<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن رقصة الكولونيل الاخيرة

 

 

رقصة الكولونيل الاخيرة

 

 حمزة الحسن

 

بصرف النظر عن المشهد الختامي لدراما الكولونيل القذافي المقتربة سواء انتهى منتحراً أو مقتولاً أو هارباً أو متأقلماً في وضعية المحاصر في قلعة أو رئيساً على جزء من الأرض يطل على حدود أفريقية صديقة أو ذهب في مذبحة من مقربين، في كل الأحوال سيكون هذا الرجل جباناً.

 

الشجاعة مرتبطة بالنبل والشهامة والكرامة الانسانية بالمعنى العميق والاصيل وليست الشجاعة كما في المقاييس السائدة في الشكل والاستعراض والمواجهة الفارغة من النبالة توأم الشجاعة ومحتواها الجوهري. الشجاعة والجريمة والصفاقة والقسوة والوحشية أمور متناقضة حد العداء.

 

هل سيكون هذا الدكتاتور شجاعاً لو انتحر؟ لو قاتل حتى النهاية؟ لو...؟ الاسئلة ذاتها طرحت في حالة الدكتاتور العراقي كما لو اننا نأتي لقراءة  هذه المخلوقات في لحظاتها الأخيرة بلا عمق أو سوابق أو امتدادات. في كل الأحوال سيكون الدكتاتور الليبي جباناً، كما العراقي، واليمني، وغيرهم، كيفما كانت النتيجة.

 

مواجهة الموت بلا محتوى من النبل ليست خاصية  بطولية بالمعنى الدقيق والأصيل للبطولة، وليست الكرامة الانسانية والبسالة والكبرياء هي الدافع الوحيد التي تجعل من بعض المخلوقات البشرية تواجه الموت بلا تردد، وهناك عوامل كثيرة غيرها أوقفت قتلة وسفلة ومجرمين على أرجلهم أمام أعواد المشانق أو أعمدة الرصاص، ومن بين هذه العوامل: الدناءة المتعالية ومبدأ الشماتة والحفاظ على ماء الوجه والغطرسة والصيت والنزعة الاستعراضية وقسوة القاتل المحترف والخوف من التداعي بحضور الأعداء ورسائل كثيرة يتم تمريرها تلك اللحظات في مشاهد قبول الموت.

 

هناك صنف من الحثالات والقتلة الأوغاد، في كل المهن، يملكون منظومات قيم وأعرافاً وتقاليداً خاصة بهم تستحق الموت من أجلها، وهؤلاء يذهبون الى المشانق أو الرصاص بأقدام راسخة وهم يسخرون من قتلتهم ومن الجمهور المحتشد، ولا يتعلق الأمر بالشجاعة بالمعنى النبيل، ولكن النذالة نوع من المبادئ عند هؤلاء تجعلهم، في مواجهة موت مباشر، أكثر ثباتاً من قاتليهم. ألم يقل سوّاق العراق الحكماء في مثلهم الشهير في الكراجات:" السفالة علم"؟.   ظاهرة مواجهة الموت ليست حكراً على الابطال النبلاء ولكنها مفتوحة للقتلة الجبناء أيضاً.

 

الشجاعة ليست في القسوة والانتحار بل الشجاعة في العذوبة والرقة والجمال واحترام المسافات بين الناس وفي العلم وفي التقبل واحترام الوقت والكلام وفي التراجع عن الأخطاء وفي اللطف والتسامح وفي الوضوح والصدق وتقدير جهد الناس وحقوقهم وفي الأمل والمشاركة العامة وفي احتقار الحقد والتزوير والسطو على المال العام والخاص وفي الجرأة المشروطة بالتسامي والترفع وفي قبول الاختلاف والهويات والاعراق المختلفة وفي التضامن الانساني وفي حقن الدماء وفي المساعدة من أجل العدالة والخير وفي تقييم الحقائق وفي الصبر الجميل وفي الحب والصداقة المترفعة على الاغراض والمصالح وفي التضحية بلا مقابل سوى الحرية والكرامة والسعادة المشروعة، والشجاعة أيضا في التجاوز المعرفي والتخطي وفي الخلق والابتكار والابداع العام ومواكبة روح العصر وفي البحث والجهد والمشقة المثمرة...الخ.

 

هناك تقليد عربي وشرقي معروف في مثل هذه الحالات يتمثل في اختزال الانسان عامة والدكتاتور خاصة في صورته الأخيرة أو وضعه وحبسه في لقطة واحدة والى الأبد. هذه الاختزالية هي واحدة من خواص العقل المتخلف والتخلف ظاهرة ثقافية ونفسية وعقلية قبل أن يكون تخلفاً صناعيا أو اقتصاديا.

 

الاختزالية قد تحبس وتختزل الانسان العادي في موقف واحد دون مراعاة في أن يكون هذا الانسان قد غادر ذلك الموقف أو مراعاة الحق في الخطأ الانساني غير المكلف أو في مناخ الخطأ، وفي  حالات كثيرة لا يتعلق الأمر بخطأ ما بل في اختلاف المواقف والزوايا والآراء لكن يتم تصعيد هذه الى مستوى الاخطاء أو الخطايا.

 

الاختزالية والدكتاتورية وجهان لعملة واحدة لأن من حق الانسان أن ينسى وأن يتطور وأن يتغير وأن يبدأ من جديد وسجنه في موقف واحد هو اعتداء على هذه الحقوق وعلى حريته في أن يكون هو نفسه وكما يريد.

 

على النقيض من ذلك، يجري في العقل العربي والشرقي عموما، اختزال الدكتاتور في مشهده الأخير أو رقصته الأخيرة التي غالبا ما يجهز نفسه لها بدقة كآخر المعارك لكي يترك صورة مؤثرة في الوعي العام، كما لو ان هذا الدكتاتور ولد، تواً، من حبل المشنقة أو من رشقة رصاص، ويتم مسح كل مساحات الدم والدناءة والوحشية في عقود من الألم والرعب والاذلال تمتد في حالات الى قرون بعده في الذاكرة الجماعية وتلعب دوراً مشوهاً في الوجدان العام وفي التاريخ الوطني وفي الذاكرة.

 

الدكتاتور الليبي لا يبحث اليوم عن حل أو خلاص أو انقاذ ولكن عن اخراج لمشهد تراجيدي أخير ينقله من وضع الكائن البشري الى الكائن الاسطوري، ومن صورة الزعيم المهزوم على أرض الواقع الى صورة الزعيم المنتصر في التاريخ، وجزء كبير من هذا المشهد مهيأ في الوعي العام، ومسرحه هو التصور المشوه عن الشجاعة، أما الجزء الآخر من المشهد أو المسرح الأخير، فهو موجود في سلوك الدكتاتور في لحظاته الأخيرة، وهي لحظات مهما كانت، فلا قيمة أخلاقية أو فروسية لها لو لم يكن الجزء الآخر من المسرح الاختزالي والانتقائي جاهزاً في ثقافة مشهدية استعراضية صار من الصعب فيها تمييز البطولة عن الانتحار، والشجاعة عن الرعونة، والموت الفروسي النبيل عن موت القتلة.

 

27/2/2011

 

إقرأ أيضا للكاتب حمزة الحسن

 

الكولونيل في متاهة

 

واقع الدكتاتور

 

 

قناع الكولونيل

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالة للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا