"للفراغ" في الثقافة الأمريكية معنيان يكمل أحدهما
الآخر - معنى داخلي وآخر خارجي. يظهر الأمريكي في
المعنى الأول كأنموذج لـ "المتوحش" الفولتيري -
حامل البداية الطبيعية التي تكون مكبوتة في
الثقافات الأخرى بثقل التقاليد والأوهام
الأخلاقية. لقد ورثت الثقافة الأمريكية هذا
الأنموذج الأصيل عن عصر التنوير, الذي واجه "تشوش"
المجتمعات الإقطاعية العضال ببساطة الإنسان
الطبيعي وأنانيته العاقلة.
استعبد المجتمع ما قبل البرجوازي الفرد طالباً منه
الخضوع للطقوس والأساطير الجماعية المختلفة. لقد
ارتبطت ثقة المتنورين بأنفسهم وتفاؤلهم
بأنتربولوجيتهم - أي بتقويمهم للنظام القديم على
أنه نظام مصطنع فرضه على الإنسان مجتمعٌ منظمٌ
تنظيماً غير عاقل. أما المجتمع العاقل هنا فلا
يبرز كهيكل تأملي معقد, بل كعودة إلى النظام
الطبيعي, الذي يكون الإنسان الطبيعي في مركزه. لقد
انطبق مفهوم الأناني البرجوازي العاقل, المتخلص من
الأوهام التقليدية, التي تطلب منه التضحية, مع
مفهوم الإنسان الطبيعي, أما الثورات البرجوازية
فبرزت كثأر للنظام الطبيعي من الاصطناع الإقطاعي
القسري. لم تستمر هذه الأسطورة التنويرية الساذجة
في أي مكان ولم تُصَن بهذا الاندفاع كما حدث في
أمريكا.
إنها, في الواقع, تنتمي إلى العناصر المكونة
للعالم الجديد: لقد شعر المهاجرون المتجهون إلى
هنا بأنهم يلعبون دور أولئك الناس "الطبيعيين"
أنفسهم, الذين منعتهم من التفتح شبكة عنكبوت
التقاليد والقوانين "المصطنعة" المحاكة عبر آلاف
السنين. يُنظر إلى القارة الأمريكية على أنها خلاء
ثقافي - على أنها فضاء فارغ ينبغي أن يصير مسرح
نشاط "الأناس الجدد".
لم يكن من المرجح أن ينصت القادمون إلى تحذيرات
الإثنوغرافيا التي تعلمنا أن على الكوكب لا توجد
فراغات حقيقية (باستثناء القطب الجنوبي) - فعند
التحقق يتبين أنها كلها مواطن لهذه الثقافات أو
تلك. عند الالتقاء بالسكان الأمريكيين الأصليين لم
يتقبلهم القادمون البيض على أنهم سكان القارة
الشرعيون, الذين ينبغي الدخول في حوار معهم, بل
رأوا فيهم حثالة مزعجة تمنعهم من تشييد بناء
الحضارة الجديدة. لم يندرج السكان الأصليون في
سياق الحلم "الأمريكي", حيث ينفتح العالم لـ
"الإنسان الجديد" مثل "صفحة بيضاء" يخط عليها
مشاريعه من غير أن يَعوْقَهُ عائق. لذلك دمِّر
الهنود الحمر مع ثقافتهم البدائية ورتِّب فضاء
القارة على نحو مطابق لهيئة "الصفحة البيضاء"
المنشودة.
ارتبطت على هذا النحو الكارثة الديموغرافية
والثقافية التي لحقت بالسكان الأصليين بفلسفة
الفضاء "الفارغ" الذي لا يلزم "الإنسان الجديد"
القادم بأي شيء. في عصر العولمة قد يتخذ مثل هذه
الكارثة طابعاً عولمياً. ترتسم اليوم بوضوح متزايد
أكثر فأكثر خلف نظرية "المجتمع المفتوح"
الليبرالية, التي برزت في الأمس فقط كمرادف
للمجتمع الخالي من القيود الشمولية, صورة الأنموذج
الأمريكي القديم, المطالب بتنظيف الفضاء العالمي
المحيط به كي يستطيع "الإنسان الامريكي الجديد"
تنفيذ رسالته الأرضية من غير أن يَعْوقَهُ عائق.
إن علاقة أمريكا المعاصرة المنتصرة في "الحرب
الباردة" بالثقافات الأخرى تقترب بصراحة متزايدة
من تلك العلاقة التي أبداها الفاتحون - القراصنة
(الفليبوستيير) تجاه ثقافة الهنود الأمريكيين.
يعني شعار "اللبرلة العالمية الشاملة" و"العصر
الأمريكي" الحرية التامة للأنموذج الأمريكي في قتل
الثقافات القديمة باسم تنصيب اليانكي كإنسان جديد.
تتدنى تحت تأثير الليبرالية المركزية الأمريكية
مكانة الثقافات القديمة في جميع القارات تدنياً
مستمراً وتتعرض جميعها للشك باعتبارها عائقاً أمام
الثورة الاقتصادية والسياسية القادمة, التي
ستجلبها الطليعة الأمريكية للعالم. إن صراع
"الاقتصاد مع اللا اقتصاد " كعيقدة لهذه الثورة
يعني انخفاضاً متزايداً في قيمة الإرث الثقافي
والقيم الثقافية مقارنةً بالموارد المادية. لقد
وجدت الشعوب نفسها - بصفتها حاملة الثقافات
القديمة وبحكم المصادفة التاريخية, مالكة لثروات
طبيعية لا تحسن التصرف بها بشكل صحيح.
وهكذا يكشف نقد الثقافات الأخرى "المعادي
للشمولية" عن بواطنه المرتبطة بإعادة توزيع موارد
الكوكب لصالح "المنتصر".
يرتبط "الحلم الأمريكي", كما هو معروف, ارتباطاً
وثيقاً بأنموذج "التخوم المزاحة" – أي أنموذج
الحدود الغربية للولايات المتحدة الأمريكية, حيث
ظلت هناك أراض لم يشغلها أحد حتى التسعينيات من
القرن التاسع عشر. هنا تحديداً كان ممكناً بدء كل
شيء من البداية, وإعادة تقرير المصير والتحرر من
القيود السابقة. من الدارج اعتبار أن الرأسمالية
في مرحلتها الصناعية المتطورة تخضع لأنموذج التطور
التكثيفي الذي لا يحتاج إلى اتساع الفضاءات. لكن
تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يدحض هذا. فقد
فكر الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية
بالمقولات الإمبراطورية منذ أيامهم. "فمع حلول عام
1783 سمى واشنطن الجمهورية المولودة حديثاً
"الامبراطورية الصاعدة". ودعا ميديسون أيضاً إلى
"توسيع المجال" في العدد العاشر من "فيديراليست"؛
ثم تحدث في العدد الرابع عشر عن "الجمهورية
المتوسعة ضمن حدودها" كما "الإمبراطورية الواحدة
العظيمة المحترمة المزدهرة()".
تفرض اليوم معايير "التعاليم العظيمة" الجديدة
مماثلة السياسة الاستيلائية بالنظم الشمولية. لكن
مثال الولايات المتحدة الأمريكية يقنعنا بعكس ذلك:
إنها جمهورية وعت منذ البداية دورها الإمبراطوري
باعتبارها "روما جديدة". يعتبر التوسع المساحي
شرطاً تفقد من غيره أخلاق الإنجاز الأمريكية
أساسها. لم يكن من قبيل المصادفة أن الانتهاء من
استيطان الأراضي الخالية على الساحل الغربي قد
تزامن مع تحول أمريكا الحاسم إلى الامبريالية,
وكان أول عمل تقوم به هو الحرب مع إسبانيا وفرض
الوصاية على الفلبين والهاواي وكوبا.
حينذاك أُعلِنت سياسة "الأبواب المفتوحة", التي
تلزم الدول الأضعف بالانفتاح أمام التوسع التجاري
- الاقتصادي الأمريكي. يمكن أن نخمن في سياسة
"الأبواب المفتوحة" تلك ملامح مذهب "عالم العولمة"
المعاصر, الذي تعتبر مُرَكِّبته الرئيسية اليوم هي
نظرية "السيادة الذاتية المحدودة". تخوض الولايات
المتحدة الأمريكية على هذا النحو حربها ضد سيادة
الدول الأضعف الذاتية منذ ما يقارب المائة عام.
ويكون الدعم الإيديولوجي لهذه الحرب على شكل تشويه
سمعة الأنظمة الأخرى باعتبارها مستبدة وشمولية
وتقليدية - أي, باختصار, ناقصة الأهلية من الناحية
الإنسانية.
إننا نذكر أن الاتحاد السوفييتي قد علل تدخله في
شؤون البلدان الأخرى بمساعدة مذهب الأممية
البروليتارية. ليس للبروليتاريا وطن - الحكام
البرجوازيون يستغلونها في أماكن إقامتها, -
بالتالي, فإن الوطن الحقيقي للبروليتاريا من أي
جنسية كانت هو الاتحاد السوفييتي باعتباره دولة
بروليتارية عظيمة.
المذهب العولمي الأمريكي بالمعنى الاستراتيجي
مماثل للسوفييتي. لكن ليس الانتماء الطبقي هنا هو
ما يواجه بالوفاء القومي والوطنية, بل طبيعة
"الإنسان الطبيعي" ذاتها. "الإنسان الطبيعي" هو
ذاته في كل مكان - إنه يجسد أنثروبولوجيا
"الأنانية العاقلة" الطبيعية, المواجهة للثقافة
القومية والتقاليد التاريخية. وبما أن الولايات
المتحدة الأمريكية الناشئة في مكان فارغ تعتبر
نفسها تجسيداً خالصاً لـ "الإنسان الطبيعي", فإنها
تصير وطن جميع "الأنانيين العاقلين", أين ما كانوا
يعيشون. تعتبر الأنظمة السياسية كلها ما عدا
النظام الأمريكي مصطنعة وغير أصيلة, فهي تطلب من
مواطنيها إخضاع مصالحهم الفردية للصالح العام وغير
ذلك من التضحيات التي تثير قرف "الأناني العاقل".
إن أمريكا, بتوجهها إلى "الأنانيين العاقلين",
تدعوهم إلى السير في طريق المقاومة الأقل - أي عدم
الوقوف في وجه ضغوطها وعدم دعم "الوطنية - القومية
" المحلية في دولهم. من هنا تنبع الدعاية ضد
الخدمة العسكرية الإلزامية وضد عبادة المصالح
القومية وغير ذلك من تجليات "الوعي التقليدي".
تفهم أنانية "الإنسان الطبيعي" الطبيعية بمعناها
المجازي على أنها عصيان الطبيعة ضد الثقافة وعلى
أنها لعبة من أجل التخفيض, تفضي إلى "وضع
أكثر ملاءمة".
لقد بتنا في روسيا مقتنعين تماماً بأن هذا الوضع
الأكثر ملاءمة, أياً كان, مرتبط بثأر "البداية
الطبيعية" من البدايتين الثقافية والاجتماعية.
تعني عملية أمركة العالم إضعاف الضوابط الحضارية
لصالح أشد أنواع الفوضى سفالة, التي بُذل من أجل
الحد منها قدر هائل من الجهود الثقافية.
ويبرز السؤال: هل يؤمنون في أمريكا حقاً
بالإمكانات البناءة لـ "الأنانية العاقلة" التي لا
مثيل لها, أم أن الحديث يدور عن تكتيك المعايير
المزدوجة: يستفزون عصيان الأنانية الطبيعية في
ثقافات الآخرين, ويبقون في الوقت نفسه على حقهم
بالحد منها في بلدهم باستخدام معايير الوفاء
الوطني؟ إننا نقترب هنا من السؤال عن طبيعة
الشمولية الأمريكية وما يميزها عن السوفييتية.
استندت الشمولية السوفييتية على أخلاقيات التضحية.
إذا كنا سنبحث في علاقات المركز الشمولي بالأطراف
في إطار الأنموذج الاشتراكي السوفييتي فإننا سنرى
أن الصرامة العقائدية والتضحية تبلغان قيمتيهما
العظميين في المركز وتضعفان تدريجاً عند الأطراف.
ففي إطار الاتحاد السوفييتي كان الروس هم الإثنية
المكونة للدولة - كان مطلوباً منهم أقصى درجات
التضحية. لم يقتصر هذا على الحالات الطارئة -
الحرب, الحصار, المحل, الجوع, - بل تعداه ليصير
مطلباً يومياً. من المعروف في الاتحاد السوفييتي
أن من كان في الغالب يلعب دور المتبرع الاقتصادي
بالدم هو المناطق الروسية, التي كان مستوى المعيشة
فيها أدنى من الكثير من "الأطراف القومية". لقد
طال هذا المنطق نفسه علاقات الاتحاد السوفييتي
بالدول التابعة أيضاً. ففي دول أوربا الشرقية خفت
صرامة التعاليم المذهبية بشكل واضح, مما ترك أثره
على حلول وسطية مثل الطابع الاقتصادي المختلط
وغياب النمط التعاوني الخالص في القطاع الزراعي,
والتعددية الحزبية الضامرة في السياسة, وما شابه
ذلك.
ربما أثر "قانون التناسب العكسي" هذا بين القرب من
المركز
الإمبراطوري وانخفاض الحريات والخيرات المتاحة على
روسيا المنقادة من قِبل "الديمقراطيين" وجعلها
المبادر إلى هدم الاتحاد السوفييتي وأول الخارجين
منه بحجة الخلاص من العبء الإمبراطوري.
لكننا نلحظ منطقاً مغايراً تماماً في إطار
الإمبراطورية الأمريكية. إننا نرى هنا الأنموذج
القياسي "للمركز المنعَّم" الذي يعود إلى زمن روما
القديمة: يتمتع المواطن الأمريكي, كما كان يتمتع
مواطن روما في ذلك الوقت, بحقوق أفضل مقارناً
بمواطني الدول التابعة. كذلك الأمر داخل البلاد في
ما يخص الإثنية المكوِّنة - إذ تمتع الأنكلوسكسون
زمناً طويلاً, حتى برنامج "المجتمع العظيم"
لكينيدي وجونسون, بامتيازات معروفة للجميع حتى على
المستوى الشكلي.
يبرز بهذا الصدد سؤال حاسم: كيف تبرز للعالم
المتبقي عملية التحول الديمقراطي والازدهار
الداخليين في أمريكا: هل تبرز كلعبة ذات محصلة
صفرية, أم ذات محصلة إيجابية, أم ذات محصلة سلبية؟
ألا تقتنى أرباح أمريكا بثمن خسارة الشعوب
والقارات الأخرى؟ إن أشكال الإجابة عن هذا السؤال
تمس مباشرة وضع تلك التشكيلة الاجتماعية, التي
تطابق الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بها,
والتي تفرضها اليوم بقوة على العالم كله.
ولا أعني بالتشكيلة في هذه الحال النظام الاقتصادي
الاجتماعي المؤسس على الاستثمارات الخاصة بقدر ما
أعني المفهوم الثقافي الأنثروبولوجي, المميِّز
للنمط الإنساني الغالب. لقد وضعت أمريكا كل شيء في
كفة ميزان واحدة؛ وهذه الكفة هي أخلاق النجاح اللا
محدود الفردية. ثمة أمام تحقيق المبادئ الأساسية
لهذه الأخلاق التي تجسِّد "الحلم الأمريكي" قيدان.
لقد حذَّر من أحدهما منذ زمن طويل المحللون
المرهفون أخلاقياً ليس من المعسكر المحافظ وحده بل
من المعسكر اليساري أيضاً. يدور الحديث عن القيود
الأخلاقية التي ليس في نية الأنانية الفردية
اللامحدودة أن تطيق صبراً عليها. ستختار هذه
الأنانية من بين الأنموذجين: المجتمع الخاضع
للمعايير الأخلاقية, والمجتمع, الذي يسود فيه
قانون الغاب - الأنموذج الثاني لزاماً حاكمةً على
الحضارة بالاندحار أمام البربرية.
أما القيد الثاني فقد أدرِك منذ وقت قريب جداً,
وهو مرتبط باكتشاف "حدود النمو" البيئية. تَحرم
حدودُ النمو التقدمَ من شرعيةٍ ديمقراطية هامة
مرتبطة بأنه مدعو لأن يخدم الجميع. فأمام هذه
الحدود المشار إليها ما عاد أنموذج "مجتمع
الرفاهية الشاملة" الأمريكي يبرز باعتباره
أنموذجاً عمومياً, وإنما, على العكس, بات يبرز
باعتباره أنموذجاً استثنائياً. والسؤال هو هل
أمريكا مستعدة للتخلي عن فكرتها السوسيوثقافية
الأساسية– أي عن "الحلم الأمريكي" بالنجاح
اللامحدود الذي ينتظر كل أمريكي في الوقت الذي
يتحول فيه هذا الحلم من حلم عمومي ديمقراطي إلى
حلم "الشعب المختار"؟
يكتب فاللرستاين():
" بمقدار ما سنبتعد عن المساس بالحقوق داخل الدولة
ستتهدد المساواة في الحقوق على المستوى العالمي.
ربما ستكف أمريكا أول مرة في التاريخ عن أن تكون
نصف مستعبدة ونصف حرة. في ذلك الوقت سيجد العالم
المتبقي كله نفسه مقسوماً بشكل أوضح إلى نصفين, حر
ومستعبد. إذا كنا بين عامي 1945 و1990, ومن أجل
الحفاظ على مستوى دخل عال لعشرة بالمائة, قد
اضطررنا إلى تشديد استغلال 50 بالمائة من الآخرين,
فتخيلوا ما الذي سنحتاج إليه من أجل الحفاظ على
مستوى دخلٍ عالٍ بما فيه الكفاية لـ 90 بالمائة من
سكاننا! سيتطلب الأمر استغلالاً أكبر, وسيكون هذا
استغلالاً لشعوب "العالم الثالث()".
وهكذا تكشف لنا "حدود النمو" أمراً غير متوقع قط
من وجهة نظر معايير التفكير الليبرالي -
الديمقراطي. وهو تحديداً: أن الولايات المتحدة
الأمريكية, ولكي تبقى داخل نفسها مفتوحة
ديمقراطياً ومجتمعاً مزدهراً مؤكداً توقعات أخلاق
النجاح, ستتحول إلى مجتمع إمبريالي احتلالي, مستعد
لوضع يده على موارد العالم المتبقي, ولأن يقمع
مقاومة هذا الأخير بالقوة. سيعيد هذا تاريخ الغرب
إلى أنموذج إمبراطورية روما القديم, التي ما كانت
تستطيع تنفيذ وعودها أمام دهمائها وإخماد استيائهم
إلا عن طريق الفتوحات الإمبراطورية الجديدة
وإعادات تقسيم العالم. لهذا تحديداً صارت نهاية
"الحرب الباردة" نقطة انطلاق مشروع امتلاك العالم
العولمي عوضاً عن أن تصير أساساً لنزع سلاح أمريكا
ورفض أساليب استخدام القوة في السياسة.
سنسأل في هذه الحال السؤال التالي: ما التغيرات
الداخلية التي سيتعرض لها المجتمع الأمريكي
المتحول إلى "مجتمع عسكريتاري مستنفر"؟ إن كل
الخطابية الليبرالية - الديمقراطية المعتادة عن
الديمقراطية التمثيلية, وفصل السلطات, والتعددية
واحترام حقوق الأقلية لا تفعل شيئاً اليوم سوى
أنها تخفي هذه الوقائع الجديدة, التي لا تمس
الارتقاء الأمريكي الداخلي وحده, بل تمس أيضاً
مصير العالم كله الموضوع أمام خيارين: إما أن
يستسلم وإما أن يتهيأ للمقاومة.
لقد قالت الدعاية الليبرالية المعاصرة ما يكفي
وزيادة عن "الكمون الديمقراطي" الأمريكي. وحان
الوقت للحديث عن كمونها العسكريتاري العولمي, وعن
بواعث هجومها الحالي على العالم وأسسه التي قام
عليها تحت راية "القطبية الأحادية".
أولاً ـ
لم يختف كمون التعصب والحقد العنصري الذي عبئ في
وقت ما من أجل تنظيف القارة الأمريكية من ذوي
البشرة الحمراء أول الأمر - ومن ثم من أجل الحفاظ
على النظام بين الزنوج والأقليات الإثنية المشكوك
بها. ويبدو أن هذا الكمون اليوم قد تقرر توجيهه
إلى الخارج - لتحقيق رسالة أمريكا العولمية في
العالم, "الذي تتلخص مصيبته كلها في أن فيه هذا
الكم الكبير من الأجانب", والأدق - هذا الكم من
الشعوب "ذات العقلية غير الصحيحة". هذا الأسلوب
المتبع في دفع الكمون السوسيوثقافي العدائي نحو
الوسط الخارجي عائد إلى الأساليب القديمة جداً في
فرض الاستقرار الداخلي على المجتمع الانفعالي التي
وصفها الأنثروبولوجيون الثقافيون.
ثانياً ـ
لا يستطيع "المجتمع المستنفر" أن يسمح لنفسه بترف
رد الفعل المنعكس الناقد على الشكوك الداخلية.
يفترض قانون باني العالم أحادي القطب إيماناً لا
يقبل النقاش بتفوق أمريكا على المجتمعات الأخرى
كلها, وبحقها في "تربية" العالم.
إن مثل عقدة التفوق وعقدة الرسالة المسيحيانية هذه
ليست جديدة في تاريخ أمريكا: إنها ترجع إلى عدد
العوامل المكونة لهذه الحضارة الجديدة. كتب جون
أدامز()
عام 1765: "إنني أفكر دوماً باستغراب مشوب
بالاحترام باستعمار أمريكا باعتباره بداية مخطط
عظيم وباعتباره بداية تحقق نبوءة الله تعالى التي
تهدف إلى تنوير القسم المستعبد من الإنسانية وإلى
تحريره()".
وقد قاسم الأدباء الكلاسيكيون الأمريكيون
السياسيين الكلاسيكيين حماستهم هذه. كتب جيرمان
ميلفيل()
الصغير: "إننا, نحن الأمريكيين, أناس خاصون,
مختارون, إننا إسرائيل زمننا؛ إننا نحمل فلك
الحريات للعالم... الله قدَّر والإنسانية تتوقع أن
ننجز أمراً عظيماً... ستجد الأمم الباقية نفسها
خلفنا في أقرب وقت...()".
كان من المفيد أن يتذكر أحياناً أولئك الذين
يميطون اللثام اليوم بمثل هذا الإلحاح عن عقدة
المسيحيانية في الثقافة السياسية الروسية, التي
وجدت لها انعكاساً في الصيغة "موسكو - روما
الثالثة", أن الادعاءات المسيحيانية لا تعتبر
إطلاقاً حكراً على الوعي التقليدي الروسي. ليست
المسيحيانية المعاصرة مرتبطة بالذكريات عن القرن
الذهبي, بل بعبادة المعاصَرة, التي تخوض "معركتها
الأخيرة" مع المخلفات العالمية كلها. لا تبرز
العسكريتاريا الأمريكية, خلافاً للعسكريتاريا
التقليدية, في هيئة دولتية بقدر ما تظهر في هيئة
تجليات يومية للمجتمع الإمبراطوري المدني الذي
يذكر في بعض منه بالمجتمع المدني الروماني القديم.
تولِّد الغابة الاجتماعية - الداروينية, حيث يخوض
باستمرار اللصوص المتحررون من الأوهام الأخلاقية
"حرب الجميع ضد الجميع", النفسيةَ المدنيةَ
العسكريتارية. وقد بتنا نلحظ اليوم في روسيا مثل
إعادة التوزيع هذه للطاقة العسكريتارية من المستوى
الحكومي, حيث تجد التعبير المركَّز عنها في
الأحكام الاحترافية للطائفة العسكرية والمجموعات
القريبة منها, إلى المستوى الأهلي في الحياة
اليومية المعسكَرة.
كل أولئك الذين صدمتهم بشدة الوحشية العسكرية
للدولة الشمولية, باتوا الآن يصطدمون طوال الوقت
بهذه الوحشية في الشوارع التي صارت خطرة على
الحياة, وفي المؤسسات وفي مجالات الإنتاج - وفي كل
مكان ضيق الخناق فيه على البداية الاجتماعية لصالح
"حق القوي". ليس من قبيل المصادفة أن يصير رجال
المافيات والشرطة الذين يخوضون في ما بينهم حرباً
مسلحة مليئة بالقسوة الشخصيات الرئيسية في الفن
الشعبي "الديمقراطي" المعاصر.
من يلعب في مثل هذا المجتمع دور المارق الرئيسي
ومحط الاحتقار العام هو "الضعيف", و"الأخرق",
ونصير الأخلاق الاجتماعية القديمة, المرتبطة
بتقاليد الرأفة والتعاطف المسيحية. يدين هذا
المجتمع بـ "أخلاق السادة" الجديدة, التي تذكر
بالمفاهيم النيتشوية المعادية للمسيحية.
لكن إذا كان محكوماً مسبقاً على هذه الأخلاق في
روسيا بأن تبقى عقيدة الأقلية التي ثرت على نحو
مفاجئ, والمستعدة للدفاع بالقوة عن امتيازاتها من
عصيان "السواد" الجائع, فإن مشروع "ما فوق الإنسان
الجديد" هذا في أمريكا المعاصرة موجه للأغلبية -
أي للأمة المغترة بفكرة الشعب المختار.
لا مكان بين هذا الشعب, المختار من أجل السيادة
العالمية, للمتشكك المتفلسف والشاعر الرومانسي ذي
العينين الحزينتين, كما هي الحال في طوباوية
أفلاطون الشمولية, الذي طرد الشعراء وكتاب
المسرحيات من مدينته الفاضلة. عبادة الجسد الوثنية
المنعكسة في الولع العام بالجاز والرياضة؛ التفاؤل
الإلزامي؛ منع التعمق الذاتي الداخلي, الذي ينفر
من النشاط الخارجي والسعي إلى النجاح؛ التشكيك
بالرأفة الاجتماعية وبالسياسة الاجتماعية التي
تولد الضعفاء وغير القادرين على التكيف - هذه هي
ملامح العسكريتاريا المدنية, التي ازدادت بحدة في
المجتمع الأمريكي بعد انقلاب المحافظين الجدد في
الثمانينيات.
طغت منذ قديم الزمان في أمريكا فكرة جمهورية
مرتبطة بـ "ديمقراطية الحرية" وعبادة تحقيق الذات
الفردي على الفكرة الديمقراطية المرتبطة بـ
"ديمقراطية المساواة" والاهتمام بالضعفاء
اجتماعياً. فقد اعتُبِر على الدوام الضعفاء
اجتماعياً وغير القادرين على التكيف حثالة مرهقة
للمجتمع المستنفر والمؤهل ليكون المختار. إذا كانت
الطوباويات القارية الأوربية تعني البناء الجديد
الذي سيأخذ الفقراء فيه بالثأر من الأغنياء, فإن
الطوباوية الأمريكية أقرب إلى التوجه إلى شعب جديد
يلفظ من نفسه في نهاية المطاف المنحوسين كلهم وغير
القادرين على التكيف, الذين يشكلون القاعدة
الاجتماعية لمذهب رعاية الدولة الأبوية. يستند
المذهب الدستوري الأمريكي مثله مثل الثقافة
السياسية الأمريكية إلى مسلمات الحق الطبيعي. لكن
أفلاطون كان قد صاغ مسلمة هذا الحق بروح العنصرية
الداخلية: "القوي يأمر الضعيف, ويقف أعلى من
الضعيف" (حوار "غورغي()",
483).
إن طغيان القوننة الفريسية, التي تحمي حق الملكية
باعتباره حق القوي, على روح الغبطة التي تظلل
"الفقراء بالروح" كلهم تبعد المجتمعَ الأمريكي
بطريقة خاصة عن التقاليد المسيحية. يشبه غير
المؤمنين في أمريكا الوثنيين "المبتهجين بالجسد"
أكثر مما يشبهون أحرار الفكر والمرتابين؛ أما في
ما يخص المؤمنين فإن عقليتهم منجذبة أكثر إلى
عصبية العهد القديم وأخلاق الشعب المختار, منها
إلى عموميات العهد الجديد التي تفضل الوداعة
المسيحية والتوبة على روح الأسبقية والشعب
المختار. لقد لحظ هذا بدقة كاتب أمريكا الشعبي
المعترف به لرنر: "لقد اكتسب الأمريكيون باعتبارهم
قراء للكتاب المقدس العديد من خرافات المجتمع
اليهودي القديم, الذي خرجت منه اليهودية والمسيحية()".
قانون أمريكا الروحي السائد متكون على قاعدة حوار
المذهب البروتستانتي (بنسخته الكالفنية في الغالب)
مع اليهودية. يشكل هذا "الاتحاد" الروحي بين
البروتستانتية واليهودية أساساً لعقدة النقص
الوقائية - المحافظة في أمريكا, في الوقت الذي
يتغذى فيه المذهب الثالث - الكاثوليكي - أكثر ما
يتغذى بروح الإصلاح النقدية (نذكِّر أن الأخوين
كينيدي قد تحدرا من أسرة كاثوليكية من المستوطنين
الإيرلنديين).
بيد أن المهمات الوقائية المحافظة في عصر العالم
أحادي القطب, الذي يبدو فيه أن أمريكا تتخلى
نهائياً عن العمومية الديمقراطية ومُثُل المستقبل
الإنساني الواحد لصالح "المشروع من أجل المختارين"
("المليار الذهبي" بزعامة الولايات المتحدة
الأمريكية), تنحى منحى عسكريتارياً. بقدر ما تحزم
أمريكا أمرها على تدمير التراكيب الحضارية الأخرى
والسيادات الأخرى محولة فضاءاتها إلى ممالك فقر
وفوضى واستباحة, عليها أن تنتظر فيضاً لا مثيل لـه
من المهاجرين المغادرين على عجل أوطانهم المحروقة.
بذلك سيكون عليها أن تتحول من جهة إلى بلاد محصنة
تجاه فيض "البرابرة" اليائسين, وأن تبعث من جهة
أخرى الممارسة العنصرية الاصطفائية, الموجهة إلى
فصل المعترف بهم مدنياً عن الأشقياء والمنبوذين
غير المعترف بهم مدنياً, والذين هيئ لهم مصير
العبيد الجدد. يحذر من هذا فاللرستاين المذكور
أعلاه: "إذ تجد نفسها (أمريكا - أ. بانارين) غير
قادرة على إيقاف فيض المهاجرين, ربما ستشرع تبني
سدوداً بين حقوق المواطنين وحقوق أولئك الناس
الذين لا يتمتعون بالمواطنة. قد تجد أمريكا نفسها
برمشة عين في وضع يكون فيه الـ30 بالمائة, وحتى
الـ 50 بالمائة, الأدنى من عمالها مواطنين غير
مكتملي الحقوق, بالتالي, سيكونون محرومين من حقوق
الانتخاب والحصول على المساعدة الاجتماعية. إن حدث
ذلك فسنضطر إلى تحريك عقارب الساعة إلى 150 أو 200
عام إلى الوراء()".
في مقدورنا هنا أن نسمح لأنفسنا باستخلاص بضع
نتائج مسبقة. أن تكون "المساواة الديمقراطية"
الاشتراكية ذات النية الحسنة قادرة على خلق
الشمولية فهذا ينبع من تجربة "الاشتراكية
الواقعية", التي منحَ نقدُها نَفَساً ثانياً
للّيبرالية الواهية. لكننا الآن, ومن تجربة العالم
أحادي القطب المتكوِّن, صرنا على قناعة بأن
"ديمقراطية الحرية" الليبرالية قادرة أيضاً على
خلق نسختها الخاصة من الشمولية. تبين عند المراجعة
أن ما كنا نعتبره منذ وقت قريب صراعاً بين
الديمقراطية والشمولية, ما هو إلا صراع بين نوعين
مختلفين من أنواع الشمولية, وبالمناسبة بات يتسلل
إلى النفوس أن النوع المنتصر سيكون أشد إثارة
للاشمئزاز من النوع المندثر منذ وقت قريب.
استعرض أحدهما ملامح التعصب الطبقي الديماسي,
ملاحقاً الأقوياء والناجحين, بينما استعرض الآخر
ملامح التعصب العنصري الجديد معتمداً التمييز
العنصري الاجتماعي والإبادة الجماعية المستورة على
هذا النحو أو ذاك, ضد غير القادرين على التكيف
كلهم.
لقد اعتقدنا طويلاً أن الدارونية الاجتماعية
الفاشية وأن العرقية هما انحراف عَرَضي في الحضارة
الغربية, مرتبط بعصيان البداية القارية السلفية,
المتمثلة بألمانيا, المقدر مسبقاً ضد الأفكار
الأساسية الأطلنطية المتجسدة بالعالم الأنكلو
أمريكي. يبدو اليوم أن المبدأ الدارويني الاجتماعي
لعرق "المختارين" العالمي, المواجه لجمهور "غير
المكتملين إنسانياً" المجرم, يترسخ في مركز
الأطلنطية الظافرة, الممتلئة بنشوة القطبية
الأحادية.
تكمن المشكلة في كيفية الهروب من هذا الخيار
المكرِب بين "إنسان فيودور دوستويفسكي السري" وبين
"محتال نيتشه الأشقر".
<<
الشمولية الاقتصادية