العالم. قاد في أثناء الحرب العالمية الأولى حملة من أجل إحلال السلام. اتهم بمعاداة السامية, وترأس جمعية مسيحية فتية مناهضة لليهود, وبرز أيضاً ككاتب, ساعياً في كتبه إلى البرهان على أن مصالح الرأسماليين والعمال متطابقة في العموم. أشهر كتبه "حياتي وإنجازاتي" (المترجم).

([8]( - جورج سورس (1930) ولد في بودابست من أسرة يهودية, هدفه في الحياة بناء المجتمع المفتوح, درس الاقتصاد في لندن ثم انتقل إلى أمريكا (1956). مؤسس صندوق "كوانتوم" للمضاربة بالعملات, والذي بلغ رأسماله عام 1990 عشرة مليارات دولار. في 15/أيلول 1992, وبنتيجة عمليات قام بها سورس مرتبطة بهبوط الجنيه الاسترليني الحاد ازدادت ثروته بمقدار مليار دولار, وصار سورس يلقب بمحطم بنك إنكلترا. أسس صناديق "خيرية" مماثلة في 25 بلداً, منها صندوق "المبادرة الثقافية" في الاتحاد السوفييتي (1988) لدعم العلم والثقافة والتعليم, والذي سرعان ما أغلق لأن الأموال المخصصة له لم تذهب في الوجهة الصحيحة, ثم أسس صندوق "المجتمع المفتوح" في روسيا عام 1995, له العديد من المؤلفات منها "اكتشاف النظام السوفييتي" (1990) و"دعم الديمقراطية"(1991). (المترجم).

([9]( - ألبرت كامو (1913 -1960) كاتب وفيلسوف وجودي فرنسي. من مؤلفاته "الغريب" (وفي ترجمة أخرى "الآخر") (1942) "كاليغولا" (1944),, "السقوط" (1956), "أحاديث نمساوية"
(1958). صار إبداع كامو المشبع بالنقدية الاجتماعية الإبداع المعبر عن الوعي التراجيدي في القرن العشرين. حائز على جائزة نوبل (1957). (المترجم).

([10]( - تارتيوف هو بطل كوميديا موليير "تارتيوف", وتعني بالفرنسية الزنديق أو المخادع أو المنافق (المترجم).

([11]( - انظر مثلاً: ل. لاروش. الاقتصاد الفيزيائي. موسكو, 1997.

([12]( - مقتطفات من الرواية الشعرية "يفغيني أونيغين" للشاعر الروسي الكبير ألكسندر بوشكين (المترجم).

([13]( - إحدى أخوات ثلاث في الميثولوجية الإغريقية, مكسوات الرؤوس بالأفاعي بدلاً من الشعر , وكان كل من ينظر إليهن يتحول إلى حجر. (المترجم).

 

التالي

<< المشكلات العولمية باعتبارها نقطة انطلاق المستقبل الجديد

 

السابق

 

جورج زيمِّل ضد ماكس ويبر>>

نقد البرجزة ما بعد البنيوي - في خدمة البرجوازيين الجدد

الثورة الثقافية العولمية >>

الفصل الثالث  العولمة الأمريكية  >> 

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

 << تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا