%@ Language=JavaScript %>
الكولونيل في متاهة
حمزة الحسن
ليس المقصود هنا رواية غابريل ماركيز" الجنرال في متاهة" عن سيمون بوليفار الثائر المعروف وبطل التحرير في أمريكا اللاتينية، ولكنه، مرة أخرى، عن الدكتاتور الليبي كشخص ونظام ورمز وهو يشكل التجسيد الأوضح للدكتاتور العربي والشرقي بما يتسم به سلوكه، غالبا، من علنية وتبجح واستعراضية، وقد تعرضنا له، أكثر من مرة كدكتاتور وكرمز للأنظمة الدكتاتورية رغم عالمه الشخصي المحجوب والمخفي جيدا والذي بدأت بعض الثقوب ترشح منه قطرات تحتاج الى وقت، ولن تكون النساء بعيدات عن هذا الرشح، فالنساء الحارسات الجميلات والمسلحات والانفاق السرية تؤدي وظيفة الطمأنينة وتوفر مشاعر الأمان للكولونيل الطفل المعاق النمو الذي وضعته أقدار التاريخ والسياسة والغفلة والثقافة على رأس دولة غنية.
متاهة هذا الكولونيل السياسية معقدة ومتداخلة وأكثر تعقيدا بما لا يقاس من متاهة الأنفاق السرية تحت قصره الرئاسي في مدينة البيضاء بعد الاستيلاء عليه أخيرا. لن يكون السؤال محيرا كثيرا عن لغز الانفاق السرية المتداخلة تحت القصر لأن الاجابة الواضحة متوفرة وهي ان هذا الكولونيل مستعد ومتوقع لهذا الحصار يوماً، ومخارج الانفاق المؤدية خارج القصر بثلاثة كلم تقريبا هو سلوك أرنبي معروف للصيادين لأن الأرنب يحفر مدخلا ومخرجا من الجحر عند المداهمة تاركا الثعالب والمطاردين منتظرين عند فتحة الدخول في حين يكون هو، كالكولونيل، قد فرّ من باب الطوارئ.
متاهة هذا الدكتاتور السياسية التي لا تختلف عن متاهات أقرانه العرب الا بالتفاصيل، هي الأكثر تعقيداً من الدهاليز والغرف الشخصية والمباني المحصنة والقلاع المنيعة، واذا كانت متاهة المباني تبدأ وتنتهي بأبواب مادية ملموسة، ومخارج ومداخل واضحة ويمكن المروق منها اليوم، الا ان متاهته السياسية هي على العكس من ذلك، بلا مداخل ولا مخارج ولا أبواب، وهي تضم شبكة واسعة ومعقدة من السجون الداخلية ـ غير سجون القضبان ـ في ادارة السلطة والأمن والاقتصاد والقانون والثقافة والجيش والعلاقات الدولية والمال وحتى السحر والشعوذة كما تدل مكتبته في القصر الرئاسي في البيضاء.
وكما ترك الدكتاتور العراقي والتونسي والمصري خلفهم متاهة ملتبسة بلا أبواب ولا مداخل أو مخارج لادارة السلطة والمجتمع حين ربطوه بشبكة واسعة ومعقدة وغامضة من القيم والدهاليز الاخلاقية ومنظومات قيم منحرفة في التفاصيل الصغيرة والكبيرة، حيث وجدت هذه المجتمعات نفسها معتقلة وحائرة ومنقسمة ومشرذمة ومتناحرة ولا تدري ماذا تفعل في عالم مختلف خارج سيطرة الدكتاتور ولكنه من صنعه تماما في المؤسسات والعقول والارواح والبنى الاقتصادية والثقافية، فإن الدكتاتور الكولونيل سيترك السلطة والمجتمع على الصورة نفسها من التمزق العام والحيرة في عالم خارج سيطرة الدكتاتور ولكنه من صنعه وقد صاغه على صورته تماما.
الحيرة تبدأ حين يغادر الدكتاتور متاهة الانفاق المادية، هارباً أو مقتولاً أو منتحراً، تاركاً الجميع متوحلاً في وحل متاهة بلا ابواب ولا مخارج أو مداخل في كل شيء، وبعد نشوة الخلاص من الدكتاتور تأتي صحوة السؤال عن كيف ومن أين نبدأ؟ ليس حتماً أن يترك الدكتاتور الوطن ارضاً بلا شعب كما كان دكتاتور"نا" يهدد في ملكيته الخاصة، ولكنه يترك شعباً معتقلاً من الداخل بسجون من الخوف غير المرئي، ومكبلاً بقيود نفسية وثقافية واقتصادية واجتماعية متشعبة ومتداخلة، وتكون المصيبة أكبر حين تكون بدائل الدكتاتور هي نسخ سرية من صورته الأصلية، تجعل فترة الانتقال من سلطة الدكتاتور الى سلطة بديلة نوعاً من التجوال في زنازين داخل سجن واحد كبير وموسع.
الكولونيل والدكتاتور اليمني، مثلاً، يهدد اليوم بالقتال حتى آخر قطرة دم لكنها ليست قطرة دمه هو بل دماء الآخرين من اتباع وأعداء، بعد أن تأقلم وأدمن على الاحتجاجات اليومية ووجد تسوية تقبل في التعامل معها والخشية أن تتحول الى روتين مستمر، والدكتاتور الليبي يهدد هو الآخر بالقتال حتى آخر قطرة دم وليس من المستبعد أن يكون دمه أيضاً لأنه بلا حلفاء مؤتمنين نظراً لشخصيته الزئبقية كما وصفوه، والدكتاتور العراقي هدد أيضاً بتحويل أسوار بغداد الى جدران انتحار على يد حرسه الرئاسي الذين فروا، عراة، من القصر، والدكتاتور المصري هدد بين البقاء أو الفوضى والخ.
هؤلاء بالفعل يقصدون ما يقولون وليس عندهم الوقت الكافي للمزاح أو التخويف لأنهم يعرفون طبيعة المجتمعات التي صنعوها والدهاليز التي حفروها والمتاهات المعقدة في السلطة والمجتمع التي أسسوها، ويعرفون أكثر التشابك والتداخل وحجم الخراب الذي أحدثوه في هذه المجتمعات، لذلك تكون الفوضى بعدهم ليس بسبب غياب الشرطة والنظام والقانون والدولة ولكن بسبب انكشاف عالم المتاهات وصدمة ظهور المخبوء الى العلن، وفضيحة مواجهة المجتمع لصورته المحطمة، والفرد لذاته المسحوقة التي كانت، كالدكتاتور نفسه، تحفر انفاقا سرية نفسية لكي تحتمي من العسف والخوف والمداهمة، وتكون النتيجة ان المجتمع المصدوم والمعطوب غير قادر على التعرف على نفسه ليس لغياب المعايير القديمة، بل لغياب المعايير الجديدة، والأخطر تلاشي المقاييس العامة أو نظام القيم والاعراف السائدة وسيطرة التفسير الشخصي الكيفي بما يحول المجتمع الى غابة، لأن الفوضى ليست نتاج غياب المعايير بل تداخلها، وهيمنة المقاييس الشخصية، وعلى هذا النحو تتحول السرقة الى شطارة والذكاء الى كسل والسياسة الى فن الحيلة والخ.
كما يجد المجتمع نفسه في حالة من الصدمة و" الغربة" عن بعض مكوناته، يجد الفرد ذاته أمام شخصية منفرة جديدة هي شخصية كانت غاطسة في الاعماق الداخلية والمتاهات النفسية،كبتاً، وخوفاً، وحمايةً، وفي وضع قنفذي لعقود، فلا اللغة الجديدة التي ينطق بها هي لغته بعد أن تعايش مع لغة عامة مقبولة توفر له الأمان السياسي والنفسي والجسدي، ولا صورته عن نفسه هي القديمة بعد أن نفي هذه الصورة طويلاً في المتاهات العميقة للاسباب نفسها، ولا الذين يعيشون حوله يعرفهم كما في السابق لأنهم هم أيضا يعيشون صدمة الخروج من الأنفاق النفسية العميقة: بهذه الصورة يكون المجتمع قد خرج من متاهة الدكتاتور الخارجية السياسية، لكي يدخل في متاهة اغتراب من نوع فريد عن الذات وعن المجتمع.
بهذه الطرق يُخرج الدكتاتور الكائن الذئب من أعماق الناس، ويمسخ المجتمع على صورته، وليس غريباً، هذه الأيام، أن نسمع صرخات الناس في الشوارع كما لو انها تخرج من أعماق مخلوقات غير بشرية، صرخات كائنات جريحة منفية في متاهات عميقة تخرج الى العلن مصدومة من ضوء النهار ومن فراغ الشوارع ومن هدوء المصابيح ومن لغتها الطالعة من أعماق موغلة في النفي: لقد خرج المجتمع من متاهات الدكتاتور المادية والسياسية ولكن الى أين؟
28/2/2011
إقرأ أيضا للكاتب حمزة الحسن
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
|
لا للأحتلال |
|
---|
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|