دراسات مختارة

 

صوت اليسار العراقي

تصدرها مجموعة من الكتاب العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة

 

 

 

 

 

 

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

 

 

 

 

يمين اليسارالعراقي ويساره الوطني الأصيل

 

كاظم محمد

 

كثيرة هي الكتابات والمناقشات والحوارات حول اليسار، وحول أهمية تكتله ووحدته ، وكذلك دراسة اسباب عجزه وفشله في مواضع كثيرة ، فكريآ وسياسيآ ، وبالتالي تخلفه عن حركة الأحداث والتأثير فيها وأنفضاض الفئات الشعبية عنه .

من الأهمية بمكان ، وعند تناول موضوعة اليسار ، لاينبغي حصرها بالحركة الشيوعية ، وكأن اليسار  وأتجاهاته هي حكرآ على الشيوعيين وحركاتهم وتنظيماتهم .

أن مقياس اليمين واليسار ينطلق من الظرف التاريخي المعين ، و في حدود جغرافية معينة ، لمجتمعاتٍ معينة ، حيث طبيعة نمط الأنتاج السائد ومستوى التطور الأجتماعي والوعي السياسي للفئات الأجتماعية المختلفة ولمدى إدراكها لمصالحها الأقتصادية والطبقية ، وأستعدادها للنضال والتصادم من أجل هذه المصالح ، عبر أدواتها السياسية ، من أحزاب وحركات تعبر عنها وعن تطلعاتها الأجتماعية والسياسية .

لذلك كانت تيارات التقدم والمحافظة هي الأفرازات الطبيعية لحركة المجتمع في مسارها وتغيراتها ، وضمن هذا السياق فأن عملية الفرز و تجذير المواقف الفكرية والسياسية ، ملازمة بنفس الوقت  لتيارات التقدم في مسيرتها الكفاحية وصراعها مع ضدها الطبقي .

 ان وقوف تيارات التقدم إلى جانب الحركة الأجتماعية وفئاتها الشعبية ، وتبني همومها الوطنية والأجتماعية ، يضعها إلى يسار هذه الحركة وبالضد من الحركة المحافظة اليمينية في محاولاتها للأبقاء على مصالحها ، واللأستئثار بمؤسسات الهيمنة السلطوية .

أن التداخل الذي حصل بين التأثيرات الدينية والقومية في مواجهة الأستعمار ، ساهم بشكل كبير في بروز الحركة القومية وتشكلها ، أضافة إلى عامل الوعي الأجتماعي للطبقات المسحوقة  بالدور الأستغلالي الذي يمارسه المستعمر ونهبه لثروات البلاد واستغلاله لكدح أبنائه ، فأدركت  هذه الحركة دورها الأجتماعي والسياسي ، عبر حاجات مجتمعاتنا العربية لها ، ونهضت بالمهمات القومية والوطنية ، حيث برز مفكرون كبار وهيئاتٍ كثيرة وأطر وحركات ، كان لها موقفآ وجهدآ تقدميآ في قضايا الدفاع وتبني مصالح الفئات الشعبية المظطهدة ، وبنفس الوقت استطاعوا ان يعبئوا جماهير واسعة بأتجاه الموقف من الأستعمار ، وربطهم السياسي برفع الظلم والحيف عن الفئات المسحوقة  بقضية التحرر من الظلم والأستعمار والأستغلال .

في مسيرة الكفاح الطويل لهذه الحركات في مجتمعاتنا ، وحتى في المجتمعات الاوربية ، برزت الاجنحة المتجذرة على يسار هذه الحركات القومية والعمالية وحتى المحافظة منها ،  أن ما شهده التاريخ الحديث من اصطفافاتٍ اجتماعية في الكثير من المجتمعات ، خاصة تلك التي كانت فيها وتائر التطور والتغيرالاقتصادي ، واضحة وبارزة ، أدت إلى صراع فكري وسياسي ، وفي بعض هذه المجتمعات عنفيآ ، بين مواقف قوى الفعل الاجتماعي والسياسي ، بين تيارات وقيمٍ وموروث وانماط اقتصادية ، تسعى لشق طريقها وتكريس فعلها في الحركة الاجتماعية .

أن اليسار واليمين موضوعتان متلازمتان في حركة المجتمع ، وكحركاتٍ فكرية وسياسية ، فهما جزء من هذه الحركة الاقتصادية والسياسية ، لذلك لانستغرب عندما تبدأ الحركة الأجتماعية بالأبتعاد عن يسارها السابق ولفظه ، خاصة في المنعطفات التاريخية والسياسية الحادة ، وذلك بحكم موقفه المتخلف ، اليميني بمقياس الحركة الاجتماعية والسياسية ، من تلبية وتبني المطالب الاساسية للفئات الشعبية الواسعة والمرتبطة بهمها الوطني والاجتماعي.

أن هذا اللفظ الاجتماعي لذاك اليسار ، يستدعي قوى فكرية وسياسية منسجمة وقادرة على استيعاب التطورات الناشئة ، واتخاذ المواقف الصائبة ، لتقف الى يسار يسارها الملفوظ .

في حركة المجتمع والتغيرات التي تجري فيه ، وتأثير وفعل العوامل ا لخارجية ، لايمكن الحديث عن الغاء لتيارات اليسار واليمين في الحركة السياسية والاجتماعية ، كما يدعي بعض منظري العولمة الجديدة ، وبعض مثقفي ومفكري مؤسسات الفكر والدراسات الاستراتيجية الغربية والمطبلين لهم في بيئتنا الثقافية والفكرية.

مع العولمة الجديدة ، ومحاولة اشاعة وترسيخ مفاهيم وافكار ، ثقافة امبريالية رأس المال ، حول التناقضات الاجتماعية  وتواري الأمم وتكسير الحواجز الوطنية ، تجري عملية نقض وتجابه بين تيارات فكرية ، هي نتاج لمؤسسات النظام الرأسمالي ، متمثلة بمؤسسات اعلامية ضخمة ودور بحث ودراسات ، استطاعت استيعاب اعداد ليست بالقليلة من مثقفي وسياسي عدد من البلدان، عبر المال السياسي ، وخاصة من في المهجر منهم ، ليكونوا المروجين الفكريين والممهدين الوطنيين للغزو الثقافي والعسكري الامبريالي اللاحق ، ان هؤلاء ومن ورائهم سيدتهم الامبريالية ومؤسساتها الثقافية والفكرية ، يروجون لمقولات (تواري القوميات والأمم ) ويتنكرون لمقولة الصراع الطبقي ، ويدعون بأن هذه من بقايا ومخلفات عصر الأيديولوجيات الذي ولى زمانه ، اما عصرهم وزمانهم فهو عصر (صراع الحضارات والاديان) ، ومن هنا يحلو للبعض من مثقفينا ، وتأثرآ  برذاذ اجواء هذه العصرنة الفكرية ، وضعف الرؤية الوطنية ، وبالاستناد الى الفهم السياسي الخاطئ  للعلاقة بين الدين بمفهومه الشامل وحركة اليسار الاجتماعي وطبيعة نضاله ، يحلو لهم بأن يضعوا الاسلام السياسي على قدم المساواة مع الارهاب الامريكي ، منطلقين من نظرة محددة في جغرافية محددة وافرازات ظروف سياسية معروفة ، متناسين الدور الاجتماعي والسياسي الوطني الذي لعبته وتلعبه قوى وتجمعات وشخصيات دينية ، كان ولايزال الاسلام غطاءها العقائدي والفكري .

في ظل الاوضاع العالمية الجديدة ومتغيراتها الدولية ، وفي ظل شراسة وغطرسة وفاشية الامبريالية ، تتجلى اشكال جديدة للصراع  بين الوطني بحدوده الجغرافية وبين الوحش الامبريالي القادم بعسكره وقيمه وثقافته وشركاته العملاقة ، بين الوطني الذي يرفض التدخل والوصاية بأشاعة ( الديمقراطية) وتعليم الشعوب الف باء الديمقراطية الامريكية  ، وجهد ويجهد بأن لايستبدل الاستبداد الداخلي بالاحتلال والغزو الذي هو اسوأ ما يتعرض له بلد من البلدان وشعب من الشعوب .

لقد اصبحنا نحن العراقيين نلاحظ ونرصد هذه الظواهر بوضوح من خلال قراءة ما يجري في وطننا وفي البلدان الاخرى ، نلاحظ عملية النقض والتجابه المستمرة بين تيارات وطنية تضم مختلف الاطياف ، وبين مشروع امبريالي يسعى مع مريديه من كتاب ومثقفين وسياسيين محليين إلى تفكيك مرتكزات مفاهيمنا الوطنية وايجاد مساحة فكرية تظليلية تؤسس لمفاهيم فكرية هجينية ، تُمهدُ مع عصاهم الغليضة لتثبيت مشروعهم الاستعماري وانجاحه في عموم المنطقة . . وهنا بالتحديد نستطيع تلمس التناقض الكبير والعميق بين بقايا اليسار السياسي العراقي ، الذي احتكر يسارية الساحة السياسية والاجتماعية ، وكان فاعلآ ومؤثرآ لزمنٍ  طويل بحكم الربط  الواعي  بين السياسة الوطنية والطبقية ،  والذي خضع  فيما بعد  (لعمليات جراحية فكرية وسياسية ) في مشافي العصرنة الامريكية ، ليخرجوا علينا  (بيسارية جديدة ) ومفاهيم فكرية وسياسية تظليلية ، مُستقاة من مدارس رأس المال الثقافي والفكري ، بتبريرهم التصالح والتعاون مع المستغل العالمي  .

أن إدعاءهم وقولهم الموثق بأن ( الرأسمالية العالمية ونموذجها الامريكي ، ليس شرآ كلها ) لتبرير الارتداد الفكري والسياسي والذي لم يكن مفاجئآ ، وضعهم بالضد من مصالح الفئات والطبقات الاجتماعية الواسعة ذات النزعة التقدمية ، وبالضد من قضيتها الاساسية ، إلا وهي القضية الوطنية والاجتماعية ، لقد تحالفت بقايا هذا ( اليسار) مع العدو الطبقي والوطني لهذه الفئات الشعبية الواسعة ، وبذلك فقدت تقدميتها الاجتماعية ، والغت عنها صفة اليسار السياسي ، لتصطف إلى جانب اليمين الرجعي السياسي بتحالفاته الجديدة .

لقد دخلت بقايا هذا (اليسار) المرتد في تناقض فكري وسياسي مع الفئات الشعبية الواسعة التي بدأت بأنشاء أُطرها المبلورة لمواقفها السياسية ، والمستندة الى قضيتها التقدمية الاولى ، وهي رفض الأحتلال والهيمنة الامبريالية الجديدة بكل اشكالها ، ورفض افرازاتها الرجعية ، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكارثية على هذه الفئات والطبقات الشعبية .

 

أن اليسارية هي اتجاه اجتماعي فكري وسياسي يستشعر المصالح الانية والمقبلة للفئات والطبقات الشعبية ، انها نتاج اجتماعي سياسي لقوانين طبيعية اجتماعية واقتصادية ، خاصة بمجتمع معين ومتأثرةً بمحيطها الموضوعي وظروفها التاريخية ، ان معرفة النقيض ومحاربته واسقاطه ، يتطلب قوى واطر ا ناهضة ، مدركة لدورها التقدمي في حركة المجتمع ، وبذلك فهي تقف الى يسار الكفاح الشعبي  للطبقات المسحوقة ، وطنيآ واجتماعيآ ، وبذلك فأن منبعها الوطني هو الذي يحدد اتجاهاتها ، وبأنسلاخها عنه ، تكون قد عزلت نفسها واصبحت على هامش الحركة الاجتماعية والسياسية .

ليس بحفظ وتسطير النصوص الماركسية واللينينية نثبت لون يساريتنا ، ولا بالصراخ بقانية حمرة شيوعيتنا وشعاراتنا نكسب الاعتراف بيساريتنا ، ولا بحملنا لمخزوننا النظري بقاربنا الصغير بين امواج تعقيدات الوضع الوطني  العراقي ، ودون ان نستطيع ملامسة شاطئنا المطلوب ، فستكون يساريتنا عائمةً  دون ان تستطع التلامس والتشابك مع منبعها الوطني لأسترداد عمقنا الوطني ومعرفة أولوياتنا الوطنية ، اولويات النضال الوطني ، والتي بدونها لانستطيع الحديث عن مصال الفئات المسحوقة . . فلنكف  عن ترديد (( الاوضاع المأساوية في العراق ، ووضع المجتمع العراقي على عتبة الثورة الاشتراكية ، ان من المهمات الملحة فصل الدين عن الدولة ، حق الانفصال... )) ولنحدد كوطنيين عراقيين قضيتنا الوطنية الاولى ، وهي الاحتلال وما نتج عنه ، ولتكن هذه القضية النقطة الاولى في برنامج العمل المشترك ، والمهمة الاولى للنضال الوطني التحرري ، وليس كمهمة اخيرة في مقترحات مشاريع العمل المشترك لبعض التجمعات .

لاحديث عن استقلال وسيادة ، مثلما يحاول البعض تمريرها، في ظل الاحتلال ، ولاحديث عن تحرير للمرأة العراقية في بلدٍ مغتصب ومستباح ، ولاحديث عن قانون عمل عمالي يضمن المصالح الطبقية للعمال والفئات الكادحة في ظل الاحتلال .  ويبقى أن لا نُضلل اذا جاء من يدعونا إلى ديمقراطية في ظل المحتل الامبريالي ، هاهي عشرات الصحف والدكاكين الحزبية تتحول الى مؤسساتٍ ارتزاقية ، لتلعب دورها في تجريد شعبنا من سلاح الوعي والتنظيم ، ولتصبح اداة المحتل ومريديه في التضليل وخلط الاوراق ، للتشويش على وعي المواطن العراقي ولتكريس الطائفية والمناطقية والتخندق العرقي والمذهبي ، ولتهيأ الذهنية العراقية لما هو قادم .

أن نظام الاحتلال هذا وفي ظل امبريالية رأس المال الفاشي في العراق ، يقيد ويحدد ويطوق الحركة الاجتماعية التقدمية بممارساته القمعية المباشرة او بواسطة من ارتضى بالدور السلطوي الثانوي التابع للاحتلال، وبذلك فهم يحاولون محاصرة واضعاف ، إن لم يكن القضاء على الحركات والاطر السياسية ذات الفاعلية الوطنية والاجتماعية في كفاحها من اجل مصالح الفئات الشعبية.

ان من يعبر عن اماني وتطلعات الفئات الشعبية في المجتمع ، عليه ان يربط وبشكل جدلي بين المهام الوطنية الملحة ، والدعوة الى الى تحقيق المصالح الطبقية لهذه الفئات ، وان يعي التشابك الذي لاينفصم بين  المسؤولية الوطنية والاجتماعية ، ان الفشل سيكون من نصيب من يحاول التضليل لتبرير توجهاته الفكرية والسياسية ، والقول بأمكانية تحقيق المصالح الطبقية والاجتماعية للفئات الشعبية في ظل سلطة الاحتلال وتوابعها ، والتي ساهمت في في تدمير بلدنا وسرقة ونهب ثرواتنا ، ومحاولتها لضرب وتفتيت البنية الاجتماعية لنسيجنا الوطني .

لقد علمتنا تجارب حركتنا الوطنية والتقدمية ان بعض الاحزاب الوطنية العراقية والتي ناضلت ضد الاستعمار البريطاني وحكومته المنتدبة ، كانت تقدمية في مواقفها من قضية الاستقلال والسيادة ، وتجذرت هذه المواقف بدفاع هذه الاحزاب عن المصالح الاجتماعية للطبقات الشعبية ، فوقفت بذلك على يسار الحركة الوطنية في ذلك الوقت ، ولقد تعلم قادة شيوعيون من العمل داخل هذه الاحزاب ، وأسسوا حلقاتهم الماركسية  الاولى ، فكان عاصم فليح وفهد وغيرهم من الاوائل الذين جذروا هذا التوجه اليساري الوطني ، بطبيعة الموقف الفكري والسياسي الذي اتخذوه ، عبر تأسيسهم ل (لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار ) ، أي انهم حددوا الهف الاساسي الجوهري الوطني العام ، هو الاستقلال والسيادة ، التي ستمهد الطريق لبناء نظام وطني شعبي ديمقراطي ، تستطيع في ظله الحركة الشيوعية من ممارسة دورها النضالي في تحقيق التطلعات الاجتماعية والطبقية للفئات الشعبية .

أن يسار الامس هو يمين اليوم بمقاييس المواقف الفكرية والسياسية المتخلفة ، وفقدانه لبوصلة الفكر ولأصابته بعمي البصيرة الوطنية من المتغيرات والتطورات التي شهدتها وتشهدها الساحة العراقية.

يجب ان يرتبط البحث في ازمة اليسار والدعوة لوحدته ، بالبحث والتعمق في مجتمعاتنا الوطنية ، والنظر بأحترام  للموروث الحضاري  والثقافي ، وادراك طبيعة التزاوج الاجتماعي والديني ونسيجه المؤثر في دفع حركة التغيير ، والكف عن التسطيح والطفولية الفكرية في تناول مسألة الدين والموقف منه ، ان الاسلام في مجتمعاتنا ليس عقيدة مجردة ، تخص الذات الشخصي ، انها عقيدة روحية وفكرية ، كانت ولازالت جزء لايتجزء من النسيج الثقافي والحضاري لمجتمعنا ، لعبت ويمكن ان تلعب دورآ فعالآ في اشكال الكفاح الشعبي .

ان الاصطفافات الاخذة بالتبلور على ساحتنا السياسية ، والتي تلعب فيها تجمعات واطر واحزاب وطنية دورآ كبيرآ في الشحذ السياسي الشعبي ، وعمقه الاجتماعي ، قد افرزت بوضوح ومنذ زمن ، وستبلور اكثر فاكثر قوى شعبية متجذرة  ستكنس يمين( اليسار ) وترسخ يسارآ وطنيآ جديدآ يستند الى منبعه الوطني  في ملامسته للحاجات التاريخية لفئات الشعب الواسعة ، في التحرر والديمقراطية والبناء ،  لذلك فلا يجوز الا ان نقف على يسار فئاتنا الشعبية الواسعة في همومها الوطنية وتطلعاتها المستقبلية ، حيث ستنفتح افاق التعاون والعمل المشترك للتجمعات اليسارية والتي هي جزء من الدعوة العامة للتعاون والتنسيق بين مختلف التيارات الوطنية العراقية وتجمعاتها ، في جبهة موحدة شاملة ، واضحة التحديد في تثبيت مهامها الوطنية في ازالة الاحتلال وتمكين شعبنا من استقلاله وسيادته على ارضه ، ليقيم نظامه الديمقراطي الذي يضمن الحريات وتداول السلطة للجميع.

 

 

 

هل نحن شعب منكسر؟ وما العمل؟ (1 من 3)

 

صائب خليل

8 كانون الثاني 2010 

يتساءل "بروس ليفين": "هل الأمريكيين شعب منكسر؟" (1)...ويسأل: "لماذا لم نعد ندافع عن انفسنا ضد قوى الإضطهاد؟".

قد يثير السؤال العجب لأنه يأتي من أشد الشعوب أفتخاراً بنفسه وحريته، ولو أن هذا التساؤل جاء من كاتب عربي لما أثار الإستغراب، فهنا يصاب الكتاب والمثقفون دائماً بالإحباط وخيبة الأمل لشحة النتائج التي تأتي بها جهودهم ونجاحاتهم في كشف حقائق يتصورون إنها ستهز مؤسسات بلادهم. وفق منطقنا (السليم في حقيقته)، فأن كشف الحقيقة يجب أن يفضح "ملابس الإمبراطور" ويجعل الناس تضحك منه فتسقط كذبته (2). فكلنا يعرف دور الصحافة في فضح ووتركيت ووحشية الحرب الفيتنامية، والنتائج الحاسمة لذلك. لكن نموذج ووتركيت لا يمثل الواقع دائماً للأسف، فالكذب والإجرام كثيراً ما ينجح في البقاء في الساحة، حتى بعد افتضاحه، وهو ما يفسر تساؤل ليفين في أميركا، أما الحال في الدول المتخلفة فهو أسوأ بكثير.

 

لقد أصيب كاتب هذه الكلمات بالإحباط أكثر من مرة، فالمعاهدة مرت رغم الجهود الكبيرة لفضح أكاذيبها وخطرها، ودون عرض نصها الرسمي لا على البرلمان العراقي ولا الكونغرس الأمريكي! ومازالت اتفاقيات النفط المشبوهة مع الأردن سارية المفعول وفي تطور ولم يفتح أي حزب فمه للتساؤل عنها، رغم فضحي لملابساتها المشبوهة، وتمكن أشتي حرامي من "البقاء على قيد الوزارة" رغم فضيحتين هائلتين، كل منهما تكفي لإسقاط حكومة كاملة،..لذا كتبت يوماً  محبطاً، ومشككاً بجدوى الكتابة (3)

لكن الإحباط الذي أصابني يعتبر نزهة بالنسبة لما أصاب الكاتب الكبير محمد عبد المجيد (*) الذي صار يشعر "بغثيان وغضبٍ وقرَفٍ وحُزنٍ لو نزلَ علىَ جَبَلٍ لتصَدّع وتطاير هباءً منثورا!" لأنه وبعد أكثر من عشرون عاماً من الكتابة " كتبنا .. وكتبنا .. وبكينا، واستصرخنا أهلنا المصريين في الوطن وفي الغربة، واستجدينا روح الشرف لدى المعارضة الوطنية، وحرّضنا قواتنا المسلحة على الانقلاب"، مازال الأوغاد يعيثون فساداً في بلاده دون أن يزعجهم أحد!

 

محمد عبد المجيد وأنا محقين في غضبنا، لكننا اخطأنا في تصورنا أن الخلل في الشعب المصري أو العراقي.

ما يتحدث عنه محمد أعلاه ليس سوى مرض معروف، أصاب الشعب المصري بعمق، لكنه ينتشر حتى خارج منطقة الشعوب المضطهدة المعروفة، كما رأينا من تساؤل "بروس ليفين" اعلاه.

يكتب "ليفين" في مقالته القيمة: "هل يمكن أن يصبح الناس منكسرين إلى الدرجة التي لايعود فيها ممكناً تحريرهم من خلال تبيان حقيقة واقعهم الأليم؟ هل يمكن أن تجعلهم تلك الحقيقة أكثر إحباطاً واستسلاماً؟ هل حدث مثل هذا الإحباط والإستسلام في الولايات المتحدة؟ هل يرغب المتسلطون بأن نرى كيف تم ابتزازنا لأنهم يعلمون بأن صورة الشعب المهزوم أمام الإضطهاد الصريح ستعمق الإستسلام للإضطهاد؟".

 

عن هذا يجيب ليفين : نعم يمكن أن يصل الناس إلى درجة من الإنكسار، لايعود فيها توضيح الإضطهاد لهم محفزاً على الرفض والإحتجاج، بل إلى الإغراق في الإستسلام، ولهذه الحالة إسم علمي معروف هو "عارض الإضطهاد" (abuse-syndrome) . إنها الطريقة التي يستعملها القوادون والأزواج وأرباب العمل والحكومات للإبقاء على سلطتهم. إنهم يقذفون بالأكاذيب والإساءات والظلم في وجه ضحاياهم، وعندما تخشى الضحية الإفلات من تلك العلاقة، فأنها تصبح أضعف. ويقوم مستغل الضحية بجعلها تبتلع المزيد من الأكاذيب والإستغلال والظلم، وهو ما يدفع بالضحية إلى المزيد والمزيد من الإغراق في الإحساس بالضعف والعجز، الذي يزداد كلما فشلت في التجرؤ على إنهاء تلك العلاقة.

 

إن مواجهة ضحية "عارض الإضطهاد" بحقيقة حالة الإبتزاز التي هي فيها، لن تساعدها في التخلص منها، فهي تحرجها وتزيد من إحساسها بالعار، وهو إحساس شديد الإيلام. إن رد فعل من يشعر بأنه مهزوم ومحطم، على الإحساس المؤلم لا يكون عادة رد فعل بناء لإزالة أسباب ذلك الإحساس، بل ستحاول الضحية أن تمنع نفسها من التفكير به وستسعى إلى المراوغة للهرب منه. لذلك ليس من المتوقع أن تنجح مواجهة المضطهد بحقيقة حاله، في دفعه إلى العمل على التحرر منه.

 

يقول ليفين: "عندما ينكسر الإنسان، فأنه لا يعود قادر على مواجهة الظلم. وفوق ذلك فأن معرفة المزيد من الحقائق عن إبتزازه سوف تضيف المزيد من الإحساس بالعار لديه، لأنه سمح بكل ذلك، فيزداد إحساسه بالإنكسار والضعف."

 

فما يمنع الشعوب من الإحتجاج على المظالم البينة إذن، هو نفس ما يمنع بعض الزوجات عن ترك أزواجهم الذين يضطهدونهن، وما يمنع الفتيات اللواتي يجبرن على الدعارة، من الهرب من قواديهم. إنهم يشعرون بأنهم أعجز من أن يفرضوا تغييراً في الحالة، وكلما طال زمن السلبية، وتكاثر عدد مرات الفشل في المواجهة، إزداد الإغراق في هذا الإحساس. وأخيراً تهرب الضحية بعيداً عن المواجهة، من خلال الكآبة والإدمان وغيرها من وسائل الهرب المعروفة، وهي ظاهرة يشترك فيها جميع من تظهر عليهم "اعراض الإضطهاد."

 

هذه الحقائق قد تدهش القارئ، لكنها بلا شك معروفة لدى الإستعمار والدكتاتوريات، فـ  مضطهدي الشعوب يدرسونها, لكنها لا تدرسهم (4) (5). قال مسؤول تركي في الثلاثينات من القرن العشرين: "على الاكراد ان يرضوا بالعيش كخدم لنا", وما اقربها الى عبارة موشي ديان حين قال: "على العرب ان يرضوا بالعيش كالكلاب او ان يرحلوا." إن اقصى أماني المتسلط، سواء كان دكتاتوراً قومياً، أو محتلاً أجنبياً، أن يحصل على  شعبٍ منكسر. الملوك والنبلاء والاغنياء اعتمدوا على الاحساس بالدونية لرعاياهم وخدمهم لاستمرار استغلالهم لهم. وكان معظم هؤلاء الخدم راضين مقتنعين. فحيثما وجدت الإضطهاد وجد الأيحاء بالدونية وإقناع العبيد بالقدر، سوقاً رائجة.

 

من مقالة سابقة لي (مثال الآلوسي مقابل جنديين إسرائيليين: مقارنة إنسانية  (6)) أقتطع هذا النص ذو العلاقة:

بعد انتهاء فترة خدمتهما العسكرية عاد اثنان من الجنود الإسرائيليين لمراجعة ما قاما به، فأقاما معرضاً تحت اسم (كسر الصمت) يضم صوراً فوتوغرافيةً التقطاها في تلك الفترة. في برنامج للتلفزيون الهولندي عن المعرض، عرضا صوراً للفلسطينيين الخائفين منهم والحاقدين عليهم والأطفال الذين ينظرون إليهم شزراً وآخرين يلعبون لعبة يمثلون بها جندياً إسرائيلياً يجبر مجموعة من الفلسطينيين على وضع أيديهم على الجدار. إحدى الصور التي في المعرض كانت عبارة عن صورة لمجموعة من الفلسطينيين والفلسطينيات يقفن مبتسمين للتصوير مع الجنود الإسرائيليين، أثارت انتباه صحفي فسألهما لماذا يضعان مثل هذه الصورة الإعتيادية في المعرض؟ إنها لا تمثل الرسالة التي يريدان إيصالها حسب رأيه. أجاب أحدهما: "إنها بتقديرنا أهم صور المعرض...إنها تمثل استسلام المظلوم نهائياً وقبوله بالوضع الخطأ. هذه الإبتسامات التي تراها تمثل انهيار مقاومة هذا الإنسان وإيقافه الصراع من أجل حقه كأنسان لايقل عن الجندي الذي يقف قربه!".

 

هؤلاء الذين يقفون مبتسمين للإضطهاد، هم نواة لمشروع شعب منكسر، لا تعود الحقائق المؤلمة تثير فيه الرفض أو الغضب، بل تزيد فيه الخنوع والإحساس بالعجز. من هذه الحواضن يخرج المنطق المعوج بالخوف والإرهاق، وتخرج كل الخرافات والحماقات، ويخرج من يأمل بالمستحيل، ويقتنع أن القتلة وعصابات اللصوص يمكن أن تقوده "لتحرير الأرض" وبناء "الأوطان الحرة السعيدة".

 

كل ما يقلل إحساس الإنسان بكرامته وإنسانيته يلعب دوراً في تثبيت هذا العارض الإضطهادي فيه، إبتداءاً من تقييمات المجتمع الإستهلاكي المادية للإنسان، إلى التربية العسكرية إلى إضطهاد الأقوى للأضعف في أي مكان، من البيت إلى الشارع إلى العمل، فكلما رضينا بما نعتبره ظلم لنا، بنينا طابوقة في سجن إنكسارنا، لذا توجب الإنتباه لهذه الهزائم الصغيرة التي تتراكم فينا دون أن ندري، حتى يأتي اليوم الذي نجدها أمامنا سوراً يصعب هدمه، يقف بيننا وبين حقوقنا وإنسانيتنا.

 

في العراق، أعتمد نظام صدام، كأي نظام دكتاتوري آخر، كثيراً على "كسر" الشعب من أجل تثبيت سلطته. ولعل اشهر اجراءات الايحاء بالدونية في عراق صدام كان اجبار الاهل على دفع "ثمن رصاصات" قتيلهم الذي تعدمه الحكومة, ليثبت فيهم الإحساس المهين بأنهم ساهموا في قتله, وانهم رضخوا لمشيئة قاتله. ليثبت فيهم الإحساس بالإنكسار   .

فعندما يستقطع صدام ثمن الرصاصات من أهالي ضحاياه فإنه يشل هؤلاء بتعميق إحساسهم بالضعف، وعندما قام بإعدام قادة الحزب أمام كوادره عشية استلامه للسلطة، فأنه فعل ذلك في وضع لم يستطع أي من تلك الكوادر أن يحتج، فتحول هؤلاء إلى قطيع منكسر، وعندما وزع الأفلام على مقرات الحزب في العراق، دون ان يستطيع أحد أن يحتج، فأنه حول حزب البعث إلى حزب منكسر، فرضي هذا الحزب بأن يتحول إلى عصابة مافيا هدفها الوحيد حماية رئيس العصابة. وعندما فهم الشعب أنه محكوم من قبل عصابة وحشية، ولم يتمكن من الرد، تحول إلى شعب منكسر. لقد أدام صدام هذا الإحساس لدى "رفاقه" من خلال إجراءات مختلفة مثل أمرهم بالقيام بعمليات الإعدام والتعذيب لرفاقهم الذين فعلوا ما يغضبه، وأدامها في شعبه من خلال القمع الوحشي، والتحقير خاصة للمتعلمين منهم. فقد كان يتحدث باحتقار دائماً مع المتعلمين، وكان يمارس ذلك أمام عدسات التلفزيون كلما زار جامعة أو مركزاً علمياً، وعندما وضع صدام رجلاً أمياً كوزير للتعليم العالي فأنه كان يعرف جيداً ما يفعل.

 

لا غرابة في أن يتصرف صدام بهذا الشكل مع شعبه، فقد كان يدرك أنها معركة حياة أو موت بين بقائه وبين بقاء إحساس شعبه بالكرامة. لقد كان العراق سجناً كبيراً، ولا غرابة في أن تمارس فيها تقنيات السجانين. فمن اكثر الممارسات انتشاراً في السجون في كل مكان, ما يعرف بـ "تليين السجين", وتتمثل بالسعي الى "كسر" روح السجناء وتثبيت احساسهم بتفاهة قيمتهم, خاصة عندما يتعلق الامر بموقف سياسي يأمل السجانون فيه اجبار السجين على تقديم معلومات يرفض تقديمها. ذلك ان رفضه يتأسس على قيمه الانسانية التي يضعها لنفسه, والتي يخجل من التنازل عنها. فأن ازيلت القيمة التي يضعها السجين لنفسه, لم يعد له مبرر لتحمل التعذيب فيعترف ويقوم بكل ما يريد السجان. والسجان يريد أن يغرس السجن في رأس السجين ليأمن عدم هروبه حتى لو نسي باب السجن مفتوحاً يوماً ما. لم تختلف مهمة القائمين على سجن أبو غريب في زمن صدام، عما صارت عليه تحت سلطة الأمريكان، كما شهد العالم.

 

هل كان لكل تلك الإجراءت فائدة لصدام؟ ألم يكن يكفيه ما يتمتع به من حماية عسكرية وأمنية هائلة لم تشهدها البلاد قبله؟

ربما كانت هذه الإجراءات غير ضرورية في الوقت الذي كان فيه صدام يتمتع بكامل قدرته الأمنية والعسكرية، لكن عندما جاءت إنتفاضة عام 1991 فأن الخوف والإنكسار بقي مسيطراً على الكثير من الناس، خاصة في العاصمة، رغم أنهيار الدولة ومؤسساتها القمعية، ولولا ذلك الإنكسار، لربما لم يتمكن صدام من النجاة حتى مع المساعدة التي حصل عليها من الجيش الأمريكي حينها. فتربية الإنكسار التي مارسها الرجل خلال سنوات حكمه وقبلها، كانت اشبه بالذخيرة التي نفعت "في اليوم الأسود" بالنسبة له. لقد كان باب السجن مفتوحاً، ليس للهرب فقط، بل وأيضاً للإنقضاض على الجلاد، لكن الإنكسار منع الكثيرين من رؤية الفرصة او استغلالها.

 

يكتب محمد عبد المجيد عن شعبه المصري محترقاً: "تقرأ لعبد الحليم قنديل أو يحيي القزاز أو... فتظن بعد أي مقال أن كل مصري سيجري في الشارع متوجها بجهاز عصبي يحترق إلى القصر الجمهوري، ومطالبا برقبة الرئيس مبارك قبل أن يأتيه ملك الموت فينقذه من غضب المصريين، لكن أبناء بلدنا لا يغضبون، وتسقط من الذاكرة بعد دقائق قليلة أشياء لو تم نشرها في بلد متقدم لما انبلج فجر يوم جديد على كل من يسكن القصر من الإنس والجن والشياطين!"

يقول محمد أنه لا يفهم " كيف يقف سبعون مليونا من البشر فوق أكتاف أولى حضارات الأرض, ثم ينظرون بابتسامة طيبة طفولية لأكبر عملية نهب في تاريخ وطنهم, واثنين وعشرين عاما من قانون الأحكام العسكرية, والاختفاء القسري لأبنائهم في المعتقلات أو وراء الشمس, وفي التعامل معهم بازدراء واحتقار واستعلاء".

لا شيء يبدو قادراً على إيقاض إحساس ميت: " لعلنا نتذكـر الضابط الذي طلب مـن مواطـن مصري أمام ابنته أنْ يلعق عضوَه الذكري!" لذا فأن محمد يعلن هزيمته "لذا أعلن هزيمتي أمام جبروتك وطغيانك وقوتك, واشهر انتصار الخوف والجبن والبلاهة والحماقة ولذة القهر والعبودية والاستكانة والاستسلام والغفوة والغفلة, ومن حقك أن تفعل بنا ما تشاء فنحن عبيدك, وأنت سيدنا المطاع" ..."أيها المصريون، طز فينا جميعا، وفي كتاباتي لأكثر من عشرين عاماً عن المجرم حسني مبارك ونظامه القذر.. فهي لم تحرك شعـرة واحدة من موضعها!"

محمد عبد المجيد محق في غضبه، ولا شك أن ما تمكنت حكومة مبارك من إنجازه لإسرائيل أخيراً في حرب وحصار غزة دون أن يتحرك ساكن في مصر، تثير حتى الحجارة. لقد سمعت الكثيرين يمتدحون الشعب المصري بأنه شعب صابر، يضحك حتى وهو في أشد حالاته بؤساً. لكن هل هذا مؤشر قوة وجلد، أم هي من أعراض الإنكسار العميق؟ هل تلك الإبتسامات صفة مرح صامد، ام أنها ابتسامة المنكسر اليائس، كما في صورة معرض الجنديين الإسرائيليين؟

 

يزول عجبنا من تشخيص ليفين لإنكسار الشعب الأمريكي حين يذكرنا بأن 47 مليون امريكي لايملكون الضمان الصحي، والملايين التي تعاني من سوء التغذية في أغنى بلدان العالم طراً ورغم ذلك يغيب الإحتجاج على خيانة ممثليهم الذين انتخبوهم. ولقد قرأت أمس أن أعداد المعتمدين على المعونات الغذائية في أميركا سجل رقماً قياسياً. أما من ناحية المشاركة في القرار السياسي فالمشكلة أكثر وضوحاً. فتظهر الإحصاءات أن الغالبية من الأمريكان يعارضون الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق ودفع أموال الضرائب لإنقاذ الشركات المالية من أزمتها، ورغم ذلك فلم يحتج سوى عدد قليل منهم على تجاهل حكومتهم لرغباتهم. لقد حصل الغور في انتخابات عام 2000 على 500000 صوت أكثر من جورج بوش، وانتهى الأمر بإلغاء المحكمة العليا لقرار قضائي بإعادة فرز الأصوات، وهو ما علق عليه القاضي جون بول ستيفنس بالقول: "بالرغم من أننا قد لا نعرف الفائز هذا العام، إلا أن الخاسر واضح بشكل أكيد، إنها ثقة الأمة بالقضاء كحام عادل للقانون". ورغم ذلك لم يثر هذا سوى القليل من التظاهرات. ويمكن للفلم على الرابط التالي أن يضيء جانباً من موضوع إنكسار الشعب الأمريكي (7) Had Enough?

 

لايقتصر الإنكسار الغربي على الشعب الأمريكي، بل يتعدى أيضاً إلى أوروبا، فالشعب الهولندي كان يعارض نفس تلك الحروب لكن حكومته ساندتها سراً وعلناً، وعارض المشاركة في صناعة طائرات جي إس إف المقاتلة الأمريكية لكن حكومته وقعت العقد في بداية هذا القرن، وكان 74 % منه يرى في إسرائيل الخطر الأكبر للسلام في العالم، لكن حكومته كانت من أشد الحكومات دعماً لإسرائيل! أما أفغانستان فأظهرت أن جميع الشعوب الغربية تعاني من هذا العارض وأنها تسكت على مخالفة حكوماتها لرغباتها. (8) – من المثير للإنتباه أن معظم حالات الإنكسار تكون لها علاقة بأميركا أو إسرائيل وبالدرجة الثانية الشركات الكبرى في البلاد، افلا يحق لنا أن نعتبر هذه أعداء الديمقراطيات في العالم؟

 

ويمكننا أن نقول أن شعوب الأرض مصابة بالإنكسار أمام الشركات وامتداداتها الحكومية وعلاقاتها بالدول العظمى، والتي تفرض عليها نظاماً يهددها بالدمار في أية لحظة بتزايد التوتر والأسلحة النووية، وهاهي الشعوب تسمح بنهب ثرواتها لتغذية سرقات الشركات الهائلة، وهاهي تنظر إلى كوكبها يتم تدميره بصمت! اليس الصمت على الظلم أجلى علائم الإنكسار؟

إذن فالإنكسار ظاهرة عامة في شعوب الأرض، بدرجة أو بأخرى، حتى في البلدان المتقدمة التي تعيش الديمقراطية الرأسمالية، وبالتأكيد لم تكن الشعوب التي عاشت الدكتاتورية الإشتراكية بأفضل منها، لكن لعل النماذج التي تمثل الديمقراطية الإشتراكية مثل فنزويلا، التي استعاد شعبها من انتخبه حاكماً، من براثن السي آي أي، نموذج أقرب الى الشعب الكريم، لكن نموذج فنزويلا مازال قليلاً في العالم.

 

هل في هذا عزاء للشعوب العربية وأمثالها؟ من ناحية أولى، نعم، فهو يعني أن الإنكسار ليس من خصائصها دون غيرها. ومن ناحية أخرى معاكسة، فمن الخطأ تصور أن إنكسار شعب دولة أخرى يصب في صالح بقية الشعوب. فلو راجعنا ما حدث ويحدث، لاكتشفنا أن الشعوب المنكسرة هي التي تنتج المستبدين بها وببقية الشعوب. فحكومة بوش الأكثر استبداداً للعالم، كانت أيضاً ألأكثر استبداداً لشعبها والأكثر انتهاكاً لحرياته المدنية وهدراً لثروته. لذلك، فمتى ما أزدادت قدرة الشعب الأمريكي على انتخاب الرئيس الذي يريد ومراقبة ما يفعل والتدخل فيه، أمن العالم هذه الثعابين التي تفقسها أميركا للعالم منذ قرون. فانكسار شعب لايمثل انتصاراً لشعب آخر، بل هزيمة وخطر يهدد بقية الشعوب ولقد أدرك الكويتيون الذين طالما ساندوا صدام في وجه شعبه، أدركوا هذه المعادلة متأخرين جداً.

لقد تعاونت الهيمنة الأمريكية كثيراً مع صدام وأمثاله في كل مكان، وهاهي تحاول إعادة الصدامية إلى العراق بدون صدام، كما فعلت مع سوموزا. لكن، ومثلما أن خندق المستبدين واحد في أغلب الأحيان فمعركة الشعوب واحدة وخندقهم واحد وعليهم أن يفهموا ذلك كما فهمه أعدائهم قبلهم، وأن يكسبوا من ذلك التعاون والمصير المشترك، مصدراً للثقة والأمل.

 

(نهاية الجزء الأول)

 

لطول المقالة أضطررت إلى تجزئتها إلى جزئين، وفي الجزء الثاني سيكون هناك إشارة سريعة إلى الإنكسار الإيديولوجي لليسار، وعن محاولات زرع الإنكسار في الناس من خلال إعلام يتخفى بصيغ نقدية، كما سنبحث الطرق التي تتبعها الضحية في الهرب من مواجهة الواقع المؤلم، كالتبرير والنسيان ومهاجمة بديل أضعف، وأخيراً البحث عن طريقة للتعامل مع هذه المشكلة بشكل بناء.

 

(1)  http://www.informationclearinghouse.info/article24184.htm

(2) دعوة لتذوق متعة أن تفقأ فقاعة! - http://www.alnoor.se/article.asp?id=25302

(3)  http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/13kl.htm

(*)http://www.elaphblog.com/taeralshmal

(4) : مضطهدي الشعوب يدرسونها, لكنها لا تدرسهم

(5) تحليل المجتمع من أجل تمزيق مقاومته - تجارب يفصلها نصف قرن

(6) مثال الآلوسي مقابل جنديين إسرائيليين: مقارنة إنسانية  

(7) http://vimeo.com/5341266 Had Enough?

(8) البريطانيين والأطلسي بعد الأمريكان! لماذا يستميت الجميع من أجل حمايتنا؟

 http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil171009.htm

 

هل نحن شعب منكسر؟ وما العمل؟    (2  من 3)   - صائب خليل

هل نحن شعب منكسر؟ وما العمل؟    (3  من 3)   - صائب خليل

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي