في التجربة الروائية:  إختراع الأمل, حمزة الحسن

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

               

مقالات مختارة

 مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

في التجربة الروائية:

 إختراع الأمل

 

 

حمزة الحسن

كتب الروائي الارجنتيني أرنستو ساباتا في كتابه:( الكاتب وكوابيسه) من أن ديستوفيسكي كان يريد كتابة مقالة عن الكحول والادمان في روسيا لكنه كتب بدلاً عنها رواية الجريمة والعقاب وان راسكولينكوف الشخصية المحورية وقاتل العجوز هو ديستوفيسكي نفسه، لكن ليس في الشكل بالمعنى البعيد للشكل. يمكن الوثوق بسابتا لأنه روائي على درجة كبيرة من الأهمية والزهد والتقشف وخارج كل تصنيف حتى ان روايته( النفق) الصادرة قبل أكثر من 60 سنة والتي رفضت من كل دور النشر الا واحدة، يجري  سنويا الاحتفال بالذكرى السنوية لرفضها وقد شكلت علامة فارقة في أدب أمريكا اللاتينية والرواية العالمية.

     بلزاك، حسب سابتا، بشهادة معاصريه ، كان عاديا وفارغا لكنه عرف كيف يخلق شخصيات عظيمة بمعزل عن مظهره( الشخصيات تولد في قلب الكاتب لكنها تتجاوزه). من هم معاصري بلزاك لاصدار مثل هذا الحكم على مظهره الخارجي وما هي شهادة بلزاك نفسه عنهم؟ اذا كان بلزاك يبدو عاديا وفارغا لمعاصريه ألا يمكن أن يكون الأمر كذلك من وجهة نظره أيضا؟ ثم أين هم هؤلاء، الآن، وأين هو؟

فلوبير نفسه كتب رسالة وهو تحت الضغط النفسي لرواية( مدام بوفاري) يقول( ليس من الممتع أن تكون شخصا آخر حين تكتب لكن في أن تتقمص، وحين توجهت اليوم لركوب الخيل كرجل وامرأة في الوقت نفسه،كعاشق ومعشوقة، الى الغابة، في ظهيرة خريفية تحت أوراق الشجر المصفرة، كانت الخيل والأوراق والريح والكلمات المنطوقة والشمس الحمراء).

هذا كلام نثق به بشهادة رواية مدام بوفاري التي صدم فلوبير القراء والنقاد بها حين صرح في النهاية إن مدام بوفاري هي فلوبير نفسه. كيف تقمص شخصية هذه السيدة الشديدة التركيب والتعقيد وعاش كل تلك الاحاسيس وتخفى خلف قناع شخصية نسائية للتعبير عن افكاره ومشاعره؟ لكن هذا ليس صحيحا: فلوبير لم يتقمص شخصية مدام بوفاري ولكنها هي التي تقمصته، أي ان الشخص المتخيل تقمص الشخص الحقيقي الصانع، وعند هذه النقطة سنفهم معنى كلام معاصري بلزاك عن شخصيته وكيف كان يخلق شخصيات عظيمة بمعزل عن مظهره الخارجي وكيف وقع ديستوفيسكي في فخ الجريمة والعقاب وهو مصمم على كتابة مقال وأخذه راسكولينكوف الى ارتكاب جريمة لغوية من دون تخطيط تعتبر اليوم من جرائم التاريخ المعروفة أكثر من الحقيقية. 

لا يجب أن نتصور أن التسطيح النقدي خاصية قرّاء منطقتنا. من لم يعش في دول اوروبية ربما يتصور ان القارئ الاوروبي على مستوى كبير من الذكاء العقلي والذوق الادبي وانه قادر على التحليل العميق وهذا وهم قد تكون السينما كرسته من خلال شخصيات فنية منتقاة. إن أكثر دول العالم ليبرالية متطرفة ومفتوحة اليوم على حداثة متوحشة  هي النرويج كانت قد قدمت واحدا من روائييها الى المحكمة عام 1957 وهو الروائي أكنر ميكلر بسبب رواية(أغنية من الياقوت الأحمر) اعتبرت خرقا للحشمة وتم منعها ولكن بعد وقت قصير أعيد النظر في هذا القرار ورد الاعتبار مرات، غير أن الروائي ميكلر دخل البيت عام 1957 يوم صدور القرار ولم يخرج منه الا جثة عام 1994 في اطول احتجاج أدبي على القانون والمجتمع: اليوم وبعد تبدل شكل الحياة والذوق والمقاييس، وظهور الالبسة الداخلية المكشوفة المطرزة بالفراشات والعقارب والغزلان النازلة الى وديان الموت العابر، والتعري شبه التام في الحدائق العامة في الصيف، بل ممارسة الجنس خلف مظلات الحافلات في الليل لتحمل وقت الانتظار والثلج والمطر، والمواقع الجنسية والمجلات الاباحية، صارت رواية ميكلر من الروايات المحتشمة، وظلت غصة لدى كتّاب النرويج من تلك الحادثة الحزينة والغبية ـ محاكمة ميكلر وتدمير حياته عار صمموا على ألا يحدث مرة أخرى.

لكن ما هي حكاية ان بلزاك كان يخلق شخصيات عظيمة بمعزل عن مظهره الخارجي العادي وما علاقة المظهر الخارجي بشخصيات متخيلة داخلية؟ ومن يحدد هذا المظهر الخارجي؟ ديستوفيسكي حين أراد كتابة مقالة عن مضار الكحول والادمان وقع هو نفسه في شرك شخصية روائية متخيلة بمعزل عن مظهر الكاتب نفسه وتصميمه هو وتعيش اليوم في الخيال الانساني كقاتل للمرابية العجوز وهو بلا شك ديستوفيسكي نفسه داخل المتخيل وان هذه الجريمة التي وقعت داخل عقل ديستوفيسكي كانت فعل خلق ومن حسن حظ ديستوفيسكي ان البناء النفسي للانسان الروسي يقوم على شخصية طليقة ومرحة ومشعة ومنفتحة ولم يتم القبض عليه بجريمة قتل في رواية كما يمكن أن يحدث عندنا حيث يتم الدمج المطلق بصورة استثنائية بين الروائي ومخلوقاته وللأمانة هذا الدمج لا يحدث عادة من قبل نقاد وكتاب ولكنه يحدث من خارج عالم الكتابة.

في مرحلة منعطف عاصفة كهذه تصبح الكتابة التخيلية وهي أرقى شكل من أشكال الممارسة السلمية جريمة وتصبح الجريمة والحفر على الأجساد بكل أدوات التعذيب قبل القتل كتابة لأن الواقع الاجتماعي حين ينقلب تنقلب معه معاييره. كيف يمكن فهم العلاقة بين المؤلف وشخصياته؟ من المستحيل بناء شكل هندسي لهذه العلاقة ولم يقم اي كاتب في العالم بتقديم مثل هذا التصور الواضح لها ولكن يجري تقديم تصورات ومشاعر وأفكار وشذرات وكل كاتب روائي له علاقة خاصة بشخصياته لا يعرفها غيره أبدا بل لا يعرفها هو نفسه كل المعرفة ولا وجود للراوي العليم بكل شيء ومن غير الممكن أن تكون هناك شخصية حقيقية قد انتقلت الى النص الروائي وظلت كما هي. هذا لا يحدث اليوم ولم يحدث بالامس في زمن ازدهار الواقعية التصويرية ولن يحدث في المستقبل  لأن الواقع نفسه عصي على النقل اولا، ولأن الفن عموما ليس نقلا حرفيا للواقع ولكنه خلق، ثانيا، ولأن اللغة نفسها احتمال وعلامة واشارة وليست واقعا بل تخلق واقعا موازيا أو بديلاً، ثالثا.

من تجربة شخصية كتبت عن شخصية كريستينا في السيرة الذاتية الروائية( الأعزل) بنفس تقنيات العمل الروائي في التخيل والخلق والبناء، بحب وهيام وهي شخصية حقيقية عشت معها لمدة عامين في النرويج وحين سافرت لليونان للمرة الأخيرة لتقضي حياتها هناك في جزيرة رودس على الساحل الأغريقي هربا من الثلج( أنا هارب مكانها من القمع وهي تقول إن الثلج قمع ايضا) ودعتها في المطار بلوعة، وكتبت ذلك في النص، وظلت هذه الشخصية تعيش داخلي سنوات وازداد الأمر بعد خروج النص ونشره عام 2000( دار بيرغمان اولا، ومؤسسة الانتشار العربي، ثانيا 2007) لكن قبل عامين وفي مطار فرانكفورت وحين كنت أبحث عن  مقهى في فترة انتظار الطائرة القادمة التقينا وجها لوجه في ممرات المطار المتشعبة وبعد لقاء قصير وسريع افترقنا ولم اشعر بحماسة أو تلك اللهفة المتوقعة. فماذا جرى؟

جلستُ خلف واجهة زجاجية لمقهى صغير في الطابق الأول ولمحت مرة ثانية كريستينا جالسة على كراسي المطار وهي تقلب صفحات مجلة لكني رحت أبحث عن شخصيتها في تلك اللحظة بالذات في النص الروائي المتخيل الذي بدا انه الحب الحقيقي وليست هذه الشخصية الجالسة هناك: عرفت تلك اللحظة ان التعلق هو بالشخصية المتخيلة التي صارت محورا وبؤرة لتجمع أحلام وصفات وأوهام وكريستينا الحقيقية ليست التي عرفتها بل التي لم التق بها والتي حاولت خلقها في عمل تخيلي.

على العكس من شخصية كريستينا الحقيقية هناك شخصيات متخيلة لم ألتق بها أبداً أو عرفتها نوعا ما ولم تحمل الاسم الذي منحته لها في الرواية ولا كامل الملامح والوقائع ولكن التعامل على المستوى العاطفي يتم معها بكثير من الالفة والألق والشوق والتوقير: شخصية قاسم شريف في غالبية الاعمال الروائية التي كتبتها وهي شخصية لا أعرفها ولم ألتق بها نهائيا ولكن من كثرة التعايش معها صرت أستغرب كيف لا أعثر على قاسم شريف يوما في مقهى أو لا يتصل في الهاتف؟

شخصية أخرى من أقرب الشخصيات العاطفية هي شخصية يسرى سواء في رواية "الأعزل" أو "عزلة أورستا" وقد تكررت في رواية" طريق الكراكي" ورواية" عكاز الأمل" وربما في غيرها حتى أن نصاباً شهيراً من هذا الزمن العراقي الغريب الأطوار كتب منذ صدورها وحتى اليوم ملاحم حربية( بيانات ومقالات النصاب هادي الحسيني المستمرة على انها معلومات خاصة وهي في الحقيقة مستلة من النص الروائي في سخرية غير مسبوقة من الناس في تاريخ الادب العراقي في الأقل ـ آخرها قبل خمسة أيام) يحمل الروائي مسؤولية موت يسرى بناء على حكاية حب في نص يجمع بين المتخيل والواقع، بل أن قارئا من فلندة كتب لي بعد صدور رواية" سنوات الحريق عام 2000" وهي عن شخصية منفي ومقعد يروي حياته من فوق كرسي متحرك يقول فيها إنه يتفهم مشاعري تماما لأنه هو نفسه يعيش على كرسي متحرك منذ سنوات، والأدهى من ذلك أن عائلتي بعد أن تم تسريب الرواية الى العراق عام 2002 عن طريق الصديق فلاح المشعل طلبوا مني صورا حديثة وحين أرسلتها، جاء الطلب الملح الثاني بصور حديثة ولكن أظهر فيها أمشي أو العب كرة قدم أو أحلق في الهواء وأثار هذا استغرابي ولم أفهم الا في عام 2005 في أول لقاء عائلي في دمشق بأنه تأكد لهم من قراءة سنوات الحريق بأنني مشلول وأخفي الخبر، ليس هذا وحده بل أنا نفسي أتخيل بدقة مجهرية كل تفاصيل المأوى الذي قضى فيه الشخص الروائي في الرواية ايامه وعلاقته بكاترين وهي شخصية متخيلة وقد تكررت في عدة روايات مع قاسم شريف ويسرى ويوسف البابلي ثم دومنيك وغيرها من شخصيات ولا يمكن القول ان هذه المخلوقات المتخيلة مقطوعة الصلة بالواقع لأن هذا غير ممكن، لأن الخيال نفسه هو واقع، أولا، ولأنها قد تكون بؤرة تتمحور داخلها أكثر من شخصية، وهنا تضيع وتمحي حدود الواقع وحدود الخيال وهذا هو الفن، ثانيا: لا أظن أن الصديق الشاعر اليمني منصور راجح سيتعرف بسهولة على شخصيته في رواية( حارس السلالة) التي ستصدر هذا الاسبوع رغم الاسم الصريح والقصائد المنشورة والسجن الطويل في تعز لمدة خمس عشرة سنة لأن منصور راجح في الرواية هو رؤية ذاتية وعملية خلق شخصية والمطابقة بين الحقيقي والمتخيل هو جهل مخجل وصريح.

 علاقة الكاتب مع شخصياته المتخيلة أعمق من علاقة حقيقية كما مع شخصية كريستينا التي تمنيت في صالة مطار فرانكفورت أن تتوارى بسرعة لكي أعيش مع كريستينا الشخصية المتخيلة لأن ما يخلقه الروائي والفنان هو ثمرة مشقة وعذاب وسرور ومتعة أقرب ما تكون الى مشقة وعذاب وسرور فلاح يحرث ويجد أن شهية ثماره هي الألذ لأنها من خلقه وعرقه وروحه بل من خياله أيضا لأن فترة انتظاره هي فترة تخيل: في واحد من المشاهد التي لا أحبها أبدا ولا أعرف كيف تم تصويرها بدقة مرعبة في رواية( عكاز الأمل ـ غير منشورة) يخطط الراوي المنفي لقتل سيدة عنصرية لكنه في كل يوم يؤجل العملية، وخلال عملية التخطيط الطويلة والمطاردة المرهقة يكتشف في النهاية أن ما يريد قتله ليس هذه المرأة بل صورة النظام الهارب منه والذي صارت هذه المرأة تجسيدا ملموساً وواقعيا له وهو لا يريد قتل المرأة كما سيكتشف بل قتل الواقع نفسه لذلك غير المسار من القتل الفعلي الى كتابة رواية لأن الخلق الأدبي هو صورة من صور القتل الرمزي للواقع واعادة خلقه.

بما أن الرواية تحمل الكثير من ملامحنا الشخصية، أجلت نشرها لوقت مفتوح رغم الحاح الصديق العزيز الروائي والكاتب الموهوب عبد اللطيف الحرز حيث الرواية موجودة عنده وجاهزة منذ عامين للنشر وفي كل مرة أقول له الوقت غير مناسب لكن جوابه هو نفسه: الوقت المناسب لن يأتي وسوف نواجه القراء أنفسهم، قوى الارتياب والبلادة نفسها، والواقع لن يموت برواية ولا بحرب عالمية ثالثة ولا بحرق عاصمة بكل أنواع القنابل، اللغة على حالها لم تتغير رغم خراب كل شيء، وتبدّل الموقف من الصداقة والادب والبراءة والحب وصار كل شيء يحمل معنى مختلفا وصار الحب في زمن الكوليرا جريمة والجريمة، حباً: أليس غريبا أن أدافع عن يسرى الشخصية الروائية مرتين: مرة داخل نص متخيل ومرة ثانية داخل واقع؟ مرة في حرب هناك ومرة أخرى في حرب هنا؟ مرة في وطن ومرة ثانية في منفى؟ هل هذا عبث أم قدر أم حماقة؟ وكيف سيكتب تاريخ الأدب هذه القضايا العجيبة؟

 عام 1986 اذا كنت اذكر جيدا قدمت قصة قصيرة للشاعر المرحوم رعد عبد القادر اسمها(عيد ميلاد السيدة فرح) عن قتل فتاة في الخامسة والعشرين في عيد ميلادها بسبب حكاية حب (على خلفية حرب ضارية يبدو الأمر نكتة) وكيف يتم التوازي بين موسيقى الحفل وبين خطط القتل في اللحظة نفسها، في إدانة للمؤسسة القمعية الاجتماعية وهي لا تختلف في العقاب المؤسسي المنظم عن السلطة السياسية، ونشرت بعد عدة شهور وظهر ان صراعاً كان يدور بين محرري الصفحة الثقافية عن صلاحية هذه القصة للنشر: كان الشاعر والصديق العزيز يونس ناصر عبود مسؤول الصفحة يصرخ بمحبة حقيقية:( نشرها يعني اعدام المسكين).

قال لي ذلك في مشرب ومطعم الرند في شارع فرعي في السعدون وكان المرحوم عزيز السيد جاسم والاستاذ زيد الحلي( كلاهما من رؤساء تحريري بالتناوب،سابقا) جالسين في ركن بعيد جلسة تآمرية، وكان عزيز لا يجلس بعد الطرد الا والحائط خلفه لأنه لا يثق الا به، ويجلس ويمشي على مقربة منه رجل أمن أو مخابرات بعنوان حارس والحقيقة أن عزيز السيد جاسم منذ أواخر السبعينيات سجين متنقل وهي حالة فريدة من نوعها لأن مسدس الحارس كان مصوباً نحوه وليس لحمايته ( ماذا لو عثُر على تقارير رجل الأمن هذا اليوم؟ كانت ستشكل رواية مثيرة عن تلك العلاقة بين قاتل وقتيل يمشيان معا ويشربان معا ويأكلان معا على مدى سنوات وهو موضوع أفكر فيه على نحو ملح دائما) وكان حين يلتقي بنا في مشيته المسائية في شارع ( أبو نؤاس) أو في مقهى (عزاوي) المبني على الطراز التراثي في قلب حديقة الشارع الأسطوري أو في حانات الشارع، يصاب بحرج شديد  خشية من زلة لسان أو عاطفة أسى لأن الظل سيسجل كل شيء في نهاية اليوم وهي حالة مفكر وأديب ومثقف تُرك جسده طليقاً لكنه معتقل من الداخل  وفي النهاية تم وضعه كله في السجن حتى الموت، ونهضت لمعانقة المرحوم عزيز بعاطفة انسانية خاصة تتجاوز السياسة، وتجاهلت الاستاذ زيد الحلي في سلوك طائش بلا تصميم وبلا سبب وأعتذر منه، الآن، رغم انه قد لا يتذكر الأمر كله، وليكن هذا المقال مصافحة حارة متأخرة: كانت الحرب والمطاردة والخوف والغموض العام والخ.

 كان الشاعر عدنان الصائغ أمانةً يطالب في القسم الثقافي:( ولكن يجب أن تنشر عيد ميلاد السيدة فرح في كل الأحوال) ومع ذلك لم تنشر الا بعد ازاحة يونس عبود عن الصفحة الثقافية لاسباب أخرى وربما هي واحدة منها. بعد نشرها باسبوع أو أكثر تم طردي، بناء على تقرير استخباراتي وأمني (بأمر عسكري  تم سحب كل الصحفيين من الخطوط الأمامية الى الجريدة ثم تدقيق وغربلة وتصفية هوياتهم السياسية فيما بعد) وقبل أن اغادر نهائيا، بعد أقل من خمسة شهور عمل كلها استفسارات، مبنى الجريدة طلب الاستاذ أمير الحلو مقابلتي وتحدث بلطف وتهذيب وهو برتبة رائد عسكري وسكرتير تحرير ولم يشر الى الأمر الا بعبارة تنم عن اعتذار خفي وانزعاج في الوقت نفسه في ان الأمر خارج عن صلاحيته ولا علم له به، وهذه هي الحقيقة فعلا. قلت أتفهم الموقف وبعد فنجان قهوة تسلمت منه راديو صغير الحجم كهدية في الخطوط الأمامية التي سأعود اليها اليوم، وأخذت رسالة الطرد أو "النقل" والعودة من حيث جئت ولم أملك الا الوقت القليل لوداع الشاعر رعد عبد القادر الذي رفض مصافحتي لكي لا يشعر بأن هذا هو الوداع الأخير( وكان الأخير) وتركته على آخر مشهد وهو يضع رأسه بين كفيه على المنضدة في غضب عصي مكتوم واقتربت منه ووضعت يدي على رأسه بكل حنان العالم وهمست:( لا تقلق علي ابداً فلست دمية من السجن الى الحرب الى الصحافة الى الحرب: سأهرب هذه المرة الى نهايات الأرض حتى لو كان الثمن هو الموت) وقد حصل هذا بالفعل بوقت قصير وكان رعد برتبة نقيب مجند لكنه كان أكبر من المؤسسة وخارجها في كل شيء.

عندما أصبحت في الشارع كانت الصحافية النجيبة ساهرة نايف تركض خلفي قائلة بعصبية:( تعال اركب معي) قلت مذهولا:( الى أين؟) أجابت محتدة:( الى مدير الاستخبارات العامة لأنه قريبي) ثم اضافت:( اذا طردوك لكل الاسباب ستعود معي الا لسبب سياسي فلا يمكن) قلت لها:( السبب سياسي لأني سجين سابق وأنا في الحالتين لست حراً لا في البقاء هنا ولا رفض العودة الى الخطوط الأمامية لأن القانون العسكري هو نفسه هنا وهناك وأنا جندي ولو كان الأمر خياراً لما جئت هنا أصلاً) ودخلت ساهرة غرفة مدير الاستخبارات وكنت أنتظر بلا ترقب لأنني أعرف النتيجة وخرجت ساهرة مكفهرة وقالت:( كما توقعت انت) ولم نتكلم في الموضوع أبدا: رواية " الأعزل" هي القصة القصيرة" عيد ميلاد السيدة فرح" سوى ان "فرح" صارت "يسرى" لكن القتلة هم أنفسهم  هنا أو هناك، داخل النص، خارج النص، داخل الوطن ـ  في المنفى: القتيل واحد لكن القتلة يتكاثرون مع الزمن في مطادرة طويلة لعاشقة قتيلة في نص متخيل وعاشق منفي في حين صار كبار القتلة سادة اليوم.

 

  

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا