كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

الفصل الثاني :

الحسية العولمية في عصر الثورة المعلوماتية

 

النخب والجماهير في الثورة العولمية:

على جانبي المتاريس المختلفين.

لإظهار الكمون الديمقراطي البديل في الثورة العولمية المعاصرة ينبغي قدر المستطاع أن نفصل فيها بدقة ما ينتمي إلى عموميات التقدم الموضوعية عن ما يحمل على ذاته ختم الاغتصابات والامتيازات غير القانونية.

يتعلق كل ما تم وصفه بالتفصيل في القسم الأول بالامتيازات. تعني العولمة في ضوء ذلك تمرد المجموعات صاحبة الامتيازات في المجتمع على تلك القيود التي فرضت عليها في مرحلة التحديث والدمقرطة التاريخية السابقة.

لنبدأ من البرجوازية. ماذا تعني العولمة لها؟ إنها تعني محاولة التخلص من قيود الرقابة الديمقراطية الوطنية, ورفض الواجبات المفروضة عليها من قبل الدولة الاجتماعية, وخرق الوفاق الوطني العام الذي اضطرت طبقة المستثمرين إلى أن تدفع ثمنا لـه ضرائب باهظة واعترافاً بحقوق النقابات والتشريعات الاجتماعية وقوانين العمل وغيرها من القيود. وفي ضوء ذلك تعني العولمة الاقتصادية للرأسمال التحرر من المسؤولية الوطنية والاجتماعية. سيكون منذ الآن متاحاً للرأسمال رفض الواجبات الاجتماعية الثقيلة والهجرة بحرية إلى حيث تكون الضرائب والأجور أقل والضمان الاجتماعي غير متطور أما المسؤولية العامة للطبقة البرجوازية ففي حدها ما قبل الديمقراطي الأدنى.

عدا ذلك: يتمتع الرأسماليون اليوم بالمقدرة على ابتزاز حكوماتهم مجبرين إياها على تفكيك مكتسبات الفترة السابقة الاشتراكية الديمقراطية, مهددين في حال عدم الامتثال بالهجرة الجماعية إلى وسط أكثر وداعة.

وقد فعل هذا الابتزاز فعله. جعل وجود بلدان "احتياطية" ذات قوى عاملة رخيصة ومنظومات رعاية اجتماعية غير متطورة (أو مفككة) النقاباتِ والدولة الاجتماعية تقدم على تنازلات لم يسبق لها مثيل حتى في البلدان الأكثر تطوراً. ارتفع مستوى البطالة في بلدان منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي([1]) من 4.2% في الفترة بين عامي 1974 - 1979 إلى 7.4 مع بداية التسعينيات. ولا تقل دلالة النزعة إلى تخفيض أجور العمل عن ذلك. ففي الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً انخفضت الأجور في الفترة ما بين 1974 و1998 بمقدار 10% تقريباً([2]).

يبدو تبدُّل بنية السوق مميزاً إلى أقصى حد. صار أنموذج السوق السابق المقابل لمفهوم المجتمع الاستهلاكي الجماعي ودمقرطة الطلب (حين تنخرط تدريجاً البضائع والخدمات, التي كانت في وقت من الأوقات متاحة للموسرين, في منظومة الاستهلاك الجماعي) يفسح المكان للأنموذج السلفي الجديد. يجري تعويض تقلص الطلب الجماهيري المعروف وتحوله إلى طلب بدائي بانتعاشات غير متوقعة في أسواق النخب التي تتاجر بالكماليات.

تتجلى هذه النزعة بحدة في البلدان ما بعد الاشتراكية خصوصاً. فهناك يختفي على مرأى من الجميع المجتمع الديمقراطي الجماهيري باعتباره منتجاً من منتجات الحداثة, ويحل محله استقطاب جديد للفقر والغنى وللاستهلاك الناقص والاستهلاك المفرط. من المهم جداً تقويم هذه الظاهرة تقويماً ملائماً ضمن الأفق الاستراتيجي. السائد اليوم هو نسب هذه الظاهرة المزعجة إلى مخلفات "الماضي الشمولي" وسوء طالع رأسمالية السكان الأصليين. يدور الحديث في حقيقة الأمر حول التوجه العولمي لنزع الصفة الاجتماعية والديمقراطية عن الرأسمالية التي استغلت سقوط منظومة الموانع والتوازنات السابقة وتشويه سمعة عدوها الاشتراكي من أجل الضربة المضادة المحضر لها منذ زمن طويل.

لم تحل في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق وأوربا الشرقية رأسمالية سلفية إقطاعية مزيفة, بل, على العكس, حل أحدث أشكال الرأسمالية المعبِّر تعبيراً خالصاً عن مخططات البرجوازية الجديدة لترتيب العالم. لقد استغلت هذه البرجوازية الموجة المعادية للشمولية لتحقيق أهدافها النفعية الخاصة مضفية على هذه الموجة في نهاية المطاف محتوى معاد للديمقراطية وليس ديمقراطياً (إذا قصدنا الديمقراطية الاجتماعية التي تسوي مستوى حياة الجماهير ونمط حياتها وفاقاً لمعايير الطبقة الوسطى, وليس الديمقراطية الشكلية). باختصار استغلت البرجوازية الجديدة الإمكانات العولمية من أجل تحطيم المجتمع المدني الواحد والتوافق الوطني المتكون في أثناء الإصلاحات الاشتراكية الديمقراطية في القرن العشرين. لقد قابل الرأسماليون الجدد واجباتهم تجاه المجتمع المدني الوطني بواجباتهم العولمية وإمكاناتهم باعتبارهم مجموعة تقع فوق الرقابة الوطنية.

تشكلت شروط التوافق الديمقراطي الوطني في الغرب على نحو متوازٍ مع الاشتراكيين الديمقراطيين والكنزيين. كانت الدولة الاجتماعية الكبيرة المرتكزة على الضريبة العالية على الدخل تعني للاشتراكيين الديمقراطيين تكامل المنبوذين البروليتاريين ونصف البروليتاريين السابقين في المجتمع الرأسمالي وفي الوقت نفسه شرعنة الملكية البرجوازية. تبدل أيضاً التصور حول الطبقة الوسطى. ما عاد الحديث يدور عن الوسط البرجوازي الصغير والحرفي الذي كان مختوماً بختم السلفية الاقتصادية, بل كان يدور عن عمال العمل المأجور بأجر كبير, المرتبطين ارتباطاً مهنياً بالإنتاج المستوعب للعلوم والمرتبطين بمجال التعليم وإدارة خدمات أخرى مستوعبة للعلوم. خيل أن الخيار: إما البرجوازي أو البروليتاري قد ألغي بهذه الطبقة الوسطى الجديدة التي واجهت بكبريائها التكنوقراطي الثوريةَ البروليتارية القديمة والروحَ البرجوازية المقتصدة ضيقة الأفق.

لقد وجهت إعادة الخصخصة الجديدة في الثمانينات والتسعينات (في الثمانينات زمن الموجة المحافظة الجديدة في الغرب, وفي التسعينات زمن الموجة المضادة للشمولية في العالم الثاني السابق) الضربة في المقام الأول للطبقة الوسطى الجديدة, لأن تفكيك "الدولة الكبيرة" يعني بيع ذلك الرأسمال الاجتماعي, الذي استحوذت عليه هذه الطبقة استحواذاً مهنياً, إلى أشخاص. لقد تم أمام أعيننا وعلى نحو مفاجئ إفقاد المجتمع حداثته, حين استعيض مجدداً عن البنية الثالوثية التي تقع الطبقة الوسطى في مركزها ببنية اجتماعية ثنائية القطب: المالكون الأغنياء في جهة والمعدمون في الجهة الأخرى.

 

لم تكن الإصلاحات التي بدأت مع خطة روزفلت الجديدة تعني من وجهة النظر الكنزية مجتمعاً ديمقراطياً موحداً بقدر ما كانت تعني مجتمعاً إستهلاكياً موحداً. لقد عنت إجراءات الضمان الاجتماعي المتنوعة والمعونات المقدمة للمعدمين وتوسيع القرض الاستهلاكي وما شابهها تحول الفئات الدنيا السابقة من المجتمع إلى مستهلكين نشطين, يحمون الاقتصاد الرأسمالي من أزمات فائض الإنتاج. لقد جسدت دمقرطة الطلب دمقرطةً خاصة "محايدة سياسياً" ومطلوبة خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ينظرون إلى الاشتراكيين الديمقراطيين بحذر دائماً.

يمكن القول إن شكلي الديمقراطية هذين - الاشتراكي الديمقراطي والكنزي قد انهارا عملياً في وقت واحد. صار في مقدور البرجوازية التي استحوذت على السوق العولمية أن لا تهتم بعد الآن بتطوير الطلب الاستهلاكي الجماهيري الداخلي. تتلخص عقيدتها الحديثة في السعي إلى تخفيض تكاليف الإنتاج الداخلية بكافة الوسائل - على حساب تقليص الالتزامات الاجتماعية وتخفيض الأجر - باسم القدرة التنافسية في الأسواق الخارجية. بكلمات أخرى, صار شعبها الآن يهمها بدرجة أقل أكان قوة عاملة أو مستهلكاً جماعياً. في ما يخص القوى العاملة فثمة في العالم العولمي دوماً بلدان القوى العاملة فيها أرخص وقنوعة أكثر؛ أما في ما يخص المستهلك الجماعي فإن تقليصه يمكن أن يعوَّض بتوسيع الطلب من أصحاب الامتياز المؤمَّن من الربح الفائق الجديد.

في أثناء ذلك, إذا كان الطلب الجماهيري الديمقراطي يلبى بالإنتاج بالجملة الذي يستخدم القوى العاملة ذات التأهيل المتوسط والمتدني, فإن الطلب النخبوي يعني التوجه نحو الإنتاج بالمفرق ونحو القوة العاملة الأكثر تأهيلاً والقادرة على تلبية أذواق الجمهور الذي يصعب إرضاؤه. واضح أن معنى هذا كله هو نهاية التوافق الديمقراطي الوطني الذي أرسيت دعائمه في خضم التطورات والمكتسبات الصعبة في القرن العشرين.

إن هذا الخروج من الاتفاق الاجتماعي الكبير الذي ربط المجتمعات المدنية في القرن العشرين مميز لمجموعات أخرى صاحبة امتيازات, اقترح عليها المجتمع العولمي كما يبدو بدائل أكثر فائدة.

لقد تحدثنا في القسم الأول عن "أممية الأجهزة الأمنية".

 

 

فمن جهة, موجة إعادة الخصخصة الهائلة, ومن جهة أخرى انهيار التشكيلات الدولتية الكبرى في العالم الثاني السابق وظهور جملة من الدول القزمة مكانها, وقد أدى هذا كله بالمحصلة - على خلفية عدم الاستقرار السياسي والأهلي المتزايد بحدة والإجرام الجماعي المتنامي, إلى ظهور سوق جديدة من الخدمات المرتبطة بتوفير الأمن. تعيش النخب السياسية الجديدة والرأسماليون الجدد مع إحساس كريه بعدم شرعية سلطتهم وملكيتهم, وفي هذه الظروف يحتاجون إلى حماية مضمونة, وهم مستعدون لأن يدفعوا جيداً للحصول عليها.

إذا أخذنا في الحسبان أن إعادة الخصخصة واللبرلة الاقتصادية قد أصابت مباشرةً الميزانيات الحكومية في الدول القديمة والجديدة على حد سواء فسيصير واضحاً أن الاحتكار الحكومي السابق لدوائر الأجهزة الأمنية قد اهتز بشدة. يقف فرسان المعطف المطري والخنجر الكثيرون في أحيان كثيرة أمام خيار صعب: إما الاكتفاء بالرواتب المتواضعة نسبياً في الإدارة السابقة واستيعاب المهارات الجديدة, وإما دخول مجال الأعمال الحرة بصفتهم المعتادة مستغلين الطلب على الخدمات الخاصة في السوق العولمية الجديدة. واضح أننا نشاهد كذلك في هذه الحال الأخيرة انقطاعاً في التوافق مع الدولة الوطنية والمجتمع من جانب المجموعة صاحبة الامتيازات السابقة التي تمتلك كموناً هائلاً. صار أولئك الناس أنفسهم, الذين أوكلت إليهم مهمة أمن الدولة وحدودها, يستطيعون منذ الآن الحصول من الخارج على طلبيات عولمية لخرق أمن هذه الدولة ذاتها.

أخيراً, سنأتي على ذكر النخب الفكرية. كانت هذه النخب تتمتع في إطار التوافق الوطني السابق بصلاحيات ووظائف خاصة: التعبير عن التمائل القومي والثقافي, وصياغة الأهداف القومية واضعة عليها في الوقت نفسه علامات الشرعية والمكانة السامية, وبناء صورة البلاد الجذابة في منظومة الاتصالات الثقافية العالمية.

ما الذي يمكن أن يحدث إذا نوى القسم الأكبر من هذه النخب الفكرية الخروج من منظومة التوافق الوطني لهذه الأسباب أو تلك, والاستجابة لدعوات السوق العولمية؟ قد يحدث أن تطلب السوق العولمية من أهل الفكر مقابل الاعتراف الدولي المأمول بهم ومنحهم الأجور المرتفعة "جهوداً إبداعية" متعارضة مباشرة مع تلك الجهود التي بذلوها في إطار التوافق الوطني السابق. فعوضاً عن تدعيم التماثل الوطني زعزعته, وعوضاً عن إضفاء ملامح جذابة ومرموقة على الأولويات والأهداف القومية التشهير بها مباشرةً باعتبارها من سوابق التفكير "الإمبراطوري" و"الشمولي".

حتى لو صرفنا الانتباه عن اشتطاطات "العولمة المتطرفة" هذه (وهي مميِّزة في المقام الأول للفضاء ما بعد السوفييتي وروسيا) ففي مقدورنا أن نقر عموماً بأن العولمة المعاصرة تؤدي إلى خرق التوافق الوطني القائم بين النخب وجماهير الشعب وتمثل تحدياً للمجتمع المدني الموحد ذي النمط الكلاسيكي.

يمكن الحديث في حقيقة الأمر عن حرب أهلية عالمية قائمة (لا زالت "باردة" في قسمها الأعظم) بين النخب المتعولمة باندفاع وجماهير "السكان الأصليين" الشعبية. وفي هذه الحرب تبدو النخب جاهزة لها أفضل بكثير, وتستغل بنجاح عنصر المفاجأة. أما الجماهير المعتادة على الاتكال على "نخبها" الوطنية فتجد نفسها اليوم في حيرة تامة وعزيمة خائرة. فما هي سيناريوهات تطور الأحداث اللاحق؟

يرتبط السيناريو الأول, الذي ينفذ اليوم في الغالب, بمحاولات التجريد العالمي للجماهير من أسلحتها السياسية بهدف الحؤول دون ردها الفاعل على خيانة النخب الحاكمة. فتحرم الجماهير من جهة من أشكال الرقابة والمشاركة الديمقراطية المعتادة في القرارت المتخذة, وتعرض عليها من جهة أخرى مجموعة كاملة من أشكال الإرضاء الرمزي المرتبط بما يسمى "الحسية ما بعد الحداثوية". لننظر في هذا الأمر مفصلاً.

 

استبدال المشروع: الحسية الحرة بدلاً من الحريات المدنية

اعتبر المعارضون الغربيون في الستينات أن اختراعهم الرئيسي هو "ثورة وعي" الثقافة المضادة. إذا كان "اليساريون القدماء" قد اتكلوا على الثورة السياسية وإعادة صياغة أشكال الملكية والسلطة, فإن "اليساريين الجدد" مع رفاق دربهم من معسكر الهيبيين اعتمدوا أساساً على تحول في الذهنية الأهلية يجعل الناس منذ البداية غير مؤهلين لأي أشكال من التعبئة الاجتماعية, أكانت اجتهاداً مخلصاً في العمل في المؤسسة البرجوازية أم خدمة متفانية في الجيش أو في البنى الإدارية.

اتكل أنصار ثورة وعي الثقافة المضادة على الحسية اللاعقلانية التي لم توضع عليها يد, بعد أن رأوا فيها ضمانة لمعاداة البرجوازية المنهجية. وعلى غرار إيديولوجيي الاشتراكية البيروقراطية الذين لاحقوا علم السيبرنيتيك أو علم الجينات باعتبارهما ابنتي الامبريالية المأجورتين (لنتذكر لوثر: "العقل هو مومس الشيطان الأولى") استخف "اليساريون الجدد" والهيبيون بالعقلانية باعتبارها أساس الالتزام البرجوازي. ارتبط عدم الالتزام المنهجي بـ "الحسية الوحشية", التي ترمز بشخصها إلى الخروج من المجتمع (المقصود هو أن كل مجتمع معاصر هو مجتمع برجوازي في الواقع).

رأى "اليساريون الجدد" في الاشتراكية الواقعية تجذيراً لمبدأ التعبئة البرجوازي وانتفاعاً من الحيوية البشرية - أي من طاقة إله الحب الموضوع في خدمة أصحاب هذا العالم.

لهذا السبب جذبتهم أشكال الحسية "الرافضة" التي ارتبطت بالانحرافات الجنسية وتعاطي المخدرات والأشكال الجماعية لكَرْنَفَلة الوعي الكرنفالية وما شابه ذلك.

وهاكم اليوم, يحدث ما لم يكن يتوقعه أحد قط: قررت النخب العولمية في أثناء سعيها إلى تدمير التوافق الوطني وتجريد الأمة من أسلحتها, التسلح بتلك "الحسية الرافضة" ذاتها التي وضعت عليها الكثير من الآمال الطليعة الشبابية في الستينات.

يتلخص الأمر في أن الحسية المتحررة من رقابة العقل والأخلاق تستجيب لمعيارين مفترضين:

أولاً ـ يذكِّر انعتاقها في الظاهر بـ "التحرير" وتبدو بذلك وكأنها تندرج في مشروع الحداثة الغربية التحرري العام. يمكنكم عبر الاستعاضة عن الحقوق السياسية والاجتماعية الحقيقية بالحسية من غير التخلي لا عن الامتيازات ولا عن السلطة أن تصيروا أنصاراً لحقوق الفرد وحقوق الإنسان وديمقراطيين ومناهضين للاستبداد.

ثانياً ـ في مقدوركم حين تحصلون على أتباع الحسية المنفلتة عوضاً عن المواطنين العارفين مصالحهم الاجتماعية معرفة جيدةً أن تطلقوا بالطاقة القصوى "صناعة الترفيه" الجماهيرية والإيحاء بالرضا الذاتي لأولئك الذين لديهم الأسس المعتادة كلها من أجل الاستياء والاحتجاج.

فكيف تصاغ هذه "الحسية الوحشية" المتحولة إلى معين للمجربين العولميين وإلى أساس لمنظومة الاحتيال الجماعية الجديدة؟ الاتجاه الأول لتفكيك البدايات العقلانية لصالح الحسية العمياء هو تدمير الفضاء القومي الكبير. كما تبين فإن الاستعاضة عن الوحدات والتركيبات ما فوق الإثنية السابقة بسيادات ذاتية إثنية محلية جديدة كاف بحد ذاته من أجل تخفيض كمون الواقعية تخفيضاً حاداً وإنجاز ثأر الحسية البدائية. مع تدمير الدول والسيادات ما فوق الإثنية الضخمة تظهر من تلقاء ذاتها النزعة إلى الاستعاضة عن  الخطاب الاجتماعي الموجه إلى حل المشكلات الاجتماعية بالخطاب المركزي الإثني المتعلق بمشكلات العرق ولون البشرة والحسابات القبلية والأحقاد القديمة - أي, باختصار, الانفعالات الوثنية التي يلهبها كل ما يقبع أسفل منطقة الإحساس المدني المعاصر.

الاتجاه الثاني "للثأر الحسي" هو استبعاد التراتبيات القيمية المعتادة المرتبطة بخدمة شيء ما سامٍ, "جبلي". إن وجود القيم السامية يعني بحد ذاته الاستعداد المعروف للتضحية وما يوافقه من تعبئة أخلاقية. تغدو القيم السامية في الثقافة المعاصرة ممثلة لتلك الآلهة التي قدم لها "أجدادنا الوثنيون" الأضاحي الطقوسية فتغلبوا بذلك على العفوية الحسية البدائية.

يعتبر العولميون المعاصرون المتغاضون بليبرالية شديدة عن الحسية العفوية كلَّ تضحية خطأً في التسلسل الزمني - أي يعتبرونها من مخلفات العُقَد التسلطية والشمولية. في الواقع, ليست الممارسات الجماعية المختلفة وحدها هي التي تفترض الاستعداد للتضحية المعروفة من جانب بعض المشاركين فيها. إن أي شكل من الإبداع الفردي الروحي والاقتصادي والعلمي يتضمن لحظة تضحية. الابداع مرتبط بتعبئة الجهود الهادفة إلى تحقيق مشروع طويل الأمد إلى حد ما - وفي ضوء ذلك أيضاً يفترض الامتناع عن استهلاك الوقت أو المال باسم الإرضاء الحسي الآني. لم يعد ممكناً هناك, حيث قضي على الأسس القيمية والأخلاقية الدينية للتضحية كتضحية, لا اقتصاد المراكمة ولا الثقافة التي تقدم الأفكار والخطط طويلة الأمد. تعني عبادة المسرات الحسية حتماً عبادة كل ما هو لحظي وتعني التضحية بالمصالح الإستراتيجية الحقيقية في سبيله.

لهذا السبب صارت الحسية المتحررة إلى أقصى حد اليوم هي الرهان في اللعبة العولمية المعاصرة.

يقترح العولميون على شعوب البلدان, التي فقدت سيادتها الحقيقية مع الضمانات الاجتماعية وغيرها من مكتسبات الحداثة الكلاسيكية, وعلى سبيل التعويض, مجموعةً لا سابقة لها من وسائل الترضية الرمزية المرتبطة بالتغاضي عن "الحسية المقموعة" سابقاً (الجنسية بالدرجة الأولى).

يقترحون على المواطنين المعانين من مرارة الذل القومي والاجتماعي والفقر والحرمان من الحقوق أن يتسلوا على مستوى الغريزة التي تبين أن الاحتيال باستخدامها أسهل كثيراً. إن استفزاز "النزاع الذي لا يقبل حلولاً" بين أقنوم الشخصية الاجتماعي المدني وأقنومها الجسدي صار أساس الإستراتيجيات ما بعد الحداثوية التي يتبعها المحتالون العولميون.

الاتجاه الثالث "للثأر الحسي" هو استبعاد المستقبل لصالح الحاضر المكتفي بذاته. يدور الحديث من جهة حول ثأر الحياة اليومية بممارساتها كلها في مجال الأعمال الصغيرة من الأهداف الكبرى طويلة الأمد المصاغة على المستوى السياسي الدولتي. ويدور من جهة أخرى, إذا ما استخدمنا لغة مارتن هايديغير, حول أسبقية الموجود على الوجود. لقد قدم هذا المفكر الألماني حججاً مقنعة جداً حول أن الرضى بالموجود مرتبط ارتباطاً مباشراً بذوبان الشخصية الحسي اللاإرادي في "إنسان" (man)([3]) الثقافة الجماهيرية التجارية فاقد الشخصية, أما الموجود ذاته فهو عبارة عن إخفاء للأفق الحقيقي. يتكشف الوجود الإنساني الأصيل عن طريق التواجد في المستقبل؛ لهذا السبب يربط هايديغير بين الوجود والزمن عقلانياً.

أما مشروع الحسية المنعتقة و"التسريح" فعلى العكس من ذلك, إذ يعني الاستعاضة عن الوجود بالموجود - أي الذوبان الذاتي في كل ما هو آني ومرتبط بـ "الانطفاء" سيئ الصيت لعقلنا النظري والأخلاقي المحفِّز.

تلح بهذا الخصوص على الذهن فكرة عن استبدال آخر - أو سرقة أدبية. منذ وقت بعيد ظهر لدى نظرية الالتزام الاجتماعية التبريرية المرتبطة بالتحليل الاجتماعي البنيوي الوظيفي (مدرسة ت. بارسونس) ند متمثل بالمدرسة الاجتماعية الفينومينولوجية (أ. شيوتس). لقد نفذت هذه المدرسة في الغرب المهمة ذاتها التي أخذتها على عاتقها في زمنها "المدرسة الغوغولية" في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر وهي الدفاع عن الإنسان الصغير وعن حقوقه في الحياة اليومية التي يتعدى عليها العالم الكبير. إن الهدف الحقيقي للمدرسة الفينومينولوجية وبرنامجها لإعادة الاعتبار "للعالم الحياتي" هو في الواقع التقاليد الدولتية المرتبطة بأولوية الأهداف الكبيرة على عالم الحياة اليومية الصغير. لقد تقبلت في زمنها فئة المثقفين السوفييت, المحاصرة من قبل الدولة الكبرى وأهدافها الكبرى, بتعاطف شديد الدفاع عن الحياة اليومية الخالية من الالتزامات, الذي قدمه منظرو المدرسة الفينومينولوجية.

لم نبلغ إلا اليوم فقط حال النضج المرتبط بصحة فلسفة الحق الهيغلية ودفاعها عن نمط الحياة السياسي والدولتية المتنورة. تشكل الدولة لدى هيغل باعتبارها حاملة مشروع التنوير فضاءً سياسياً واحداً وتجسد مجمل رأسمال الأمة الاجتماعي: علمها وتعليمها وثقافتها, التي ليس من حق أحد خصخصتها واستخدامها لأهدافه الفئوية الخاصة حصراً. إن الوضع الدولتي لهذا الرأسمال الاجتماعي الجماعي هو الضمانة لجعله متاحاً وغير مغترَب إضافة للرأسمال الاجتماعي غير المغترَب الموضوع تحت تصرف الأمة كلها. ثمة لدى هيغل أيضاً مجال مستقل نسبياً للمصالح الخاصة. لكن هذه المصالح الخاصة تشغل وضعاً أدنى في التراتيبة القيمية والفكرية, وتُفهم على أنها مملكة العقلانية الواقعة في موقع أدنى من مستوى العقل الدولتي.

يتعرض المشروع الهيغلي اليوم للتشويه من جانبين في وقت واحد. فمن جهة لا يتوقف أنصار مبدأ الخاص اللامحدود حتى ينقلوا إلى الأيدي الخاصة رأسمال الأمة الاجتماعي كله من غير أن يهتموا إن كانت هذه الأيدي ستحميه وإن كان سيبقى متاحاً للمواطنين جميعهم.

ومن جهة أخرى "أُنزِلَ" مبدأ الخاص ذاته اليوم من مستوى العقلانية البرجوازية الكلاسيكية إلى مستوى الحسية المنفلتة, التي ما عادت تجسد "الأنانية العاقلة", وإنما الأنانية الحيوانية غير القادرة على النظر إلى الغد. إن هذه الأنانية قادرة على أن تخلف وراءها صحراء قاحلة وأن تدمر أسس الثقة المدنية المتبادلة ذاتها. يمكن الاستسلام لمثل هذه الأنانية غير المسؤولة في حال واحدة: إذا كان ثمة لدى "الأنانيين غير العاقلين" المعاصرين ما عدا وطنهم الذي يدنَّس فضاؤه بالتقنيات والممارسات الاجتماعية القذرة عدة "أوطان" أخرى على سبيل الاحتياط, يمكن أن "يبدلوا جلودهم" فيها عند الضرورة.

هل يعني هذا كله أن مشروع التحرر الحسي قد يتعرض للرفض جملة وتفصيلاً باعتبارها باطلاً؟ أغلب الظن أن الأمر ليس كذلك. لا ينحصر الأمر فقط في أن الهجوم على الحسية بعد الممارسات الشمولية كلها المرتبطة بنمو الأهداف الكبرى المفرط واغتصاب حقوق الحياة اليومية و"العالم الحياتي" الفردي قد يفضي إلى فكرة الترميم الشمولي. بل يكمن الأمر أيضاً في تمييز نوعين من الحسية: الحسية المباركة المفتوحة على البداية السامية والحسية غير المباركة المغلقة في وجه النبض القادم من جهة البدايات الروحية والاجتماعية السامية.

يدور الحديث في هذه الحال عن إحدى مشكلات الأنثروبولوجيا الاجتماعية المعاصرة الأساسية. يشكل التطرف المعاصر للحسية المنفلتة وضعاً استفزازياً في الثقافة: الطلب الاجتماعي الجديد على القمع الديني الأصولي أو القمع البوليسي الديكتاتوري للحسية وانشطار الإنسان مجدداً إلى بداية أخلاقية لاجسدية وبداية جسدية تستحق أن تخضع للتربية المؤلمة. إنهم لسبب ما ينتظرون مثل هذه النوايا الترميمية من الثقافة الروسية بالدرجة الأولى بسبب من قيام عمل "وقائي" نشيط بحقها اليوم موجه إلى تحطيم نواتها الأرثوذوكسية ("أنموذها الأصيل").

من المتبع اليوم في بعض الأوساط إخافة حاملي الحسية المتحررة بشبح التنسك القاتم المرتبط كما يدعون بالتقاليد الأرثوذوكسية. مع العلم أن الدراسة الحثيثة لهذه التقاليد, التي أجريت من قبل باحثين مرموقين في أعمال الآباء الأرثوذوكس وكتاباتهم أمثال الأرشمندريت كيبريان([4]) والأرشمندريت مييندورف, وفي عصرنا - س. خوروجي([5]), قد شهدت شهادة موثوقة على أمر مختلف. امتازت أنثروبولوجيا آباء الكنيسة الشرقيين بكليةٍ مدهشة. ليس ثمة هنا أي نفور مانوي من الجسد البشري باعتباره فخاً من أفخاخ البدايات العليا وأحبولة من أحابيل الخطيئة. بهذا المعنى يعتبر ز. فرويد بخوفه الصوفي من هاويات اللاوعي الخاطئة ومن الـ "هو" الغامض الذي تقع في أسره أفضل دوافعنا نصيراً للتقاليد المانوية أكبر بكثير من المرشدين الدينيين الأرثوذوكس.

لا تقصد صيغة الخلاص الأرثوذوكسية الروح وحدها باعتبارها أسيرة الجسد الخاطئ بل تقصد الإنسان كله. كتب كليمنت الرومي([6]): "فلينعم بالخلاص في المسيح جسدكم كله". يُفهم الجسد على أنه أداة الروح, أو, إذا ما أردنا التعبير بلغة الفلسفة الأحدث, على أنه النص الذي تدوَّن فيه دوافع الشخصية وأفعالها كلها. بالتالي فإن إرادتنا الروحية والأخلاقية تحدد طابع الجسد ومصيره. كتب يوحنا زلاتوأوست([7]): "لقد أعطانا الرب جسداً من التراب لكي نرفعه إلى السماء, لا لكي نهبط عبره بالروح إلى الأرض... انظر أي شرف خصنا به حين وهبنا هكذا الجسد. قال: لقد خلقت الأرض والسماء وأهبك سلطة الخلق أيضاً: اخلق الأرض بالسماء. إنك لقادر على فعل ذلك"([8]).

تعبر هذه الكلمات عن عقيدة الكونية الأرثوذوكسية: تُفهَم المادة على أنها ذات صلة بالروح منذ البداية, وأنها مخترقة بالطاقات النيرة. يفترض هذا المبدأ التأسيسي علاقة مختلفة تماماً بالطبيعة المحيطة بنا وبالطبيعة الداخلية - أي بجسدنا أكثر مما يفترض تفسيراً للطبيعة باعتبارها موضوعاً ميتاً أو مقيِّدةً مزعجةً لحرياتنا, هذا التفسير الذي يميز "الثقافة الفاوستية" الغربية.

وهكذا, يتكوَّن لدينا أفقان متضادان للحسية. في مقدور الحسية أن تبرز كشيء لااجتماعي ما - أي مثل شيطان جالس فينا ومتعطش للانعتاق من أسر الثقافة والأخلاق. وفي مقدورها أيضاً أن تبرز ضمن أفق مختلف تماماً: أي كتكرار وتأكيد لتاريخ الخلق الإلهي للعالم, حيث فرض على السفلي أن يكون مادة للعلوي, الشبيه بالإله.

تكمن مفارقة الحداثة المتأخرة (أو ما بعد الحداثة) في أن إعادة الاعتبار للجسد الإنساني قد تمت فيها بخلاف القانون المسيحي. لم يُرَدّ الاعتبار للجسد والحسية ولم يحررا لأنه تم الاعتراف بهما على أنهما حاملين للبدايات الأكثر سمواً, بل, على العكس, فقد تم هذا خلافاً لذلك وبالضد منه. هذا شبيه تماماً برد الاعتبار للمجرم لا لأنه تاب, بل, على العكس, لأنه أعلن تحديداً عن ذاته بصفته مجرماً بالفطرة. لا تبرز الشخصية في ممارسة ما بعد الحداثة على أنها المفسرة للجسد الذي يحملها صائغة إياه وفاقاً للوظيفة الروحية والاجتماعية, بل على العكس, يبرز الجسد على أنه مفسر للشخصية كاشفاً عن "أسرارها" اللااجتماعية. لقد عشق ما بعد الحداثويين الجسد والحسية بفضل هذه الأسرار تحديداً مقتفين في ذلك أثر الفرويديين الجدد.

هذا يعني إلى حد ما العودة إلى أحكام النهضة الوثنية. لقد أماطت النهضة اللثام عن البرجزة باعتبارها حسية وأرست برنامجاً لإعتاق الحسية. أما الحركة الإصلاحية فاشتغلت في لجم هذه الحسية. بالنتيجة أُرسيَ في الثقافة الغربية تضاد: كان لزاماً منذ البداية إخضاع الحسية الاجتماعية لواجب أخلاقي غريب عنها بطبيعته. وعلى هذا التضاد بني علم أخلاق كانط الذي يتطلب قطعاً ومهما كانت الحال عدم تنفيذ الواجب وتحقيق الخير بدافع عفوي مرتبط بميولنا وتولعاتنا, لأن هذه الأخيرة أقرب إلى البداية الحسية وتُفهم باعتبارها خارج الأخلاق, وحتى لاأخلاقية أساساً.

اقترحت الثقافة الروسية المرتكزة إلى التقاليد الأرثوذوكسية برنامجاً مختلفاً تماماً من أجل جعل الحسية اجتماعيةً. أولاً, تُفهم الحسية الإنسانية باعتبارها واقعة في هذا الجانب من الثقافة والأخلاق وليس في ذلك الجانب. بالتالي فالمطلوب, إذا ما أردنا التعبير بكلمات فرويد, هو ليس رد الفعل القامع للحسية في روح أخلاق الواجب الكانطية, بل المطلوب هو تصعيدها - أي ضم طاقتها إلى إرادتنا الأخلاقية. ثانياً, إن هذا التصعيد نفسه ليس شأناً خاصاً بالأخلاق والتنسك الدينيين فقط وإنما هو شأن الثقافة بأكملها. على الثقافة أن تكون, ومن غير رقابة قسرية, مخترقة بالأخلاق من داخلها مثلها في ذلك كمثل حسيتنا المباركة المخترقة بالطاقات الروحية والخاضعة لها.

لهذا لم يستطع برنامح تحرير الحسية المقموعة الراديكالي الذي ولد في الغرب البروتستانتي أن يولد في الثقافة الروسية. لم يستطع أحد أن يستعبد الحسية لدينا: إن حسيتنا أقرب إلى أن تكون "عاطفيةً" منها إلى أن تكون وحشية ولا اجتماعية, وبهذا المعنى فقد برزت دائماً باعتبارها حليفة للأخلاق. وصل برنامح تحرير الحسية المقموعة إلى روسيا من الغرب. لقد فُسِّرت الشمولية نفسها على أنها قمع للحسية, والخلاص منها هو شرعنة الحقوق اللامحدودة لهذه الحسية. بالنتيجة ظهرت شخصية عولمية أخرى هي الإنسان الحسي, أو الأدق, حامل الحسية اللااجتماعية واللاقومية - أي حامل ثوابت الـ "ليبيدو" التي تميز الجميع وفي كل مكان.

 

يبرز في هذا السياق انقطاع الأجيال, الذي يلح عليه الالحاح كله إصلاحيونا الليبراليون المشتكون من ذهنية الجيل القديم غير القابلة للإصلاح, على شكل انقطاع البداية الحسية المتحررة من رقابة الأعين عن الثقافة "الاستبدادية" السابقة. الثقافة تربط بين الناس - و"إصلاحيونا" الليبراليون يحتاجون إلى تفريقهم على نحو منهجي: تفريق الأجيال - وفاقاُ للشاقول الزمني, وتفريق الناس المتحولين إلى ذرات اجتماعية مكتفية بذاتها وفاقاُ للمحور الأفقي. من هنا يصاغ الطلب على نوع الحسية المحدد للغاية - أي ذلك النوع القريب من "الأنانية الحيوانية".

لكن علينا أن نفهم أن ثورة الحسية التي يتوق إليها اليوم المناضلون ضد العقلية الروسية التقليدية هي ليست تحريراً للبداية الحسية وإنما معالجة تكنولوجية جديدة لها. إننا هنا لا نتعامل لا مع مبدأ laissez - faire (سياسة عدم التدخل) المطبق على الحسية البشرية ولا مع تأليهها, بل مع التنشيط التقني الذي يعرف مسبقاً ما الذي يحتاج إليه. لقد تشكل نمط حسيتنا وحسنا القومي عن طريق تضافر تلك البدايات التي حملت في ذاتها الجمال والتناغم. هكذا كان المشهد الطبيعي القومي غير المشوه بتجاوزات التصنيع - منبع الإلهام الشاعري ومشاعر الحنين. هكذا كان بيت الأجداد.

حين يقوِّمون مثل هذه المقولة باعتبارها تَجَذُّراً - بكل أهميتها الأخلاقية والنفسية للشخصية, لا يستطيعون تجنب موضوع بيت الآباء. تكفي قراءة تلك الصفحات من "الحرب والسلم"([9]), حيث توصف عودة نيكولاي روستوف في إجازة إلى الأقارب في بداية 1806 حتى نفهم منابع "الحس بتربة الوطن" لدى الإنسان الروسي. مع العلم أن الحديث يدور, عادة, عن المنزل الكبير, وعن الأسرة الكبيرة. لا يستعجل الرحالة العائد الدخول إلى غرفته الخاصة ليعرف إن كانت أغراضه الخاصة في مكانها أم لا وإن كان أحدهم قد أخل بالترتيب الذي أقامه في وقت من الأوقات. لا, إن بطلنا يتوقع ضجيج الفرح والهرج والمرج والإزعاج اللطيف وإمارات الذاكرة الطفولية التي تعتبر بطبيعتها أبويةً و"جامعةً". "كل شيء كما هو - تلك المناضد اللومبرية ذاتها, وتلك الثريا في الغطاء ذاتها؛ لكن أحدهم كان قد رأى السيد الشاب, فلم يكد يركض حتى غرفة الضيوف حتى طار شيء ما مندفعاً مثل العاصفة من الباب الجانبي واحتضنه وراح يقبله. ثم قفز مخلوق مماثل آخر ومخلوق ثالث من باب آخر ومن باب ثالث؛ مزيد من العناق, ومزيد من القبل, ومزيد من الصراخ, ودموع الفرح"([10]).

هكذا يتراكم "رأسمالنا الحسي" الخاص المرتبط بالاشتراك في مكان وحيد على الأرض لا يمكن أن يباع أو يتعرَّض للخيانة, ولا يمكن أن يبدَّل أو يستبدل. ويتوِّج بنيانَ هذه الحسية المباركة الأدبُ القومي العظيم - أي الاشتراك في نص الثقافة الأم؟ ما معنى كلمة الثقافة الأم؟ إنها ليست على الإطلاق معلومة حيادية يمكن حسابها بالبيتات. يمكن هنا الحديث عن طابع مفهومي خاص لهذه الكلمة الكلاسيكية - أي عن توجهها لكي تكون ملتزمةً ولكي تُجعل ذات شأن ولكي تؤخذ على أنها حية.

بهذا المعنى تكون كلمة كلاسيكيتنا الأدبية عقلانيةً بقدر ما تكون حسية: إنها تشمل وجودنا كله, وتلصقنا وتربطنا. لن ننفذ إلى إلهام مارتن هايديغير, الذي قال إن "اللغة هي بيت الوجود", إلا بعد أن نشعر بخصوصية الكلاسيكية الادبية الروسية هذه. التأكيد بعد ذلك على أن اللغة هي وسيلة للتواصل والتبادل الاجتماعي معناه إهانة فكرة اللغة الأم. إن التقاليد الأدبية القومية تبقى حية ما دام إدراكنا المتبادل وتواصلنا يتم على أرضيتها مباشرة وعبر وساطتها الحية. ما دامت تحيا فينا فسيكون مقدراً لنا أن نكتشف بين معارفنا أونيغين وبيتشورين وأندريه بولكونسكي وتاتيانا لارينا. ما إن نتسلح بهذا الإرث حتى نصير قادرين على الظهور كذوات قابلة للتواصل, وكمؤولين فاعلين للأنماط البشرية التي تقابلنا؛ من غير هذا التسلح سيكون محكوماً علينا أن نكون وحسب أهدافاً لإدراك الآخر وتقويمه.

على هذا النحو ليست التقاليد الثقافية القومية شيئاً أكثر غيبيةً من حسيتنا, بل هي, على العكس من ذلك, تفسير أصيل لحسيتنا, التي تنير في وجودنا منابع الانفعالات الخاصة ونقاط الشعور المنتقاة. يكمن في هذا, في الواقع, سر الأنثروبولوجيا الثقافية؛ إن هذه الأخيرة تعني دائماً الإنسان الذي تكونت مشاعره وحسيته بوساطة ثقافة من نوع محدد - أي بوساطة جملة من "النصوص" التي استوعبها في طفولته وصارت أساساً لانتقائيته النفسية والأخلاقية, ولا تعني "الإنسان الطبيعي" معدوم الشخصية. المرجح أن هذا تحديداً هو ما يناسب أولئك الذين يوجهون بإلحاح حديثهم إلى "الحسية غير المقموعة" قاصدين هنا الحسية اللااجتماعية.

يتمنى التقنيون, الذين يخططون لتغيير "ذهنيتنا" القومية مهما كلفهم الأمر, أن يقرأ الجيل الجديد النصوص المستعارة, التي يقترحونها, ضمن ظروف "انعدام المقدمات" الثقافية التام – أي في وضع "الصفحة البيضاء". لهذا يحتاج الأمر إلى وسائل اتصال جديدة تستثني شيئين: التركيز الداخلي والتأويل من خلال الكلمة الحية. تستجيب لهذين المعيارين الأجناس الفنية التي يدأب غربويونا على عرضها اليوم على الجيل الجديد.

إنها بالدرجة الأولى المسلسلات البوليسية, حيث يبتلع مجرى الأحداث المُشاهد أو القارئ, وحيث لا توجد طباع حقيقية تخضع للتأويل النشيط أو يمكن التعاطف معها. هناك, حيث لا تكون شخصيات العمل موجهة أخلاقياً, يغلب ميكانيك الأحداث - أي سير الأحداث التلقائي, الذي يفترض سلبيتنا التامة.

إن التلفزيون ذاته, باعتباره وسيلة اتصال, هو اليوم في الواقع قليل الفاعلية الاتصالية. أولاً - لأنهم يعرضون على المشاهدين في الغالب "لوحات أحداث" لا يرافقها تحليل وصراع آراء. وثانياً, لأن مشاهدي التلفزيون لا يتواصلون في ما بينهم: إن إدراكهم التلفزيوني يستجيب تماماً لمعيار التذرير الاجتماعي الذي يوليه المناضلون الليبراليون ضد البداية "الجامعة" هذا الاهتمام الكبير.

تتوافق حفلات الديسكو الشبابية المعاصرة مع شرط التذرير الاجتماعي, والأدق, اللااجتماعي هذا, الذي وصل إلى حد إلغاء البداية الاجتماعية في الإنسان. تقوم الموسيقى الصادحة هناك بالتذرير وإلغاء الصفة الاجتماعية بفعل صخبها الشديد - يستحيل التفوق عليها بالصراخ, لذلك يرتجل المشاركون فيها, إذ يتخلون عن محاولات التواصل عبر الكلمات, حركات جسدية. وهذه الحركات ليست موجهة, مرة أخرى, للقاء الشريك, ولا تهدف للاستجابة للنبض الصادر عنه, بل تتوافق مع الإيقاع الذي يفرضه التسجيل الصوتي من الخارج.

يفرض هذا كله اتجاهاً مغايراً على حسيتنا. إنها تكتسب حقاً ملامح "حيوانية", لكن هذا ليس من ظواهر "حياة" الخلق الأول التي يتحدث عنها رومانسيو الفرويدية الجديدة. بل على العكس, إن هذه الحسية هي نتاج الصناعة ونتاج السير الناقل الذي يصنع ثقافة الجملة الكونية. يستطيع التقنيون الذين يعبئون هذا السير الناقل أن يرسموا الإيقاع والألفاظ والدلالات لملايين "البطالين" غير القادرين على مواجهة هذا البرنامج الميكانيكي بأي شيء خاص وطني أم فردي. إننا ولا شك نتعامل هنا أيضاً مع العولمة بمعناها المذكور أعلاه: بمعنى القطيعة مع التوافق الثقافي القومي, والذهاب إلى وسط خارجي مفرَّغ إلى أقصى حد.

إن إفقاد الحسية صفتها الاجتماعية وإنسانيتها يفترض مباشرةً أن يكف الإنسانيون عن الاشتغال بها ليحل محلهم التقنيون. تصير الحسية اللااجتماعية "هدفاً طبيعياً علمياً", فتندرج بصفتها هذه ضمن البرنامج الليبرالي الوضعي الأحدث للحط من العلوم الأدبية وأي نوع من أنواع "الدعوات إلى الأخلاق".

مثلاً, يحل محل الاقتصاد السياسي, الذي يكشف عن علاقات اجتماعية معينة خلف رؤية منظومة السوق العينية, "علم الاقتصاد" (economics) - أي نظرية التبادل البضاعي التقنية التي يتلخص جوهرها في تفسير عوامل الإنتاج كلها تفسيراً حيادياً - أي باعتبارها أشياءً من غير منح العامل البشري أي موقع مميز.

إن هذا الإجراء الهادف إلى صرف الانتباه عن كل ما يشكل بعداً مختلفاً نوعياً يميِّز الإنسان ويشير إلى ما يخصه بإشارة خاصة يندرج ضمن برنامج "التحديث الثاني" العام أو برنامج علمنة الثقافة الثانية الذي أعلنه الليبراليون الجدد.

فما هي البدائل؟ حاولوا في الغرب, حيث عبَّر أساتذة معتبرون - من المعسكر المحافظ بالدرجة الأولى, عن قلقهم من تأثير ثقافة الجملة التحللي, أن يصوغوا البدائل على النطاق الليبرالي التكنوقراطي. وقد سادت بالأخص مع نهاية الستينات وبداية السبعينات وجهة نظر تنص على أن تطور تقنيات الاتصالات في المستقبل القريب سيصحح عيوب إنتاج الجملة الروحي
(أو اللاروحي). وقد وضعت الآمال الكبيرة خصوصاً على نمط التلفزة الجديد.

إن التلفزة الجماهيرية العاملة على أمواج هرتز هي سير ناقل يقدم سلعة مخففة من حيث المحتوى وترضي الأذواق غير الصارمة. لكن صارت تحل محلها أشكال جديدة - تلفزة الكبلات وتلفزة الفيديو. تسمح تلفزة الكبلات متعددة القنوات (حتى 70 قناة أو أكثر) بتنويع البث التلفزيوني, وتعرض عوضاً عن البرامج المخصصة للمشاهد المتوسط برامج ذات صبغة فردية أكبر. صار في الإمكان تخصيص قنوات لمحبي الموسيقى الكلاسيكية أو الفنون الشعبية والمواضيع الدينية وما شابه ذلك. بذلك ارتسم, عوضاً عن المجتمع الجماهيري الواحد ولعبة التخفيض التي تميزه, شكل تعددي للمجتمع باعتباره جملةً من الثقافات الفرعية المنتظِمة أكثر فأكثر والواعية لذاتها أكثر فأكثر.

علِّقت آمال مماثلة على تلفزة الكاسيت (الفيديو). كان من المفترض أن سوق الكاسيت ستصير سوق طلب عالي التخصص وأرفع ذوقاً من سوق وسائل الإعلام الجماهيري السابقة. وقد صار ممكناً الآن, بعد مضي ثلاثين عاماً, إجمال بعض النتائج. إنها عموماً غير سارة: تبين أن الحتمية التكنولوجية باطلة - أي أن التقنية الجديدة لا تقوم بالثورات الثقافية من تلقاء ذاتها. وعوضاً عن أن تعيد الأشكال التكنولوجية الجديدة تكوين المجتمع الجماهيري في مجال الوعي والأذواق جرت مكاملتها من قبل هذا المجتمع ووضعت في خدمة الحسية الوحشية اللذوية. صارت الاختبارات الحسية أكثر حذاقة وشذوذاً وحسب, لكنها لم تبدل منحاها. إن ثلثي أشرطة الفيديو المباعة هي من أفلام ثقافة الجملة الخلاعية وأفلام العنف ذاتها لكنها صارت أكثر "انعتاقاً" لغياب القيود الرقابية المفروضة على هذا النحو أو ذاك على التلفزيون المركزي.

من أين إذاً يجب أن نتوقع حدوث ثورة الوعي الجديدة وثورة تحول الحسية الجماهيرية الإنساني ؟

 

([1]( - هو منتدى مؤلف من عضوية ثلاثين دولة من أوربا الغربية وأمريكا الشمالية وغيرها من البلدان الغنية, تناقش فيه السياسات والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية وتبحث فيه القضايا العالمية المشتركة (المترجم).

([2]) -Narlarro V. Neoliberalism, "globalization", unemployment inequalities and rolefare state. // International journal of health serlleces. 1998. Vol. 28. ( 4.

([3]( - مصطلح لهايديغير يعني فقدان الشخصية.

([4]( - كيبريان يوستيوجسكي (توفي عام 1276). أرشمندريت , ومؤسس دير ميخائيلو أرخانغلسكي قرب لإوستيوغا في روسيا, وكان أول القيمين على هذا الدير. (المترجم).

([5]( - س. خوروجي (ولد عام 1941). أسقف روسي. درس الفيزياء في جامعة موسكو, وتخصص في نظرية الكم, حاصل على دكتوراة في العلوم الفيزيائية والرياضية. عمل أيضاً بالفلسفة. واهتم بالصوفية الشرقية, والفلسفة الدينية الروسية (المترجم).

([6]( - كليمنت الرومي (القرن الأول) – أسقف مسيحي في روما (المرجح أنه الثالث بعد الرسول بطرس) أبو الكنيسة. ارتبطت باسمه سلسلة من المؤلفات ("الكليمنتيات" وغيرها). (المترجم).

([7]( - يوحنا زلاتوأوست (ولد بين 344 و354, وتوفي عام 407) أحد آباء الكنيسة, رجل كنيسة بيزنطي. أسقف القسطنطينية (منذ عام 398), بليغ كنسي وخطيب مفوه. جعله نضاله من أجل إحقاق مثل التقشف ونقد الظلم الاجتماعي مشهوراً, لكنه بذلك ألب عليه أصحاب النفوذ في البلاط والإكليريوس الأعلى, فنفي عام 403, ثم أعيد خوفاً من غضب الشعب, ونفي من جديد عام 404

([8]( - اقتباس من: الأرشمندريت كيبريان. أنثروبولوجيا القديس غريغوري بالاما. موسكو, 1999, ص174و175.

([9]( - "الحرب والسلم" هي واحدة من أشهر روايات الكاتب الروسي المعروف ليف تولستوي (المترجم).

([10]( - ليف تولستوي. الأعمال الكاملة في 12 مجلداً. المجلد الخامس, موسكو, 1958. ص8 -9.

 

التالي

<< آفاق ثورة الوعي القادمة

 

السابق

جورج زيمِّل ضد ماكس ويبر>>

نقد البرجزة ما بعد البنيوي - في خدمة البرجوازيين الجدد

الثورة الثقافية العولمية >>

الفصل الثالث  العولمة الأمريكية  >> 

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

 << تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا