حمزة الحسن العراقي الجديد: "شجايبك على المُرْ لو ما الأمر منه"

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

مقالات الروائي العراقي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

العراقي الجديد:

"شجايبك على المُرْ لو ما الأمر منه"

حمزة الحسن

 

الشاب ياسر لا يشبه اي ياسر آخر في العالم مثل أي كائن عراقي ومشكلته انه يستهلك كل يوم ثلاث الى اربع قناني غاز شماً وشرباً وارتواءً من دون أي ضرر صحي على مدى سنوات بل ان دم ياسر نقي مئة في المئة حسب المقاييس العراقية الطبية لكن هل مشكلة هذا الشاب نادرة في العراق؟ هل هو الوحيد الذي أدمن الشم؟ اذا كان ياسر يحتضن قنينة الغاز بكل الشوق فليس يعني هذا ان غيره ليس عنده قنينة من نوع آخر تؤدي النتيجة نفسها في التخدير؟ منا من يحضن معلقات زهير بن سلمى و ملاحم عنترة بن شداد ومن يحضن البرنامج الحزبي ومن يشم كل يوم قناني غاز الخطابات والوعود، بل هناك من أدمن شم الشعر وشم النثر وشم النسيان وشم رائحة الموت وشم رائحة اليأس ومن أدمن على شم الخطر ولو على مبعدة الف كيلم كما في التعاليم الثورية المنقرضة وظهر فيما بعد ان العدو التاريخي ينام على السرير نفسه ويحلم الاحلام نفسها ويردد الكلمات والبرامج نفسها بل الهواجس والخطط والنوايا نفسها مع اختلاف شكلي في لون قنينة الغاز: هذا هو العراقي الجديد بعد قرن من النضال السياسي الذي بشرت به الايديولوجيات والقصائد والسجون والتظاهرات والمنافي والقادم أدهى. فماذا لو فشل الغاز في تسكين الأوجاع؟

 

مشكلة ياسر التي لا تعتبر مشكلة في التقليد العراقي الجنائزي في كونه يشم شيئا مرئيا على شكل اسطوانة من اجل المتعة والخدر والنسيان والرفاهية الداخلية ومن أجل الواقع أيضا لأن المسافة بين ياسر وبين الواقع تحسب بعدد قناني الغاز كما يحسب الأدباء الواقع بالخيال والساسة بالمنصب والقتلة بالجثث لكنه الرجل الوحيد الذي يشم علناً وحين يضع رأسه في قنينة الغاز كما في الصور لا يعود الواقع هو نفسه ولا يعود ياسر معنيّاً به وكل ما في الأمر ان هذا الشاب استطاع بناء أو أجبر على بناء علاقة حقيقية وصحية ونفسية وعاطفية بينه وبين موضوع ـ قنينة غاز من دون أن يلحق ضررا بأحد حتى بنفسه لأن الفحص الطبي الأخير أثبت سلامته الصحية كما جاء في تقرير الطبيب الفاحص، وعبارة "سلامته الصحية" سخف شائع لأن هذا الحطام البشري الجالس كحيوان حبيس مهشم هو صورة سرية مجسمة لخرائط الكائن العراقي وتحولاته في السنوات الأخيرة من الدكتاتورية الى الاحتلال والخ وهلم جرا.

 

قضية ياسر التي يراد لها أن تكون قضية نادرة وغريبة وشاذة هي من أكثر الظواهر في الحياة العراقية شيوعا والفارق ليس في النتيجة بل في الشكل أو المقدمات واذا كان هذا الشاب قد وضع في ظروف قاهرة وربط الى قناني غاز من قبل أب عديم الرحمة والقلب والعقل لسبب ما قاد الى هذا الادمان، فليس الامر مختلفا كثيرا معنا جميعا نحن الذين ربطنا الى قناني خطابات ووعود مع فارق جوهري في كون قناني ياسر لا تخذله في أصعب الظروف والأزمات وهو يخرج بعد كل حالة تنشق وتسلطن أكثر ابتهاجا ونشوة وغبطة ونخرج نحن كل مرة أكثر يأسا وخيبة وفشلا وكآبة.

 

لو ان صورة هذا الشاب وهو في وضع الشم نشرت قبل  أو في السبعينات أو الثمانينات في الأزمنة الثُور ـ ية، لقيل ان هذه الصور تعكس حالة الانسان العراقي المزرية وتدهور شخصيته وبشاعة النظام السياسي القائم وفوق ذلك فإن العدو ـ على الخصوص العدو وليس الاخلاق والقانون ـ سيشمت بنا لأن هذا الكائن الحيواني المتطور من سلالة بشر في نكوص سلوكي واضح يعرّض النظام العام الى المساءلة والادانة والخزي، ومع ذلك تبقى حالته الغريبة في الظاهر هي الأهون لأن هناك حالات تحول أو مسوخية خلال السنوات الأخيرة أكثر خطورة وغرابة لكنها تضيع في جو الغرابة العام بل مع الوقت تصبح هي الصورة النمطية المألوفة ولا يستغرب أن يأتي يوم لن يكون بعيدا نجد حالات كثيرة صادمة بعد أن تم وضع الانسان العراقي في ظروف تتجاوز بيئة الحياة والسوية والكرامة الانسانية التي هي أهم وأقدس من القانون وأهم من الحقيقة.

 

ليس من الغريب أن نصادف ـ إن لم يكن هذا قد حدث ـ عراقيا يحضن شجرة وينوح على هجرة العصافير وعلى خيانة الأغصان ويشتم المطر أو الجفاف أو تركيا ونهر الفرات، وليس غريبا أن نعثر على عراقي يجلس على مصطبة في محطة سفر وهو يحسب عدد عجلات الحافلات الداخلة والخارجة أو نصادف عراقيا يخرج في الصباح الباكر وفي يده شبكة لاصطياد الضباب أو يركض في الشوارع في المساء وهو يحاول الامساك بغزالة القمر أو الجلوس على حافة رصيف شارع مزدحم بالناس والسيارات وهو يحاول صيد السمك من التبليط ـ المخرج والشاعر المقتول أمام داره بهراوة من الخلف منتصف حرب الخليج الأولى خليل عبد الواحد كان يفعل ذلك في شارع الرشيد، وليس من المستبعد أن نعثر يوما، وهذا هو الأمل، على سياسيين عراقيين يقيمون مهرجانا على شجرة، عراة، يقفزون من غصن الى آخر كالقرود، في عودة تاريخية الى الجذور والأصل وتحتهم شعب يشم من قناني الغاز: ويا عزيزي ياسر كل قنينة غاز وانت والوطن بخير ـ شم، خويه، شم.

 

 

 05.09.2010

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 
 

 

لا

للأحتلال