<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن واقع الدكتاتور

 

 

واقع الدكتاتور

 

                 

 

حمزة الحسن 

من الآراء الشائعة عن الدكتاتور عموما والكولونيل الليبي أو اليمني وغيرهما رأي متداول كثيرا هو فقدان الصلة بالواقع وهو رأي أبعد ما يكون عن الصواب لأن هذا الكولونيل السيكوباتي الليبي، كمثال، مرتبط بالواقع مثل كل البشر الأسوياء لكن الخلل القاتل هو في "العلاقة" مع الواقع وفي طريقة تفسيره وفي النظر اليه، وهو ليس نموذجا نادراً في المجتمعات القمعية بل يكاد أن يكون نمطا ونموذجا شائعا لكنه يتمتع بخاصية التمويه والحجب والتستر خلف واجهات.

 

واقع هذا الكولونيل أو الطاغية المشرقي بصورة عامة هو مثل أي واقع نعيشه، بل هو من صنعه في التفاصيل الصغيرة وفي الحجوم الكبيرة، ولكن رؤية الطاغية لهذا الواقع هي التي تختلف: إنه يرى هذا الواقع بعين مختلفة. ليس واقعا صلبا محكوما بقوانين وقواعد ومعايير عامة كما نراه ولكنه بالنسبة له محكوم بمعايير شخصية منحرفة،  واقع يمكن السيطرة عليه واعادة صياغته بصورة ارادية لأن السيكوباتي لا يؤمن بقواعد اخلاقية عامة ولا يحترم هذه القواعد التي يخرقها في كل حركة تحت عناوين مموهة ومقبولة كالثورة والتغيير والحقيقة والكرامة والخ. لهذا السبب فإن وصف هذه الشخصية بـ"الزئبقية" هو صحيح لأنها لا تعترف بالاعراف والمقاييس والقيم العامة بل تفسرها، كيفياً، على هواها المتقلب.

 

هذا الواقع المتحكم فيه تحكما شيطانيا هو واقع الكولونيل والطاغية المشرقي لذلك يعرف عنه خوفه من المرتفعات وخاصة الطائرات لانه حين يكون محلقا في الجو يفقد القدرة الوحيدة التي تربطه بالواقع وهي قدرة التحكم فيه ويصبح مسلوب الارادة واسير قوة أخرى كالطيار مثلا.

 

السيكوباتي الطاغية تسلطي وكل تسلطي جبان رغم التبجح والصوت العالي، والاستعراضية، لأن الثقة بالنفس باسطة وعذبة كمجرى ماء أو ضوء نجمة أو حقل مشمس، وكل اكراه للذات والاخرين بشتى السبل هو علامة انهيار في البنية العضوية السوية للذات، وكما قلنا في مقال( قناع الكولونيل) ان السيكوباتية ليست مرضا نفسيا ولكنها ذات منشأ اجتماعي عائلي من الصعب جدا علاجها الا من فريق متخصص ولسنوات طويلة، والادهى ان السيكوباتي يبني واجهات مقبولة وملفقة للاختباء خلفها سياسية وثقافية واصلاحية واخلاقية، والويل لمن يحاول نزع هذه الاقنعة عنه، وحتى الطبيب المعالج يتردد ويحذر في مكاشفته بحقيقه عاهاته لأنه على استعداد للدخول مع الطبيب في  معركة شرسة للانكار ما أن يقترب المعالج من الجرح النرجسي الذي يخفيه بمشقة  كل لحظة وتكون عملية الاخفاء مهلكة  ومستنزفة للطاقة ومع الوقت تصبح  طقوس الاخفاء ( واجهات مزورة. حركات استعراضية. عقائد. مشاريع سياسية اصلاحية. تبجح. تفاخر الخ) عامل تلذذ ومتعة وجزء بنيوي من البناء العام والكلي للشخصية ومن هو سبع الليل الذي يقول للاسد على عينك حاجب؟ السيكوباتي لا يشعر بالندم أو الذنب لأنه مفرغ من المشاعر السوية الطبيعية ولكنه يتباهى بهذه الأفعال بعد أن يحولها الى انتصارات ومراجل وبطولات عبر مصفاة الذات المعطوبة، وفي محيط مشابه يتحول الى نموذج ورمز للشجاعة حين تفسر الشجاعة تفسيرا مشوهاً.

 

حاشية الطاغية تعرف هذه العاهات لديه وتحاول تغذيتها بالنفخ بأوهامه كل يوم وفرصة وهو ما يقود الى تعميق التشوه في ( العلاقة) مع الواقع وليس فقدان العلاقة، وليس من الصحيح القول الشائع ان الكولونيل أو الطاغية المشرقي عموما شخصية رومانسية. ان هذا هراء. الرومانسية مرتبطة بالجمال والحساسية والذوق والاناقة الاخلاقية واللطف والشفافية وهي أبعد ما تكون عن هذا النموذج الذي يعاني من العته الاخلاقي أو قناع الخبل ولكنه مصاب بالوهم في تفسير الواقع.

 

الواقع الذي يراه هو الواقع نفسه الذي نراه ولكنه بالنسبة لديه هو واقع يمكن الامساك به بالقوة والمال والاعلام والخطاب وحين يبدو ان هذا الواقع يفلت( الاحتجاج الجماهيري مثلا) فتلك هي لحظة الصدمة، أولا: لأن الواقع الذي يراه ليس الواقع الذي توهمه. ثانيا: لأن الواقع المتحرك المحتج ليس هو الواقع المتحكم فيه. ثالثا: الواقع الجديد صار عدواً ويجب اعادته الى صورة الوهم الأول كواقع جامد مسيطر عليه ولو بالسلاح .

 

من مهازل الكولونيل الذي كان يتوهم قيادة العالم وخلع على نفسه لقب ملك ملوك افريقيا، وهو لقب يتجاوز الامبراطور، صار اليوم، أمام حالة الانكار والصدمة والغضب العام، يقلص من أوهامه، أمام انكشاف الاوهام، ويعود الى القبيلة البنية الاصلية الصغيرة التقليدية التي تجاوزها في أوهامه المتناسلة، وهي عودة غريبة لامبراطور عرض نفسه كمنقذ للعالم صار اليوم مطلوبا من المجتمع الدولي كجرم.

 

من الامبراطور الى ملك الملوك، الى الكولونيل المعزول في قلعة محصنة، الى شيخ قبيلة، ومن الثورة الى العائلة المالكة، من الثائر الى التاجر، هكذا ينحدر الكولونيل والطاغية المشرقي في تدهور مريع أو انكشاف سريع، في نهاية زمن الصمت والسكوت والخنوع، في تحولات عكسية متبادلة مع شعبه.

 

هو يتغطرس والشعب خائف. هو يتراجع والشعب يزحف. هو الآن في قلعة حصينة. هو، الآن، عاد الى الرحم الأصلي او الشبيه، لأن السيكوباتي كائن جبان ومذعور يغطي عاره بالاستعراض وتكشيرة الكلب والقوة. هو الآن خارج الخيمة ـ داخل القلعة، لكن المفارقة هذه المرة هي انه لن يولد من رحم القلعة من جديد كمخلّص أو فيلسوف أو صاحب نظرية بل كجثة حقيقية في قتال او انتحار بعد ان عاش كل تلك السنوات كجثة متجولة تتغذى من الصمت والخوف والأوهام، أيضاً. فهل للكولونيل من يكاتبه؟

 

هامش: ليس للكولونيل من يكاتبه ـ رواية غابريل ماركيز.

 

hamzaalhassan@hotmail.no

 

إقرأ أيضا للكاتب حمزة الحسن

 

الكولونيل في متاهة

 

رقصة الكولونيل الاخيرة

 

قناع الكولونيل

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالة للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا