ج ـ القانون الدولي وحقوق العراق في مياه دجلة والفرات والروافد الحدودية
سيجد القارئ بأنني لم أتوسع في هذه الفقرة، وإنما كتبتها بصورة تعطي القارئ
فكرة واضحة ولكن غير مفصلة عن الموضوع. حيث ان هناك عددا كبيرا من الدراسات
والمقالات والكتب والمنشورات متوفرة لمن يريد التوسع في دراسة هذا الأمر. لقد
اعتمدت في كتابتي لهذه الفقرة بصورة أساسية على ما جاء في الكتابين القيمين،
للدكتور سليمان عبد الله إسماعيل، والدكتور صبحي أحمد زهير العادلي، واللذين
أِشرت إليهما سابقاً، وكذلك على وثائق الأمم المتحدة، وبالأخص ما يتعلق
بالقانون الدولي الذي تمت مناقشته لمدة تصل إلى (27) سنة، ومنذ 1970، ليقر في
1997، ولم يصادق عليه حتى هذا اليوم.
من مجمل ما قرأت، وحاولت إيجازه أدناه، توصلت إلى أن القوانين والأعراف
الدولية، وبالأخص "القانون" الصادر في 1997، هي في صالح العراق لتثبيت حقه في
مياه الأنهر والجداول المشتركة . ولكن هذا "الحق" ليس مطلقاً ومفتوحاً دون أية
ضوابط، بمعنى أن هذا الحق هو ليس دائماً قائما ولأية كمية مياه يريدها العراق،
ودون أن يعمل شئ للحفاظ على هذه المادة الثمينة و جمع وخزن كل ما يمكن جمعه من
المياه في أيام " اليسر " لاستخدامها عند الحاجة إليها في المواسم الزراعية،
وكذلك لاستخدامها في أيام " العسر ". إضافة لذلك فإن على العراق أن يتخذ كل ما
يلزم من التدابير ليحول دون هدرهذه المياه العذبة، و الحيلولة دون تركها لتضيع
في البحر، أو تبخرها بسهولة، أو خسارتها بنفاذها إلى داخل التربة. كذلك ونظراً
لشحة المياه عموماً يتوجب على العراق استخدام التقنيات الحديثة في مختلف وسائل
وحاجات هذه الاستخدامات والتي بالنتيجة تؤدي إلى الاستهلاك الأمثل للمياه،
وحمايتها من مختلف أنواع التلوث نتيجة استخدام الإنسان لها، أو مرورها في مناطق
طبيعية تزيد من تلوثها أو ملوحتها. إن القانون الدولي لا يساعد من ينتظر أن
تأتيه المياه المطلوبة على مدار السنة، بينما جيرانه يقيمون السدود ومشاريع
الري الحديثة التي تقلل من الهدر إلى الحد الأدنى، إضافة إلى ذلك فإن القانون
الدولي لا يساعد من يتوقع من الدول المجاورة أن تعطيه من خزاناتها وبدون مقابل،
نتيجة لعدم وجود الخزانات الكافية لديه. ولكن بالتأكيد فإن القانون سيكون بجانب
أية دولة في توفير الحاجة الحقيقية المطلوبة، وبعد أن يرى أنها قامت بما يلزم
للحفاظ على المياه وعدم هدر ما يصل إليها منها، ولكنها بنفس الوقت بحاجة إليها
لأن جارها، الدولة التي ينبع منها النهر، تحرمها من المياه وتقطعها عنها
لاستخدامها بحصة تتجاوز ما تستحق تلك الدولة وفق مؤشرات متفق عليها تتعلق بعدد
النفوس ونوع الاقتصاد والحقوق المكتسبة والاستخدام الأمثل.
إن المشاكل بين الدول الجارة تحل بالمفاوضات والمباحثات الثنائية أو الثلاثية،
وفق مبادئ "حسن الجوار"، و"لا ضرر ولا ضرار"، و"العرف العالمي"، والقوانين
الموجودة فعلاً، أو القوانين القرينة أو الممكن أخذها كقرينة. في كل الأحوال
عندما لا تتوصل الجهات المتفاوضة إلى نتائج ملموسة ومكتوبة وموثقة، فعند ذاك
يجب الذهاب إلى جهات أخرى للتحكيم، والمقصود هنا هو مجلس الأمن أو محكمة العدل
الدولية أو كليهما. وبالنسبة لي فإن الوضع مع تركيا، (وكذلك و بحد اقل مع
إيران)، قد وصل إلى هذه الحدود فنحن معها في مفاوضات لأكثر من أربعين سنة وبدون
نتيجة، مما قد يعني أن بعض حكام العراق ليس لديهم ثقة بالنتائج عند الذهاب
للتحكيم، إما لعدم وجود قناعة لديهم بأن الموقف العراقي على حق، أو أنه على حق
ولكنه مقصّر في تنفيذ متطلبات حفظ المياه في العراق بحيث يظهر عند التحكيم أنه
ليس على حق. كذلك ان هناك من يعتقد أن جميع العالم ضده لسبب أو لآخر فعند ذاك
ستكون نتيجة التحكيم ضده، وبالتالي سيخسر الطريقين، طريق المفاوضات وطريق
التحكيم، وهذا الوضع كان يمكن أن ينطبق على العراق في التسعينيات من القرن
الماضي ولحين احتلاله. ولكن من المفروض أن الوضع قد تبدل بعد الاحتلال، وخصوصاً
بعد استمرار وتفاقم مصاعب الشعب العراقي ومصائبه، إذ أن هناك على العموم تعاطف
عالمي عام مع العراق المنكوب والعراقيين التعساء. على أية حال على العراق أن
يعين جهة استشارية في القانون الدولي، وبالأخص فيما يتعلق بنزاعات المياه
الدولية ليعرف أين الحق، وكيف يتصرف على ضوء النتيجة أياً كانت، وهذا أمر يجب
أن يأخذ الأولوية ، ويتم سوية مع وجود جهة استشارية لحل مشكلة المياه والزراعة
في العراق على ضوء التطورات الحديثة، ووضع التخصيصات اللازمة لإكمال بنية تحتية
كاملة للري والزراعة، تأخذ بنظر الاعتبار كمية المياه المتوفرة حالياً ونوعيتها
ونوعية الأرض، والمحاصيل المطلوبة، وعلى أن لا يكون الاستيراد شبه الكامل
للمواد الغذائية أحد الحلول ، إذ أن هذا ليس بحل يرضي مستقبل العراق. قد يتطلب
الأمر تقليل زراعة بعض المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه مثل قصب
السكر أو الرز واستيراد قسم من هذه المحاصيل، ولكن من الواجب عدم اتخاذ استيراد
المحاصيل والمنتجات الزراعية كسياسة عامة رغم أنها قد تكون عملية سهلة في الوقت
الحاضر، ولكن ستكون قاتلة للأجيال القادمة.
أود وقبل أن أبدأ بإيجاز الوضع القانوني، أن أتحدث عن أمر سمعته من عدد ممن
التقيتهم وتحدثت معهم عن الموضوع. إذ يعتقد البعض أنه طالما توجد في تركيا
حكومة إسلامية مستقرة تحاول أن تتقرب إلى شعوب وحكومات محيطها الشرق أوسطي،
وطالما أن هناك حكومة إسلامية في إيران، لها امتدادات في العلاقات والتأثير في
العراق، وطالما أن الحكم في العراق " إسلامي "، لذا يمكن حل الأمر وفق "الشريعة
الإسلامية"!!، آخذين بنظر الاعتبار الموقف من المياه كما في القرآن الكريم، أو
الأحاديث النبوية الشريفة، مثل: "المسلمون شركاء في ثلاث، الماء والكلأ
والنار"، أو "ثلاثة لا يُمنعن: الماء والكلأ والنار"، وحديث: "لا ضرر ولا
ضرار"، كما يضيفون خبراً آخر مذكور في سنن ابن ماجه وغير موجود في صحيح
البخاري، وهو "نهي رسول الله عن بيع الماء وبيع فيض الماء".
أود أن أؤكد هنا أن هذا الأمر لا يحل بتاتاً بهذه الطريقة، ومن يعتقد ذلك فإنه
يعيش في وهم، إذ عند العودة إلى المسائل الفقهية والقضائية الإسلامية المتعلقة
بهذا الشأن فسوف نجد تفاسير وتأويلات وتخريجات فقهية قد تختلف تماماً عما أريد
لها أصلاً بالأحاديث الشريفة أعلاه. إذ أن الملكية الخاصة للترع والجداول
والعيون والآبار أوّلت الأحاديث، وعلى لسان فقهاء عصور "الازدهار"، لتراعي
مصالح الملاّك الكبار. والأهم أن مفاهيم الإسلام السياسي قد تختلف اختلافاً
كبيراً عما جاء في روحية الدين، من محاربة الظلم والفساد وإيذاء الآخرين،
والعدل والمساواة والإنصاف، وأن التاريخ مليء بمثل هذه المواقف. وقد بيّن هذه
التناقضات الكثير ممن كتبوا التاريخ ودرسوه ـ وخصوصاً عند بعض الباحثين
المحدثين ـ دون إعطاء القدسية للسلف، معتبرين أن السلف هم من نفس طينة الأجيال
الحالية. وعند الرجوع إلى كتب هادي العلوي، ونصر حامد أبو زيد، وطه حسين، وخليل
عبد الكريم، وسيد القمني الذين اعتمدوا نفس الكتب و المصادر التاريخية
القديمة، ولكن دون إعطاء "القدسية" للخلفاء والولاة والرواة و"العلماء"
والمجتهدين، وسنجد أمثلة كثيرة للفروقات بين ما جاء في مفاهيم الدين الأصلية،
وبين ما جاء به مفسرو وفقهاء الإسلام السياسي.
لعل السنوات السبع الأخيرة من حكم العراق أرتنا بوضوح الفرق بين روحية الإسلام،
وبين الأحزاب السياسية، (أي الإسلام السياسي)!!. ولهذا لن يحل أمر المياه ضمن
مداولات أو تفاهمات أحزاب أو فقهاء الإسلام السياسي كما يتوقع أو يأمل ويتمنى
البعض، إذ أن الأمور داخل العراق ، وهي أقل أهمية بكثير من هذا الموضوع ، لم
تحل باستخدام هذا المدخل، فهل يتوقع المرء أن يُحل أمرٌ صعباً كمشكلة المياه
باعتماده؟.
أولاً: تطور مفهوم الأنهار الدولية والقوانين الدولية المعنية بها
كما نلاحظ من العنوان فإننا نتحدث من الناحية العملية عن أربعة أمور، وهي
الأنهار الدولية، وبالتالي الأنهار الوطنية، وكذلك عن القوانين الدولية مقارنة
بمفهوم القوانين الوطنية. لقد تم وضع الأمور الأربعة أعلاه سوية في فقرة واحدة،
لأن تعاريفها والمفاهيم المتعلقة بها قد تطورت سوية على مدى حقب تاريخية
متعاقبة، معتمدة في هذه المفاهيم المتطورة على نوع الحاجة إلى النهر، والتي
كانت لأغراض الملاحة في الزمن السابق، وتغيرت إلى الاستخدامات الأخرى بعد أن
تقلصت أهمية الملاحة النهرية، (وبضمنها الملاحة النهرية المنفتحة على البحار).
أما مفهوم القوانين الدولية، المتعلقة بالأنهار، فلقد جاء مع تكوين الدول
ومفهوم السيادة الوطنية، والذي حدث مع تكوين الدول الأوربية في القرن الثامن
عشر، ووجود الحاجة إلى ما يسمى "قوانين دولية"، وهي في الواقع أعراف واتفاقيات
ومعاهدات وبروتوكولات بين دولتين أو أكثر، وتطور هذا المفهوم، بعد تشكيل الأمم
المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ليشمل أيضاً ما يُتفق عليه في الأمم
المتحدة وهيئاتها وبالأخص قرارات مجلس الأمن تحت البند السابع. إن القانون من
الناحية العملية لا معنى له، ما لم يتضمن عناصر ردع في حالة عدم تنفيذه، وعناصر
العدل في التطبيق، وإلاّ فسوف يظل حبراً على ورق وذا فائدة معنوية فقط لإثبات
وجود " الحق " الى جانب هذا الطرف أو ذاك. لهذا نجد في الدول الدكتاتورية وفي
مناطق الحروب والصراعات الأهلية وكذلك في الدول المحتلة، قوانين بالاسم فقط، في
الوقت الذي تبحث فيه الجماهير عن "سيادة القانون"، أو عن "دولة القانون"، كما
كان الحال عندنا في عهد النظام السابق أو في الوقت الحالي. كذلك بالنسبة
للقانون الدولي، أو "الشرعية" الدولية، حيث توجد مئات القرارات الصادرة عن
الأمم المتحدة أو مجلس الأمن التي لم يتم تطبيقها وظلت حبراً على ورق، وأمامنا
المثل الحي ومنذ ستة عقود، وهي قضية فلسطين، حيث لا يزال الفلسطينيون مشردون
وبلا دولة رغم عشرات القرارات الدولية. ولكن قرارات مجلس الأمن التي تقع تحت
البند السابع، وحين يقع الأمر تحت ما يسمى "تهديد السلم والأمن الدوليين"، يتم
عند ذاك تطبيقها وفق ما تفهمه الدول المهيمنة على العالم.
ما سنحاول أن نوجزه في هذه الفقرة من الدراسة، هو ما يتعلق بمياه نهري دجلة
والفرات وروافدهما، وكذلك بما يتعلق بمياه شط العرب، وما يربطهما بالقانون
الدولي أو الشرعية الدولية.
(1) تعريف النهر الدولي
باعتقادي أن هذه القضية تقع في مرحلتين، المرحلة الأولى تنتهي بصدور القرار
(51/229)، الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة (51) في
21/5/1997، تحت عنوان "اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في
الأغراض غير الملاحية"، والمرحلة الثانية هي الفترة التي تبدأ بصدور هذا
القرار. إذ أن صدوره أنهى مسألة التعاريف والمفاهيم حول هذا الموضوع. وإننا
سنتحدث هنا عن المرحلة الأولى، وسنتحدث في الفقرة التالية عن المرحلة الثانية
وتفاصيل هذا القرار، والموجود في نهاية الدراسة كملحق رقم (1).
إن تعريف النهر في اللغة العربية يختلف اختلافاً جزئياً، (وفي بعضها اختلافاً
رئيسياً)، بين مصدر وآخر، ففي القاموس المحيط ولسان العرب هو "مجرى الماء"، أي
يشمل أي مجرى للمياه ولو كان ساقية أو جدولاً صغيراً، ولكن أضاف في قاموس
المصباح المنير مسألة السعة فعرّفه بـ" الماء الجاري المتسع". أما (المنجد)
فعرّفه: "مجرى مائي يصب في البحر وهو عادة يتألف من مجرى رئيسي تغذيه السواعد
والفروع".
ونظراً لاختلاف التعابير والمعاني، ولتطور هذا الأمر ـ خصوصاً بعد أن دخلت
مسألة الأنهر الدولية في الجدل الدولي، وحلاً لإشكالات مختلفة استعيض عن مفردة
"النهر" بمفردة "المجاري المائية"، وسنعتمد هنا هذا المفهوم والذي ورد تعريفه
في قرار الأمم المتحدة المشار إليه أعلاه، حيث جاء في المادة (2أ) منه:
يقصد بـ "المجرى المائي"، شبكة المياه السطحية والمياه الجوفية التي تشكل، بحكم
علاقتها الطبيعية بعضها ببعض كلاً واحداً وتتدفق عادة صوب نقطة وصول مشتركة.
أما تعريف المجرى المائي الدولي، فقد جاء في المادة (2ب) من القرار، وهو كما
يلي:
يقصد بـ "المجرى المائي الدولي" أي مجرى مائي تقع أجزاؤه في دول مختلفة.
إن أول إشارة، لمصطلح "نهر دولي"، وردت في معاهدة باريس في 30/آذار/1814، حيث
قصد بها "الأنهار التي تفصل أو تخترق إقليم دولتين أو أكثر وتكون صالحة
للملاحة"، ونلاحظ هنا شرط كون الأنهار صالحة للملاحة. وعلى إثر ذلك نصت الوثيقة
النهائية لمؤتمر فينا لسنة 1815 على تعريف الأنهار الدولية "بأنها الأنهار
القابلة للملاحة التي تفصل أو تخترق عدة دول". وهنا نلاحظ أيضاً شرط صلاح النهر
للملاحة"، ولكن هذا التعريف أوضح أن النهر الدولي هو الذي "يفصل بين الدول"،
(أي يشكل الحدود)، أو الذي "يخترق عدة دول"، (أي النهر التتابعي). لهذا فإن ما
كانت تدعيه تركيا في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي من النهر الدولي هو فقط
النهر الذي يفصل بين الدول، أي الذي يشكل الحدود، هو ادعاء غير صحيح حسب النصوص
المبينة أعلاه، إلاّ إذا كانت تدّعي أن هذا التعريف ينطبق على النهر الملاحي
فقط، وأن الفرات غير صالح للملاحة، كما وأن دجلة قد يكون صالحا للملاحة ولكن
فقط ضمن الأراضي العراقية وليس ضمن الأراضي التركية. علماً أن عدة دراسات تمت
على الفرات منذ اوائل القرن التاسع عشر بغية استغلاله لاغراض الملاحة الدولية،
وذلك قبل التفكير بإنشاء قناة السويس. إذ كانت الغاية في ذلك الوقت تجنب الطريق
الطويل حول إفريقيا، رأس الرجاء الصالح، للوصول إلى الهند، واعتقدوا بأن توصيل
الفرات بالبحر المتوسط من منطقة في سوريا، سوف يُمكّن للوصول إلى الهند من
خلاله. إن من أبرز هذه الدراسات هي رحلة جيزني
Jzni
الأولى بين عامي 1830 ـ 1831، وأعيدت المحاولة في عام 1836، فتبين عدم صلاح
الفرات للملاحة البخارية أو الشراعية.
إن ما اتخذته أوربا في تعريفها أعلاه في مؤتمر فينا 1815 للنهر الدولي أعتبر في
حينه تطور كبير، مقارنة بالممارسات السابقة للدول المتشاطئة على نهر واحد، إذ
كانت كل دولة تمارس سيادة مطلقة على الأنهار الجارية في أراضيها، ولم تسمح
بالملاحة إلاّ لسفنها الوطنية وذلك في الجزء الذي يخصها من النهر العابر لعدة
دول.
لقد تطور هذا المفهوم خطوة مهمة أخرى، حيث شملت اتفاقية باريس لسنة 1856، روافد
نهر الدانوب ضمن "نهر الدانوب الدولي"، ولهذا توسعت حرية الملاحة لجميع الدول
لكي تشمل الدانوب وروافده. يجب أن نوضح هنا، أن حرية الملاحة لا تعني عدم وجود
السيادة للدولة التي يمر فيها النهر على قسم النهر الواقع ضمن أراضيها،
فالسيادة للدولة موجودة عدا أنها لا تستطيع رفض ملاحة الدول الأخرى المتشاطئة.
إن هذا الأمر يشبه حالة شط العرب قبل اتفاقية 1975، فالسيادة العراقية كانت على
كامل النهر بضمنه ضفته الشرقية، ولكن كانت هناك حرية الملاحة للسفن الإيرانية.
ثم جاءت اتفاقية مانهايم في سنة 1868، والتي أعطت معنى أوسع للنهر الدولي حيث
لم يعد مقتصراً التعريف على أوربا لوحدها، وإنما أصبح سابقة دولية لدول أخرى،
إذ أطلقت فنزويلا حرية الملاحة في نهر الأورينوكو وذلك في عام 1869.
وحدث تطور مهم آخر لمفهوم النهر الدولي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وذلك
في مؤتمر برشلونة في نيسان 1921، والذي انتهى باتفاقية قضت باعتبار الأنهار
التي تصلح مجاري مياهها للملاحة وتفصل بين عدة دول أو تعبر أراضي تلك الدول،
ويكون لها استخدامات اقتصادية، أنهاراً دولية، من دون أن تنتقص من حقوق السيادة
والسلطة للدولة المار فيها النهر. إن التجديد في هذه الاتفاقية يكمن في
استبدالها لتسمية الأنهار الدولية بتسمية أخرى وهي "مجاري المياه ذات الفائدة
الدولية"، كذلك أكدت على صلاحية الملاحة في النهر/"المجرى المائي"، مع إدخال
الاستخدامات الاقتصادية الأخرى. كما أكدت أيضاً على حقوق السيادة، أي أن المجرى
المائي يبقى دوماً خاضعاً لسيادة الدولة التي يمر فيها أو التي يحاذيها (أي نصف
النهر المحاذي لها). ولقد توسعت الاتفاقية في تعريف إطار النهر الدولي/المجرى
الدولي، ووفقاً للتسمية الجديدة ليشمل كل النهر مع روافده وفرعه ومياهه السطحية
والجوفية، وذلك ليكون حوضاً مائياً مشتركاً بين دولتين أو أكثر.
استمر اشتراط تعريف النهر الدولي، بأنه النهر الصالح للملاحة، إذ أن المحكمة
الدائمة للعدل الدولية، عرّفت النهر الدولي في منازعة عرضت عليها في سنة 1929،
بأنه المجرى الصالح للملاحة الذي يكون وسيلة لاتصال عدة دول بمنفذ بحري،
واشترطت ثلاث خصائص كي تنطبق عليه صفة الدولية وهي صلاحه للملاحة، واتصاله
ببحر، وأن يهم ذلك الاتصال أكثر من دولة.
في هذه الأثناء ازدادت الاستخدامات الأخرى غير الملاحية للأنهار، اذ ان في
الحقبة التاريخيةالتي نتحدث عنها ، لم تكن هناك مشكلة في نقص المياه لأي غرض
كان، سيما ونحن نتحدث أساساً عن أوربا . ولكن ظهرت مشاكل أخرى، إذ أن الدول
المتشاطئة للنهر هي وحدها المستفيدة من مياه الأنهار، فإضافة إلى الملاحة
استخدمت مياه الأنهار للري ومياه الشرب والأمور الخدمية وصيد الأسماك وتوليد
الطاقة الكهربائية والاستعمالات الصناعية المختلفة. كل هذه الاستخدامات كانت
ترجّع المياه غير المعالجة في أغلبها إلى النهر، مما أثرت في مجرى النهر ونوعية
مياهه الأمر الذي أدى إلى أضرار في نوعية المياه في أسفل النهر. وهنا برزت
الحاجة إلى اتفاقات خاصة ثنائية أو متعددة الأطراف بين الدول المتشاطئة للنهر
الدولي حيث يتم بموجبها السيطرة على نوعية المياه، وتوزيعها.
بسبب تطوير طرق النقل البرية المختلفة، وطرق النقل الجوية، بالإضافة إلى زيادة
سعة الناقلات البحرية لمختلف الاستعمالات مما يتعذر دخولها الأنهار، كل هذه
الأمور أدت إلى تراجع الملاحة في الأنهار، ولكن ازدادت بنفس الوقت الاستخدامات
الأخرى كالري والطاقة الكهربائية والسدود، والزراعة، والحاجات الإنسانية
المختلفة، والتوسعات الصناعية المتعددة، إذ أن الثورة الصناعية كانت قد بدأت
واحتاجت إلى كميات كبيرة من المياه، وأعادت كميات كبيرة من المياه الملوثة. كل
هذه الأمور أدت إلى أن الكتابات القانونية الأحدث لم تعد تركز على صلاح النهر
للملاحة كشرط لمفهوم النهر الدولي. إضافة لذلك بدأ استخدام اصطلاح آخر حل محل
"النهر الدولي"، وهو "نظام المياه الدولية" أو "شبكة المياه الدولية"، حيث يقصد
بذلك جميع الروافد والعيون والبحيرات والأنهر المتصلة فيما بينها في حوض طبيعي
واحد، ويمتد أي جزء من هذا الحوض إلى داخل دولتين أو أكثر، ليكون جزء من الحوض
الدولي.
ولقد استقر القانون الدولي على تعريف (حوض النهر) بأنه يشمل تلك الوحدة
الجغرافية والطبيعية التي تكون مياهه، والذي يقع في عدة دول، والتي لها تأثيرها
في تحديد هذه المياه من نواحي الكمية والنوعية، ومن حيث التحكم في جريان مياهه
وفي طبيعة نظامها بغض النظر عن حجم هذه المياه أو قربها أو بعدها عن الحدود
الدولية المرسومة. لقد أرادت تركيا الاستفادة من هذا التعريف العام وعرضت
مقترحها على العراق وسوريا في ثمانينات القرن الماضي، والذي أشرنا إليه سابقاً،
من جعل حوض دجلة والفرات حوضاً إقليمياً واحداً، والعمل على استخدامه بهذا
الشكل من قبل تركيا والعراق وسوريا بصورة مشتركة، وذكرنا سبب رفض هذا المقترح
في حينه، لأنه من الناحية العملية سيخدم تركيا بالخصوص وعلى حساب مصالح سوريا
والعراق، وسنتحدث عن "مشكلة" الحوض الواحد لدجلة والفرات في فقرة لاحقة.
(2) أمثلة على الاتفاقيات المائية
يجب أن نوضح هنا، أنه لا يوجد هناك قانونٌ دوليٌ محددٌ لحل المشاكل الناجمة عن
الاستخدامات الأخرى، وما كان موجود هو مجرد تفسيرات وتحليلات قد تكون مناقضة
للقانون الدولي المتعلق بالنهر الدولي الملاحي، ولهذا اعتمد بصورة كبيرة على
الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف لوضع أسس للعمل بين الجهات المعنية
المتعاقدة، والتي اصبحت بنفس الوقت أصبحت جزءاً من الأمثلة التي يستشهد بها
"القانون الدولي".
أدناه أمثلة على بعض الاتفاقيات التي وقعت، لأمور متعلقة باستغلال الأنهار لغير
أغراض الملاحة، والتي ترفض تركيا (وكذلك إيران) توقيع ما يماثلها، حيث قامت
هاتان الدولتان بتشييد السدود والمحطات الكهرومائية والمشاريع الإروائية، وبدون
موافقة أو حتى أخذ رأي الدولتين سوريا والعراق الواقعتين أسفل الأنهار الدولية
المشتركة:
ـ الاتفاقية المعقودة أثناء مؤتمر جنيف الثاني للمواصلات في تشرين الثاني 1933
حول "استخدام القوى المائية في الأنهار الدولية"، والتي جاء فيها: أن على كل
دولة تحتفظ في حدود قواعد القانون الدولي، بأن تقوم في إقليمها بجميع الأعمال
التي تراها ملائمة لاستخدام القوى المائية ما لم تكن هذه الأعمال من شأنها أن
تمس إقليم دولة أخرى، أو كان يترتب عليه أضرار جسيمة بدولة أخرى. وفي هذا الصدد
يتعين قبل تنفيذها التفاوض بين الدول التي يهمها الأمر للوصول إلى اتفاق
بشأنها.
ـ إعلان الدول الأميركية في كانون الثاني 1933، والذي اشتمل على مبادئ تعكس
التعاون بين الدول ذات الانهار المشتركة في مجال استخدام المياه الدولية في
الأغراض غير الملاحية، وفي استغلال الموارد المائية الدولية لتوليد الطاقة
الكهرومائية، وفي ألأغراض الزراعية والصناعية. حيث تضمن الإعلان الحق لكامل
الدول في استغلال ما يقع تحت سيادتها من مياه الأنهار الدولية للأغراض المشار
إليها، مع التأكيد على أن لا يحق لأية دولة القيام بتغيير مجرى النهر الدولي
لهذه الأغراض دون موافقة الدول ذات الانهر المشتركة، والتأكد من عدم الإضرار
بمصالح هذه الدول. وكذلك عليها، وقبل القيام بأي مشروع، إخطار الدول الأخرى
وإرفاق جميع الوثائق الفنية اللازمة لمعرفة صلاح المشروع. وفي حال تعذر الوصول
إلى اتفاق بالطرق الدبلوماسية، يُلجأ إلى المعاهدات الجماعية والاتفاقيات
السارية في القارة الأميركية.
ـ معاهدة بين الحكومتين البلجيكية والبريطانية في تشرين الثاني 1934 المتعلقة
بحقوق المياه في نهر تنجانيغا ورافد رواندا الإفريقيين، وذلك في أثناء الفترة
الاستعمارية لإفريقيا!!.
ـ المعاهدة الأميركية ـ المكسيكية في شباط 1943 لتنظيم استغلال مياه الأنهر
المشتركة بينهما. وألحقت بالاتفاق الأميركي ـ المكسيكي في شباط 1944، والذي
أوجب على الدولتين الوصول إلى اتفاق مسبق قبل إقامة مشاريع مائية.
ـ اتفاقية نهر درافا
Drava
الموقعة في سنة 1954 بين يوغسلافيا والنمسا، والتي تضمنت إقرار مبدأ التشاور
بين دولة المجرى الأعلى (النمسا) ودولة المجرى الأسفل (يوغسلافيا)، في حالة
تفكير دولة المجرى الأعلى القيام بأي مشروع، والتعهد بإجراء مفاوضات قانونية
بشأن الحقوق في المياه.
ـ المعاهدة الموقعة بين فرنسا وأسبانيا في عام 1957، والتي تنص على أن دولة
أعالي النهر (المنبع) تخرق القانون الدولي إذا غيرت، أو خفضت كمية المياه
المتدفقة إلى دولة المجرى الأسفل.
ـ اتفاقية نهر الهندوس بين الهند وباكستان في عام 1960، والتي أشارت مقدمتها
إلى أنها استندت على مبادئ حسن النية وتحقيق أفضل استخدام لمياه نهر الهندوس
فيما بينهما.
ـ اتفاقية حوض البلاتا
Plata،
الموقعة في نيسان 1967 بين حكومات خمس دول هي الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل
والبارغواي والأروغواي، والتي تضمنت أحكاماً تتعلق باستخدام الثروات المائية من
خلال تنظيم المجاري المائية والاستغلال العادل.
من الملاحظ أن جميع المعاهدات أعلاه، وغيرها، تنص صراحة على أن أحكامها هي
تطبيق لقواعد القانون الدولي، والمقصود بالقانون الدولي هنا، هو ليس مجموعة
قوانين محددة يمكن الإشارة إلى رقم القانون وتاريخه، وماذا يحدث في حالة عدم
تنفيذه، ولكن المقصود به هو توجهات عامة يمكن الرجوع إليها كدليل عمل، مثل حسن
الجوار، وعدم الإضرار بضرر "بالغ" للدول المجاورة، والتشاور، والإنصاف، والعدل،
وغيرها، وكلها أمور عامة. ويلاحظ أيضاً أن هناك معاهدتين فقط تضمنت كل منهما
بنوداً أشارت إلى أحكامها، بأنها لا تشكل سابقة ولا تعبر عن قاعدة قانونية
وهما:
ـ معاهدة الولايات المتحدة مع المكسيك في عام 1906 حول نهر ريوغراندي، إذ ذكرت
المادة الخامسة منها، بأن الولايات المتحدة بإبرام هذه المعاهدة، لا تسلم على
أي نحو بإرساء أي مبدأ أو إيجاد أية سابقة. علماً أن المعاهدة ذكرت في مقدمتها،
بأن الدافع الرئيسي لإبرام المعاهدة، هو رغبة الدولتين في تنظيم توزيع مياه
النهر بينهما بشكل منصف.
ـ معاهدة الهند وباكستان في عام 1960 حول نهر الهندوس، حيث جاءت إحدى فقراتها
لتقول: أنه لا يجوز أن يفسر الأطراف أي حكم في هذه المعاهدة، على أنه يترتب بأي
شكل كان مبدءاً قانونياً عاماً أو سابقة.
(3) معاهدات وبروتوكولات عراقية ـ تركية
نرى أن نشير هنا إلى معاهدة الصداقة وحسن الجوار الموقعة بين العراق وتركيا
في 29 آذار 1946، والتي يتحدث عنها العديد من الكتاب باعتبارها جزءاً من
القانون الدولي في تنظيم العلاقة المائية بين دولتين، وهي أيضاً وقعت في وقت
مقاربٍ لتوقيع المعاهدات والاتفاقيات أعلاه.
إن المعاهدة أعلاه(66)، تتضمن نص المعاهدة التي تقع في سبع مواد، مع
ست بروتوكولات، منها البروتوكول (1) "بشأن تنظيم مياه دجلة والفرات وروافدهما"،
أما البروتوكولات الأخرى فهي بشأن "المواصلات البريدية والبرقية والتلفونية"،
وبشأن "الأمور الاقتصادية عموماً"، وبشأن "الحدود".
وبرغم أن ما يهمنا في هذا الموضوع هو البروتوكول الأول من هذه المعاهدة، ولكن
من الأفضل إعطاء موجز لموضوع هذه المعاهدة، قبل تبيان محتويات البروتوكول
الأول.
عاد الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق من زيارته لتركيا في أواخر أيلول من
عام 1945، بعد تباحثه مع رئيس جمهورية تركيا، واتفاقهما على العمل لزيادة
التقارب التركي العراقي.
وفي 30/10/1945 قررت وزارة حمدي الباجه جي (بناءً على أمر الوصي)، تشكيل وفد
برئاسة نوري السعيد للذهاب إلى أنقرة لوضع معاهدة "صداقة وحسن جوار"، وكان من
ضمن الوفد المستر أتكنسن البريطاني مدير الري العام. وفي 22/1/1946 أعطي الوفد
صلاحيات مطلقة منها التوقيع على المعاهدة. ولكن في 23/2/1946 تشكلت وزارة جديدة
برئاسة توفيق السويدي، واتي استمرت في الحكم حوالي (100) يوم، إلى 30/5/1946،
وفي هذه الأثناء كان نوري السعيد في أنقرة لإكمال المعاهدة. ولما اطلعت الوزارة
الجديدة على مسودة الاتفاقية قررت في 11/3/1946 إعلام رئيس الوفد العراقي نوري
السعيد برقياً بأن "مشروعكم الجديد يتطلب درساً واتصالاً لا يمكننا من تنفيذ
رغبة الأتراك بشأنه. الآن نرجح أن تكتفوا بقضاء مهمتكم الاقتصادية، كما حددها
مجلس الوزراء، وترك الأمور السياسية إلى وقت آخر مناسب، بحيث يشعرون أن الباب
لا يزال مفتوحاً أمام الطرفين". لم يتقيد نوري السعيد بقرار مجلس الوزراء
الجديد، واستمرت المفاوضات وتم التوقيع على المعاهدة والبروتوكولات في
29/3/1946. ومن الطريف أنه جاء في رد نوري السعيد لتبرير موقفه على توقيع هذه
المعاهدة على ما تتضمن من مزايا، فإنه يضيف: " على الرغم من قناعتنا بالفوائد
الجمة التي سوف يجنيها العراق من عقد المعاهدة، فقد استمزجنا رأي وزارة
الخارجية البريطانية عن طريق السفارة البريطانية في أنقرة حول الموضوع، بالنظر
لسعة اطلاعهم في الشؤون الدولية، ولما تحتمه علينا معاهدة التحالف، فكان الجواب
مؤيداً لوجهة نظرنا ". على أية حال فان مجلس الوزراء صادق على المعاهدة، مع
إضافة " مجلس الوزراء يحتفظ بفهم مضمون المادة الثالثة من اتفاقية الصداقة وحسن
الجوار، أنها لا تعارض ميثاق جامعة الدول العربية و لا تخالف التزامات العراق
بموجبه. وأن لا تفسر في المستقبل بشكل يعارض أو يخالف مفهوم الميثاق المذكور،
وكذلك يقرر المجلس تبليغ هذه الفقرة أيضاً المتضمنة لهذا التحفظ، مع وثائق
الإبرام، إلى الحكومة التركية". علماً أن وزارة السويدي الثانية استقالت في
30/5/1946 قبل أن يصادق مجلس الأمة، (مجلس النواب)، على المعاهدة، وحلت بعدها
وزارة أرشد العمري (من 1/6/1946 إلى 16/11/1946)، ثم وزارة نوري السعيد التاسعة
(بين 21/11/1946 وحتى 29/3/1947) حيث لم تعرض هذه المعاهدة في هذه الفترة على
مجلس الأمة لإقرارها. وجاءت وزارة صالح جبر في 29/3/1947، وأقرّ مجلس الوزراء
المعاهدة مجدداً في 20/5/1947 بعد حذف التحفظ، ووافق عليها مجلس الأمة في
7/6/1947 بالأغلبية الحكومية المعتادة!!. أما المادة الثالثة التي كان عليها
الخلاف والتحفظ فتقول: "بتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بأن يتشاورا في
الشؤون الدولية، ذات الصيغة العامة، وبالأخص في الشؤون ذات الصيغة الإقليمية
التي يهمهما أمرها، وبأن يسدي كل منهما للآخر تأييداً وتعاوناً تامَين في
السياسة التي سينتهجانها ضمن ميثاق الأمم المتحدة".
هذا ونود أن نضيف أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت فترة صراعات
ومتغيرات كبيرة على الصعيد الدولي عامة، وعلى صعيد المنطقة بشكل خاص، حيث كانت
الولايات المتحدة تحاول خلالها ان تحل محل بريطانيا في النفوذ داخل المنطقة،
بالإضافة إلى تحالف الجهتين الأميركية والبريطانية ضد الاتحاد السوفيتي
والحيلولة دون انتشار المد الشيوعي والأفكار الاشتراكية وبروز حركات التحرر
والحركات القومية، والعمل على الوصول إلى معاهدات جديدة مع القوى الاستعمارية،
منها معاهدة بورتسموث التي وقعتها حكومة صالح جبر وأحبطها الشعب العراقي بوثبته
في عام 1948، علاوة على ذلك فإن الدول الغربية كانت تعمل المستحيل من أجل خلق
كيان غريب "إسرائيل" على التراب الفلسطيني. إضافة لذلك فإن إحدى مهام زيارة
الوصي عبد الإله إلى أنقرة، كانت للطلب من الحكومة التركية تسليم الشهيد صلاح
الدين الصباغ أحد قواد انقلاب أيار 1941، والذي هرب إلى تركيا إثر فشل الانقلاب
بتدخل بريطانيا المباشر. وفعلاً سلمته الحكومة التركية وتم شنقه أمام باب وزارة
الدفاع في 16/10/1945.
إن البروتوكول رقم (1) والملحق بالمعاهدة، "بشأن تنظيم مياه دجلة والفرات
وروافدهما بين العراق وتركيا" تضمن ما يلي:
ـ "بناءاً على تقديرهما أهمية ـ دور الحكومة العراقية ـ في القيام بإنشاءات
وأعمال للوقاية على نهري دجلة والفرات وروافدهما لإدامة مورد منتظم من المياه،
وتنظيم سيلها أثناء الفيضانات لإزالة خطر الغرق، وحيث قد يظهر أثناء
التحريات، أن المواقع الأكثر ملائمة لإنشاء الخزانات والأعمال المماثلة التي
سيقوم بها العراق على نفقته تماماً، كائنة في الأراضي التركية، وحيث اتفقا
على تأسيس محطات مقاييس دائمة في الأراضي التركية لتسجيل مقادير تلك المياه،
وتبليغ العراق بقراءات تلك المقاييس بانتظام. ولما كانا قد وافقا مبدئياً على
جعل كل من أعمال الوقاية الذي ينشأ من تلك المياه ملائماً على قدر الإمكان
لمصلحة القطرين، لأغراض الري وتوليد القوة الكهربائية المائية لذلك فقد اتفقا
على ما يلي:"
وهنا يظهر بوضوح سبب اهتمام وتوقيع الجانب التركي لهذا البروتوكول، فالغاية
بالنتيجة قد تؤدي، (وهي بالتأكيد ستؤدي)، إلى قيام الجانب العراقي ببناء سدود
ومحطات كهرومائية في تركيا، وعلى "نفقة الجانب العراقي تماماً"!!. لهذا ففي
وجود مثل هذا الاحتمال الكبير، فمن المؤكد أن توافق تركيا على مواد البروتوكول
المبينة أدناه، سيما وأن مناسيب دجلة والفرات بدأت بالزيادة منذ آذار 1946،
وكان فيضان دجلة في ذلك العام أعظم فيضان شهدته بغداد وما جاورها منذ سنوات
عديدة، حتى أن المياه طغت على معسكر الرشيد فغمرته، وأتلفت ما ادخره الجيش
العراقي من سلاح وعتاد فيه.
"المادة الأولى: يوفد وبأسرع ما يمكن إلى تركيا هيئات من الفنيين، ممن هم في
خدمته لغرض إجراء التحريات، والقيام بأعمال المسح، وجمع المعلومات المائية
والجيولوجية وغيرها من المدلولات لتمكنهم من اختيار مواقع السدود ومحطات
المقاييس وغيرها من الأعمال ووضع التصاميم لها، وذلك تبعاً للحاجة على نهري
دجلة والفرات وروافدهما. تنظم من قبل تركيا الخرائط الواجب تهيئتها بنتيجة
القيام بأعمال المسح. يتحمل العراق جميع النفقات المقتضية للقيام بالأعمال
المذكورة في هذه المادة."
وهنا يتم التأكيد على أن السدود كانت ستشيد في تركيا وعلى نفقة الجانب العراقي
بالكامل، وبضمنها كلف الخرائط التي ستعدها تركيا!!. علماً أن "الهيئات من
الفنيين"ستكون بالتأكيد غير عراقية بغالبيتها العظمى، سيما وأن مدير عام الري
هو أصلاً بريطاني الجنسية، ولم تكن توجد كوادر عراقية مقتدرة في ذلك الوقت.
إن "المادة الثانية" من البروتوكول تتعلق بالسماحات والمساعدات والتسهيلات التي
تقدمها تركيا. والمادة "الثالثة" تتعلق بتأسيس وتشغيل وصيانة المحطات الدائمية
لمقاييس المياه، واتي ستتم من قبل تركيا، و على أن يتحمل الجانبان العراقي
والتركي مناصفة مصاريف التشغيل. وترسل التقارير برقياً كل يوم إلى الجانب
العراقي حول مناسيب المياه في مناطق مختلفة من دجلة والفرات مع إرسال التقارير
الشهرية، ويتحمل الجانب العراقي جميع المصاريف المتعلقة بإرسال المعلومات.
أما "المادة الرابعة"، فإنها تقول: "توافق الحكومة التركية مبدئياً على إنشاء ـ
وفق الاتفاق المذكور في الفقرة التالية ـ الأعمال التي تظهر ضرورة على إنشائها
من نتيجة التحريات المذكورة في المادة الأولى أعلاه. يكون كل عمل ـ ما عدا عمل
محطة مقاييس دائمة ـ، تابعاً لاتفاقية تعقد على حده بشأن موقعه وكلفته وتشغيله
وصيانته، وكذلك بشأن استعماله من قبل تركيا لغرض الري وتوليد الكهرباء".
(المادة الخامسة) من البروتوكول تقول: "توافق تركيا على إطلاع العراق على أية
مشاريع خاصة بأعمال الوقاية، قد تقرر إنشاءها على أي من هذين النهرين، أو
روافدهما، وذلك لغرض جعل تلك الأعمال تخدم ـ على قدر الإمكان ـ مصلحة العراق
كما تخدم مصلحة تركيا".
من أعلاه نرى وكأن المشاريع التي سيشيدها العراق في تركيا وعلى نفقته الخاصة
بالكامل، "ستوافق عليها تركيا"!!، وإن هذه المشاريع ومن الصيغ الموضوعة أعلاه
ستخدم بالأساس تركيا في الخزن والري والمحطات الكهرومائية، وستخدم "على قدر
الإمكان" العراق!!. ولا أعرف كيف لا توافق تركيا على مثل هذا العرض السخي جداً،
كما لا أدري كيف يوافق العراق على ذلك، إلاّ إذا كان تحت ضغوط هائلة بسبب
الفيضانات المدمرة، (ولنترك الضغوط السياسية الخارجية، حيث كانت تركيا حليفا
قويا ومخلصا للغرب)، كما ويحتمل أن تكون هناك "مشورة فنية" تقول لا يمكن حل
مشكلة الفيضانات المدمرة في العراق إلاّ من خلال السدود في تركيا!!.
إن "المادة السادسة" والأخيرة من هذا البروتوكول تتعلق بقيام كل من الطرفين
"بتعيين ممثل عنه بأسرع ما يمكن. ويقوم الممثلان بالتشاور في جميع الأمور
الضرورية لتنفيذ هذا البرتوكول، ويكون الممثلان الموما إليهما بمثابة مرجع
الاتصال المختص بين كلا الطرفين".
إنني أستغرب حين يشير الكثير من الكتاب الجادين على أن هذا البروتوكول يخدم
الجانب العراقي، إلى درجة أن الدكتور العادلي في كتابه القيم "النهر الدولي"
الذي اعتمدناه كمصدر مهم في كتابة هذا الجزء من الدراسة يقول: "إن هذه
الاتفاقية قد حققت " اعترافاً تركيا " بالحقوق المائية المكتسبة للعراق في حوضي
دجلة والفرات، كما أعطي العراق حقوقاً هامة تتمثل..... قيام الفنيين بالإشراف
على المحطات التركية ومراقبتها..... تقديم كافة المعطيات والمقاييس المائية
له..... قبول تركيا بإنشاء سدودها وفق دراسة الخبراء العراقيين والأتراك، وأن
موقع كل سد تركي والغرض منه سيكون موقع اتفاق مع العراق... واطلاع العراق على
جميع المشاريع التركية الخاصة بما يخدم مصلحتيهما."!!
في الواقع لم أفهم البرتوكول بالفهم المبين أعلاه، وقد أكون خاطئاً في فهمي له
، والقارئ سيكون الحكم، إذ كل ما مذكور فيه من "حقوق" للعراق هي تحصيل حاصل
لأية دولة تريد ان تشيد منشآت بكلف عالية لدى دولة أخرى على نفقتها الخاصة،
لخدمة الدولة الأخرى و"خدمتها"، فعند ذاك سيذهب فنيون إلى الدولة الأخرى
ويطلعون ويحصلون على المعلومات اللازمة لإنشاء هذه المنشآت. علماً أنني أؤكد
مرة أخرى أنه لم يدر في بال أحد في ذلك الوقت بأنه ستكون هناك أزمة شحة مياه،
وإنما ما كان موجود فعلاً هو أزمة فيضانات. إضافة لذلك فإن ما سمي الاعتراف بـ
"حقوق العراق" من قبل تركيا، سيتم فقط بعد أن يصرف العراق في داخل تركيا مبالغ
ضخمة جداً مقارنة بميزانيته في ذلك الوقت. رغم ذلك لم يعترف البرتوكول بوجود
حقوق مكتسبة للعراق في مياهه، ولم تحدد كميات الحد الأدنى للمياه المصرفة إلى
العراق وسوريا.
هذا ولقد تم في سنوات لاحقة توقيع البرتوكولات التالية مع تركيا
ـ بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركيا (أنقرة 17/1/1971)،
إذ أن مسألة المياه جاءت ضمن اتفاق اقتصادي وفني عام، وفي وقت كانت تركيا فيه
تضع برنامج ملء خزان كيبان.
نصت المادة الثالثة من البروتوكول على أن "بحث الطرفان المشاكل المتعلقة
بالمياه المشتركة للمنطقة واتفقا على ما يلي:"
"تجري السلطات التركية المختصة أثناء وضع برنامج ملء خزان كيبان جميع المشاورات
التي تعتبر مفيدة مع السلطات العراقية بغية تأمين حاجات العراق وتركيا من
المياه بما في ذلك ملء خزان الحبانية وكيبان." و"يشرع الطرفان في أسرع وقت
بالمباحثات حول المياه المشتركة ابتداءاً بالفرات وبمشاركة جميع الأطراف
المعنية."
ـ بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركبا (أنقرة 25/12/1980)،
والذي انضمت إليه سوريا في عام 1983.
حيث نص الفصل الخامس منه والخاص بالمياه الإقليمية على:
"اتفق الطرفان على التعاون في مجال السيطرة على تلوث المياه المشتركة في
المنطقة". و"وافق الطرفان على إنشاء لجنة مشتركة للمياه الإقليمية
التركية ـ السورية ـ العراقية، مهمتها دراسة الشؤون المتعلقة بالمياه
الإقليمية وخصوصاً حوضي دجلة والفرات، واقتراح الطرق التي تؤدي إلى
تحديد كمية المياه المعقولة العادلة التي يحتاجها كل من البلدان الثلاثة من
الأنهار المشتركة..."
ما نلاحظه في هاتين البروتوكولين وجود لغة تختلف عن لغة التهديد والتعنت
التركية، التي كانت عليها في الثمانينات التسعينات من القرن الماضي. إذ نجد هنا
تعابير "المياه المشتركة"، و"المياه الإقليمية التركية ـ السورية ـ العراقية"،
و"تحديد كميات المياه المعقولة والعادلة التي يحتاجها كل من البلدان الثلاثة من
الأنهار المشتركة". أؤكد هنا ما ذكرته سابقاً هو أن ضعف العراق نتيجة حروبه مع
إيران ودخوله الكويت، والحصار الذي فرض عليه، أدى إلى تغير الموقف التركي
وتفرده في القرارات والإجراءات، واعتقد الأتراك في حينه أن بإمكانهم الحصول على
أية كميات من المياه، طالما ظل الموقف العراقي بهذا الضعف، و ظل العداء السوري
العراقي على حاله .