أزمة اليسار

سليمان تقي الدين

السفير 5/11/2009

لم يتقدم النقاش السياسي في أزمة اليسار خطوة واحدة منذ أطلق جورج حاوي أفكاره في الموضوع عام 1998 وتعليق جوزف سماحة عليها. جوهر القضية هو العناوين الثلاثة: تجديد الهوية والموقع والدور. أما المسألة التنظيمية فهي الإطار أو الشكل الذي يلي المضمون.
فقد اليسار هويته في العالم مع انهيار الاتحاد السوفياتي كمرجعية واقعية، وفي العالم العربي مع انهيار حركة التحرر الوطني العربية، وفي لبنان مع تداعيات الحرب الأهلية. تجديد الهوية مسألة راهنة ومستقبلية. الراهن هو استعادة المسألة الاقتصادية الاجتماعية وفكرة الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية وحروبها في المرحلة الإمبريالية. المستقبلي هو استيلاد مبدع للنموذج الاشتراكي الإيجابي من قلب الأزمات الكونية التي يخلقها النظام الرأسمالي.
في مسألة الهوية لا تناقض بين المسألة الاجتماعية والمسألتين الوطنية والقومية. الرأسمالية بنية طبقية ودولتية حتى لا نقول قومية في عصر العولمة. مناهضة التحرر القومي للعرب جزء من مشروع الهيمنة الإمبريالية في تجلياتها المختلفة ووسائلها المتعددة. إسرائيل بهذا المعنى جزء من تلك المنظومة وليست خارجها.
أما الموقع فهو الانحياز المسبق لليسار إلى جانب الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمّشة التي تشكّل الكتلة الأساسية من الشعب. قد تكون عمالية صناعية، أو فلاحية زراعية، أو حرفية، أو فئات مهنية متوسطة الدخل، أو برجوازية وطنية يصادر دورها رأس المال المالي الطفيلي. الاشتراكية يجب أن تحل المسألة الديموقراطية حلاً فعلياً لأنها تتوجه إلى مصالح الأكثرية الشعبية. هي النموذج الأكثر إنسانية لأنها تعيد تنظيم المجتمع في سياق التعاون بين القوى المنتجة وتكبح فقط الاستغلال لا سيما الطفيلي منه. تحل التناقض الاجتماعي لمصلحة التضامن في إطار الحرية. فشلت التجربة الاشتراكية حتى الآن في الجمع بين العدالة والحرية. هذا الفشل مرتبط بظروف تاريخية عزّزت الدولة، السلطة السياسية، على حساب النموذج الديموقراطي. ثمة حاجة لبلورة هذه الصيغة.
في المجال اللبناني غلّب اليسار لزمن طويل إيديولوجية عمالية على قاعدة اجتماعية ضعيفة وهشة. وفي مرحلة لاحقة غلّب الإيديولوجيا الوطنية والقومية فتماهى مع اللوحة الطائفية. عليه أن يعيد الاعتبار لمفهوم الشعب والكتلة الشعبية أو التاريخية التي بلورها غرامشي. لا حل للمسألة الوطنية أصلاً إلا من منظور مصالح الفئات الشعبية الأوسع. الإيديولوجيا الدينية الشمولية هي نفسها عرضة للانشقاق في الخيارات الوطنية الجذرية.
الفكر الشمولي الديني أو المدني (القومي أو اليساري) يستولي على الجمهور ولا يوحده. في المدى المنظور مهمة اليسار الأولى أن يفكّك البنية الطائفية في بُعدها الشعبي. هذه المهمة ليست ثقافية أو فكرية فقط، بل هي بالأساس مهمة بلورة المصالح الاجتماعية خارج النظام السياسي الطائفي وبنيته وركائزه في المجتمع.
يأتي دور اليسار، بالتالي، من تفعيل القضايا التي يخمدها النظام القائم، في الميادين جميعها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. على اليسار أن يخلق فكرة ذات بُعد وطني أخلاقي جامع. هو من يتصدى لأزمة النظام السياسي والاقتصادي بحلول تحظى بالمعقولية والتأييد. الممارسة اليسارية تلك التي تربط بين المشكلات الصغيرة والكبيرة وبنية الدولة. نقول الدولة لا النظام، لأن المهمة أيضاً بناء الدولة الحديثة التي تستوعب ضغوط المجتمع وتعالجها ولا تحوّرها إلى مشكلات أهلية وطائفية.
هندس جورج حاوي هذا المشروع في تخيّل لدور الحزب الشيوعي كدائرة أولى ثم اليسار، ثم القوى الديموقراطية والليبرالية. افترض، وكان محقاً، أن الحزب الشيوعي لن يعيد تأسيس نفسه كحزب للشعب. قفز فوراً إلى تصور صيغة جبهوية. أجابه جوزف سماحة بتصور أكثر واقعية: إما تأسيس لحزب الشعب، أو التأسيس من خارجه والتفاعل معه. ما زالت هذه الفكرة صالحة. الأولى تزداد صعوبة أمام عصبوية الحزب، التنظيمية والعقائدية وربما المصلحية، أما الثانية فيجب أن تبدأ، لا ضد الحزب الشيوعي بل كمحرّك له أيضاً.
الحاجة الموضوعية أو المبرّر الواقعي والأسباب الموجبة لإطلاق حركة يسار جديد تبدأ من أزمة الرأسمالية العالمية، وبأزمة التحرّر الوطني العربي، وتنتهي عند مأزق النظام الطائفي في لبنان. الصراع بين اليمين واليسار هو أفضل أشكال الصراع أمام جنون الحضارات والثقافات والأديان.. إنه المخرج الإنساني
 

 
 
 
 
 
______________________________________________________________________________________________________________
 
 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | كتابات حرّة | فنون وآداب | طلبة وشباب | المرأة | الأطفال | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي


 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | طلبة وشباب | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

 

مقالات مختارة

صوت اليسار العراقي

صحيفة تصدرها نخبة من المثقفين والكتاب اليساريين العراقيين