كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

الفصل الأول :

كيف نعيد للمستقبل حقوقه؟

 

رد الاعتبار للتاريخية.

 

إن "الهجمة" الإيديولوجية الليبرالية الحالية على مبدأ الابتعاد عن الحاضر لصالح المستقبل ما هي على النطاق النظري إلا سوء استخدام للنقد التكويني. لقد استغل دفاعُ المعاصَرَة الليبرالي طاقةَ الانفجار الارتدادي, أي رد الفعل المكبوت طويلاً على الاحتكار الإيديولوجي للتناول التكويني الماركسي. لم ينتزع "المستقبل المشرق" الشيوعي حقوق الحاضر المتعلقة بحاجات الناس القانونية إلى امتلاك شروط عيش إنسانية اليوم وحسب, بل لعب دور دليل براءة من الاضطهاد الشمولي على شكل ثمن بطاقة الدخول إلى المستقبل. لقد صار"الحاضر المطلق الليبرالي" عبارة عن ردة فعل مبررة نفسياً تجاه "المستقبل المطلق" الشيوعي.

لكن أضيف إلى ذلك ارتداد آخر: صارت شرعنةُ الأغنياءِ الجديدة ردةَ فعلٍ تجاه الحب المؤدلج اللامحدود للفقراء والبروليتاريين. وصار المستقبل يعتبر ضمن هذا السياق انحرافاً دهمائياً عن متطلبات الواقع – أي أنه هروب تاريخي من نوع خاص للناس غير القادرين على احتمال عبء الحياة اليومية والكسالى وغير القادرين على التكيف. صار العيش في الحاضر علامة التبصر والشجاعة, وصار العيش في المستقبل علامة الارتباط الإدماني بالحكايات والأساطير. ومن هنا تصير المسافة قريبة جداً لتفسير الانجذاب نحو المستقبل بأنه إرث الشرق مع ما يحمله من حماسة وصوفية مَرَضيتين.

هكذا تعامل أنصار الغرب لدينا مع المستقبل. لكن هل هم يعرفون التقاليد الغربية الكبرى؟ وإذا كان الغرب المعاصر يعاني من حساسية تجاه المستقبل فهل سيكون لنا شأن هنا مع استمرار هذه التقاليد أم الارتداد عنها؟ ينبغي من أجل الإجابة عن هذا السؤال تدقيق المكنون الأخلاقي النفسي, وإن نظرنا إلى أعمق, الوجودي للابتعاد المتواصل عن الحاضر لصالح المستقبل. لمن الغلبة هنا - للهروب من الحياة اليومية الصعبة أم, على العكس, للحماسة الإصلاحية الجبارة؟

يدل التحليل الثقافي للمجتمعات التقليدية دلالة دامغة على أن ممثلي هذه المجتمعات لم يظهروا أي انجذاب خاص نحو المستقبل. لقد ظهر الابتعاد عن المعاصَرة ومواجهتها بالمستقبل الأكثر جدارة مع ظهور ابتعاد الشخصية عن أواصر الجماعة ومعايير الوفاء الذي لا يقبل النقاش. إنه إنسان الزمن الجديد تحديداً هو الذي أقحم التمايز في تيار الزمن على شكل "الآن" الأبدية وشرعن عدم خضوعه بإدخال مسلمة عدم تساوي الماضي والحاضر والمستقبل في القيمة. لقد ساعدته على ذلك التقاليد المسيحية التي يلعب الدور الحاسم فيها مبدأ الانقطاع الآخراتي في سير الزمن – أي تدخل عالم آخر في الحياة المعاصرة الراضية والمكتفية والغارقة في الخطيئة.

لقد بشر يسوع بنهاية هذا الحاضر: "وفيما أنتم ذاهبون أَكرِزوا قائلين إنه قد اقترب ملكوت السموات". (متى 10, 7) كتب اللاهوتي الكاثوليكي المعروف كارل رانير([1]): "المسيحية – هي دين المستقبل. إنها... تفهم العالم باعتباره تاريخاً للخلاص, أي أنها بجوهرها الأصيل والنهائي ليست تعاليم عن جوهر العالم والإنسان السكوني المساوي لذاته... كل ما هو متوافر من أجلها – غير نهائي, وكل شيء يُفهَم فقط مما لم يأت بعد"([2]).

إن موقف نقدِ الحاضر باسم الآتي المقدس هو تحديداً الذي سمح لطائفة المسيحيين الأوائل الضعيفة بأن ترمي القفاز في وجه العولمة الرومانية المدعية السيادة المطلقة على العالم. حين يتم التأكيد على أن حركة الإصلاح هي التي أنجبت الحداثة ينبغي الغوص إلى أعماق مغزى هذه المقولة.

لقد عنى الإصلاح تجاوز الحدود – أي الخروج عن حدود الحاضر المزدرى بإيديولوجيته كلها وبكل ما فيه من توجه إجباري نحو المنبع المقدس – النص الإنجيلي.

قوَّم رجالات الإصلاح الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها منظومة ترسيخ للحاضر الخاطئ تعيق التقاء القطبين المقدسين: عهد البشارة بالمسيح وعهد "نهاية الزمن". لقد ألقى الإصلاح جانباً تجربة الحاضر المزيفة, هذا الحاضر المتجسد بإيديولوجية البابوية, ليصل بين القطبين الأقدسين البداية والنهاية. وبذلك لم يجر تحديث الغرب الأولي عبر مواجهة الزمن المعاصر بالماضي, بل عبر إقصائه أو تجاوزه.

إلى هذه النتيجة تحديداً يصل دارسو منابع العقلانية المعاصرة. إن براعم هذه العقلانية لا تظهر عن طريق الشرح المطول لـ "مغزى" المعاصَرَة واصطفاء أفضل أنموذجاتها النمطية بل عن طريق قمع عقلانيتها الالتزامية. كتب ف. ف. لازاريف: " لا يُلحظ الخروج من البروتستانتية إلى العقل الجديد عن طريق تخفيف الإيمان بل عن طريق تكثيفه وتركيزه إلى حد الوصول إلى قمع العقلانية السابقة فيه قمعاً تاماً واستئصالها, وإلى حد الانقطاع عن كل ذلك التعقل الذي ظل يخدم بخنوع نمط الحياة القديم مبررا النظم القائمة ومتصالحاً معها"([3]).

حدد الإصلاح بنية الحداثة السوسيوثقافية, الهادفة إلى إهمال الحاضر وإيضاح المحتوى الابتدائي غير المشوه, الذي ينبغي أن يشغل المكان في المستقبل. وعوضاً عن الانشغال بسبِّ الماضي وإعلاء شأن الحاضر بدت الكلاسيكية الحداثوية مشغولة بعمل أصعب وأعلى شأناً, وهو نقد الحاضر المتباهي بتنزهه عن الخطأ. إن هذا يتباين على نحو مدهش مع إيديولوجية التحديث الأحدث المنشغلة بكاملها بالتشهير بالماضي. حان الوقت كي نفهم أن نقد الماضي باسم تأكيد الحاضر لا يولِّد مجددين بل أشخاصاً متكيفين مع الزمن, ولا يولد معارضين لما هو سائد بل ممتثلين للقوانين والأعراف. وتبقى سخرية بوشكين خالدةً: "لا يحترم الغباء والوضاعة والفظاظة الماضي بل تتزلف للحاضر وحده".

على هذا النحو تمتلك الذهنية الحداثوية بنية أعقد بكثير من أحادية البعد المسطحة التي يبشر بها اليوم أنصار المعاصَرَة الراضية عن ذاتها. إذ تقبع في أساس هذه البنية عملية خاصة اكتشفتها الفلسفة الفينومينولوجية([4]) المعاصرِة.

سمى مؤسس هذه الفلسفة إدموند غوسيرل([5]) هذه العملية التخفيض الفينومينولوجي – أي إهمال كل ما يمكن أن يسمى تكديسات المعاصَرة. يعيدنا التخفيض الشاذ إلى تجربةٍ ما ابتدائية غير مشوهة. وواضح أن الشكل الابتدائي لهذا التخفيض هو تجربة حركة الإصلاح الديني التي أهملت سفسطة المذهب البابوي الإيديولوجية بهدف التوجه المباشر إلى النص الإنجيلي الأصلي. لقد سمح لوثر إذ ترجم الإنجيل من اللاتينية غير المفهومة للشعب إلى الألمانية, لكل إنسان في هذا العالم بالقيام بمثل هذا التخفيض – أي محاكمة المعاصَرة من موقع النص المقدس.

قدَّم فيلسوف القرن العشرين الأبرز مارتن هايديغر([6]) دراسةً لبنية المعرفة الساعية إلى التغلغل نحو حقيقة الوجود المتعكرة بالألعاب الجشعة أو تقلبات العصر. لقد شدد دائماً على أن هدف المعرفة الأكثر خلواً من أي أفق هو مطابقة هذه المعرفة مع الموجود – أي مع المعاصَرَة بتجلياتها الراهنة. تنكشف أصالة الوجود مع تخفيض جميع العلاقات التي تربطنا بالموجود المكتفي بذاته, وبكلمات أخرى – عبر تجاوز الحدود الذي يعني الابتعاد الشجاع عن ما يسمى "متطلبات الزمن". إن مثل هذا الابتعاد يمكن أن يتحقق بإيقاع متطابق إلى الوراء - إلى الأمام, أو, كما يكتب هايديغير, "إلى الوراء – أو إلى الأمام - نسبياً "([7]).

إن جعل "الموجود المستجوَب في وجوده" شفافاً فهذا معناه تأكيد انفتاح الوجود الإنساني, وخروجه المبدئي إلى ما وراء حدود "الآن" المكتفية بذاتها. يواجه هايديغر ردود أفعال وعينا التكيفية بالسعي إلى الوجود الأصيل. تتكشف هذه الأصالة عن طريق ضغط الحاضر من الجانبين باستخدام النبضين القادمين من الماضي (الأساس الأولي) ومن المستقبل (المشروع).

ينبغي أن يتم تقبل الحاضر (الموجود) لا في دائرته المنغلقة واكتفائه الذاتي, بل ضمن أفق الممكن على نحو مختلف. إن لوجودنا, احتكاماً إلى هايديغر, بنيةُ مشروعٍ وجودية. كتب المعلق هايديغر يقول: "المشروع الابتدائي هو التعبير عن خصوصية /الوجود –هنا/ المتمثلة في أنه غير متطابق قط مع ذاته, وأنه يمكن أن يحدث (ليس معطية وإنما افتراض...)"([8]).

تواجه الأنتولوجيا الهايديغرية منذ البداية الذوبانَ الذاتيَ المتراخي في "الإنسان" المجرَّد من الشخصية - أي التكيفَ والتأقلمَ المحمودين جداً اليوم بموقف التواجد. إن التواجد هو الاندفاع نحو أفق الممكن على نحو مختلف. أي استيضاح طرائق وجودنا التي لا تعكس الثبات والهدوء, بل القلق المرتبط بالبحث عن أصالتنا الذاتية. لا يتكشف الوجود باعتباره موجوداً – إنه مغلق وفاقاً لهذا الاعتبار - بل باعتباره مشروعاً. بكلمات أخرى, تنكشف أصالة الوجود مع استعدادنا لإقحام ذاتنا في تيار التاريخ.

إن الأكثر أصالة في الوجود هو ما يعتبر الأكثر تاريخيةً فيه - أي المتسامي من الحاضر نحو المستقبل. بهذا المعنى تحديداً يتحدث هايديغير عن مطابقة الوجود والزمن. كانت "نهاية التاريخ" المزعومة المرتبطة بالحاضر الكافي بذاته وبالتكيف السلبي معه ستعني أيضاً نهاية وجودنا – أي تحول الإنسان إلى شيء سلبي. إن مواجهة الوجود والموجود لدى هايديغير متناسبة مع المواجهة بين الموقفين الإسقاطي والتكيفي. يجسد الأكثر قدرة على التكيف, الذين تلح النظرية الليبرالية المعاصرة في التأكيد عليهم, فقدانَ الوجود, وذوبانَ الإنسان في "الشيئية" العدوانية والمبهرجة التي تبتلعه. أما التاريخية, أو الوجود في الزمن, فتعني التسامي المستمر والتفوق والإنتشاء.

لا يجوز في أي حال من الأحوال مقاربة هذا كله مع تجربة الذاتية الهستيرية والهوائية التي نعرفها اليوم, والتي تواجه الواقع الموضوعي بنزواتها اللذوية. لا يجوز فهم تاريخية الوجود بروح نظرية الحسية المتحررة الحديثة, التي لا شأن لها بالواقع الحقيقي وبمتطلباته كلها.

على العكس, لا تعني التاريخية انعدام الأرضية الأنتولوجية للمتهرب والرحالة المعاصر, الذي يأمل بالتحايل على الواقع, فإما ترتيب عيشه على حساب الآخرين أو "الانقطاع", بل تعني استعداده لتقاسم مأساوية الوجود. إن أي محاولة لترتيب واحات السعادة الخاصة على حساب زيادة القلاقل والفوضى في الخارج ما هي إلا موقف مخالف لتلك التاريخية التي صارت راية للحداثة الأوروبية العظيمة. ينبغي أن تُقوَّم "الفضائية" الماكرة, المرتبطة بالترتيب المنفرد لشؤونها وبإقامة الحواجز الدفاعية الماكرة حول تجويفها البيئي, على أنه رفض لمشروع الحداثة التاريخي, الذي يؤكد على وحدة المصير والأفق الإنساني.

لا تدلنا أنتولوجيا هايديغير, المطالِبة بالاندفاع من لا زمنية الوجود نحو تاريخية الوجود, على مفاهيم الحداثة الكلاسيكية وحسب, بل تدلنا أيضاً على أساليب تصحيح أحكامها التي أدت اليوم إلى أزمة التاريخية الأوربية, المتعرضة لإغراء "التأقلم مع المعاصَرَة".

تكمن عيوب المشروع الحداثوي الأوروبي في ثنائية الذات – الموضوع. منذ أن خُيِّلَ للإنسان الأوربي أنه هامشي (marginal) الكون العظيم الذي لا تلزمه بُنى هذا الكون بأي شيء ظهرَ خطرُ تشكل الذاتية - أي المواجهة المعرفية والتطبيقية بين الذات والعالم. إن فرار الغرب المرتبط برغبته في ترك العالم المحيط ليلقى مصيره, وبرغبته في ترتيب شؤونه على نحو منفرد, يرقى إلى ثنائية الذات – الموضوع هذه.

يواجه هايديغير هذه الثنائية ببنية الوجود الكامل وغير المجزأ, الذي تستحيل فيه مغامرات الوعي الماكر والراضي عن ذاته والمرتب شؤونه "بطريقة خاصة". إن عدم تجزئة الوجود يعني ترابطه الجذري المتبادل, وشموليته. صارت الشمولية الآن كلمة بذيئة في اللغة الليبرالية - أي رمزاً للتماسك السلفي, واللاتجزئة واللابنيوية. لكن هايديغير يضفي على هذا المفهوم أكثر المعاني معاصرةً, وأكثرها ارتباطاً بحقائق العالم العولمي, أي المترابط والمتصل في ما بينه. تواجه هذه الشمولية مفهومَ "المجتمع المفتوح" الرائج, إذ يتبين مع أول نظرة أننا نتعامل هنا مع حساب مضاعف: يعني الانفتاح تحريم الحماية الوقائية من جانب الخاسرين والمحرومين, أما ما يخص المنتصرين, فعلى العكس, إذ يمنحوا الحق بالدفاع عن فضائهم السعيد من تدخل منبوذي العالم.

المثال على هذا التعاطي هو اتفاقيات شينغن (1995)([9]), التي عكست استعداد الأسرة الأوربية المتكاملة لمحاصرة تدفق "الدخلاء" من العالم "الثالث" وكذلك من العالم "الثاني" السابق. إن موقف التاريخية متعارض تعارضاً مباشراً: إنه مرتبط بالاستعداد المشترك لإعادة تنظيم وجود البشرية كلها في بنية شاملة من غير الممكن تجزئتها في الفضاء. ترجع وحدة المصير هذه إلى مفهوم الخطيئة الأولى التوراتية, التي جرَّت اللعنة على البشر كلهم, وليس على "أسوأهم" فقط. يعني الاشتراك بالذنب الاشتراك بالخلاص أيضاً - لكن هذا المفهوم المسيحي منسي اليوم من قبل أنصار الخلاص المنفرد. المستقبل هو النسخة الأكثر إقناعاً للخلاص المشترك, الكامن في أساس التاريخية الإنسانية.

إننا نرى, على هذا النحو أن الافتتان بمستقبل مغاير نوعياً والابتعاد عن الحاضر ليس دليلاً على السلفية قط. الأدق: إن هذا "سلفية" مقدر لها أن تصحح المعاصَرة في أكثر مواقعها إيلاماً – أي حيث تفترق عن المطامح الإنسانية المجدِّدة للحداثة الكلاسيكية المستهدية باندفاع البشرية المشترك نحو المستقبل الأفضل. إن المحدث الأصيل هو ليس ذلك الذي يمتدح الحاضر ويتكيف معه. المحدِّث هو ذلك الذي يعقد مؤامرة غامضة مع المستقبل ضد الحاضر الواثق من نفسه والذي لا يعرف حدوده.

من الملائم هنا تدقيق بنية الوعي الإسقاطي. كان في مقدوره أن يكون إرادوياً خالصاً لو أنه أسس مواجهته للحاضر على تحليقات خياله الخاص وحدها. في حقيقة الأمر, تبدو في توجهنا الحماسي إلى المستقبل آثار حنين ما, آثار "ذكرى" ما عن الأفضل والأجدر والأكثر أصالة. وهذا الحنين لا يخص دائماً فترة محددة أو ظاهرة من الماضي. في الحال الأكثر عمومية تحمل "حنينية" الوعي المسقِط على الأرجح طابعاً أولياً يتجذَّر في أعماق أنموذجات الثقافة الأصيلة. إننا بهذا المعنى نتحدث عن الإيمان بالمستقبل.

ثمة مكان هنا ولا شك لتناظر غامض: يبرز إيماننا بالمستقبل بكامل موثوقيته حين لا يكون المستقبل المنتظر نتاجاً بسيطاً لخيالنا ولأحلامنا عن السعادة بل حين يستند إلى معايير قيمية ثقافية مترسخة في الذاكرة الجماعية على شكل فعل أمر قطعي ( ذات طابع أخلاقي - ديني في أغلب الأحيان). إن بنية المقدرة الإسقاطية هذه لدى المخيلة التاريخية الموجهة إلى المستقبل تُلزِم بالكثير نظريةَ التحديث المعاصرة. إنها تفضل اليوم إثبات أحقية المعاصَرَة راكلةً الماضي بعدمية. لكن لا يجوز تحويل المعاصَرَة إلى مطلق - فأحقيتها ليست مطلقة. ما إن تتخيل المعاصَرَة نفسها مطلقةً حتى تنحط على الفور مسفرة عن ممارسات مذمومة يبدأ "الماضي الملعون" ينتصر على خلفيتها. وأغلب الظن أن هذا ما يحدث اليوم في روسيا على خلفية ما يسمى "الإصلاحات".

الأمر مختلف تماماً إذا لم تبرز المعاصرة باسمها الخاص وحسب, بل إذا توجهت إلى كامل وجودنا, إلى الثوابت وأفعال الأمر المنقولة عبر المراحل التاريخية الطويلة. حينئذ يبرز مشروعنا للمستقبل على شكل تجسيد "للآمال الأبدية", وباعتباره مطلباً للوجود ذاته.

لهذا السبب تلقى نظرية التحديث الغربية المفروضة على الشرق من قبل المسيحيانيين الدخلاء المقاومة. اليوم يفضلون في الهند والصين وعدد من الدول الإسلامية الحديث عن إعادة بناء تقاليدهم الحضارية الخاصة بهم.

في هذه الحال يكتسب مشروعُ المستقبل الطابعَ الفطري لمستقبلنا, الذي توصل إليه الشعب بنفسه على أساس التقاليد الكتابية (الدينية) العظيمة, التي تتحول أفعال أمرها إلى مشروع. عندئذ ستحل لزاماً لحظة "التخفيض الفينومنولوجي": "ستلقى جانباً" المعاصرة التي تبدو كافيةً بذاتها والتي تحاول امتصاصنا, لكي يصطدم مباشرةً نص الماضي العظيم ومتطلبات المستقبل.

من البدهي, طبعاً, أن هذا النمط تحديداً من التحديث الفطري هو وحده الذي يمكن الاعتراف بأنه ديمقراطي حقاً.

الأمر الآخر - لا يمكن أن يدور أي حديث عن استقلالية الشعب الديمقراطية حين يطلب "مشيدو الديمقراطية" منه, وهم ينتهكون كرامته القومية, أن يتبع مذعناً وصفات الديمقراطية "الجاهزة" المستعارة, التي لا يبقى إلا اقتباسها من غير تشويهها بـ "العنديات" قدر المستطاع. ليس ما يناط بالشعب هو لعب دور الذات المستقلة التي تحل بإبداع مسائل مستقبلها الخاص, بل دور المادة الأولية السلبية التي تعالَج بوصفات جاهزة على يد تقنيين سياسيين غير ماهرين. يحاول "التقنيون" البحث عن مستقبل جاهز في الفضاء؛ ويدور الحديث, طبعاً, عن فضاء الغرب المزدهر الأنموذجي.

 

لا يمكن في حقيقة الأمر امتلاك المستقبل في الفضاء, أو الحصول عليه كسيولة تمت مقايضتها بهذه التنازلات الجيوسياسية أو تلك. يمكن امتلاك المستقبل في الزمن فقط. بكلمات أخرى, التحديث الأصيل هو إجراء الكشف عن ما هو موجود من حيث المبدأ لدى أي كان وما يزال غير معروف لأحد. لا يمكن تخمين المستقبل على غرار التلميذ الذي يحزر جواب المسألة المعروف للمعلم مسبقاً؛ فالمستقبل يُبدَع. أما حال الإبداع فتتطلب وضعاً خاصاً: استقلال المبدعين الذاتي وحسهم بالمسؤولية واحترامهم الكبير لأنفسهم.

 

المستقبل باعتباره إعادة إحياء لمبدأ التكثيف

 

لقد كشفت العولمة الحالية عن سرها: إنها ردة الاقتصاد العالمي الانتشاري المرتبط بالجذب الهائل للموارد الجديدة الرخيصة.

لقد صمتت اليوم في الغرب أصوات المنبهين القلقة, حماة الطبيعة, ومعارضي سباق التسلح ونقدة المجتمع الاستهلاكي, لأن "المنتصرين" يأملون في أثناء إعادة تقسيم العالم العولمية الجديدة بالحصول على حقنة هائلة من الموارد. عدا ذلك, يُلحظ اليوم بحدة تراجع آخر. لقد ضعف اليوم على نحو ملحوظ في الغرب التضاد المميز لعصر الحداثة بين الانتشاري والتكثيفي, والذي ارتبط به في الواقع الانتقال من المجتمع الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي, وإلى العلم باعتباره قوة منتجة مباشرة.

هنا يحافظ على توجيهيته تناول ماركس الذي يميز بين إنتاج القيمة المضافة المطلقة المرتبطة بزيادة حجم زمن العمل (وكذلك المواد الأولية والطاقة الكهربائية وما شابهها المستجرة في الانتاج) وإنتاج القيمة المضافة النسبية, حين يرتكز نمو الربح على غزارة الانتاج وزيادة إنتاجية العمل. سأتعمد هنا أن أترك جانباً نقد "الحقائق المستترة" - مثل القيمة والقيمة المضافة - الذي وجهته النظرية الاقتصاية الوضعية المعاصرة للماركسية. فهذا النقد لم يستبعد الفرق نفسه بين الأسلوب الانتشاري والأسلوب التكثيفي في الاقتصاد. يستند التكثيف (الإكثار), كما يعترف الجميع, إلى ضم عوامل غير إنتاجية إلى عملية الإنتاج كالعلم والتعليم ومنظومة إعادة الإنتاج الديموغرافي والصحة وما شابه ذلك.

وقف البرجوازي الكلاسيكي معارضاً لهذا كله. كان كل ما هو غير مندرج في إنتاج الربح مباشرة وكل ما هو خارج عن حدود المؤسسة باعتبارها منظومة توحيد العمل ورأس المال, غريباً عنه وغير مفهوم له ومنسوباً إلى العناصر التزيينية في الحضارة, هذه العناصر التي تديرها إما التقليدية العنيدة وإما البوهيميا المزاجية. يعكس, في الواقع, مجملُ نقدِ الوضعية لما يسمى "المرحلة الميتافيزيقية" ولكل ما يمكن "للميتافيزيقيا" أن تختبئ في أحشائه اليوم – الممارسات الفكرية والفنية غير النفعية وغير المنقولة إلى لغة الأرقام, و"الثقافة الضاحكة" الشعبية (م. باختين) والفلكلور واستدلال المعنى الفلسفي وأهداف الوجود - العلاقةَ البرجوازيةَ النفعية بالعالم, وعدم احتمال استعباده تكنولوجياً واقتصادياً.

ما عادت مثل هذه الوضعية البدائية تحظى اليوم بالاهتمام في الغرب. لقد أدى من جهة الضغط الاجتماعي السياسي والحضاري على طبقة المستثمرين من جانب الدولة الاجتماعية والمجموعات كلها التي تقف وراءها, ومن جهة أخرى اكتشاف أن العلم التطبيقي والفن التطبيقي (الديزاين), والعلوم الثقافية التطبيقية والإثنوغرافيا (التي تدرس الخصائص النفسية لدى القوى العاملة المحلية أو وعي المستهلك) ترفع الفاعلية الاقتصادية, إلى جعل البرجوازي يهادن الحضارة, جزئياً على الأقل, باعتبارها منبعاً للانتاج الاجتماعي والروحي المعاصر وأساساً له. لكن هذا لا يعني أنه لم يدع أقل فرصة متاحة إلا وحاول فيها استغلال نتائج هذا التطور الحضاري كلها باعتبارها مجانية, أو إلقاء كلفة النفقات المترتبة على ذلك على كاهل الدولة وغيرها من المرجعيات "غير الاقتصادية". ضمن هذا السياق تحدث ماركس عن أن الرأسمالي "يغتصب الحضارة"([10]).

"من جهة يستحضر رأسُ المال إلى الحياة قوى العلم والطبيعة كلها تماماً كما يستحضر قوى المراكبة الاجتماعية والتواصل الاجتماعي - ليجعل بناء الثروة مستقلاً (نسبياً) عن زمن العمل المهدور على هذا البناء. ومن جهة أخرى يرغب رأس المال في أن يقيس بزمن العمل هذه القوى الاجتماعية الجبارة المبنية بهذه الطريقة, حاشراً إياها داخل حدودٍ ضروريةٍ من أجل الحفاظ على القيمة المبنية على هيئة قيمة"([11]).

 

يحمل اليوم هذا البرنامج الهادف إلى تحويل المنتجات المدركة وغير المدركة ومنجزات الحضارة كلها إلى قيمة اسم "إصلاحات السوق".

تبرز هنا سلسلة كاملة من الأسئلة. أولاً, علينا الاعتراف بأن الإغواء (المدعَّم بإمكانات المنتصرين الحقيقية) باستغلال موارد الحضارة باعتبارها موارد مجانية قد ازداد بحدة في ظروف العالم العولمي المعاصر. بمقدار ما تنطلق الشركات العبرقارية إلى ما وراء القسم الغربي من المعمورة تتحول علاقات الشراكة بين العمل ورأس المال إلى استغلال غير حضاري للسكان الأصليين ومواردهم. هذا يخص أيضاً رأس المال الكومبرادوري الذي يفعل فعله في وطنه الذي ما عاد يعتبره وطناً له.

لقد بدأت أخلاق اللصوص العابرين, المستعدين لترك "هذه البلاد" صحراء قاحلة خلفهم, تتغلب بوضوح على علاقات الشراكة المدنية المسؤولة التي بذل الكثير من أجل قيامها. ينتج على هذا النحو أن المجتمع العولمي المفتوح - المفتوح من أجل استغلال فاتحي السوق العالمية عديمي الحياء - لا يقودنا إلى الأمام بل إلى الوراء, من العلاقات المدنية إلى العلاقات الاستعمارية.

ثانياً, إن تحويل العلم والتواصل والتعليم والثقافة الحالي الشامل إلى تجارة يشوه في الكثير من الجوانب ثمار الحضارة هذه. يقول الشاعر: "لا يباع الإلهام, لكن المخطوط يمكن أن يباع". لكن كيف يؤثر أفق بيع نتائج الإلهام على الإلهام ذاته - هذا ما لم يحدثنا أحد عنه حديثاً مقنعاً حتى الآن. هل سيستحوذ فضاء الإلهام على فضاء السوق, أم أن نمو هذا الأخير سيؤدي إلى انكماش الأول - هذا هو السؤال. يمكن الافتراض أنه تحت تأثير توقعات السوق تجري في العملية الثقافية الإبداعية تطورات بنيوية خاصة مرتبطة بإبعاد العناصر الأقل قابلية للتنبؤ بها من قبل العناصر الأكثر قابلية للتنبؤ بها والمقوَّمة تقويماً كمياً.

سينفعنا هنا الفارق الذي أقره كانط بين تنبؤية الموهبة العلمية وعدم تنبؤية العبقرية الفنية (مع تصحيح واحد فقط هو أن الإبداع في العلوم الأساسية يقع ضمن الفئة الثانية). هاكم ما قاله كانط بخصوص حرية المخيلة الإبداعية المرتبطة بعفوية العبقرية: "... العبقرية 1) هي موهبةُ خلقِ ما ليس من الممكن أن يكون مقدراً خلقه لأي قاعدة محددة, إنها لا تعتبر إرهاصاً من إرهاصات الحنكة في خلق ما يمكن دراسته وفاقاً لقاعدة ما, وبالتالي فإن الابتكار ينبغي أن يكون أول صفة من صفات العبقرية؛ 2) بما أن السخافة قد تكون مبتكرة لذا ينبغي أن تكون نتاجات هذا الابتكار في الوقت نفسه أنموذجات, أي نتاجات إرشادية, بالتالي لا ينبغي على هذه النتاجات أن تظهر عن طريق التقليد, وإنما ينبغي أن تكون موضع التقليد عند الآخرين, أي أن تكون معياراً أو قاعدة للتقويم؛ 3) لا يستطيع العبقري من تلقاء نفسه أن يبرهن أو يصف كيف يخلق إنتاجه علمياً؛ إنه يقدم القاعدة باعتبارها طبيعةً؛ ولهذا لا يدري مؤلف المنتج نفسه, الذي يدين به لعبقريته, بأي وسيلة تواجدت لديه الأفكار من أجل ذلك, وليس في وسعه أن يأتي بها بحرية أو على نحو مخطط, وينقلها إلى الآخرين ضمن إرشادات تجعل هؤلاء الآخرين أيضاً قادرين على خلق مثل هذا المنتج"([12]).

لكن إذا كانت الشخصية الإبداعية مضطرة إلى أن تساير طلب السوق, فإن عليها بذلك الابتعاد عن عدم تنبؤية الإلهام وأن "تبتكر" أفكارها "وفاقاً للمخطط". أليس من حقنا أن نفترض أن إثقال إلهة الشعر بصرامة الطلب يمكن أن يهينها – أي الاستبدال بتوهج الإلهام المهنية الابتكارية التي لا تطال النجوم في السماء؟ يخيل أن الأعراض المقلقة لندرة المواهب الكبيرة في العلم والثقافة, ولندرة الطباع الإبداعية الضخمة, التي تترك المكان لحساسية المهنية السوقية المداهنة, قد باتت بينة للعيان. ليس من يسمون "الأناس المعاصرين" هم من كوَّن صندوق الأفكار الكبرى الذي ما تزال المعاصَرَة تتغذى منه, بل إنهم, احتكاماً للمقاييس كافة, أناس غير "معاصرين", وواضح أن هذا الصندوق آخذ بالنفاد.

ثالثاً, هل يمكن أن ننسب إلى السوق المقدرة العجيبة على ان تنتقي من بين الإرث الثقافي المتنوع كله ما تحتاج إليه البشرية فعلاً ليس فقط من أجل حاجات السوق, وفي الوقت نفسه ليس ما تحتاج إليه اليوم, وليس الآن, بل لوقت غير محدد في المستقبل؟ ألا نغامر إذ نسدد "البنية الفوقية" السابقة ديةً للسوق, ونحكم بالموت والزوال على ما يمكن أن يكون الأندر والأكثر إلحاحاً في المستقبل البعيد نوعاً ما؟ ألا تعتبر واقعية اصطفاء السوق أحادية البعد, والأهم, قصيرة الأجل؟

لقد سادت منذ وقت قريب نسبياً وجهة نظر تقول إن الأفضل هو بناء الرأسمالية في فضاء "منظَّف" أو "فارغ" أو غير مثقل بالمخلفات الثقافية. يجري اليوم التعبير أكثر فأكثر عن فكرة أن الرأسمالية الأوربية مدينة بالكثير جداً من نجاحاتها للمقدمات "ما قبل البرجوازية". وحيث يحاولون في حقيقة الأمر البدء من الصفر في الفضاء "المنظف" بلامبالاة على يد المحدثين الشجعان سيظهر, بدلاً من البرجوازيين حسني السلوك, المبتزون, وستظهر عوضاً عن المثابرة الاستثمارية جسارة النصابين القرصانية.

وتشرع تلح فكرة أن المنظومة السوسيوثقافية "الثنوية", المرتكزة إلى مبدأ التكميلية, يمكن أن تعتبر منظومة واسعة الأفق. تصون مثل هذه المنظومة, إضافة إلى فضاء السوق, الواحات الخصوصية للثقافة, المسموح لها بالوجود والتطور وفاقاً لمعايير غير معايير السوق. عندئذ لن يكون لزاماً على الحديث أن يدور عن الثنائية المعروفة: الدولة – السوق. إذ يمكن لواحات الثقافة اللاسوقية أن تبني مجتمعاً مدنياً ذاتياً وترعرعه عن طريق بناء شتى أنواع الصناديق الاجتماعية والعلمية والثقافية التعليمية الاجتماعية, وغيرها من أشكال التعاون اللاسوقي.

بم تميز, بهذا المعنى, ظهور مجتمع السوق العولمي؟ لقد تميز بعصيان جديد من قبل البرجوازي التجاري على الثقافة والحضارة ومجمل المعايير والقيود المفروضة من قبلهما. قرر البرجوازي – المرابي العالمي من جديد, إذ دب الحماس فيه بسقوط البديل الاشتراكي, أن الثقافة هي تفاهة, وأن الأخلاق هي ملجأ لغير القادرين على التكيف. علينا أن نقول إن مقدمات وجود البرجوازي - المستثمر الكلاسيكي ووجود البرجوازي – المرابي والمبتز المعاصر هي حقاً مختلفة اختلافاً جوهرياً. كان البرجوازي السابق, باعتباره منظِّماً لعملية الإنتاج, ذا مصلحة موضوعية في انضباطية الشخص التي تعتبر نتاجاً لانضباطية الحضارة بالكامل, وذا مصلحة في نمو مستوى العاملين التأهيلي – التعليمي, وفي قابلية التنبؤ بسلوك الشركاء المدعمة بالأخلاق والرأي العام المعبأ.

أما البرجوازي – القرصان العولمي الحالي, الذي فرض الخوة على شعوب بأكملها وهرَّب الثروات الوطنية, فغير مهتم مسبقاً بأي شيء من هذا القبيل. لذلك يمكن التنبؤ بأمر جديد قد لا يكون له مثيل من حيث قوته, وهو تأجج الصراع ليس فقط بين الأممية المالية العولمية والشعوب المستغَلَّة, بل بين البرجوازيين الجدد والنخب المبدعة الممثلة للمجتمع ما بعد الصناعي أو مجتمع المعلوماتية. من الضروري التأكيد على أن فضاء النخبة وفضاء منتجي البضائع والخدمات البرجوازيين (لا نتكلم هنا على المضاربين الماليين الذين لا ينتجون شيئاً) يختلفان اختلافاً نوعياً.

يعمل المستثمر في السوق في فضاء الأشياء – المنتجات النهائية المتمايز. فمن جهة المادة الأولية ووسائل العمل والقوة العاملة, ومن جهة أخرى المنتج النهائي, الذي يتخذ شكل السلعة. يعرف البرجوازي جيداً أين اشترى الأشياء الأولى, وكم كلفه الثاني - بهذا المعنى يظل هذا البرجوازي يعيش في كون نيوتن الجبري المحسوب كله. أما ممثلو العمل الإبداعي - أي رجالات العلم والثقافة, فيعيشون في فضاء الأفكار والمحفزات العامة الانتشاري, التي لا يمكن قط القول بدقة من أين تظهر وما الذي يلهمها وما الغرض منها في نهاية المطاف. إنه العالم الخاص للتراكم الحضاري العام, الذي لا تتحقق منتجاته من حيث المبدأ ولا تُحسب في مسارها المستقبلي المنفصل.

إن العقلنة البرجوازية, التي يتحدث اليوم عنها كثيراً أنصار السوق العولمية الشاملة كل شيء, تعني محاولة الشكلنة التامة – أي الترجمة إلى لغة الأرقام والإرشادات - لكل ما يوجد على نحو اختياري وغير شكلي, باعتباره منتجا عفوياً للطبيعة والثقافة وباعتباره لعبة بين الحياة والإلهام.

تتصف أعمال كورت غيديل([13]) بأهمية مبدئية من أجل التشكيك بالمبدأ الحسابي البرجوازي المستخدم في الثقافة, وخصوصاُ نظريته حول قصور المنظومات المشكلنة. تعتمد محاولات الشكلنة الشاملة لأي منظومة رمزية على الحدود المرتبطة بتوافر المقترحات غير القابلة للحل (أي غير المبرهنة وفي الوقت نفسه غير المختبرة). والعكس صحيح: تغدو أية منظومة قواعد وإجراءات إرشادية نهائيةٍ غيرَ كافية من أجل التأمين التام لأي ممارسة عملية. وهذه الأخيرة تحوي دائماً على مقدمات غير مفسرة (خفية) لا يستطيع أي مشرِّع أن ينظر فيها ويقدرها([14]).

لكن مؤسس الفينومينولوجيا الفيلسوف الألماني إدوارد غوسيرل عبَّر قبل غيديل, الذي صاغ قضيته عام 1931, عن الأفكار نفسها في مفهومي المحتوى الموضوعاتي وغير الموضوعاتي لوعينا (والثقافة بالكامل). "غير الموضوعاتي هو ما لا يقع في اللحظة المعنية في حقل الوعي الحيوي, وإنما يشكل محتواه الكامن, أي تلك "الخلفية" أو "الأفق" الذي يمكن جعله "موضوعاتياً" طبقةً إثر طبقة, لكن من المستحيل جعله حيوياً حتى النهاية"([15]).

تنضوي أي منظومة ثقافية, وخصوصاً إذا كانت غير صارمة كالمنظومة الثقافية الإنسانية, على جملة من المحتويات غير الموضوعاتية "الكامنة", التي يستحيل مسبقاً وضع اليد عليها وتقدير قابلية استخداماتها العملية وفائدتها الاجتماعية في المستقبل.

كانت هذه القرائن ستفيد كلها على نحو رائع في نقد التخطيط الاشتراكي البيروقراطي للاقتصاد, ونقد التعاطي الحزبي مع العلم والفن. لكنها, كما تبين, حافظت على كمونها التوجيهي النقدي من أجل محاولات شمل الثقافة بالتناول السوقي الذي يلزمها بتقديم تقرير كامل عن فائدتها ومردوديتها. يتلخص الأمر في أن ما ينسب في الثقافة إلى غير المشكلن وغير النفعي هو تحديداً ما سيغدو في نهاية المطاف حتماً الأكثر قيمة والأوسع أفقاً. هذا لا يعني ضرورة إكساب الإبداع الثقافي وضعاً زخرفياً واختيارياً. وإنما يعني فقط أن من غير الممكن الطلب من الثقافة تنفيذ هذه الالتزامات أو تلك مهما بدت حكيمةً ومقنعة.

لا يدور الحديث عن نظرية الفن من أجل الفن ومثيلاتها من النظريات المستخدمة في العلم أو التعليم. يمتلك الإبداع الثقافي معاييره الخاصة, لكن هذه المعايير تخرج خارج أطر أي طلب اجتماعي مهما كان. لا تقاس أصالة الإبداع بالطلب الاجتماعي بل تقاس بشرائع أسمى هي شرائع الذوق والأخلاق وخدمة "الفكرة العليا". لا يتلخص الأمر على هذا النحو في إخراج العمل الإبداعي من تبعيته للمعايير, بل في الحفاظ على الطابع الفطري لدى هذه المعايير ذاتها - أي إمكان أن يكون المبدعون موجهين من الداخل وليس من الخارج.

تكمن مشكلة الحضارة, التي تتعرض لهجوم أنصار المنفعة الكبار - الشيوعيين في الأمس, ورأسماليي السوق اليوم, في حماية عالم الشخصية الداخلي وعالم الثقافة الخارجي في وقت واحد مع السماح لهذين العالمين بالتطور من غير الالتفات كل دقيقة إلى المعايير الوظيفية ومن غير أن تقيس نفسها مسبقاً إليها فقط. إذا سمينا المحاكمات المحوَّلة إلى ممارسات ومخططات تكنولوجية إرشادية محاكماتٍ توجيهية (إرشادية), ورمزنا إلى المحاكمات الدائرة في مجال الأفكار "الأفلاطونية" التي تشمل الثالوث الكلاسيكي "الحقيقة والخير والجمال" بالمحاكمات اللاتوجيهية فإننا سنكتشف أن الثقافة لا يمكن أن تعيش وتبدع إلا في تناسبات معلومة بين هذين النوعين من المحاكمات.

عند الإخلال بالتوازن المتحرك تاريخياً بينهما لصالح اللاتوجيهي تتعرض الثقافة لخطر التحول إلى لعبةٍ وتنميطٍ وانحطاط. لكن ثأر الذرائعي والتوجيهي الزائد عن الحد على نحو يخل باستقلالية البداية "الأفلاطونية" يهدد الحضارة إما باستنفار "المنفذين الخانعين", وإما بالانتقال إلى وضع صيرفيي السوق الذين لا يعرفون القيمة الحقيقة لما يصرِّفون.

تبرز اليوم من جديد – وبإلحاح لا سابق له - مسألة العلاقات المتبادلة بين الوسط الإنتاجي الداخلي (بالمعنى الواسع للكلمة) والوسط السوسيوثقافي الخارجي – وهو الوسط نفسه الذي تتولد فيه أفكار الثقافة والعلم الكبرى, وتتكون فيه آمال المجتمع المعاصر العامة وطموحاته. بكلمات أخرى – المسألة المتعلقة بمشكلات التكامل بين منظومتي المجتمع الفرعيتين الإنتاجية والسوسيوثقافية. هنا تعلن عن نفسها التناقضات الحادة التي تبرز بشكليها الذاتي والموضوعي.

في الجانب الذاتي يدور الحديث عن أنه كلما ازداد ابتعاد أشكال محددة من الإبداع الثقافي عن مجال الفائدة التطبيقية (السوقية) ازدادت إثارتها لاهتياج الوسط الاستثماري غير المدرِك لماذا هذه الأشكال "موجودة أساساً". إن هذا يذكرنا نوعاً ما بالعداء الموصوف من قبل تشارلز سنو([16]) بين الثقافتين – التقنية والإنسانية. لكن ما نعنيه في حالنا هذه هو التناقض بين ثقافة الأفكار العامة (الأساسية) أياً كان المجال الذي تنتمي إليه والثقافة التجارية – النفعية, التي قدر لها أن لا تفهم وأن لا تتقبل إلا ما يجلب الفوائد العاجلة.

أما في الجانب الموضوعي فيدور الحديث عن أنه كلما ازداد الطابع العام والمستقبلي من الناحية التأسيسة, الذي تتميز به هذه الأفكار الإبداعية أو تلك, قلت حظوظها في التحول إلى ممارسة, وفي التحول التكنولوجي ضمن منظومة اعتادت على العمل في الأفق القريب فقط. طبعاً, يمكن الإشاحة عن هذا التناقض والإعلان أنه إذا لم تستطع ثقافة الأفكار العامة أن تلحظ منفعتها التطبيقية السوقية, فإن حالها ستصير أسوأ وهي بذلك محكومة بالتهميش والاندثار. ويبدو أن هذا الحكم تحديداً هو الذي أصدره مسيحيانيو السوق الحاليون ومنظمو "الإصلاحات".

لكن هذا يعني إصدار الحكم على مواصفة خصوصية من مواصفات الحداثة مثل أسلوب التطور التكثيفي. يعني التطور الانتشاري في واقع الامر الإصدار اللانهائي للأنموذجات المكتشفة والمختبرة. وهذا من الناحية العامة ليس إلا إدامة المعاصَرَة التي يتحرق شوقاً إليها مروجو "نهاية التاريخ".

من الناحية العملية يعني الأسلوب الانتشاري عزل الوسط الإنتاجي عن الوسط السوسيوثقافي القلق والواقع خارجه, والذي تتولد فيه الأفكار الإبداعية الجديدة.

وعلى العكس من ذلك, يفترض التكثيف (الإكثار) التقاء هذين النوعين المختلفين من الأوساط: وسط الإنتاج المنظم والمنصاع للقوانين والخاضع للمعايير ووسط الخيال الإبداعي المتحرر, غير المقيد بأي طلبات اجتماعية قاسية وبأي أنظمة مؤسساتية. عندئذ يفعل فعله القانون التالي: كلما كان هذا النشاط المنسوب إلى عالم الأفكار الإبداعية أو ذلك أبعدَ عن مجال التنفيذ الإنتاجي المباشر ازدادت فاعلية تكثيف الإنتاج في حال إشراك هذا النشاط في العملية الإنتاجية إشراكاً فاعلاً. تتجلى في هذا الأمر المفارقة الكانطية المتعلقة بالعملية الابتكارية: تصير هذه العملية أكثر فاعلية كلما قلت فيها "المقترحات المعقلنة" المخطط لها مسبقاً والمندرجة ضمن منظومة التوقعات الإنتاجية المتكونة.

ولا نحصل على درجة التكثيف الصفرية إلا حين ينغلق المجال الإنتاجي على ذاته تماماً ويتحصن ضد اقتحام الأفكار من جانب العالم السوسيوثقافي الأقل تنظيماً. أما بعد ذلك فتنتظم التراتبية التالية:

تكشف لنا مشاركة العلوم التقنية بمجمعها العلمي المعلوماتي في المجال الإنتاجي عن أفق التكثيف الأول الأكثر توقعاً.

تكشف لنا مشاركة مجمع العلوم الطبيعية الذي يضم الاكتشافات الأساسية في بنية المادة والحقل الأفق الثاني الأوسع. ثم ستنكشف آفاق أكثر إغراءً مع مشاركة العلوم عن الحياة بمجمعها البيولوجي في العملية الإنتاجية. ترمز الاختراقات المستندة إلى هذا في مجال التكنولوجيا الحيوية إلى لحظة الانتقال من الإنتاج الصناعي الكلاسيكي الذي تميزه المركزية التقنية إلى الإنتاج ما بعد الصناعي الذي يجسد الأنموذج القياسي الجديد للمركزية الحيوية والمركزية الأنثروبولوجية. تتحقق الخصوصية الأخيرة بمقدار مشاركة مجمل مجمع العلوم عن الإنسان - علم النفس والأنثروبولوجيا الثقافية وعلم اللغة ونظرية الإتصال الاجتماعي وما شابهها في التطبيقات الإنتاجية التكنولوجية.

ينبغي التأكيد على خصوصية هامة: كلما صعدنا على سلم العلوم – من علم الميكانيكا إلى البيولوجيا والأنثروبولوجيا, اقتربنا بدرجة أكبر من عالم الأفكار العامة التي يظل منشؤها غامضاً ومخفياً في حقل التماسك الثقافي (الذي تسلك عناصره سلوكاً نزوياً ولا وجودياً). هذا هو في حقيقة الأمر مجال "العبقرية" الكانطية, الذي لا يمكنه أن يدرك من أين تحديداً استمد هذه الأفكار أو تلك, وما هي منابع إلهامه النهائية.

أما السوق باعتبارها منظومة "تحويل إلى فائدة" واختبارٍ بالفائدة فتطلب من "عبقرية" الإبداع السوسيوثقافي العام تقديم تقرير صارم متعلق تحديداً بكيفية الحصول على هذه الفكرة أو تلك وأين تم الحصول عليها وما هي النتيجة العملية المنظورة التي يمكن توقعها منها. والحديث لا يدور عن تقرير إيديولوجي أو إداري – بيروقراطي, وهو ما كان يميز "الاشتراكية الواقعية", بل يدور عن العقلانية الاقتصادية الراغبة في معرفة أين ينبغي إيداع الأموال وإلى أي أمد. لكن عبقري الثقافة, "المتسكع البطال" لا يستطيع مع رغبته في ذلك أن يستجيب لطلبات هذه العقلانية: إنه لا يعرف حقاً معرفة دقيقة لا لمن يدين باكتشافه (ليس للإلهام الإبداعي ارتباط محدد بفروع ما) ولا أي نتائج تطبيقة, ناهيكم عن التجارية, ستسفر عنها.

 

 

ورداً على هذه الروح النزوية "البوهيمية" ثمة لدى البرجوازي إجراء قمعي جاهز: رفض تمويل أي نشاط لا يحسن تقديم حساب اقتصادي واضح. هذا مع العلم أننا نتحدث عن البرجوازي من النمط الاستثماري الكلاسيكي الأفضل؛ أما البرجوازي المعاصر - أي المضارب والمرابي, والنصاب فمن الأفضل هنا أن لا نأتي على ذكره إطلاقاً. باختصار, أفق منظومة السوق مغلق في الأساس عند ما الذي يثبت جدارته في التجربة الاقتصادية اليومية وما الذي يضمن المردود السريع.

على العكس من ذلك, يمثل مجال الأفكار الأساسية الكبرى, التي تعتبر منبع النمو التكثيفي, توسعَ المستقبل المدعو إلى الحاضر. إذا لم يرغب المجتمع في أن يفقد هكذا مستقبل فعليه أن يجد طريقة لدعم منظومة المراكمة السوسيوثقافية هذه, لا بتقديم ضمانات مالية سخية وحسب, بل بضمان حرية الإبداع أيضاً. تدل التجربة اليوم على أن الاختيار بين الرقابة الشمولية ورقابة السوق يفضي إلى طريق مسدودة: إن نوعي الرقابة هذين يقوضان الشروط العامة للمراكمة الروحية, وبذلك يقوضان النمو التكثيفي الموجه نحو المستقبل.

على هذا الأساس يمكن التنبؤ اليوم بنزاع جديد بين البرجوازي والنخبة الفكرية. كانا في الفترة ما بعد الشمولية الأولى قد تصالحا على الحرية. لكن, كما تبين, لم يكن"ضليعو الحرية" المحترفون من معسكر فئة المثقفين المبدعين هم من استغل الحرية ما بعد الشمولية أفضل استغلال, بل سريو اقتصاد الظل الخارجون إلى النور, الذين لا شأن لهم بالأسئلة المتعلقة بشروط الحفاظ على الوسط الثقافي وتطويره. وقد غدت الإيديولوجيا الليبرالية المعاصرة حليفة لهذه السرية لأن البند البرنامجي الرئيسي في هذه الإيديولوجيا هو الحد من رقابة الدولة وتدخلها.

إن مثل هذا التعريف السلبي الخالص للحرية لا يقول لنا شيئاً عن الشروط الإيجابية لتطور الإنتاج الروحي المعاصر, الذي يلعب دور المراكم المعلوماتي العام. تعني المراكمة في المجال الروحي, مثلها كمثل المراكمة الاقتصادية, زيادة الأفكار والمواضيع غيرالمخصصة من أجل "الاستعمال" الفوري, بل التي تعتبر استثماراً للمستقبل. ليس في وسع السوق من تلقاء نفسها تأمين مثل هذا الاستثمار الروحي – الفكري للمستقبل. فمنظومة عدم التحديد السائدة في مثل هذه الأجواء, كتعليم الشباب العام, وأوقات الفراغ, والعلوم الأساسية والفن, والتأمين المعيشي للمجموعات غير المنتمية إلى عداد السكان المعتمدين على ذاتهم لكن المستوعبة بنشاط للمعلومة السوسيوثقافية, لا يمكن أن تُحل شيفرتها من قبل السوق التي تختبر كل شيء في الدنيا وفاقاً لمعيار الربحية. لذلك يبدو راديكاليو التعاطي السوقي الليبراليون مستعدين ببساطة لتدمير "اختيارية الثقافة" كلها غير القادرة على تقديم الحسابات وفاقاً للجداول المالية.

إنهم ينسون في أثناء ذلك أن المجتمع يحكم بذلك على نفسه بتآكل رأسماله الأساسي المتمثل بالحضارة ذاتها بكامل بنيتها التحتية الثقافية – المعلوماتية والديموغرافية والأخلاقية, التي تؤمن ممارساتنا الشرعية كلها. إن هذا الرأسمال المحروم من تعهد خطي من جانب الوسط السوسيوثقافي العام الواقع خارج حدود المؤسسة والمدمَّر حالياً بغير رحمة, قد "يتآكل" في حياة جيلنا. ويتكشف هذا التهديد بأكمل صوره على مستوى المشكلات العولمية.


 

([1]( - كارل رانير (1904 -1984) لاهوتي كاثوليكي ألماني, يسوعي, علم في جامعات إينسبرغ وميونخين ومينستر. أصدر وحرر "المعجم الكنسي -اللاهوتي" في عشرة أجزاء بين عامي 1957 -1968, وألف كتاب "سر العالم" في ستة أجزاء بين عامي 1968 و1970 (المترجم).

([2]( - كارل رانير. الطوباوية الماركسية ومستقبل الإنسانية المسيحي // البعد الاجتماعي – السياسي للمسيحية. موسكو, 1994. ص. 178.

([3]( - لازاريف ف. ف. العهود البرجوازية المبكرة وأصل فلسفة الزمن الجديد // فلسفة عصر الثورات البرجوازية المبكر. موسكو, 1983, ص. 143.

([4]( - الفينومينولوجية هي تعاليم مثالية وميتافيزيقية في الفلسفة البرجوازية المعاصرة, أسسها غوسيرل وأتباعه, وتدرس الحقائق الروحية المعطاة للوعي بغض النظر عن الوجود الواقعي والتجربة الحسية (المترجم).

([5]( - إدموند غوسيرل (1859 -1938) فيلسوف ألماني, مؤسس (الفينومينولوجية). سعى إلى تحويل الفلسفة إلى "علم صارم" عبر المنهج الفينومينولوجي ("الدراسات المنطقية" في جزءين) ثم توجه لاحقاً إلى فكرة "العالم الحياتي" باعتباره تجربة اجتماعية ثقافية ابتدائية, مقترباً بذلك من فلسفة الحياة. كان له أثر على المذهب الوجودي والأنثروبولوجيا الفلسفية (المترجم).

([6]( - مارتن هايديغير (1889 -1976) فيلسوف ألماني. أحد مؤسسي الوجودية الألمانية. طور تعاليم عن الوجود ("الأنتولوجيا الأصولية") كان الأساس فيها هو مقابلة الوجود الأصيل مع عالم الحياة اليومية والعادية. إن الوصول إلى مغزى الوجود مرتبط احتكاماً إلى هايديغير بعبثية الوجود البشري ("الوجود والزمن", 1927) أما موضوع أعماله المتأخرة فكان – منشأ نمط التفكير "الميتافيزيقي", والبحث عن السبل نحو "حقيقة الوجود". (المترجم).

([7]( - هايديغير م. الوجود والزمن. موسكو 1997. ص 8

([8]( - غايدينكو ب. ب. الاندفاع نحو المتسامي. موسكو 1997, ص 370.

([9]( - اتفاقات شينغين – هي اتفاقيات تلغي عوائق التنقل ضمن أراضي الاتحاد الأوربي, وتنظم الانتقال من خارجه إليه, وشينغن هو اسم منطقة ريفية في لوكسمبورغ (المترجم).

([10]( - كارل ماركس, فريدريك أنجلس. المؤلفات. المجلد 46, القسم الثاني, ص135.

([11]( - المرجع السابق. ص 214.

([12]( - إيمانويل كانط المؤلفات الكاملة في ستة مجلدات. المجلد 5. موسكو. 1966. ص 323 -324.

([13]( - كورت غيديل (1906 -1978) عالم في المنطق والرياضيات. ولد في هنغاريا وعاش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1940. كتب أعمالاً في المنطق الرياضي ونظرية المجموعات. برهن عام 1931 على قضايا القصور (قضايا غيديل) التي ينتج منها عدم وجود نظرية شكلية تامة يمكن فيها البرهنة على قضايا علم الحساب الحقيقية كلها. (المترجم).

([14]( - يذكر الجميع "إضرابات العكس" حين يعمل الشخص على أساس الإرشادات الشكلية فقط ويبتعد عن القرارات المستقلة المرتبطة بهذا الموقف غير الأنموذجي أو ذاك. تبين أن هذه الدقة الشكلية (التي لا يمكن أيضاً اتهامها بأي خروقات) هي في حقيقة الأمر تخريب, لأن أي عملية إنتاجية ستمر بلحظات تتطلب إبداء مبادرات العاملين المستقلة.

([15]( - غايدينكو ب. ب. مرجع سابق. ص 363.

([16]( - تشارلز سنو - (1905 - 1980) كاتب إنكليزي, وناشط اجتماعي. من أعماله السلسلة الروائية الواقعية "الغرباء والأخوة"؛ ورواية "حماة الحكمة" (1974)؛ والرواية البوليسية "الموت تحت الشراع" (1932) وغير ذلك (المترجم).

 

 

 

السابق

جورج زيمِّل ضد ماكس ويبر>>

نقد البرجزة ما بعد البنيوي - في خدمة البرجوازيين الجدد

الثورة الثقافية العولمية >>

الفصل الثالث  العولمة الأمريكية  >> 

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

 << تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا