%@ Language=JavaScript %>
قناع الكولونيل
حمزة الحسن
غير صحيح ان العقيد القذافي مريض نفسيا كما تروج وسائل الاعلام لأسباب كثيرة ولكنه شخصية سيكوباتية صفيقة. السيكوباتية ليست مرضا نفسيا بل هي اعوجاج في الشخصية نتاج تربية اجتماعية وأسرية. الصفاقة لا علاج لها غالبا الا بمشقة طويلة واعادة بناء كلي للشخصية وهو أمر غير ممكن الا بإشراف خبراء تقع عليهم مسؤولية جسيمة في ولادة كائن بشري من جديد وتصحيح ذات محطمة.
الصفيق أو السيكوباتي، والكولونيل نموذج واضح، هو خليط من الاستعراضية والجبن، من القوة الزاعقة والضعف الداخلي، لأن أي محاولة لاظهار القوة عن طريق الاستعراض والتهديد يعني ان الارادة تبذل مجهودا ضخما لاظهار الذات في حجم غير حقيقي، وكلما تدخلت الارادة في كل شيء، غابت العفوية والبساطة والهدوء الداخلي والانشراح والتلقائية، لذلك يؤكد علماء النفس ان الانسان الذي يبذل جهدا اراديا عنيفا في كل شيء، يعاني من هشاشة عالمه الداخلي، لأن السلامة الداخلية والثقة بالنفس هادئة ولا تحتاج الى براهين ومنبسطة وجميلة كيقظة طفل من النوم، وتعبر عن حضورها المشع بسرية وسلاسة على الملامح والاقوال والافعال بصورة آسرة بلا مشقة، لذلك ينتقل الينا هذا السحر الهادئ والجميل في الشخصية ربما من لقاء عابر في مكان عابر كما لو تترك خلفها عطرا من السكنية والجمال في ومضة خاطفة.
الكولونيل في خطابه الاخير نموذج صارخ للشخصية السيكوباتية التي لا تعرف أبدا انعكاس أقوالها على الآخرين، بل هي تتلذذ بآثار هذه الاقوال والافعال عليهم من باب التشفي والرغبة في التركيع والانتقام حتى لو كان مغطى بغلاف النقد والاعتراض ومفردات السياسة. هذا لا يخفي ابدا على المتبصر شخصية من هذا النوع المعوج. هذه الشخصية، وهذا الأخطر، غير قادرة على الاستبصار الداخلي والتحديق في ذاتها وفحصها وتأملها لأن الذات الأصلية مصابة ومعطوبة، لكنها تترقب علامات الاذى وتستمتع به في الاخرين، وهي تستطيع الحفاظ على كثير من المظاهر العادية والتصرف العام عن طريق ما يسميه العلماء( قناع الجنون) أو قناع الخبل، وهذا القناع يوفر لها فرصة الدخول في الحياة العامة وبلا انكشاف لوقت طويل، بل تبقى، في مجتمعات بسيطة غير معنية في التحليل النفسي، بعيدة عن الانكشاف ربما حتى الموت.
في مجتمعات مشرقية تقوم فيها فكرة الشجاعة على الاستعراضية والفهلوة والمظاهر الجسدية تضيع تماما هذه الشخصية المنحطة بل تصبح شخصية نموذجية رمزية لأن الحدود الفاصلة بين الصفاقة والشجاعة، بين مغامرة الوعي ومغامرة الجسد، بين العفوية والتبجح، تضيع الى أبعد الحدود.
خطاب الكولونيل الصفيق نموذج لخاصية أخرى من خواص السيكوباتي وهو هوس الكذب القهري التسلطي التلقائي الفوري غير المسيطر عليه عند الغضب، فالكذب يتدفق في مجرى الكلام، أو الكتابة، بصورة سريعة بلا تفكير لمجرد الايذاء وايقاع الألم، وكل كذبة تنتج أخرى، وهكذا تكون الخلاصة سلسلة طويلة من الاكاذيب عند جمعها تشكل خلطة كشكولية ممزقة لا رابط بينها، وهو نزوع طفولي للسيطرة على الاخرين، وهو أيضا علامة على ذات تمت اعاقة نموها الطبيعي في فترة ما.
على سبيل المثال: خصوم الكولونيل، في الخطاب الأخير، هم عملاء وجواسيس، بن لادن، اسرائيل، أمريكا، قنوات تلفزة، حشاشون، مخدرات، مدمنون على حبوب الهلوسة، اجهزة عربية شقيقة، دول مجاورة، دول بعيدة، مصالح، تيارات سلفية، جرذان، حشرات، سكارى حبوب مخدرات يقودون دبابات في الشوارع ـ مع ان دورة سياقة دبابة تحتاج الى ستة شهور في الأقل في مدارس تعرف بمدارس تدريب الدروع، ولا نعرف كيف يمكن لحشاش ومكبسل أن يقوم بمهمة فورية وهو على تلك الحال؟ كيف يمكن لهذا الخليط المتناحر والمختلف والمتناقض ان يلتقي على هدف واحد هو العداء للدكتاتور؟ ومن جانب اخر، لو صح هذا المنطق المرتبك والحائر، ألا يدل ذلك على ان هذا الأهوج لم يرض كل أنواع البشر؟
في عالم السيكوباتي لا قيمة للصدق والشرف والوضوح والحقيقة بل للايذاء والانتقام والتشفي والتخويف، وليس صحيحا ان الكولونيل المسعور هو شخصية استثنائية في العالم العربي، اذ يمكن العثور على هذا النموذج بين الاطباء ـ خلف قناع الجنون ـ والكتاب والمحامين ورجال الدين والمصلحين خاصة لأن السيكوباتي يهتم كثيرا ببناء واجهات مقبولة للتغطية على عار داخلي مزمن، والحياة اليومية مليئة بهذه النماذج المبرقعة.
هناك عنصر آخر يزيد الأمر تعقيداً وتمويهاً على شخصية السيكوباتي، والكولونيل الطاغية نموذج لذلك، هو الايديولوجيا لأن شخصية السيكوباتي تتداخل وتتلاشى وتمحي معالمها حين تتبنى عقيدة ما، والايديولوجيا السياسية الحادة تحمل خواص العالم السيكوباتي الداخلي: الايديولوجيا، أو البنية، او الاطار، أو العقلية المشوهة تبلع العالم وتجره الى الداخل، وتدمج الكل داخلها ومن يرفض يكون مصيره السحق الجسدي أو النفسي أو الاخلاقي وهي تميل الى الاستعراضية والتحريض والتهييج وهي خواص السيكوباتية أيضا، كما ان هذا القناع الاصلاحي الثوري التربوي المرائي يوفر للسيكوباتي مخرجا من الاعراض العامة المخجلة وباب طوارئ للهروب من الانكشاف تحت غطاء السياسة والثورة والاصلاح وحب الحقيقة والجماهير... والخ حتى تضيع الحدود تماما.
الكولونيل الدكتاتور هو نموذج واضح للتداخل المروّع بين السيكوباتية وبين الايديولوجية الثورـ ية، وشخصيته التي وصفت بـ"الزئبقية" هي شخصية نمطية شائعة في المجتمعات غير الديمقراطية، لكن هذا المهرج وهو يصرخ ويهدد ويتوعد بالويل والثبور وبلغة مبتذلة تهب من منطقة العواصف( المهاد) هي خاصية مميزة للسيكوباتي لأن العنف اللفظي توأم العنف الجسدي، هذا المهرج وهو يتعرى، عبر الخطاب للجمهور العام، لا يفعل شيئاً أكثر من كشف حقيقة بسيطة تغيب عن وعي الجمهور، في الفوضى والارتباك والمحن، وهي أن هذا النوع من العته والخبل والحمق ليس نتاج السياسة بل الثقافة والمناخ والبيئة والعقائد الثور ـ ية، التي تمنح هؤلاء أقنعة الدخول للسلطة والفضاء العمومي والسياسة والدين والكتابة، بل ان من بين هؤلاء المرائين من مات من اجل الاستعراضية ولكي يثبت للخصوم أنه أكثر شجاعة منهم ـ قناع الرذيلة ـ والحياة العامة مليئة بالامثلة وكذلك مسرحية شكسبير" كوميديا الضحك" التي يُقتل فيها شخص دفاعاً عن عدو له لكي يثبت له، فقط، انه أكثر شجاعة منه.
إقرأ أيضا للكاتب حمزة الحسن
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
|
لا للأحتلال |
|
---|
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|