كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

الشمولية الاقتصادية

 

لننظر الآن في عقدة المركزية الاقتصادية, التي أيدتها من جديد "مدرسة شيكاغو" وعززتها في أمريكا. يعاد في الحياة السياسية اليوم إنتاج الأنموذج ذاته: يجد الحكام المجرمون أدلة البراءة لأنفسهم في أنهم - مناضلون ضد الشمولية, ويفسرون عيوب حكمهم كلها بنفقات هذا الصراع. هكذا سلك فريق يلتسين في روسيا, وكذلك يسلك فريق المنتصرين في "الحرب الباردة" الأمريكي على المسرح العالمي. إن أي نقد لأفعالهم يوضع موضع الريبة على أنه عون للشمولية المهزومة, لكن التي لا زالت خطرة. لذلك ثمة فائدة من تقديم تعريف أعم للشمولية من غير ربطها بالشكل الشيوعي السابق وحده. إن القيام بذلك يعني إحياء المقدرة النقدية على المحاكمة المدفونة بالدعاية الليبرالية والتي إن كانت جيدة فلأنها موجَّهة للمعاصرة بعيوبها كلها عوضاً عن ركل الموتى.

وهكذا, ما الملامح التي تكونها بنية العقدة الشمولية؟

أولاً - لا تعترف البنية الشمولية بالمعارضة القانونية, مدعية احتكار السلطة واحتكار الحقيقة.

ثانياً - إنها تشجب مبدأ فصل السلطة من غير أن تعترف بأية موانع أو توازنات.

ثالثاً - تطلب السلطة الشمولية الحماسة من أتباعها, إذ تشعر بعدم الاكتفاء بانصياعهم الميكانيكي. لا تكفيها مراقبة السلوك – إنها ترغب في مراقبة المواطنين طالبة منهم الإيمان المتحمس وغير المشروط.

 

هل يوجد في أمريكا المعاصرة مثل هذه السلطة؟ نعم, المسخ الذي يتمتع بمثل هذه المؤشرات موجود فعلاً, وهو يحكم حكماً تاماً ومن غير منازع. يدور الحديث عن السلطة الاقتصادية.

ثمة في الغرب, إضافة إلى التقسيم إلى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية, المنفذ في العصر الحديث, تقسيم أقدم وأعمق, وهو يمس أنواع الممارسة الاجتماعية الأساسية الثلاثة: الاقتصادي والسياسي والروحي. في دول الشرق القديمة ذات الحكم المطلق برزت الدولة باعتبارها إلهاً سياسياً ومالكاً حصرياً, ووصياً روحياً مستبداً على المجتمع. وقد أحيت البلشفية هذا الأنموذج تحديداً بأشكال متغيرة. كتب ماندلشتام([19]) بهذا الخصوص:" يسري في عروق قرننا دم ثقيل هو دم الثقافات الراسخة المغرقة في القِدم - ربما المصرية والأشورية..."

لكننا نغامر بأن نصير ضحايا بُكْمٌ للشمولية الجديدة إذا صدقنا أن أسلوب الإنتاج الأسيوي وظاهرة السلطة - الملكية هو الشكل الوحيد الممكن للتماسك الشمولي. يتهدد العالم اليوم خطر الشمولية الجديدة المتغلغلة إلى مسام الحياة الاجتماعية كلها, والتي ستغير كل شيء وتحرفه. لم تحرر الليبرالية المنتصرة في واقع الأمر المجتمع من نكسات السلفية الشمولية الأسيوية, بل حررت السلطة الاقتصادية من الموانع والتوازنات التي كان يفرضها نوعا السلطة الآخرين - السياسي والروحي.

 إن أولئك الذين دعوا كلهم باسم الحرية الاقتصادية والقيم الليبرالية إلى وضع الدولة الاجتماعية على قدم المساواة مع معوقات البزنس كلها النابعة من الأخلاق والثقافة, قد غذوا بذلك المسخ الشمولي الجديد المستعد لابتلاع المجتمع.

يدوس هذا المسخ اليوم كل الأحكام, الإلهية والبشرية, ويسخر من القانون والأخلاق, ويدمر أسس الحضارة ذاتها مبيحاً كل شيء.

ما يمنعنا من التعرف على هذا الوحش في الوقت المناسب هو التقاليد الأدبية التي علمتنا أن نرى في المستثمر البرجوازي ذلك البائع المسالم سياسياً, الذي يستحق الشجب لاعتبارات أخلاقية وجمالية, واللارومانسي منهجياً, لكنه خال من الطموح الكبير وحب السلطة. كان من الصعب تَبيّنُ ملامح هذه الشخصية الأنموذجية الشمولية الجديدة في غوبسك([20]) الحقير وهو يحفحف بأوراقه النقدية في مكان معزول. لكن القضية كلها في أن برجوازيي العالم القديم كانوا منذ البداية موضوعين في ظروف متوافقة مع مبدأ الموانع والتوازنات. لقد واجهتهم التقاليد الإقطاعية الأرستقراطية القوية, التي ظلت تؤثر روحياً وأدبياً وإن كانت قد فقدت تأثيرها السياسي الذاتي على المجتمع. ثم واجهتهم بعد ذلك التقاليد الشعبية بما فيها "الثقافة الساخرة" الشعبية (ميخائيل باختين([21])), البعيدة عن الحساب التجاري الدقيق. وأخيراً واجهه الإكليروس الجديد للحقبة ما بعد الدينية - أي فئة المثقفين اليساريين التي سلبت لب المجتمع بأساطيرها حول تنظيم العالم.

لم يكن يوجد شيء من هذا القبيل في أمريكا. أدرك البرجوازي هنا "فضاءً فارغاً", ورغب في أن ينظمه على هواه بالكامل. كان فرنر زومبارت([22]) قد تحدث عن أقنومين للبرجوازي: من جهة تلوح في هذه الشخصية الأنموذجية حسابات التوفير المنهجية, البعيدة عن السجايا الديونيسية ومسرات الحياة الإنسانية, وتلوح فيها من جهة أخرى ملامح المغامر والمقامر المولع والقرصان والمبتز. لقد جرى بين العالمين القديم والجديد ما يشبه التقسيم الثقافي للعمل: فبقي البرجوازي المقتصد في العالم القديم بينما اندفع البرجوازي المغامر إلى ما وراء المحيط, حيث لن يَعْوُقَه أحد في الكشف عن مؤهلاته بكاملها.

المواجهة الفكرية والثقافية بين أمريكا وأوربا - هي إلى حد كبير مواجهة النمط البرجوازي المغامر لمنظومة الموانع والتوازنات, التي هددته بالإبعاد السياسي والأخلاقي. لقد كمن سؤال الزمن الجديد الأساسي في هل ستكون سلطة النخبة الاقتصادية الجديدة كلية وشمولية أم سيُقدَّر تلطيفها باسم الأولويات الاجتماعية والثقافية. ينسبون لدينا اليوم للملكية الخاصة والسوق, بمبادرة من "مدرِّسي الديمقراطية" الأمريكيين, ملامح البنية التحتية الماركسية, التي, كما هو معلوم, تحدد بالتمام والكمال طبيعة البنية الفوقية, التي لا تستحق الاهتمام بمفردها.

لكن في أوربا معروفٌ منذ زمن طويل وجود تناقض لم يستطع الغرب حله على الرغم من كل شيء بين المجتمع البرجوازي والمجتمع الديمقراطي. يدور الحديث في المقام الأول عن التناقض بين منظومة المؤسسة التسلطية والمنظومة السياسية الديمقراطية. تفترض المنظومة السياسية الديمقراطية سيادةَ الشعب, الذي ينتخب الحكام بحرية ويعزلهم, ويشارك في اتخاذ القرارات الأهم. لكن الشخص في المؤسسة الإمبريالية لا ينتخب القيادة, ولا يشارك, كقاعدة عامة, في القرارات. بكلمات أخرى, الذي انتصر هنا هو احتكار سلطة المالك الاقتصادية. وتقوم التقاليد الليبرالية, التي تشجب شجباً قطعياً تدخل الدولة وغيرها من المرجعيات الجماعية في الحياة الاقتصادية, بحماية هذا الاحتكار حمايةً حثيثة.

إن مبدأ عدم التدخل هذا واضح من المكانة التي تتمتع بها "التعاليم العظيمة" الجديدة ("مدرسة شيكاغو"), وهو يجسد انتصار الليبرالية على الشمولية.

ولم يفكر أحد بأننا انتقلنا في الواقع من أحد أنواع الشمولية إلى نوع آخر من احتكار السلطة السياسية (الحزبية), إلى احتكار السلطة الاقتصادية من قبل الطغم عديمة الحياء. لو كان إصلاحيونا مستقلين في محاكماتهم, ويقلقهم النضال ضد الشمولية فعلاً لاهتموا بمنظومة الموانع والتوازنات عوضاً عن استبدال احتكار الطغم بالاحتكار الحزبي.

إن الدليل الرئيسي اليوم لصالح احتكار السلطة الاقتصادية هو الفاعلية الاقتصادية. يُعتبر احتكار الملكية الخاصة وعدم تدخل المرجعيات الاجتماعية الخارجية (خارج المؤسسة) والداخلية (في المؤسسة نفسها) ضمانةً للسلوك العقلاني اقتصادياً, الموجه نحو تحقيق أعلى ربح ممكن.

حتى لو كان الأمر كذلك فعلاً, فمن المستبعد أن يكون سلوكنا حكيماً وعقلانياً إن منحنا حينئذ النخبة الاقتصادية الحق بالسيادة الكاملة. حتى إذا اعترفنا بأن المالك الخاص المتسلط قادر على أن يدفع للعمال أكثر ما يتقاضونه في المؤسسات الحكومية والتعاونية, فلا ينبغي أن نسقط من اعتبارنا معيار نوعية الحياة ("الوجود" النوعي مقابل "الملك" الكمي). إذا كان المالك الخاص المتسلط لا يسمح بمشاركة الشخص في اتخاذ القرارات فإنه بذلك يعلن تحديه للتقاليد الديمقراطية المرتبطة بقيم الحكم الذاتي الإنساني وتحقيق الذات الإنسانية والكرامة الإنسانية. إذا قام أيضاً في أثناء ذلك بطرد المنظمات النسائية والشبابية وغيرها من المنظمات التي تجسد مبدأ الحماية الاجتماعية من المؤسسة فإنه يلغي بهذا وضع المؤسسة باعتبارها تنظيماً اجتماعياً معاصراً رادّاً المجتمع إلى سلفية علاقة العبد بالسيد. إذا لم تختبر الديمقراطية بتجربة الحياة اليومية, المتحولة إلى تسلطية وشمولية, وصارت مقتصرة على منح الصوت للمرشح البعيد كل أربع أو خمس سنوات فإنها ديمقراطية تبعث على الشك.

ينبغي أن نقول بوضوح: لقد هبت اليوم من أمريكا تحديداً وغطت العالم ما تسمى موجة المحافظين الجدد المرتبطة بتدمير الموانع والتوازنات الاجتماعية القادرة على تلطيف سلطة الأولغرشية الاقتصادية وعقلنتها وإخضاعها للأهداف الإنسانية والاجتماعية. يقوم "صبيان شيكاغو" بعمليات التطهير والتدمير في كل مكان وبحزم قوميساري, واضعين نصب أعينهم هدف تأمين سلطة الأولغرشية التامة والكاملة, محررين إياها من أي ضغوط سياسية واجتماعية وأخلاقية.

لقد تم التوصل في الولايات المتحدة الأمريكية إلى احتكار السلطة الاقتصادية من قبل الأولغرشية في أثناء الحرب الأهلية وانتصار الشمال على الجنوب. تذكرنا نفقات هذا "الانتصار على العبودية" إلى حد كبير بنفقات "الانتصار الروسي المعاصر على الشمولية".

لم يكن المنتصر هو أمة جيفرسون وفرانكلين الممتلئة بالالهام والكرامة الديمقراطيين, بل اليانكي النصاب والمحتال وعديم الحياء, المستعد لأن يربط أي معارضة له بمكائد المزارع الجنوبي وبضغط العقلية العبودية. لقد استغل اليانكي - المضارب والنصاب - طاقة الحرب الأهلية بما فيها من كراهية وتعصب لكي يضعف إلى أقصى حد خصومه الاجتماعيين جميعهم ويشهر بهم, ولم يكن بينهم المزارعون الجنوبيون وحدهم.

لقد سمح الوضع الذي أفضت إليه الحرب الأهلية بإكساب المفاهيم كلها المرتبطة بوضع الأولغرشية التجارية والصناعية والمالية وصلاحياتها أهمية معنوية ومغزى مانوياً. لولا الحرب الأهلية لما استطاع مُنظّرو الأولغرشية قط الدفاع عن صلاحيات بياعيهم ومدرائهم الماليين, ولما استطاعوا فرضها في العالم الديمقراطي مضفين عليها حمية النضال المقدس ضد الشر. في ظروف الحرب الأهلية وحدها ازدادت فرص النجاح في الصراع على الطابع الاحتكاري الشمولي لسلطة الأولغرشية. وكما يرفضون لدينا من عند الباب أي نقد لنظام يلتسين بكل ما فيه من فساد جارف و سوء استخدام للسلطة معتبرين إياه نقداً شيوعياً, كذلك كان يوضع في أمريكا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي أي نقد لنظام الأولغرشية موضعَ الشك على أنه عودة "التفكير المزارعي".

استطاعت أمريكا أن تُكسِبَ مفهوم الملكية الاعتيادي بمعايير العالم القديم طاقةً وحماسةً ونشوة مانوية. وصل هذا المفهوم إلى روسيا ما بعد الشيوعية بهذا اللباس تحديداً, بعد أن خفض من شأن المفاهيم الأخرى المتعلقة بالأبعاد الاجتماعية والأخلاقية للحياة الاجتماعية.

السلطة الاقتصادية والسلطة الروحية.

 

 لنتحول الآن إلى مبدأ فصل السلطتين الاقتصادية والروحية, وهو أيضاً من المبادئ المؤسِّسة للثقافة. إذا ما أعلنوا لكم بوضوح أن ذا النفوذ المالي لا يملك الحق بأن ينهبكم اقتصادياً وحسب, وإنما بأن يلعب دور الكاهن المنزه عن الخطأ وحامي المقدسات الروحية فإنكم ستصابون على الأرجح بالذهول والصدمة. بيد أن التجربة المعاصرة في أمركة العالم تشهد بالذات على أن الأولغرشية تدعي لنفسها بوضوح الوظيفة التيوقراطية, طارحةً آراءها القطعية في مجال الأخلاق والثقافة والإيمان. عندئذ يتخذ الخطاب الأولغرشي التسلطي عن أبعاد الوجود الإنساني العليا طابع "لعبة التصغير" البذيئة, وطابع التشهير وتدنيس المقدسات.

فمن جهة تبرز هذه النزعة باعتبارها نزعة عفوية مرتبطة بعمليات التحولات التجارية الجنونية في الثقافة. يتم التأكيد على حقوق "الإنسان الاقتصادي" الساعي إلى الربح على حساب أبعاد الوجود العليا, التي صانتها الحضارة دائماً وعلى نحو حثيث من التدنيس.

ومن جهة أخرى تضع الليبرالية المدججة بالسلاح, والذائدة عن صلاحيات السلطة الاقتصادية, موضع الشك الثقافة اللاتجارية كلها باعتبارها حاملة لخطيئة التقليدية والأصولية والتسلطية الأصلية.

إن تفكيك الدولة الكبيرة مثله كمثل التحلل الأخلاقي الذي أصاب المرجعيات الاجتماعية الأخرى القادرة على ضمان الوضع اللا تجاري للثقافة, يؤدي مباشرة إلى أن يكون المعيار السائد في الثقافة هو الربحية والرواج (بالمعنيين الحرفي والمجازي). تفسَّر ادعاءات البزنس الباطلة بامتلاكه السلطة الروحية في المجتمع بارتكازه إلى صوابية السوق باعتبارها المرجعية الفاصلة بين المفيد وغير المفيد, وبين الضروري وغير الضروري.

يمكننا الموافقة على فاعلية اصطفاء السوق في المجال الاقتصادي نفسه. لكنهم يطلبون منا اليوم: الوثوق بالاصطفاء الطبيعي للسوق في كافة المجالات من غير استثناء. إذا كانت السوق تذم قيماً سامية أو أنماط سلوك ما فعلينا أن لا نبكيها, وأن لا نقاومها بل أن نعترف بتسلطها باعتبارها آخر مرجعية. إن التحولات التجارية في الثقافة لا تؤدي فقط إلى اضمحلال مؤسسات ثقافية سامية مثل المسرح والفيلارمونيك والمكتبة الوطنية والجامعة وتلاشيها. إنها ترمز بذاتها إلى ثأر لم يسبق له مثيل في تاريخ الحضارة الإنسانية كله للحديث الشفهي من المكتوب, وللعفوية المتوحشة من الجهود الثقافية.

يورد م. لرنر الباحث في الحضارة الأمريكية إحصائية مكربة, تبين انتصار الرواية البوليسية والقصص الفكاهية على التقاليد الأدبية الكبيرة. إن الثقافة التجارية موجهة لأكثر جوانب الوجود الإنساني بدائيةً, إنها تشجع الغريزة بما يتعارض مع العقل والأخلاق. يرى لرنر في روح التلقائية هذه, التي تتصف بها الثقافة الجماهيرية, تعبيراً عفوياً عن الذات لأمة لم تحب إلى النهاية المولعين بالكتب ذوي الرؤوس البيضوية.

أظن أن من المهم عند تقويم هذه الظاهرة أن لا نثق بأحكام التلقائية, بل أن ننطلق من افتراض آخر: تخفض السلطة الاقتصادية الراغبة في أن تصير شمولية عمداً كمون المقاومة الوطنية لها قاضيةً على إمكانات تشكيل ردود فعل انعكاسية نقدية أو حماسة أخلاقية عالية. من المتعارف عليه اليوم النظر إلى نقد الثقافة التجارية الجماهيرية الخاضعة كليةً للسوق على أنه تجل من تجليات العقد الأصولية والتقليدية ( كان يجري تقويم هذا من قبل على نحو أخف - كطوباوية رومانسية محافظة). من المهم أن نبين أمام هذا الابتزاز الليبرالي أن هجوم الروح التجارية لا يشكل تحدياً للتقاليد الثقافية الكبرى وحدها بل يشكل أيضاً تحدياً للتنوير ذاته.

إن مشروع التنوير الذي أهدته أوربا للعالم لم يكن مرتبطاً قط بتدريب الأشخاص على وظائف اجتماعية مفيدة معينة. تستطيع الثقافة الكبرى - والتنوير هو الذي بنى الثقافة الكبرى - أن تتطور شرط أن تكون قيمها قيِّمة بذاتها, لا أن تحمل طابعاً وظيفياً وخدمياً مسيَّساً. يسري منطق القيمة الذاتية للثقافة هذا في مجال تطور العلم والتعليم والفن.

وحدها فرضية القيمة الذاتية البحثية هي التي تسمح بتطوير العلوم الأساسية تطويراً ناجحاً. إن السوق, التي تغار من كل شيء ذي قيمة ذاتية ولا يجلب الربح اللحظي, ليست قادرة إلا على تشجيع الدراسات والإعدادات التطبيقية, التي تترجم بسرعة إلى لغة التكنولوجيا. سيفقد العلم الخاضع لهذه المعايير مخزون المفاهيم التأسيسية وسيحرم من تحليق الإلهام الإبداعي متحولاً إلى خادم للحاجات الآنية. يملي التنوير صيغةً مغايرةً لتطور العلوم: نمو الأبحاث الأساسية > نمو الدراسات التطبيقية.

يسري مفعول أمثال هذه المتراجحة في مجال التعليم: نمو المعارف العامة ذات الاستخدام العمومي> نمو المعارف الوظيفية المتخصصة.

يبرز "إنسان التنوير" مقارناً مع "الإنسان الاقتصادي" المعاصر الغارق في دوامة المردود والمنفعة كرومانسي, لكن يتبين أن هذه الرومانسية أكثر إنتاجية بالمعنى الثقافي, من براغماتية السوق. يهدد سقوط مشروع التنوير مع عبادته للأفكار التأسيسية الكبرى الحضارةَ المعاصرةَ بالركود الشامل – إنه يهددها بإصدار جديد لنمط الإنتاج الآسيوي الثابت, ويهدد النخب المعاصرة بالتحول إلى مندرينات([23]) من الطراز الصيني القديم, تضع الأنظمة وتصدر التعليمات لكنها غير قادرة على تحريض الإبداعات الجديدة الكبرى وفتح الآفاق الجديدة.

إن "الإنسان الاقتصادي" بشكله الأكثر تطوراً مما هو عليه في روسيا, قادر على استمالة المواهب وتنظيم تسرب العقول مغرياً إياها برواتب كبيرة. لكن الجو الذي ينشره اليوم في المجتمع يعيق نمو المواهب المحلي في التربة الوطنية المعنية. من المفيد بهذا الصدد التنبيه إلى ما يلي: من أين ستستورد أمريكا مواهب جديدة إذا تكلل مشروع الأمركة الشاملة بالنجاح فعلاً واحتفلت الشمولية الاقتصادية مع ما تحمله من تعصب تجاه أنواع الدوافع الأخْرى كلها بنصرها على خصومها؟

"الإنسان الاقتصادي" اليوم مستعد لأن يخصي الثقافة القومية ومستعد لأن يعيب على نحو حثيث كل ما يمكن أن يرى فيه الإلهام غير التجاري وشجاعة الاكتفاء الذاتي. إنه مستعد لاستئصال ثقافة الأشكال القيِّمة بذاتها والاستعاضة عنها في كل مكان بالثقافة التطبيقية الوظيفية, التي تذكر باستمرار بالمنفعة والمردود. مثل هذه الثقافة غير قادرة على إنجاب العمالقة. ليس من قبيل المصادفة أن الرواية الأمريكية, التي كانت مع بداية القرن تروي عن العمالقة, بما فيهم العمالقة في مجال الاستثمار (انظر رواية تيودور درايزر([24]) التي تحمل العنوان نفسه ), صارت تصف الآن بدقة اجتماعية متناهية الباعة في المخازن ومدراء الأعمال.

مَنْ مدير الأعمال؟ هو بالمعنى العام الوكيل الذي يخضع هذا الشكل أو ذاك من النشاط الاجتماعي لعملية إنتاج الربح. بكلمات أخرى, مدير الأعمال هو الممثل المخول للسلطة الاقتصادية في صراعها ضد مخلفات النظرة غير التجارية للعالم وسوابقها. وظيفته هي بتر كل ما هو غير وظيفي ولا يبشر بمردود ومهما كانت المبررات التي يعلن بها عن ذاته. يلاحق مدير الأعمال الدوافع في الثقافة كلها باعتبارها مثيرة للريبة وغير شرعية, ما عدا الاقتصادية منها, ويلعب دور الواعظ الذي يدعو الجمهور إلى التفرق إذا لم تفح رائحة الفائدة.

اليوم, حين تعلن السلطة الاقتصادية ووكلاؤها - أي مدراء أعمالها الموجودين في كل مكان, عن ادعائها بالسيادة التامة والكاملة, يحين وقت التفكير بالموانع والتوازنات. ليس ثمة شعب واحد ولا ثقافة واحدة قادرة على العيش إذا كان الدافع السائد والمطلب الملح هو الربح.

لقد عشنا جميعاً حتى هذه اللحظة في ظروف ثقافة متعددة الأنماط, حيث كان يتمَّم مطلب الفاعلية والمنفعة السوقية ويصحَّح على هذا النحو أو ذاك بمطالب أخرى مرتبطة بأبعاد أخرى من وجودنا. لقد أعلن "الإنسان الاقتصادي" اليوم عن ذاته كشمولي لا يعترف بالحقوق الشرعية للآخرين, ذوي الدوافع والأهداف المختلفة. إنه ينظر إلى هؤلاء الأخيرين باعتبارهم غير عقلانيين وينبغي استئصالهم. لكن يوجد, كما أشار إلى ذلك بإلحاح ضروري ماكس ويبر, إلى جانب العقلانية البراغماتية "وفاقاً للهدف" عقلانية النمط القيمي. إنها أيضاً تلجم عفويتنا الشهوانية وادعاءاتنا, لكنها لا تفعل ذلك باسم انتصار الحسبة الاقتصادية والربحية, وإنما باسم انتصار القيم السامية الجديرة بالحماية. إذا صدقنا أنثروبولوجيا التنوير التي تعرفنا على تراتبية الاحساس والفهم والعقل, فإن علينا نسب العقلانية "وفاقاٌ للهدف" إلى مجال الفهم الواقع في مرتبة أدنى من مرتبة عموميات العقل السامية.

العقلانية الاقتصادية المركزية اليوم مستعدة على ما يبدو لطرد الشعراء والأنبياء نهائياً من المدينة - الدولة المعاصرة. إنها بهذا الصدد تماثل شمولية النمط الآخر الأقدم طرازاً. وكم يبدو مدهشاً ذلك التطابق اليوم بين الخطاب الشمولي عن الأخلاق والثقافة باعتبارهما ملجأً للمتذمرين المثقفين, وخطاب "الإنسان الاقتصادي" المعاصر عنهما بقدر لا يقل احتقاراً.

وفي الختام لا يبقى إلا أن نشير إلى القدرات التوسعية العولمية الكامنة للسلطة الاقتصادية. تتمنى كل سلطة شمولية الانتشار تكثيفياً - سادةً قنوات تأثير أنواع السلطة الأخرى, وتوسعياً مالئة فضاء الكرة الأرضية. إنها لا تطيق الخصوم لا في الداخل وحسب, وإنما في الخارج أيضاً, وتعتبر أي منابع لأي حل بديل خطراً عليها.

العولمة الأمريكية هي هذه السلطة الاقتصادية (سلطة الأولغرشية المالية بالدرجة الأولى), التي تستهدف كبرياء الكوكب.

 

 

الفصل الثالث  العولمة الأمريكية  >> 

 <<اليهود في عالم القطب الواحد

لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن >>

 << تبدُّلات الوعي الثقافي

مفارقات الديمقراطية >> 

 

القسم الأول: عملاء العولمة >>

<< (الحُجاج) و(السيّاح) ومنظمو العولمة (السرّيون )

<<   معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة

  محتالو الأممية الجديدة (العولمة ) ونصّابوها >>

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا