كان
شولوخوف الممثل الأبرز لنهج الأدب الجديد، حيث شرع في عام 1925 في
كتابة ملحمته الروائيّة (الدون الهاديء) التي رسم فيها لوحة ضخمة
للصراع بين عالمين، وللواقع في تطوره الثوري، ولنضال الشعب الروسي من
أجل حريته، والدروب التي سلكها القوزاق في عهد الثورة للإنتقال إلى
الحياة الجديدة، وقد صور بطله «غريغرري ميليخوف» كإنسان من الشعب،
إنفصل عنه لأنه لم يستطع إكتشاف سبيل صائب للثورة. لقد روى لنا شولوخوف
في «الدون الهاديء» قصة الثورة الروسيّة في إقليم الدون، منظورة بعيون
قوزاق الدون.
كان
شولوخوف مُزوّداً بمعرفة منقطعة النظير بأحوال القوزاق بفعل معايشته
لهم، وقد حمل هؤلاء القوم الشديدو البسالة، والمتولهين بحب الحريّة
والإنعتاق مفهومهم الخاص للثورة، إنها ثورة عملاقة ولكن بمنظور قوزاقي.
لقد إنضموا للثورة لكنهم حملوا معهم تراثاً من التقاليد والأعراف
والقيم، طبعت مجمل ردود أفعالهم بطابعها الفريد المتميز، لم يقدروا على
التمييز بين قيم الثورة الحقيقيّة وقيمهم، فإذ كانت قيم الثورة محببة
على لسانهم فقيمهم الموروثة معشوقة لحد الوله، إن تأريخهم الطويل
والعريق، تأريخ القوزاق الفذ والمتميز يختلط بتركيبة عجيبة ولكن آخاذه
بالتأريخ الذي تصنعه الثورة. إن تراثهم القوزاقي، وأعرافهم القوزاقيّة،
وقيمهم، قد طبعت ردود أفعالهم بطابعها الخاص المميز الذي هو صدى
لتأريخهم الطويل، ومن هذا الينبوع الثر تنبعث تلك النكهة العبقة التي
تغطي الراواية كلها. لقد وضعهم شولوخوف في نقطة تحول بالغة الحساسيّة،
وتركهم يتصرفون إزاء حدث، هزَّ روسيا كلها، وزعزع أركانها، وغيّر
وجهها. لقد تركهم يتصرفون وفق موقفهم الإجتماعي والحياتي الذي يحدد
مقدار تقبلهم أو رفضهم لهذا الشيء الجديد الذي إقتحم عالمهم وحياتهم.
كانوا صلبين في كل شيء. قبولهم شديد الصلابة، ورفضهم شديد الصلابة
أيضاً. كانوا يتنقلون وبسرعة أحياناً بين القبول والرفض، وهم إن رفضوا
تبنوا الرفض موقفاً عنيفاً، وإن قبلوا تبنوا القبول موقِفاً عنيفاً
أيضاً، وعلى الأغلب كان موروثهم ونمط حياتهم هو الذي يحدد الموقف الذي
يتخذونه من الزلزال الذي غيّر كل شيء تقريباً، وبهذا كله قدم شولوخوف
لوحة شديدة الصدق موضوعياً وفنياً لمصائر أبطاله.
وقد فعل
شولوخوف الشيء ذاته في (أرضنا البكر) حيث وضع الفلاحين أمام حدث جديد
في حياتهم هو التعاونيات، ولعل الحادثة التاليّة تفسر لنا مقدار إحترام
شولوخوف لفنه وتمسكه بالصدق الموضوعي والفني معاً (فقد ناقش ستالين
شولوخوف يوماً بشأن مصير بطل (الدون الهاديء)، فقال له: لماذا لم ينتم
بطلك إلى الحزب بعد مسيرته الملحميّة الطويلة؟ أجابه شولوخوف: لست أنا
من قرر أن لا يدخل البطل إلى الحزب، وإنما هو الذي رفض هذه النهاية
التي ترونها أنتم منطقية)
ولابد من
ذكر روائي كبير آخر هو إيليا إهرنبورغ، هذا الهجّاء اللاذع والناقد
القاسي والساخر من المجتمع الرأسمالي الذي عاش بين أحضانه، وتكشَّف له
قبحه... تغلب على نتاجات إهرنبورغ القدرة الفائقة والموهبة الصحفيّة
العاليّة، إذ تبدو بعض فصول رواياته تقارير صحفيّة بالغة الجمال، وأهم
كتبه (موسكو لا تعرف الدموع)، و(العاصفة)، و(سقوط باريس).
على عتبة
الحرب العالميّة الثانيّة إنبرت جميع المواهب الأدبيّة وحشدت كل
أمكاناتها، كما حشدت الأمة كل أمكاناتها، وكان سيمونوف الأبرز في
الرواية حيث قدّم «الأيام والليالي» التي تعتبر واحدة من أجمل وأعمق
روايات الحرب، كما قدم شولوخوف «مقاتلون من أجل الوطن» و «مصير إنسان»
والتي كانت على قصرها الذي جعل الدارسين يعدونها قصة طويلة وليست رواية
واحدة من أعمال شولوخوف الخالدة، وأضاف سجل الأدب السوفيتي أسماء لامعة
جديدة مثل الكسندر بيك، وليونوف، وكاتاييف، وجربانوف، وكانت الأنشودة
الروائيّة الصادقة لهذه المرحلة «الحرس الفتي» لفادييف.
إن
روايات الحرب التي يصعب عدها كما تتعذر دراستها إنما هي مأثرة حقيقيّة
للأدب الإشتراكي في فترة مجيدة وقاسيّة من فترات التأريخ السوفيتي،
وتأكيد قاطع بأن الإشتراكيين ليس كما يدعي البعض جهلا أناس بلا وطن،
وإن ولاءهم لأفكار مجردة، لا لوطن ملموس، وهي وإن كُتبت في أجواء الحرب
والإقتتال، ومجدت البطولة والتضحية، إلا إنها في حقيقتها أناشيد
إبداعيّة خالدة تدعو للسلام وتحضُّ عليه، وتعادي الحرب ودعاتها...
إن منهج
الواقعيّة الإشتراكيّة كما ينبغي، وكما أعلن عن نفسه، وبالأخص عند
صياغة مبادئه الرئيسيّة خلال عام 1934 في أول مؤتمر للكتاب السوفييت لا
يعني أن يكون الكاتب أو الفنان بوقاً للسلطة، أو الحزب، أو الطبقة
العاملة الموكلة ببناء الإشتراكيّة، كما لا يدعو الكاتب للركض وراء
الإحصائيّات عن الخطط التنمويّة، ولا تزييف الواقع لإرضاء المتنفذين
سواء كانوا في الحزب أو الدولة، وهو لم يأت تلبيّة لرغبة إرادويّة،
حزبيّة أم سلطويّة، وإنما لحاجة موضوعيّة، إستوجبتها الظروف المستجدة،
وإستلزمها التطور...
إن منهج
الواقعيّة الإشتراكيّة إذ يستوجب دعم الجديد وتكريس التحولات يستوجب
أيضاً، وبنفس الدرجة، وربما أشد، نقد الظواهر السلبيّة، وتعريّة وكشف
كل المظاهر المسيئة للإنسان وإنسانيته، ذلك لأن من أسمى توجهات
الواقعيّة بشكل عام إنسانيتها ودفاعها الذي لا يحيد عن إنسانيّة
الإنسان، كما أن الإيمان بالمجتمع والإلتحام بأهدافه الإشتراكيّة أو
النضاليّة لا يستبعد عنصر النقد، بل أن الأمر على العكس من ذلك تماماً،
فإن الإيمان بتطوير المجتمع يستوجب نقد ما فيه من أخطاء وتناقضات قصد
نقله إلى حالة أفضل، وتزداد هذه الحاجة إلحاحاً عندما يكون المجتمع
بصدد بناء جديد لا عهد للخبرة البشريّة به ألا وهو بناء الإشتراكيّة،
وقد تخوّف لوكاش وفي وقت مبكر من إنحسار الروح النقديّة في الأدب، لذا
دعا إلى ضرورة تلاقي الواقعيّة النقديّة مع الواقعيّة الإشتراكيّة، وهو
يرى «أن الواقعيّة النقديّة تقوم بدور ثوري في تعريّة تناقضات المجتمع
الرأسمالي رغم صدورها عن منظور غير إشتراكي، في حين أن الواقعيّة
الإشتراكيّة تتجاهل تناقضات المجتمعات الإشتراكيّة، كذلك فأن لقاء
الواقعيّة النقديّة مع الواقعيّة الإشتراكيّة من شأنه أن يصل بالأدب
الواقعي الإشتراكي إلى ذروة الكمال الفني» - جورج لوكاش (معنى
الواقعيّة المعاصرة) ترجمة د. أمين العيوطي. دار المعارف بمصر. سنة
ذ971. ص: 145-