عصر التنوير
عدنان عويّد
ينصرف مفهوم التنوير من حيث المبدأ إلى اعتبار أن عقل الإنسان وإرادته هما المعياران الحقيقيان لكل النشاط الفكري والعملي الإنساني, وأن الظواهر في جوهرها لا تقوم على الثبات والإطلاق, بل تقوم على الحركة والنسبية .
إذا كان هذا هو مفهوم التنوير في سياقه العام وفقاً لمبدأ الواقعي العياني, وبعيدا عن تعدد الدلالات والمفاهيم المغلقة, فإن مسألة تحديد تاريخ بداية ونهاية التنوير ظلت في الحقيقة موضع خلاف بالنسبة للمهتمين بهذا الشأن, فهناك من حدد البدايات مع أوائل القرن الثامن عشر, أو مع منتصف السابع عشر, وهناك من قال إن البدايات كانت مع انطلاقة الحروب النابليونية / 1804- 1815 / , أو ربما مع قيام الثورة الانكليزية / 1688/, أو مع قيام الثورة الفرنسية / 1798/ .. الخ . (1). ومع ذلك نستطيع القول: بالرغم من كل الاختلاف الحاصل في تحديد بدايات التنوير أو نهاياته, فإن المقدمات الأولية للفكر التنويري تعود إلى مراحل تاريخية ترتبط في الحقيقة بكل ما يشير أو يؤكد على دور عقل الإنسان وإرادته والتجربة الحسية الممارسة عبر تسيير أمور حياة الإنسان والمجتمع عموما, وهذه الرؤى أو المواقف الفكرية والذهنية غالبا ما نجدها في عصور ما قبل التاريخ وبشكل واضح في الفلسفة اليونانية, ومع ذلك نستطيع أن نطلق على القرن الثامن عشر, عصر التنوير بامتياز, وذلك لكونه قد ضم بين دفتيه على ما يبدو, بداية التنوير ونهايته, أي هو القرن الذي اكتملت فيه المعطيات الحقيقية للقضايا التي سميت بقضايا التنوير, حيث نجد أن التيارات الفكرية الجديدة في مضمار هذا القرن راحت تعمل على إضعاف المؤسسات التقليدية, وشق طرق جديدة شيئا فشيئا داخلها, فاسحة في المجال أمام مرحلة جديدة تحمل بين طياتها معالم ثورات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية عظمى فرضت على المهتمين بالشأن السياسي والثقافي تسميتها بقضايا التنوير .
الإرهاصات الأولية للتنوير :
يعتقد بعض المهتمين بمسألة عصر التنوير أن الإرهاصات الأولية للفكر التنويري في الغرب تعود إلى القرن الثالث عشر عندما حاول " توماس الأكويني " استرداد المنطق الأرسطي من اجل تحديد أو تعريف تلك القوانين الجامدة للمسيحية . كما يجد البعض الآخر هذه البدايات أيضا لدى " المدرسيين " في القرن الرابع عشر, حيث راح هؤلاء المدرسيون يعملون على جز تلك القوانين الجامدة في الديانة المسيحية بوسائل المنطق. مثلما ظهر كذلك في القرنين ذاتهما ما سمي بالحركة " الإنسية " في كل من فرنسا وايطاليا , حيث أخذ ممثلو هذه الحركة بدورهم ايضاً يناقشون مسألة ( عبادة الله ) ,التي وصلوا إلى نتيجة بحقها تقول: إن (عبادة الله ) الصحيحة والمنطقية هي التي تتضمن بالضرورة إعجاب خلقه به , وخاصة إعجابهم بقوته في خلق الإنسان ذاته, ثم بمكانة هذا الإنسان وقدرته. مثلما وصلوا إلى نتيجة أخرى تقول إن (عبادة الله) ليست بحاجة لوساطة من قيل رجال الدين الذين يعزفون على وتر الخطيئة العامة, ودعوة الناس للتواضع بدل التعالي. بل أن القول وصل عند بعضهم بأن الإنسان يشبه الله في نصيبه من القوة الإبداعية الخلاقة التي عمر بها الأرض تلبية لدعوة السماء . (2)
هذا وقد تجلت هذه الإرهاصات أيضا مع بدء انتشار العلوم التي تقوم على الخبرة والملاحظة, والتي بدأت انطلاقتها الحقيقية مع " كوبونيك " / 1632/ وطرحه لنظرية مركزية الشمس. مثلما تجلت هذه الإرهاصات أيضا مع التحولات الفكرية في الدين ذاته مع "لوثر- وكالفن ", حيث راحت الكنيسة البروتستانتية تتحدى أسس العقيدة الكاثوليكية الجامدة آنذاك.
أما على المستوى الفلسفي فقد كانت بداية التنوير تتجلى مع الأسئلة النقدية الكبيرة التي طرحها المتنور " مايكل دي مونتيغي " , وهي ( ماذا أعرف ؟ ) و ( وماذا على أن اعمل ؟ . ) , وهي الأسئلة التي تضمنت بين طياتها بذور التفكير الحر للإنسان, والرغبة في الاختيار, وعدم فرض العقائد المطلقة على الآخرين, مثلما طرحت فكرة الإقرار بنسبية الأخلاق, وهي ليست خاصة بالمسيحيين فحسب, بل هي موجودة حتى عند الشعوب المتخلفة والمتقدمة على السواء . (3)
في القرن السابع عشر, أعيد إنتاج الفكر الأصولي المؤمن بصيغه المطلقة, من خلال عودة سيطرة الكنيسة والسلطة المطلقة, كما تزايدت معه في المقابل الأفكار الداعية إلى الشك والعقلانية والعلم وحرية الإرادة, فكانت أفكار " ديكارت" ومقولته الذائعة الصيت ( أنا أفكر إذن أنا موجود ), حيث شكلت آنذاك التحدي الحقيقي لكل ما يمثل عقلية الامتثال والإطلاق , والحق الإلهي المقدس ومؤسساتها السلطوية القروسطية, ممثلة بالملك والكنيسة معا . (4)
على العموم إن تاريخ الفلسفة منذ عهد "ديكارت" حتى بداية القرن العشرين هو التاريخ الذي أخذ فيه المنطق يتسع شيئا فشيئا ليأخذ مجاله الحيوي الذي نعرفه في عصرنا الحاضر, كما راحت تظهر على الساحة الأوربية بشكل خاص, سلطات جديدة وفعالة, كان أهمها السلطة الاقتصادية, التي أخذت تتداخل كثيرا وبشكل فاعل مع ميول الشك والتنوير تجاه الحقيقة المطلقة والعقائد الجامدة, هذه السلطة التي مثلث دعوة رجالاتها مع بداية القرن السابع عشر القائلة (دعه يعمل, دعه يمر), المنطلق الأساس للحرية في مفهومها الليبرالي .
إن هذا التحول باتجاه النسبية الأخلاقية الحضارية أو الثقافية , أسس فيما بعد واستمر في التأسيس وبفعالية لمسألة التنوير على ساحة التفكير الأوربي. ومن هذا المنطلق راح فلاسفة ومفكرو التنوير الأوربي يقرون بأنه لم يعد هناك شيء حتمي, بل هناك طرق عديدة ومحتملة لوجود الإنسان عموما, كما يمكن إبداع طرق جديدة للحياة, وأن الباباوات والملوك لا يملكون أمر مهمة إجبار الإنسان على اعتناق أو تطبيق المعتقدات الدينية والفلسفية التي يريدونها أو يؤمنون بها هم .
الخلفية الاقتصادية والسياسية للتنوير :
مع أواخر العصور الوسطى, أخذ الفلاحون في أوروبا بالهجرة من القرى إلى المدن بحثا عن فسحة أوسع لحريتهم وازدهارهم, ومع تحسن التجارة والمواصلات في عصر النهضة, بدأ سكان المدن العاديين يتأكدون من أن مسائل الحرية والازدهار لم تعد تحتاج في كل مرة إلى استمرار الجهود نفسها التي كانت قد بذلت من أجلها في القرون السابقة, فهناك دساتير جديدة قد سطرت, وحكومات جديدة شكلت, وقوانين جديدة شرعت, وأعمال جديدة بدأت تنطلق, هذا إضافة إلى أن كل المؤسسات تغيرت وراحت بسرعة تعمل على تأسيس قوتها المناسبة لروح هذه المتغيرات, فضغط التغيير استمر في الارتفاع, وهذه الاستمرارية في الارتفاع لم يكن سببها مرتبطا بالنماذج الثقافية التي أثرت في الأوربيين فحسب, بل وبالثروة التي راحت تتدفق الآن من أسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا حيث قذفت بطبقة جديدة من التجار إلى ساحة الشهرة بدلا من الارستقراطية القديمة التي تجسدت قوتها في ملكيتها للأرض .
نعم.. لقد حاز هؤلاء التجار على أفكار جديدة عن نوعية العالم الذي يريدون العيش فيه, وأصبحوا الوكلاء الحقيقيين للتغيير في مجمل قضايا المجتمع, الاجتماعية منها, والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها. لقد كانت هذه الطبقة التجارية الجديدة واثقة بأن إيراداتها أو أرباحها الأولية كانت نتاج جهودها الفردية وعملها القاسي, وأن هذه الأرباح لا تشبه الثروة التقليدية للإقطاع التي تتحقق عن طريق الوراثة للأرستقراطيين التقليديين. وهذه الرؤية الفكرية للطبقة التجارية ساعدت كثيرا على تأكيد النزعة ( الفر دانية ) في عصر النهضة من قبل الفنانين, وبشكل خاص من قبل الفنانين البصريين ( الرسم والنحت ), لقد أصبحت الفر دانية جوهر القيم , فقابلية الجهد الفردي لتحويل العالم, أصبحت العقيدة الأساس للأوربيين منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا . بيد أن العقبات الرئيسة في إعادة تشكيل حياة الأوربيين من قبل طبقة التجار, كانت هي نفسها العقبات التي واجهت الفلاسفة العقلانيين, وهي الأنظمة الملكية المطلقة السلطة, والكنائس العقائدية, هذا إضافة إلى وجود الكثير من القيم الأخرى التي كانت تستحوذ على كل مشترك في هذا النضال, لذلك كان النضال تجاه التغيير معقدا جدا, ومع ذلك كان الميل الكبير للتغيير واضحا جدا باتجاه تحقيق الفر دانية والحرية, ومحاربة السلطة القمعية والتقاليد .
أمام هذه المعطيات, استمر الدين قائما, ولكن بشكل ضعيف, وغالبا ما انتقل إلى ما وراء الإدراك أو المعرفة اليومية المباشرة لإنسان تلك المرحلة, أي لم يعد المحرك المباشر لقضايا المجتمع والمسيطر على وعى المجتمع وإدراك أفراده بشكل مباشر, هذا في الوقت الذي راحت تتضاءل فيه سلطات النظام الملكي بشكل تدريجي لفترة تجاوزت المائة عام , ثم بعد ذلك - أي مع منتصف القرن الثامن عشر- , بدأت ظلال شكله القديم تشحب لتعلن انطلاقة أو تأسيس أرضية تنوير القرن الثامن عشر,حيث أخذ الأوربيون يتغيرون بالفعل بالرغم من أن الكنيسة نددت بذلك التغيير واعتبرت من سار في رحابه ملعوناً وخارج نطاق الحقيقة ,هذا في الوقت الذي بدأ يتضح فيه أيضاً لأي متابع عقلاني, بأن معظم الناس الموجودين على الأرض لم يكونوا ولم يصبحوا أبدا مسيحيين بعد, ومع ذلك هم بنوا حضارات مدنية مبدعة وعظيمة, وفي نطاق التغيير أيضا, أخذ الكتاب والمتحدثون يزدادون قلقا واضطربا أمام الحرية التي تحققت وراحت تسمح لهم بالمراقبة والبحث عن كل شيء بحرية, وبعيدا عن قمع السلطة أو حتى النقد, أما الطبقات الوسطى من تجار وصناعيين فقد أصبحت تدرك وبألم شديد بأنها لم تزل تدفع الضرائب لدعم الارستقراطية الغنية جدا, أو الغالية التكاليف, في الوقت الذي لا تساهم فيه بأي شيء يخدم قيم المجتمع المعاصرة, عدا, رعايتها للفنون, لذلك فإن هؤلاء الارستقراطيين غير النافعين لم تكن لديهم الرغبة في تقاسم السلطة مع هؤلاء الذين بطريقة تفكيرهم الحر, وبشكل طبيعي أداروا وخلقوا الثروة الوطنية, والذين كانوا يجدون لهم دائما حلفاء جاهزين من بين الحشود الفقيرة التي ربما عاشت وفكرت بطريقة تشبه إلى حد كبير حياة أجدادهم الفقراء, بيد أنهم كانوا جميعا يدركون بأنه, مع كل عام يمر كانوا يدفعون الضرائب المتصاعدة لدعم بضعة آلاف من هؤلاء الارستقراطيين الكسالى الذين أخذت مساحتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تتقلص شيئا فشيئا . (5)
المنطلقات الفكرية للتنوير:
لقد تمثلت الشخصيات الرئيسة للتنوير إلى حد ما بأولئك الكتاب والمفكرين أمثال ( ديكارت - باسكال – بايل – مونتسكيو – فولتير – ديدروت – روسو – هيوم – فيكو – هلفيسوس - وجان لوك ) , إضافة إلى أسماء أخرى يمكن أن ينطبق عليها توصيف ( معادون لروح السيطرة. ), وهم الذين عبر " فولتير " عن توجهاتهم الفكرية التي جاءت بشكل عام مجسدة الأفكار التالية التي تؤكد على :
1= استقلالية العقل .
2= المثالية والتقدم .
3= الثقة في إمكانية كشف السببية .
4= المبادئ الطبيعية في حكم الفرد والمجتمع .
5= محاربة السلطة الاستبدادية .
6= التضامن العالمي لأفكار التنوير.
7= احتقار التعصب القومي .
هذا الرغم من أن هؤلاء الفلاسفة المتنورين قد بذلوا جهدا عظيما من أجل الرقي بالفرد والإنسان عموما, إلا أن الكثير من الادعاءات الفكرية التي قدمها هؤلاء كانت متطرفة في حينها, ولم تكن بالنسبة للكثير منهم أكثر من إنكار مجرد لما هو قائم , أو مواقف فكرية تطهريه تدعوا إلى تطهير الواقع المعاش آنذاك من أدرانه, هذا إضافة إلى كونها كانت تشكل الحركة الفكرية للطبقات الوسطى, وهي الطبقة الأكثر اهتماما بالثقافة كما هو معروف . (6)
على العموم لقد أصبح هناك إيمان عظيم بأداء العقل ووظيفته بدل التراكم المجرد للمعرفة, كما أن جوهر العقيدة لم يعد يأخذ تلك الأهمية التي راحت تأخذها الفلسفة, ولكي نفهم التنوير على حقيقته علينا أن نقر بذلك ونحفظه في عقولنا, وهذه المسألة لاتحتاج كثيرا إلى العقل الديكارتي بقدر ما تحتاج إلى التجربة والمراقبة حيث هجرة الأفكار.أما من وضع البصمة على التنوير, فهو المنهج التحليلي للفيزياء "النيوتنية" المطابقة لمعظم مساحة حقل المعرفة والتفكير.
إن النظام والاتساق جاءا نتيجة لتحليل الحقيقة المشاهدة للعيان, وبذلك يقول " ليسنغ " : إن قوة حقيقة العقل لاتكمن في الحيازة على الحقيقة , بل في السؤال عنها , لذلك فالتحليل الدقيق أو الواضح, قابل أن يطبق أيضا على العمليات النفسية والاجتماعية . ومن هنا وبعيدا عن العقيدة أو مذهب الحتمية التاريخية والاجتماعية, جاء قبول مبدأ السببية في علم الاجتماع بشكل عام, علما أن العديد من المؤرخين والفلاسفة قد هزؤوا من النسبية وسخفوها عبر تبنيهم العقائد الجامدة والسطحية. لقد كان هناك بالمقابل تأكيد جديد على :
1= مبدأ الخصوصية بدلا عن العمومية .
2= العيانية ( الحسية ) أكثر من القواعد النظرية .
3= التجربة أكثر من التخمين العقلي .
4= إيمان الفلاسفة بالعقل ثابتا ومستقرا . (7)
أما بالنسبة للتاريخ في الموقف التنويري, فإن التنوير على ما يبدو قد أنقذ التاريخ من صيغه الآثارية وفقهاء اللغة , فالحقيقة التاريخية استطاعت أن تأتي فقط من الامتحان الموضوعي لسجل الإنسان, ومؤرخو التنوير طبقوا كل ثقافة عصرهم ذات السمات التنويرية على الفرد أو المجتمع وروح الأمة التي تضمنت بدورها جوهر التاريخ . (8) وهذا الموقف العقلاني من التاريخ نجده يتجلى أيضا مع التفكير السياسي وعلم الاجتماعي, ففلاسفة عصر التنوير لم يكتشفوا نظرية الحقوق الطبيعية بل صنعوها قاعدة أخلاق, أو إنجيل أخلاق للمجتمع حيث قدموا الحقوق الطبيعية إلى السياسة العملية, وأعطوا هذه الحقوق القوة الدينامكية التي أظهرت طاقاتها التفجيرية في الثورة الفرنسية, بيد أن جدالاتهم تحركت بثبات بعيدا عن الميتافيزيقيا باتجاه التجريبية, وأن حرية الشخص أصبحت عندهم أمان للملكية وحرية التعاشر, حتى أنها راحت تتجذر قليلا في العقل المجرد و في مشاهد الإدراك لحاجات الإنسان الجوهرية ودوافعه وميوله, وظل العقل هو الأساس, ولكنه لم يكن عقلا مسلحا أو متعطشا للدماء .. وفي المجتمع فقط يستطيع المرء أن يؤكد إمكاناته كاملة, وهم هنا اعتقدوا بالمهمة الاجتماعية للمعرفة, مثلما دافعوا عن فكرة فولتير القائلة باستبدادية التنوير .
تأثير التنوير بالحداثة وما بعد الحداثة:
يحتل التنوير الدور المركزي في التعريف بالحداثة, وأن الميول الكلاسيكية للحداثة جاءت لترى نفسها تشكل مرحلة عقلانية تعمل على قلب مفاهيم التقليد الراسخة بعيدا عن النزعة العاطفية للقرن التاسع عشر, لذلك نجد أن التيارات الفكرية المتنوعة في القرن العشرين, بما فيها الليبرالية, والكلاسيكية, وغيرها, استمدت تراثها الفكري من التنوير, وكذلك, النظام الهندسي والدقة, وأن الكثير ممن ارتبط بالمنهج العقلي / العلمي, ُحسب على القيم التنويرية, بل هم ورثة الفكر التنويري, والمعارضين لكل ما يستند على العاطفة واللا عقل . (9)
في هذا المشهد, يمثل التنوير إذن, أسس الأفكار الحديثة لليبرالية المواجهة للخرافة والتعصب, وأن الفلاسفة الذين تركوا تأثيرهم الواضح على الساحة الفكرية كانوا قد تأثروا في حقيقة أمرهم بهذا الموقف الفكري التنويري, بما فيهم " هيبرماس و واسيابيرلين " . (10)
على العموم, إن التنوير في سياقه العام كان يشكل رؤى فكرية عقلانية عندما كسرت ما يمكن تسميته بـ " الدائرة المقدسة " التي عملت رؤيتها العقيدية على إغلاق التفكير, فجاءت مسألة التمسك بالتنوير هنا لتشكل قاعدة أو مصدر الأفكار النقدية, مثل الحرية والديمقراطية والعقل, كقيم أولية لحياة المجتمع كما بينا في موقع سابق, لذلك كثيرا ما تم النقاش حول مسألة التنوير على أنها أسست القواعد الأساسية للحقوق والمفاهيم مثل, التوجه نحو النظرية العلمية في المعرفة, والتسامح الديني, وتنظيم الدول في حكومات جمهورية عبر وسائل ديمقراطية وغير ذلك . وانطلاقا من هذه الرؤية, فإن معظم الميول الفلسفية التي أقرت بأن التغيير جوهر الظاهر, راحت تتجه بشكل خاص نحو التطبيق العقلاني, ومن هذا المنطلق أيضا, كان المفكرون والكتاب متمسكين بحريتهم في مسألة متابعة الحقيقة في أية صيغة كانت, رافضين في الوقت ذاته أي تهديد أو عقاب يمكن أن يوجه إليهم بسبب اختراقهم للأفكار التقليدية السائدة, والمنافية للعقلانية التي راحوا يشتغلون عليها . (11)
مع نهاية الحرب الكونية الثانية و نهوض تيار ما بعد الحداثة, ظلت معطيات التنوير ذاتها تشكل مسؤولية قائمة بذاتها, وذات طابع مفرط الخصوصية, فالفشل في الأخذ بالحكمة التقليدية, أو الاحتياط من النتائج المتوقعة, ورمانتيكية رجالات التنوير, أمثال ( الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية ) على سبيل المثال, دفعوا باتجاه ردود الفعل السريعة ضد المبدأ الأساس للعلم والتنوير بشكل عام . ففلاسفة ما بعد الحداثة غالبا ما فهموا عبر جدالاتهم أن عصر العقل, هو العصر الذي يجب أن يمثل نظريا ويبني عمليا رؤية اللاعقل كوجود شيطاني متوحش, بل وشرير أيضا, مقارنة بالجدل الذي كان يدور عند الحداثيين, على أن العقلانية, أو عصر العقل هو أشبه بعملية بناء لعالم تسوده العدالة والتسامح والفضيلة .. الخ . (12)
إن " ماكس هورك هيمر, و تيودور أدورنو " في كتابهما " ديالكتيك التنوير " قدما دراسة نقدية عن ملاحظاتهما للتناقضات الحاصلة في الفكر التنويري, فالتنوير وفق رؤيتهما, في الوقت الذي يمثل التحرر من جهة, هو من خلال السيطرة العقلية الفعالة يحمل ميلا باتجاه الاستبدادية أو الدكتاتورية . أما القادة المفكرون الآخرون أمثال " نعوم تشو مسكي فهم يرون أن التطور الطبيعي قد ساعد على استخدام المفهوم بحرية, منذ بداية طرح التنوير مرورا بالصيغ الفكرية الأخرى المتعلقة بالتحليل الاجتماعي. أو بتعبير آخر أكثر خصوصية, من التنوير إلى الحرية إلى الفوضوية وغيرها . فحول هذه العلاقة الفكرية بين هذه المدارس المختلفة في الرؤية, يشير " نعوم تشو مسكي " ومن يمثله فكريا, أن هذه العلاقة موجودة في أعمال " فون هيوم بولدت , كروبيتكن , باكو نين , وحتى ماركس " , وأنه لا يوجد أدلة واضحة في هذه الأعمال على ما يشير إلى إمكانية تحقيق عدالة بين المكونات الفكرية للتنوير في القرن لتاسع عشر بالنسبة لأوربا , على اعتبار أن هذا التنوع الفكري قد شكل موقفا فكريا لا مجموعة معتقدات منقسمة على ذاتها .
في مقالة " ماذا يعني التنوير " يصف "كانت" وبكل بساطة هذا الموقف الفكري التنويري المشار إليه هنا , على أنه الحرية في استخدام عقل أو ذكاء المرء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
References:
The Age of Enlightenment . From Wikipedia, the free encyclopedia ( article) 1=
2=The Enlightenment . Created by Paul Brains . ( article) .
3= The Enlightenment . the same source.
The Enlightenment . the same source 4=
Created by Paul Brains. . the same source. . The Enlightenment . 5=
6=AGE OF THE ENLIGHTENMENT. Professor Gerhard Rempe . ( article)
AGE OF THE ENLIGHTENMENT. . the same source 7=
8= AGE OF THE ENLIGHTENMENT. . the same source
The Age of Enlightenment . the same source 9=
10= The Age of Enlightenment . the same source
The Age of Enlightenment . the same source 11=
The Age of Enlightenment . the same source 12=
الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | طلبة وشباب | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
---|
مقالات مختارة |
صوت اليسار العراقي صحيفة تصدرها نخبة من المثقفين والكتاب اليساريين العراقيين |
|
---|