ب- موجز تاريخي بسيط للمشاكل حول المياه مع إيران وتركيا
في الصفحات التالية، سنعرض موجزاً تاريخياً للمشاكل التي حدثت مع دول الجوار
حول المياه، ومنذ تأسيس الدولة العراقية، وحتى ، قبلها. وسيرى القارئ أن
مشاكلنا السابقة مع إيران كثيرة جداً، رغم أن حصة إيران في المياه الواردة إلى
العراق قليلة، ورغم أن لدينا اتفاقيات وبروتوكولات محددة حول الحدود والمياه مع
إيران. إن الواردات القليلة للجداول والسواقي والأنهار الصغيرة التي تعبر
الحدود الإيرانية في المناطق الجنوبية والوسطية من العراق تخدم القرى والمدن
الصغيرة العراقية الحدودية، وهي مصدر مياهها الوحيد، ولذا فإن أي انقطاع فيها
يؤثر تأثيراً كبيراً فيهم، سيما وأنهم بعيدون شرقاً عن دجلة ولا تصلهم مياهه.
هذا وبسبب وفرة مياه دجلة والفرات في النصف الأول من القرن الماضي، لم تحدث
مشاكل تذكر مع تركيا مقارنة بالتي حدثت مع إيران وبما يتعلق بالجداول الحدودية
الصغيرة أو شط العرب الذي كان يعتبر الشريان الوحيد لتجارة العراق مع العالم
الخارجي. و كان الخلاف كبيراً مع تركيا في سبعينيات القرن الماضي بسبب شحة
المياه، وخلافنا الرئيسي الذي يبقى مع إيران هو شط العرب بالدرجة الأولى وتغذية
الأهوار بالمياه الإيرانية بالدرجة الثانية، وبالنسبة لشط العرب فإن هناك
معاهدات عليها خلافات أو لم تستكمل ببروتوكولات وكما سنلاحظ أدناه.
أولاً: إيران
( 1 )-
إن اتفاقيات العراق مع إيران هي امتداد لاتفاقيات الإمبراطوريتين العثمانية
والفارسية، والتي كانت في حروب مستمرة وفي فترات مختلفة. إن أول اتفاقية بينهما
كانت "اتفاقية السلام" لعام 1639، والتي ثبتت الحدود بين الدولتين. رغم إن هذه
الاتفاقية أثبتت فعاليتها في معظم الحدود المشتركة، ولكن لم تثبت فعاليتها
بالنسبة لشط العرب. إذ اعتبرت الدولة الفارسية شط العرب هو الحدود الفاصلة بين
الدولتين ـ أي تقسيم الشط بينهما ـ بينما اعتبر العثمانيون جميع النهر وإلى
اليابسة في الجانب الفارسي مياهها عثمانية، وذلك بسبب العلاقة الوثيقة بين
العرب سكنة جانبي شط العرب، وأن الدولة العثمانية ـ حسب رأيها ـ مسؤولة عنهم.
تم توقيع اتفاقية أرضروم الأولى في تموز من عام 1823، بعد المشاكل والحروب
العديدة التي حدثت بين الدولتين بعد اتفاقية السلام لعام 1639. وتضمنت هذه
الاتفاقية ـ أرضروم الأولى ـ محاولة لوضع وصف دقيق للحدود بين الدولتين، ولكنها
أيضاً فشلت في السيطرة على الحدود في شط العرب. برزت وبوضوح في هذه الأثناء
المطامع البريطانية والروسية وزيادة نفوذهما في إيران، (وفي مستعمرات عثمانية
اخرى أيضاً)، إلى درجة أن وزير الخارجية البريطاني آنذاك، اللورد بالميرستون
Palmerston،
قال في سنة 1851: "أن الحدود التركية الفارسية لا يمكنه حلها إلاّ بتحكيم
بريطاني - روسي".
على إثر فشل معاهدة أرضروم الأولى، تم عقد أرضروم الثانية في أيار 1847، في ظل
"وساطة وتحكيم" روسية - بريطانية، أصبحت فيها حدود الدولة الفارسية تسير مع
الضفة الشرقية لشط العرب، وبقيت السيادة في شط العرب كاملة للدولة العثمانية،
وأقر بروتوكول وقع في كانون الأول 1911 استمرار شرعية معاهدة أرضروم الثانية.
ولكن بسبب استمرار المشاكل واعتراض الجانب الإيراني، تدخل "الوسيطان"
البريطاني والروسي، وتم توقيع بروتوكول اسطنبول "القسطنطينية" في تشرين الثاني
1913، حيث تم بموجبه تنازل الدولة العثمانية عن جزء من المياه، والقبول بخط
الثالويك
Thalweg Line
كحدود في منطقة المحمرة، أي القبول بأعمق مجرى في النهر وهو على العموم يكون في
منتصف النهر، كخط للحدود ولمسافة (4) أميال (حوالي 6.5 كيلومتر) أمام المحمرة
فقط، أما بقية الشط فقد بقي تحت السيادة العثمانية الكاملة. إن "الوساطة"
الروسية البريطانية، أدت بنفس الوقت إلى تقاسم النفوذ، وإلى إطلاق يد روسيا في
شمال إيران، وإلى إطلاق يد بريطانيا في مناطق النفط في جنوب إيران أي عبادان
والمحمرة، كذلك إطلاق يدها في إمارات الخليج العربي والعراق (بالحدود التي سمحت
بها الدولة العثمانية). ثم جاءت الحرب، لتضع اتفاقية (1913) تحت التساؤل
اعتماداً على قوة الجهات المتصارعة في المنطقة، وأن إيران كانت تعترض على
الاتفاقية، وتريد أن يكون شط العرب الحد الفاصل بين العراق وإيران، أي يستمر خط
الثالويك على طول النهر كله!!، أما العراق فيريد أن تكون الحدود هي الساحل
الشرقي للنهر على طوله!!.
لقد علقت إيران موافقتها على التصويت لانضمام العراق لعصبة الأمم المتحدة لحين
النظر باتفاقية حول شط العرب، واستمرت بهذا الموقف مما اضطر العراق إلى الطلب
في سنة 1934 من عصبة الأمم النظر بالخلاف. جرت مفاوضات مختلفة بين العراق
وإيران في الربع الأخير من سنة 1936، انتهت بموافقة الحكومة العراقية على تخصيص
مرسى لإيران مقابل عبادان بطول (4)كم لقاء اعتراف إيران ببروتوكول
اسطنبول/القسطنطينية لعام 1913، وذلك في أواخر شهر تشرين الثاني 1936، وعد هذا
الاتفاق تسوية لمسألة المياه في شط العرب ووقعت عليه طهران في تموز 1937، وعلى
أساس قيام لجنة مشتركة لتثبيت الحدود النهائية في سنة 1938 على مبدأ أن شط
العرب بمجمله تحت السيادة العراقية عدا منطقة بطول (4)كم يكون فيها خط
الثالويك، (منتصف النهر)، في شط العرب هو الحدود المشتركة. لقد حدثت الحرب
العالمية الثانية، وثم دخل العراق وإيران في حلف بغداد، ولكن الأمر لم يحل
نهائياً، وحدثت ثورة 14 تموز 1958، ثم الانقلاب الدموي في 8 شباط1963، وبعدها
انقلاب 17ـ30 تموز 1968، وانتهزت حكومة شاه إيران الموقف غير المستقر للعراق
لتعلن من جانب واحد في سنة 1969 إلغاء اتفاقية تموز 1937. علماً أن رغم كل هذه
الأمور بقيت السيادة العراقية على مجمل النهر، أي أن الحدود تسير مع خط سير
النهر في المنطقة الشرقية منه، عدا المنطقة المقابلة لعبادان، وباعتراف الأمم
المتحدة وجميع الدول، وذلك باعتبار أن اتفاقية 1937 هي الاتفاقية المعترف بها
دوليا.
انتهزت حكومة الشاه في إيران تجدد الثورة الكردية في شمال العراق، واستمرار
الحركات العسكرية لتضغط على الحكومة العراقية، وحدثت بعض المناوشات مع إيران في
سنة 1971، واستقر رأي الحكومة العراقية على التوصل إلى اتفاق مع إيران على حساب
الحركة الكردية ومن يناصرها وحارب معها من العرب، وتوصلت مع الحكومة الإيرانية
إلى اتفاقية الجزائر، برعاية الرئيس الجزائري بومدين، وذلك في 6/3/1975، تنازل
فيها العراق عن حقوقه بموجب اتفاقية 1937، ليكون خط الثالويك هو الحدود
المشتركة بين العراق وإيران وعلى طول شط العرب في المنطقة الحدودية، مقابل
انسحاب حكومة الشاه من دعم الثورة الكردية، والتي انهارت مؤقتاً إثر هذه
الاتفاقية. وبدأت الدوائر الإيرانية بتسمية شط العرب، أروند أو أرفند (أي نهر
أروند
Arvand Rud)،
واستمرت هذه التسمية في إيران لحد الآن!!، علماً أن (الشاهنامة) استخدمت اسم
"أروند" على دجلة وليس على شط العرب!!.
عاد العراق، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ليعلن من جانب واحد في
أيلول 1980 إلغاء اتفاقية 1975، ( رغم انه قام بتوثيقها لدى الامم المتحدة في
حينه ) ، لتبدأ الحرب العراقية الإيرانية!!، ثم رجع مرة أخرى وفي سنة 1992
ليعلن أنها سارية المفعول. في كل الأحوال فانه من الناحية " القانونية " و
العملية بقيت اتفاقية 1975 سارية المفعول كأمر واقع معترف به، وذلك في زمن حكم
صدام، وما بعد الاحتلال، ولكن بنفس الوقت لم تثبت الحدود النهائية في شط العرب
، و كذلك لبقية الحدود العراقية – الايرانية البرية بالرغم من ان الحدود
البرية بقيت على حالها حسب نصوص الاتفاقية الا ان غالبية علامات الحدود "
الثايات " كانت قد رفعت من الحدود من قبل الجهات العراقية اثناء اندفاع الجيش
العراقي الكاسح في بداية الحرب و خصوصا في مناطق الحقول العراقية المجاورة
للحدود في محافظة ميسان اعتقادا بامكانية الحصول على اراض ايرانية ترى الحكومة
العراقية انها اراض عراقية . بقيت الحدود العراقية الايرانية غير مرسمة منذ
توقيع الاتفاقية في سنة 1975 ولحد الآن، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى نتائج خطيرة
على العراق ، حتى لو افترضنا أن هذه الاتفاقية سارية المفعول قانونياً. علما ان
جميع الابار النفطية المحفورة في محافظة ميسان من قبل وزارة النفط في
السبعينيات من القرن الماضي تقع في الجانب العراقي من الحدود اذ لم يتم أي
اعتراض عليها من قبل الجانب الايراني في حينه ، اضافة الى ان وجود علامات
الحدود التي تؤكد عراقية هذه الابار ، مع احتمال ان يكون جزء من حقل " فكة "
النفطي داخل الحدود الايرانية ، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان جميع الابار
المحفورة فعلا هي داخل الاراضي العراقية و قسم منها قريب جدا من الحدود
الايرانية . ولكن ما حدث في بداية الحرب و اثناء الاكتساح العراقي الاول داخل
الاراضي الايرانية ان تم رفع العلامات الحدودية و بالاخص في منطقة الحقول
النفطية في محافظة ميسان ، و اصبحت هذه الحدود غير المعلمة من الناحية العملية
منطقة " حرام " لا تتواجد فيها مظاهر مسلحة ، و ذلك منذ انتهاء الحرب و طوال
فترة التسعينييات و لحد حوادث فكة الاخيرة التي حدثت في كانون اول / 2009 . و
على ضوء المعلومات المتوفرة لدي فان الجانب الايراني مستعد لترسيم الحدود و لكن
بشرط موافقة الجانب العراقي على اتفاقية 1975 ، اي قبول العراق بتناول " العلقم
" الذي تمثله اتفاقية 1975 المشؤومة ، و التي هي في كل الاحوال تعتبر اتفاقية
رسمية معترف بها من قبل المجتمع الدولي لحين الاتفاق بين الجابين العراقي و
الايراني على الغائها أو تبديلها ، و هذا أمر صعب !! . بنفس الوقت فان هناك
جهات مؤثرة في السلطة العراقية الحالية تريد الغاء هذه الاتفاقية لانها كانت
بين نظامي صدام و الشاه المرفوضين من الشعبين الايراني و العراقي ، و كانت
الاتفاقية على حساب مصالح الشعب العراقي ، كما انها تتخوف من القبول بها لرفض
الشعب العراقي لها . و لقد أكد وزير الخارجية العراقي في أواخر كانون الاول /
2009 ، و اثناء ازمة حقل فكة ، بأن ايران ترفض ترسيم جزء من الحدود و انما تريد
ترسيم جميع الحدود بعد موافقة السلطة العراقية الحالية عليها ، اذ انه قال " ان
موقفهم ( الايرانيين ) كان لن نتفاوض ما لم تقروا اتفاقية اتفاقية الجزائر
..... و ان اكبر ملف في وزارة الخارجية هو الملف مع ايران " ، و أضاف " ان
الموقف العراقي الرسمي ، و خلال الحكومات العراقية الثلاثة المتعاقبة ، متحفظ
على هذه الاتفاقية " ، لكنه اضاف مستدركا " ان ذلك لايعني ان العراق غير ملتزم
بها " . و هنا تكمن العقبة التي يجب تجاوزها من قبل السلطتين التشريعية و
التنفيذية في العراق بشكل او بآخر ، و المفروض حلها وديا ، و عدم الانجرار وراء
من يريد اشعال حرب اخرى مع الجارة ايران ، و بتأثيرات و ضغوط اميركية و
اسرائيلية ، حيث لا يمكن قصف أو محاربة ايران الا من خلال العراق ، اذ ان
غايتهما ( اميركا و اسرائيل ) تدمير ايران كما دمروا العراق !! ، و هذا أمر
يجب ان يتجنبه العراق و جميع القوى الوطنية العراقية ، فالخاسر هنا هو العراق و
الشعب الايراني و الرابح هو المحتل و اسرائيل وكل من يعتقد بغير ذلك فانه لم
يستفد من تجارب الماضي . هذا و لقد ذكرت " السومرية نيوز " في 7 كانون ثاني
2010 ، و كذلك كررت الخبر وكالات الانباء الاخرى ، من ان وزيري الخارجية
العراقي و الايراني اعلنا في مؤتمر صحفي مشترك عن " اتفاق بغداد و طهران على
ترسيم الحدود و تطبيع الاوضاع الحدودية و عودتها الى ما كانت عليه قبل قضية بئر
الفكة ..... و ان اللجان الفنية المشتركة بين البلدبن ستبدأ اجتماعاتها خلال
الاسبوع القادم بشأن ترسيم الحدود " . كما يظهر فان الجانب العراقي قد وافق على
اتفاقية 1975 .
( 2 )-
إن الحرب العراقية الإيرانية كانت كارثة بالنسبة لمياه وبساتين شط العرب،
وازدادت الكارثة تفاقما في السنوات الأخيرة لعدم توفر المياه العذبة الكافية
لتمنع تدفق مياه الخليج المالحة من الدخول إلى جداول الشط، الذي يبلغ طوله
حوالي 200كم وعرضه حوالي 232 متر في مدينة البصرة، و800 متر عند مصبه في الخليج
العربي. لقد كانت منطقة شط العرب تحوي خمس نخيل العالم البالغ عددها ما يقارب
(90) مليون نخلة، إذ كانت تحوي ما يقارب من (17 ـ 18) مليون نخلة، ولكن انتهت
هذه ألأشجار بنهاية سنة 2005، إذ مات منها (14) مليون نخلة، (9 مليون في
العراق، و5 مليون في إيران) بسبب الحروب وملوحة ماء النهر والآفات الزراعية
والإهمال، والباقي (3 ـ 4) مليون نخلة في حالة يرثى لها. ووصلت الأمور في سنة
2009 إلى انتشار الأمراض بين البشر وهجرتهم ونفوق الحيوانات وانتهاء البساتين
بكاملها بسبب شحة المياه وارتفاع ملوحتها إلى درجة عالية جداً. لقد ذكرت صحيفة
"الحياة" العربية اللندنية في 9/9/2009، بأن "نسبة الملوحة في شط العرب تجاوزت
عشرة آلاف جزء /مليون ، " مما أدى إلى نفوق الحيوانات، وإغلاق مشروع مياه شرب
سيحان نهائياً وهو مشروع يغذي الفاو والسيبة والقرى الواقعة على شط العرب
بأكمله". وأشارت الصحيفة إلى أن أحد أسباب ملوحة شط العرب هو تحويل مجرى نهر
كارون بـ"سداد غلق".
إن مشكلة شط العرب أكبر من ذلك بكثير، وكما أوضحنا سابقاً في سياق الدراسة، كما
وأن هناك مناطق الغوارق والألغام، والتي يبلغ عددها حوالي (21) منطقة ، معظمها
في الجانب العراقي، وهناك مناطق الترسيب والتي تتركز في ثلاث مناطق أحداها مصب
نهر كارون، حيث أن هذا النهر يرسب الكثير من الرمل عند مناطق مصبه في شط العرب،
مما كان يتطلب التطهير ( عمليات الكري ) المستمر لها، وهو أمر ليس بجديد.
إن الأمر الأهم الحالي في شط العرب هو التآكل الذي يحدث في الجانب العراقي من
النهر، وتحدده وزارة الموارد المائية في كتاب لها موجه على مجلس الوزراء في
أوائل 2007 بأنه يقع في سبع مناطق، ( منها في جزيرة أم الرصاص، ومنطقة سيحان،
ومنطقة جنوب السيبة، وغربي منطقة المخراق، ومنطقة الهاتف). أما الصحيفة
الإلكترونية أصوات العراق، وفي تقرير لها من البصرة، باللغة الإنكليزية في
2/3/2008، تقول نقلاً عن أحد ضباط البحرية العراقية أن التآكل من الأراضي
العراقية يبلغ حوالي (100) دونم سنوياً . إذ أنه يحدث على مسافة (6.5)كم من
الساحل الغربي للنهر، ويتآكل ما معدل عرضه (3.5)متر من ضفة النهر في السنة.
بالواقع هناك خطأ في مكان ما في هذه الأرقام، إذ أن هذه الأرقام ترينا تآكلاً
سنويا في الأراضي العراقية يعادل (22750)م2، (أي 9.1 دونم عراقي)، وليس
(100)دونم. إن التآكل موجود، وباعتراف رسمي من الجهات الحكومية العراقية،
وبصورة مخيفة، وباعتقادي أن المسافة هي أكثر من 6.5كم، وقد يكون المقصود بها
(65)كم. إن التآكل يعني أن خط الثالويك يتحرك باتجاه العراق، إذ أن منتصف النهر
ـ خط الثالويك ـ يتحرك مع حركة التآكل، وهذا لا يعني خسارة أراضي عراقية فحسب،
ولكن يعني أيضاً خسارة في المياه الإقليمية والموانئ العراقية، وهذا ما أكده
التقرير وحذر منه موقع "أصوات العراق" في آذار 2008، والمشار إليه أعلاه، حيث
يقول أن البحارة، الذين قابلهم كاتب التقرير، يؤكدون أن "لو بقيت الأمور على ما
هي عليه فإن الميناء العائم الرئيسي لتصدير النفط العراقي، خور العمية، سيكون
يوماً ما داخل الحدود الإيرانية، وعند ذاك سوف لا يكون للعراق أي منفذ بحري"!!.
والآن ، ونحن في شهر كانون الاول / 2009 ، نرى بعض الجهات الإيرانية غير
الرسمية تقول أن خور العمية يقع داخل المياه الإقليمية الإيرانية!!. إن معرفة
إيران بطريق سير شط العرب وأنه يسبب تآكلاً في الأرضي العراقية، لذا فإن من
مصلحتها أن تماطل في تثبيت الحدود في شط العرب، هذا على افتراض موافقتنا
لاتفاقية 1975 " المشؤومة " أصلاً. رغم ذلك إن من واجب الحكومة العراقية أن
تأخذ الأمر بجدية تامة وبسرعة آنية لتثبيت الحدود، إذ الزمن يخلق أمراً واقعاً
وهو ليس بصالح العراق بل يعمل ضده. و كما يظهر لنا فان الجانب الايراني يماطل
في ترسيم الحدود ، فان كان الامر كذلك ، فعلى العراق ان يلجأ الى المحافل
الدولية في حالة عجزه عن حل الامر وديا أو عن طريق وسيط يقبل به الطرفان .
اضافة لذلك فان على الجهات العراقية ان تتخذ الاجراءلت الفورية لتقوية الجانب
العراقي من شط العرب لمنع التآكل سواء باستخدام السداد أو التبطين الكونكريتي
أو الحجري أو رزاعة الضفة بالاشجار التي تتحمل الملوحة ، او باستخدام
جميع هذه الطرق . المهم الحفاظ على الضفة العراقية من شط العرب من التآكل .
ومن الجدير بالذكر أن حادثتين قد وقعتا بعد الاحتلال، في مداخل شط العرب، قالت
إيران أنهما تسلل لقوات بريطانية للمياه الإقليمية الإيرانية. الأولى حدثت في
حزيران 2004 حيث احتجزت البحرية الإيرانية عدداً من القوات البريطانية لمدة
يومين وأطلق سراحهم بعد مباحثات بين سترو وزير الخارجية البريطانية وخرازي وزير
الخارجية الإيراني، ولكن بعد مصادرة الزوارق والأسلحة البريطانية من قبل إيران.
أما الحادثة الثانية فقد حدثت في سنة 2007، حيث تم إلقاء القبض على (15)
بريطاني قالت إيران أنهم كانوا في مياهها الإقليمية، وتم "العفو" عنهم بعد (13)
يوم وأطلق سراحهم. وعند النظر في المراجع المعلوماتية البريطانية حول هاتين
الحادثتين، نرى أنها حددت منتصف النهر ـ بشكله الحالي ـ كخط حدود بين العراق
وإيران، مما قد يعني أن بريطانيا ليس فقط تعترف باتفاقية 1975، و هذا أمر منطقي
، وإنما تعترف ايضا بالتغيرات التي حدثت على الأرض نتيجة التآكل الحاصل في
الضفة العراقية من شط العرب !!.
مما ورد في أعلاه نجد أن صرخة "كاظم فنجان"، الكاتب الذي يحمل هموم العراق،
والتي أطلقها في 30/9/2009 من صحيفة الزمان ، تحت عنوان: "هل أغلقوا منافذنا
البحرية؟"، وهو يتحدث عما يسمى "المياه لإقليمية الكويتية"، يجب أخذها بجدية
تامة. فالعراق يحاصر بحريا الآن من قبل كل من الكويت وإيران، ومن خلال
"اتفاقيات مجحفة"، وقعت في ظروف غير طبيعية كانت موجودة في العراق، ولكن هذه
المعاهدات معترف بها دولياً، والأدهى من ذلك والأمر أنها تفسر من قبل الجهتين
المستفيدتين إيران والكويت، بالطريقة التي تريانها ملائمة لمصالحهما، بحيث لن
يكون لدينا بالنتيجة أي منفذ بحري خلال الفترة القريبة القادمة في حال استمرار
"ترك الحبل على الغارب"!. إن الحكومات المتعاقبة لفترة ما قبل الاحتلال وما
بعده، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، لم تعر الأمر الأهمية اللازمة، وحتى دون
اللازمة. لم تستفد الجهات التي جاءت بمعية الاحتلال من "علاقاتها الطيبة
والإستراتيجية مع الولايات المتحدة وبريطانيا"، وكذلك لم تستفد الجهات التي
جاءت من إيران، ولها علاقات طيبة مع إيران التي تؤكد باستمرار بأنها مهتمة
بعلاقات حسن الجوار مع العراق، لحل هذا الأمر. إن جميع الحكومات العراقية، ومنذ
تكوين الدولة العراقية الحديثة، وحتى قبلها، كانت تدرك ضرورة وجود منفذ بحري
واضح واسع يكفي لسد جميع احتياجات العراق، الأمر الذي يعتبر مسألة حياة أو موت
للعراق، وكان هذا المنفذ هو السبب الرئيسي في كل المنازعات مع إيران والكويت،
وسيبقى كذلك لحين إيجاد حل عادل له، إذ أنهما، وبمباركة أو مشاركة من المحتلين
"قد أغلقوا منافذنا البحرية فعلاً!!".
3- ما هو الحل لشط العرب ؟
أكملت إيران وبسرية تامة، بعد اتفاقية 1975، كري وتعميق نهر (جدول) شبه مندرس
يدعى (بهمنشير)، وشيدت جسرين غاطسين لأجل رفع منسوب نهر كارون قبالة المحمرة،
لتحويل الماء عن شط العرب إلى نهر بهمنشير، وثم ليستمر هذا النهر في سيره إلى
الخليج العربي. عملياً انقطع جزء مهم من الماء "العذب" اللازم لاحياء الزراعة
عن شط العرب اللازم لاحياء الزراعة في شرقي شط العرب، وكما أوضحنا سابقاً عند
الحديث عن نهر كارون.
رغم أن الدراسات العراقية السابقة لم تأخذ بنظر الاعتبار مياه نهر كارون
لتحلية شط العرب، إذ احتسبت كميات من دجلة والفرات لهذا الغرض، ولكن وضح في
الوقت الحاضر ضرورة وجود مياه أخرى، مثل مياه كارون أو الكرخه للمساعدة في
التحلية. ستعترض إيران على هذا الأمر، وستقول أن كارون نهر داخلي، بل حتى ليس
نهرا عابرا للحدود. ولكن في الوقت الحاضر فإن شط العرب هو نهر دولي وذلك في حال
اعتبار اتفاقية 1975 سارية المفعول!!، لهذا علينا التفكير بشكل آخر ، و يجب
التحدث عنه بصوت عال في الوقت الحاضر !! .
إذا كانت إيران لا تريد أن تشارك في تحلية شط العرب، وتعتبر كارون نهراً
داخلياً بالكامل، رغم أنه كان تاريخياً يصب في شط العرب في كل العصور، حتى قبل
1975 حين كان بالكامل تحت السيادة العراقية، أي أن هناك حقوقاً تاريخية عراقية
في هذا النهر. وإذا كان شط العرب يمثل الحدود الدولية بين العراق وإيران، بعد
1975، فعند ذاك لا يمكن لأي طرف أن يتصرف بالمياه الحلوة الواردة إلى شط العرب
إلاّ بالتنسيق مع الطرف الآخر.
إن إيران تصرفت لوحدها في نهر كارون، و ذلك بعد 1975، وأثّر تصرفها جداً في
الوضع الزراعي والإنساني لسكنة منطقة شط العرب من العراقيين، وإذا استمرت على
هذا الوضع وبدون مناقشة الأمر وتصحيحه، سوف يكون من حق العراق التصرف لوحده
أيضاً في مياهه التي تدخل شط العرب.
إن أحد الحلول المقترحة لمشكلة المياه الحلوة في شط العرب، ولتجنب مياه الخليج
المالحة للدخول إلى جداول البساتين، أو التأثير في محطات تغذية مياه الشرب
المقامة على الشط، هو غلق شط العرب في منطقة ملائمة من القسم الأعلى للشط
والخاضع بصورة كاملة للسيادة العراقية، أي أن الأراضي التي تقع على جانبيه
عراقية ، و بناء سد يمكن أن يكون في منطقة جنوب البصرة، (وهو قد يكون نفس السد
الذي كان مقترحاً في الدراسة السوفيتية ليكون خزاناً إضافياً و ذلك من خلال رفع
مستوى المياه في نهر دجلة الى منطقة الفتحة شمال سامراء ، حيث اقترح بناء سد
آخر في الفتحة لرفع مستوى مياه دجلة الى سد الموصل شمالا ، و بذا يكون نهر دجلة
نفسه خزانا مائيا كبيرا ) . بنفس الوقت تحويل مجرى شط العرب إلى مجرى آخر جديد
يمر بمحاذاة غرب البصرة. قد يكون هذا السد عال، و كما ان تحويل الماء إلى غرب
مسار شط العرب الحالي يجب ان يتم من خلال أنابيب كونكريتية، أو جداول مبطنة
بالكونكريت، كي تقوم بتوزيع المياه إلى بساتين ومدن محافظة البصرة الجنوبية،
والمناطق الزراعية التابعة لها. بنفس الوقت غلق كل مداخل الجداول المفتوحة
حالياً على شط العرب، وعدم توصيل المسار الجديد المقترح إلى الخليج لئلا يتلوث
بمياهه، وإنما يوجه الماء العذب الزائد ـ إن وجد ـ إلى مسار شط العرب الحالي.
إن هذا الوضع يجعل مياه شط العرب الحالي تأتي فقط من مياه الخليج، ويكون فقط
للملاحة وليس لاستخدامات أخرى شأنه شأن أي مجرى لمياه بحرية.
إنني لست "خبيراً" في هندسة الري، وإنما فقط أطرح هذه الفكرة بصوت عال، قد تكون
هذه الفكرة قد طرحت من قبل عدد من المختصين العراقيين أو غيرهم، ولهذا فإن من
يقرر أمكانية تنفيذ مثل هذا الأمر هي وزارة الري، وأية جهة استشارية تعمل معها.
ولكن طرح هذه الفكرة إلى العلن، قد تساعد إلى أن يضطر الجانب الإيراني للاعتراض
في البداية ، ومن ثم الدخول في مفاوضات مع العراق للوصول إلى حلول معقولة،
خصوصاً إذا كانت هناك مشاكل تحول دون جعل شط العرب صالحاً للملاحة اعتماداً على
مياه الخليج فقط مما سيؤثر في إيران أكثر من العراق بما يتعلق بالملاحة. هذا و
ان سد البصرة مطلوب في كل الاحوال .
إن إيران لم تقل ما يقوله الأتراك، على الأقل لم تقله في العلن، و ذلك بأن
الأنهار العابرة للأقطار، هي أنهار داخلية تعود إلى دولة المنبع، ولكنها عملياً
تعمل وفق هذا الأساس، إذ أن جميع السدود التي أقيمت على كارون أو الكرخه أو
ديالى، والأهم على الزاب الصغير، لم يؤخذ فيها رأي الجانب العراقي حيث استغلت
ايران فترة الحرب بين الجانبين وتوتر موقفها مع العراق لمدة تقارب ربع قرن. من
المفروض أن الأمر يختلف في الوقت الحاضر، وهناك حقائق سياسية تجعل أمكان
التفاوض والتفاهم أكثر واقعية من ذي قبل!!.
( 4 )-
إيران ومشاريعها على أنهر ديالى والزاب الصغير والوند والأنهر الأخرى
لم تطبق إيران الاتفاقيات والبروتوكولات الموقعة سابقا بشأن مياه المجاري
المائية التي تنتهي في الأراضي العراقية، فلقد تحدثنا عن مشاريع إيران على نهري
كارون وكرخه، والآن نتحدث عن مشاريع أخرى قد تم تنفيذها سابقاً أو في الوقت
الحاضر على أنهر وجداول دولية مشتركة مع العراق. علما ان مشاريع ايران على نهري
الزاب و ديالى تعتبر من المشاريع الصغيرة او المتوسطة قياسا بالمشاريع العراقية
او التركية ، و ذلك لان هذين النهرين يجريان لمسافة قصيرة في ايران ، و يدخلان
الاراضي العراقية التي تعتبر المجرى الرئيسي لهما . اضافة الى ذلك ان الاراضي
التي يمران بها في ايران وعرة جدا مما يزيد في صعوبة و كلف مشاريع الري كالسدود
و غيرها . ان هذا الامر لا يعني توقف ايران عن المضي بمشاريع في المستقبل على
هذين النهرين ، وخصوصا عند ازدياد حدة شحة المياه لديها ، مما يستوجب المراقبة
الدائمة للمشاريع الاروائية الايرانية عليهما و التدخل لايقافها .
* مشروع خزان قشلاغ
تم انجازه على جدول قشلاغ ـ أحد جداول نهر ديالى، وذلك في سنة 1978. يبلغ
ارتفاع السد (70)م وطوله عند القمة (200)م وسعته الخزنية (960)مليون م3.
* مشروع سد وخزان كرزال
أقيم على الزاب الصغير بسعة إجمالية قدرها (1.080)كم3، مع إنتاج طاقة كهربائية
مقدارها 40 ميكاواط/ساعة سنوياً.
* مشروع سد وخزان بريسو
أقيم في حوض الزاب الصغير بسعة (1.18)كم3، مع إنتاج طاقة كهربائية 70
ميكاواط/ساعة سنوياً.
* هناك مشروع تحت الدراسة، وهو سد كاوشان، يهدف نقل (260)مليون م3 من
المياه سنوياً، من حوض رافد سيروان (ديالى) إلى حوض نهر كرخه لري أراضي تقدر بـ
(300) ألف هكتار، ضمن حدود نهر كرخه.
إن المخطط الإيراني هو استثمار (1.3)كم3 من مياه حوض ديالى والزاب الصغير
لإرواء ما يعادل (136) ألف هكتار.
إنني آثرت أن أتحدث عن هذه المشاريع في هذا الفصل، المتعلق بالنزاعات مع دول
الجوار، بدلاً من الحديث عنها في الفصل الخامس من هذه الدراسة "5- مشاريع الري
في دول الجوار والمؤثرة في العراق"، في القسم ب والمتعلق بإيران، لأن الإعلام
الحالي لا يشير إليها وإنما يشير إلى الأنهر الصغيرة فقط، والتي كانت تغذي
البساتين على الحدود الوسطى والجنوبية من العراق.
وسنتحدث أدناه عن بعض الأحداث المتعلقة بهذه المجاري:
* نهر الوند
إن رافد الوند كان يروي ما يقارب من (50) ألف دونم من الأراضي الزراعية
والبساتين في محافظة ديالى، وبعد أن قامت إيران بتحويل مياهه إلى داخل أراضيها،
أدى ذلك إلى تقلص المساحة الزراعية في العراق وجفاف البساتين ونقص مياه الشرب.
إن نهر الوند كان يغذي خانقين، وباشرت إيران بالتجاوز عليه وبدون المشاورة مع
العراق منذ سنة 1953، وحاول العراق ثني إيران عن توجهاتها بالطرق الدبلوماسية،
إذ أعلمها بمذكرات رسمية أن الحد الأدنى الداخل إلى العراق والبالغ
(58)م3/الثانية قد يتقلص إلى (2)م3/الثانية في حالة تنفيذ مشاريعها، ووعد
الجانب الإيراني بدراسة القضية, إلاّ أن إيران، انتهزت الفرصة بعد ثورة 14 تموز
1958 وباشرت بتنفيذ مشاريعها رغم احتجاج الحكومة العراقية وزيادة التوترات بين
البلدين، واضطرت الحكومة العراقية، وبسرعة كبيرة، إلى العمل على تعويض النقص في
المياه بإنشاء نهر "بلاجو" وتوسيعه وتوصيل المياه من نهر ديالى إلى خانقين
بمعدل (6)م3/الثانية لإحياء بساتينها. وكذلك عملت على حفر عدد من الآبار في
مدينة خانقين، وبعد ذلك اضطرت إلى نصب المضخات اللازمة لرفع وتوصيل المياه.
* نهر كنكير
كان مجرى نهر كنكير يروي ما يقارب (32.5)ألف هكتار ـ أي (130) ألف دونم من
الأراضي الزراعية والبساتين في قضاء مندلي ونواحيها. ولقد حدثت مشاكل كبيرة على
الحدود في سنوات 1935، و1939، و1947 بسبب قطع المياه عن الجانب العراقي، رغم أن
محاضر الجلسات الحدودية لسنة 1914 تثبت أن حصة قضاء مندلي من مياه مجرى كنلير
تبلغ النصف. إن انقطاع الماء أدى إلى هلاك 30% من البساتين، وانعدام زراعة
الخضروات الصيفية وهجرة عدد كبير من الأهالي.
* نهر كنجان جم
وهذا المجرى يشكل خط الحدود لمسافة (13)كم مع إيران في منطقة بدرة وجصان (في
محافظة واسط). وأن محاضر سنة 1914 تثبت أن ثلثي مياه المجرى للعراق، وثلثه
لإيران. ولكن الجانب الإيراني ادعى أن حصة العراق 2/5 من المياه، بعد أن باشرت
إيران في توطين العشائر الإيرانية في سنة 1931 حول حوضه، وزاد التجاوز على
مياهه بعد تشييد سد على الجانب الإيراني من النهر، ولذا تقلصت المساحات
الزراعية في الجانب العراقي من (250) ألف دونم إلى (60) ألف دونم فقط نتيجة
بناء سدود وفتح قنوات وأراض زراعية في الجانب الإيراني.
* نهر الطيب
لقد قطعت الجهات الإيرانية مياه هذا المجرى في سنة 1967 عن هور الحويزة، مما
اضطر المزارعين العراقيين إلى استخدام المضخات لرفع قسم من المياه لإدامة ما
تبقى من زراعتهم.
* نهر دويريج
تقلصت الأراضي الزراعية داخل العراق من (70) ألف دونم إلى (40) ألف دونم،
بالإضافة إلى اضطرار المزارعين استخدام مضخات الماء.
ثانياً: تركيا
قد يكون من المفضل، ولمعرفة الموقف التركي من قضية مياه دجلة والفرات
وروافدهما، والذي أدى وسيستمر يؤدي إلى نزاعات بين تركيا والعراق (وكذلك تركيا
وسوريا)، هو اطلاع القارئ على بعض أقوال القادة الأتراك حول الموضوع، وكذلك ما
جاء في بعض الوثائق الرسمية التركية، لنصل بعدها إلى الموقف التركي الرسمي
الحالي .
1-
فيما يلي أمثلة لبعض التصريحات والمواقف الرسمية، ( وهي ليست حسب التسلسل
الزمني لهذه التصريحات ) .
* جرت في أنقرة في أيار 1974 مفاوضات ثلاثية حول إملاء خزاني كيبان والطبقة،
أظهر خلالها الوفد التركي أن "إملاء خزان كيبان من حق تركيا، و لها ان تتصرف به
كما تشاء دون ضرورة لأخذ موافقة أية جهة كانت ... إن الحكومة التركية في الوقت
الذي تحترم فيه حقوق الأقطار المجاورة في المياه المشتركة بينهما، تتمسك بحقوق
الشعب التركي وتضمن مصلحته بالدرجة الأولى، انطلاقاً من مبدأ سيادة تركيا على
مصادرها الطبيعية".
* قال سليمان ديميريل ـ عندما كان يشغل منصب رئيس وزراء تركيا ـ في 6/5/1990: "
إن لتركيا حق السيادة على مواردها المائية، ولا ينبغي أن تخلق السدود التي
تبنيها على دجلة والفرات أية مشكلة دولية، ويجب أن يدرك الجميع أن لا نهر
الفرات، ولا نهر دجلة من الأنهار الدولية، فهما من الأنهار التركية حتى النقطة
التي يغادران فيها الإقليم التركي، فالنهر لا يمكن اعتباره نهراً دولياً إلاّ
إذا كان يشكل الحدود بين دولتين أو أكثر، ولكل دولة حقها الطبيعي في استغلال
مواردها المائية كما تشاء، وليس لأية دولة أخرى الحق في الاعتراض على ذلك".
وقال ديميريل في مناسبة أخرى: "ليس لسوريا أو العراق أي حق في المياه التي تنبع
من تركيا، وأن حكومته غير مستعدة لتقديم أية ضمانات مستقبلية فيما يتعلق بكميات
المياه التي ستتركها لسوريا والعراق من نهري دجلة والفرات "!!.
* وقال ديميريل كذلك : "إذا كانت الثروة الطبيعية في بلدنا فلنا الحق في
استخدامها بالطريقة التي نراها مناسبة. إن المياه تنبع من تركيا ولا يمكن لدول
المجرى الأدنى أن تعلمنا كيفية استعمال ثرواتنا. هناك منابع نفط في كثير من
البلدان العربية، ونحن لا نتدخل في كيفية استخدامها".
* قال سليمان ديميريل في 28/3/1996: "إن القانون الدولي لا يفرض على بلاده
التوصل إلى أي نوع من الاتفاق أو الوثيقة المكتوبة مع الدول الأخرى حول موارد
المياه"، وأضاف أنه: " لا يوجد قانون دولي حول المجاري العابرة للحدود، وكل ما
يمكن أن تتوقعه هو الإنصاف، أي أن لا تضر بالدول التي يعبرها المجرى المائي".
عندما قال ديميريل مقولته هذه، كان "القانون الدولي" الصادر في 1997 في مراحله
الأخيرة، ولكنه لم يصادق عليه حتى الآن.
* قال سليمان ديميريل أيضا : "إن حجم المياه المتدفقة عبر الحدود إلى سوريا هو
أكثر من عشر مرات قدر حاجتها. كما وستضمن السدود القائمة والتي هي قيد الإنشاء،
وفي ظل تقلب التصريف المائي الفصلي والسنوي بفعل تغيير الأحوال الجوية تدفقاً
مستمراً للجارين الجنوبيين، والماء الذي سيحتجز هو فقط الماء الذي يذهب هدراً
في الجزء الذي لا يمكن لأي منهما أن يستفيد منه، وبما أن السدود تقوم بتنظيم
التقلبات الفصلية فهي تمنع هدر المياه وتحمي بلدان أسفل النهر من الفيضان
والجفاف على حد سواء".
* قال توركت أوزال رئيس الجمهورية التركية الأسبق في 6/5/1991: "إن لم يصدر
العرق النفط عبر الأراضي التركية فإنه لن يكون هناك ماء للعراق".!!
* قال حكمت تشتين، وزير الخارجية التركية الأسبق، عند زيارته لإسرائيل سنة
1992: "إن تركيا تمتلك ثروة مائية على جانب كبير من الأهمية وإن من حقها بيع
هذه الثروة لمن تريد وحجبها عن الدول التي تعرض مصالح تركيا للخطر، وأن من حق
تركيا المتاجرة بالمياه مثلما يتاجر الآخرون بالنفط ويحتكرون عائداته... وأن
تركيا على استعداد لتزويد إسرائيل بأية كمية تحتاج إليها من المياه دون أن تعبأ
بمعارضة الدول المستفيدة من مصادر المياه التركية، لذلك يجوز لها التصرف بهذه
المصادر على وفق مصالحها".
* قال توركت أوزال عند زيارته للعراق بين 1 ـ 3 نيسان: " إن النقص الملاحظ في
المياه التي تصل العراق عبر سوريا مشكلة يجب على العراق تسويتها مع سوريا"!!.
وهو هنا يحاول أن يفرق بين سوريا والعراق، حيث لهما موقف مشترك حول هذه القضية.
* جاء في مذكرة السفارة التركية إلى وزارة الخارجية السورية عدد (95) بتاريخ
20/12/ 1995، (وذلك جواباً على مذكرة وزارة الخارجية السورية إلى الحكومة
التركية في 2/12/1995)، الملاحظات التالية:
- " إن القانون المتعلق باستخدام المياه العابرة للحدود وغير المخصصة للملاحة،
لا يزال قيد التطور بغية إعداد وثيقة إطارية، إلاّ أن هذا القانون لم تنته
صياغته بشكل بعد. وتوجد هناك صعوبة أخرى ناشئة من حقيقة أنه لا يوجد هناك
ممارسة دولية واحدة، وهذا يعود إلى سبب رئيسي وليس وحيداً، وهو التنوع الكبير
في مجاري المياه العابرة للحدود ومواصفاتها والحاجات الإنسانية التي تخدمها ".
يلاحظ القارئ أن الجانب التركي يستخدم " المياه العابرة للحدود"، بدلاً من
الأنهر الدولية. كما أنه يتحدث، وهو في أواخر 1995، عن القانون الذي أقر في
الأمم المتحدة في سنة 1997 ولم يصادق عليه الآن، وكما سنوضح ذلك لاحقاً. ولكنه
في الوقت الذي يذكر كلمة "قانون"، فإنه يقول "بغية إعداد وثيقة إطارية".
هذا وأن مذكرة وزارة الخارجية السورية في 12/12/1995، كانت قد ذكرت: " إذا كانت
تركيا، كما صرحت بذلك في أكثر من مناسبة، تعتبر أن النهر الدولي الذي تنطبق
عليه القواعد القانونية الدولية، هو النهر المتاخم، أي الذي يفصل بين دولتين،
وليس النهر التعاقبي، أي الذي يجتاز أكثر من دولة. فإن هذا التفسير غير مقبول
بنظر القانون والممارسة الدولية، لأننا إذا نفينا الصفة الدولية عن الأنهار
التعاقبية، فلن يكون عند ذاك نهر النيل والسند والنيجر والسنغال والراين
والدانوب والمكسيك وكولومبيا وغيرها أنهاراً دولية حسب المفهوم التركي ".
ـ تضيف المذكرة آنفة الذكر :
" إن فهم تركيا لـ (قسمة المياه) كما تم التأكيد عليه خلال التطورات الأخيرة في
القانون الدولي، كان ولا يزال، لا يعني قسمة المياه بين الدول المعنية، بل يعني
(قسمة استخدامات المياه) على أساس معقول ومنصف آخذين بنظر الاعتبار كافة
العوامل والظروف ذات الصلة ".
ـ " إن السدود التي أثارت عليها سوريا الاعتراضات في الماضي، هي عينها التي
نظمت تدفق المياه العابرة للحدود قيد النظر... وفي حقيقة الأمر فإن هذه السدود
تعود على تركيا وسوريا بالفوائد عن طريق تنظيم المجرى المائي وحمايته ضد
الفيضان والجفاف ".
ـ وتضيف المذكرة: " أن الخطة ذات المراحل الثلاث، والمقترح تنفيذها بشكل جماعي
من قبل الأطراف التركية والسورية والعراقية، لا تزال مطروحة على الطاولة، وهي
تهدف إلى إجراء جرد للموارد المائية في المنطقة، وتقييم التقنيات المستخدمة
حالياً في الري، وتركيب التربة، وأصناف المحاصيل وطرق الزراعة، وأخيراً تحديد
الحاجات المائية والسياسات للتعامل مع هذه الحاجات، بواسطة الاستخدام الأمثل
للموارد الشحيحة في البلدان المعنية ".
إن الجانب التركي يلمح في اعلاه ، إلى عدم كفاءة استخدام المياه في سوريا
والعراق ويشير بصورة غير مباشرة إلى ملوحة التربة، والتي تعني استهلاكاً أعلى
للمياه، وذلك باستخدامه تعبير "تركيب التربة". أما مسألة "تقاسم المياه" حسب
الفهم التركي، فإنها قد وصفت في المذكرة أدناه.
* مذكرة سفارة الجمهورية التركية إلى وزارة الخارجية العراقية مؤرخة في
25/1/1996، جواباً على مذكرة وزارة الخارجية العراقية إلى الحكومة التركية في
في4/1/1996.
تعيد المذكرة التركية تقريباً نفس ما جاء في مذكرتها إلى سوريا، مع ذكر ما يلي:
"خلافاً للإشارات الواردة في مذكرة الوزارة ـ أي وزارة الخارجية العراقية ـ فإن
تطور قانون استخدامات المياه العابرة للحدود في الأغراض غير الملاحية، يجري
باتجاه صياغة اتفاقية إطارية. ولكن هذا القانون لم يكتمل بعد، كما أنه لا يوجد
عرف دولي موحد، والسبب الرئيس لذلك، وليس الوحيد، هو التنوع واختلاف خصائص
المجاري المائية العابرة للحدود، والحاجات الإنسانية التي تلبيها. ومع ذلك فإن
قاعدة الاستغلال المنصف والمعقول للمياه، هي المبدأ الموجه بالنسبة إلى مصالح
الدول المتشاطئة لتحقيق أمثل استخدام ومنافع من تلك المياه، بما ينسجم مع توفير
الحماية الكافية والمحافظة عليها. "وتستمر المذكرة لتقول: "وفي هذا الصدد فإن
الفكرة القائلة بأن المجاري المائية العابرة للحدود هي مورد طبيعي يمكن
(تقاسمه)، قد رفضت بشكل قاطع منذ بداية العمل الهادف إلى صياغة اتفاقية دولية
إطارية بشأن الموضوع. كما أن مصطلحي (الحصص) و(التوزيع) غير مقبولين أيضاً. وإن
المفهوم المركزي هو (الاستغلال والاستخدام)، وعندما نتحدث عن (تخصيص المياه)،
فإن ما نفهمه هو ليس توزيع المياه بين البلدان المعنية، وإنما (تخصيص استخدامات
المياه) على أسس منصفة ومعقولة، آخذين بالحسبان كل العوامل ذات الصلة، وقد تأكد
هذا التعريف، في التطورات الحديثة في القانون الدولي".
يلاحظ هنا بأن رد السفارة التركية يشير كثيراً إلى "القانون" الذي كان يناقش في
حينه في أروقة الأمم المتحدة، وكأنه يتفق معه، ولكن ما سنلاحظه لاحقاً أن تركيا
لم تصادق عليه فقط، وإنما رفضته أصلاً وكانت إحدى الدول الثلاث التي لم توافق
عليه.
2ـ موجز للموقف التركي
لقد اعتمدت في هذا الجزء من الدراسة على الكتاب القيم للدكتور سليمان عبد الله
إسماعيل، الذي أشرت إليه في عدة أماكن من هذه الدراسة، كما اعتمدت على كتاب آخر
قيم هو "النهر الدولي" للدكتور صبحي أحمد زهير العادلي. وفي كل الأحوال فإن
الموجز أدناه نجده في أقوال المسؤولين الأتراك والمذكرات الرسمية التي ذكرناها
في الفقرة السابقة.
(أ)
تعد تركيا حوض دجلة والفرات حوضاً مائياً واحداً، وهما رافدان لنهر واحد هو شط
العرب. ولهذا فإنها لا تعتبر تحويلها مجرى بحيرة هزار، وهي المنبع التقليدي
لنهر دجلة، إلى حوض الفرات بواسطة نفق خاص لسقي السهول في الجهة الشمالية
المعاكسة، بأنه تلاعب بمجرى دجلة.
يعرّف حوض النهر بأنه مجموعة المساحات التي تنساب مياهها إلى جداول أو سيول أو
روافد أو أنهر أو نظام الروافد والأنهر حيث يتصل أحدها بالآخر بشكل تنساب إليه
كافة المياه لتصب في النهاية في مجرى واحد.
وعلى هذا الأساس طرحت في اجتماع اللجنة الفنية المشتركة في تشرين الثاني 1984
ولأول مرة خطتها ذات المراحل الثلاث، وكررت طرحها في اجتماع وزراء الخارجية في
حزيران 1990، وكذلك أشارت إليها بوضوح في مذكرة السفارة التركية إلى وزارة
الخارجية في 20/12/1995، المشار إليها في (أولاً) أعلاه، وتتلخص بما يلي:
(1)
ينظر إلى الحدود السياسية لمجموع البلدان المتشاطئة في حوض (دجلة والفرات)
كحدود غير قائمة.
(2)
ينظر إلى دجلة والفرات على أساس أنهما يشكلان مصدراً مائياً واحداً، عابرين
للحدود، ينبعان من منطقة واحدة ويصبان في مصدر واحد ويلتقيان في شط العرب. كذلك
يتصلان من خلال نظام الري الصناعي الذي يتم نصبه في العراق، وهو نهر دجلة ـ
قناة دجلة/الثرثار ـ منخفض الثرثار ـ قناة الثرثار/الفرات ـ نهر الفرات.
(3)
مسح موارد المياه والأراضي، وأن تعد البيانات بصورة مشتركة.
(4)
ستتبنى جميع الأطراف دون استثناء مبدأ الاستخدام المشترك بدلاً من مبدأ السيادة
المشتركة، وهكذا فإنه سيحق لدولة المجرى العليا ـ تركيا في هذه الحالة ـ أن
تستفيد من مياه بلدان أسفل النهر، والعكس صحيح. وهذا سيؤدي إلى التطبيق الفعلي
لمبدأ منع أحداث الضرر الملموس.
في الواقع إن تطبيق السياسة أعلاه، خصوصاً وأن تركيا كانت في أوج قوتها والعراق
وسوريا كانا في أدنى درجات ضعفهما، حيث كان العراق يخوض معركة منهكة مع إيران،
وفي صراع عنيف مع سوريا التي كانت تؤازر إيران المنهكة أيضاً، فإن النتيجة تكون
استحواذ تركيا على المياه والأراضي في البلدين!!.
(ب)
حتى لو اعتبرت تركيا دجلة والفرات نهرين منفصلين، فإن تركيا لا تعترف بهما
كنهرين دوليين أصلاً، و انما تعتبرهما نهرين عابرين للحدود. وتعرّف تركيا
النهر/أو المجرى الدولي، بأنها مجارٍ تقع إحدى ضفتيها ضمن حدود دولة، وتقع
الضفة الأخرى ضمن حدود دولة ثانية، ليمر خط الحدود في منتصف المجرى المائي، أما
المجرى/النهر العابر للحدود فيخضع للسيادة المطلقة للدولة التي ينبع منها.
وعليه فإن من حقها أن تتصرف في كمية المياه التي تمنحها للدولة الحوضية الأخرى،
بينما تستخدم هي ما تشاء لسد حاجتها من مياه النهرين حاضراً ومستقبلاً. وكما
يقول الدكتور سليمان في كتابه، أن هذا الفهم يعني "تتريك النهرين وإضفاء هذا
النعت عليهما".
إن في تعريف تركيا أعلاه للأنهر الدولية ثغرة ليست في صالح تركيا، (بالإضافة
إلى أن تعريفها للانهر الدولية غير صحيح أصلاً )، وذلك فيما يتعلق بنهر دجلة.
حيث أن دجلة واعتباراً من مدينة جزرة التركية الحدودية، يؤلف الحدود السورية
لمسافة (44)كم، منها (37)كم حدوداً بين تركيا وسوريا و(7)كم تشكل جزءاً من
الحدود السورية العراقية. فهل كانت تركيا ستوقع اتفاقية شبيهة بما وقعتها مع
الاتحاد السوفيتي السابق (أرمينيا وجورجيا في الوقت الحاضر)، بتقاسم المياه،
وعدم التلاعب بمياه النهر دون موافقة الدولة "الحدودية" المقابلة وبغض النظر عن
من هي دولة المنبع أو المسافة التي يسير بها النهر؟!!.
(ج)
ترفض تركيا مبدأ تقسيم مياه نهري دجلة والفرات أو توزيعهما أو محاصصتهما، وتطرح
بدلاً عن ذلك مبدأ (تخصيص استخدام المياه) وفقاً لدراسات مشتركة لمشاريع الري
والزراعة في البلدان المتشاطئة، وتعتمد هذه على دراسات جدوى فنية واقتصادية
تنتهي إلى إعطاء الأولوية لاستثمار المياه في مشاريع الري وفق مبدأ الاستعمال "
الأمثل والأكفأ " للمياه، وكما مبين في خطتها ذات المراحل الثلاث التي أشرنا
إليها في (أ) أعلاه.
(د)
تقوم السياسة المائية التركية على حق السيادة المطلقة لتركيا على مواردها
المائية في "حوض" دجلة والفرات داخل أراضيها، ولذلك تصرفت بشكل مطلق بمياه
النهرين، ومن خلال تشييد السدود والمشاريع الإروائية والزراعية، ولا تزال
مستمرة بنهج مقارب، من دون "مراعاة" حقوق الدول المتشاطئة معها.
علينا ملاحظة أن مناطق جنوب شرق الأناضول متأخرة اقتصادياً، وغير مستقرة، كما
لا يوجد فيها موارد طبيعية أخرى، لذا فإن تركيا تؤكد دائماً على أن مشاريعها
تعمل لسد الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لسكان المنطقة وضمان استقرارهم، وأن
الأولوية الأولى للمياه وبدون منازع هي للأتراك. كما وأنها ترفض المطالب
السورية والعراقية بخصوص احتياجاتهما المائية واعتبار تلك المطالب مبالغا فيها،
وأن كمية المياه التي "تمنحها" لكلا البلدين تعد أكثر من كافية لحاجتهما
الفعلية، وأن كل ما تقوم به هو حجز الماء الذي يذهب هدراً في هاتين الدولتين.
وهي في هذا الجانب تتحدث عن الواقع الحقيقي الفعلي، إذ لم ينفذ العراق خطته
العَشرية المائية/الزراعية، التي أشرنا إليها في سياق هذه الدراسة، وكانت نتيجة
عدم تنفيذها هو الهدر المستمر للمياه في العراق.
(هـ)
مما سبق، نعلم أن تركيا لا توافق على عقد اتفاقيات ثنائية مع العراق وسوريا
تتعلق بالحصص المائية أو تقسيم المياه، بحجة أن القانون الدولي لا يجبرها على
ذلك.
كما أنها لا تعترف بمبدأ "الحقوق المكتسبة"، ولم تقبل إدراج هذا المبدأ في أي
جدول لاجتماعات اللجان الثنائية أو الثلاثية حول المياه، والاستعاضة عنه بتعبير
"الاستعمالات الحالية"، أو "الاستعمالات الحالية المفيدة". في نفس الوقت فإنها
لا تمانع في حل المشاكل القائمة مع الجارين الجنوبيين، وبضمنها "الاستخدام
العادل والمعقول والأمثل" لمياه "حوض الفرات ودجلة"، وأن تعامل مسألة "الحقوق
المكتسبة" كإحدى العوامل ذات العلاقة بجانب العوامل الكثيرة الأخرى.
لقد كانت تركيا، وفي جميع مفاوضاتها السابقة، تحاول أن لا يوجد موقف موحد
لسوريا والعراق ضدها، وذلك بخلق جو الريبة والشك بين العراق وسوريا حول المياه،
ولقد ساعد في ذلك الجو السياسي " المشحون " جداً بين البلدين، وخصوصاً في
الثمانينات والنصف الأول من التسعينيات من القرن الماضي، وما يحدث الآن أيضاً
هو استمرار لما بدأ بعد الاحتلال. إضافة لذلك فإن تركيا كانت تماطل دائماً في
المفاوضات، ولا تقطع الحبل نهائياً، وذلك لكسب الوقت لإكمال مشاريعها وخلق
"الأمر الواقع"، منتهزة فرصة حرب العراق مع إيران، وثم دخول العراق الكويت وما
تبعه من حصار قاس. وكذلك استمرار سياسة التنافر المستمر التي اتبعها العراق
تجاه سوريا، مما أضعف موقف البلدين، إضافة لذلك ضعف العراق سياسياً واقتصادياً
وعسكرياً، نتيجة السياسات الرعناء أو الفاشلة .
في هذه الأثناء كانت الأمم المتحدة تحاول أن تطور قانوناً للمياه الدولية
للأغراض الاخرى غير الملاحية. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه تركيا تراقب هذا
التطور وتحاول معارضته أو عرقلته أو تأخير صدوره، كان العراق منغمسا بحروبه وثم
بحصاره وعدم تنفيذه لمشاريع الري أو الزراعة، مما أضعف موقفه وزاد من عزلته
الدولية، وعطل مصادقة مختلف الدول على مشروع القانون الذي صدر في 1997، والذي
لا يزال غير فعّال.
ثالثاُ: سوريا
إن موقع سوريا الجغرافي جعلها في موقف محرج مع الجارة الشمالية تركيا، ومع
الجار الشرقي العراق، فهي دولة المجرى الأدنى بالنسبة لتركيا، ودولة المجرى
العليا بالنسبة للعراق، ولهذا نرى في بعض الأحيان نوعا من الازدواجية في
طروحاتها تجاه تركيا والعراق بالنسبة لسياستها المائية، لاسيما أن العلاقات
السياسية متوترة بين العراق وسوريا في معظم الأحيان. كما وأن الملجأ الرئيسي
لحزب العمال الكردستاني التركي كان سوريا مما جعلها في وضع تستطيع الضغط فيه
على تركيا، والعكس صحيح. ولكن عندما تستخدم تركيا سلاح الماء في الضغط على
سوريا، فإنها في نفس الوقت تؤثر على العراق.
على العموم تتشابه السياسة المائية السورية جداً مع موقف العراق بما يتعلق
بالموقف من تركيا، وفيما يلي أبرز ملامحها:
(1) ـ
تؤكد سوريا بأن دجلة والفرات مجار مائية دولية،وعليه تنطبق عليهما مبادئ
القانون الدولي من حيث تقاسم المياه.
إضافة لذلك فإن نهر دجلة يشكل حدوداً مشتركة لكل من سوريا وتركيا، وكذلك سوريا
والعراق. كذلك فإن بعض روافد دجلة، مثل الخابور، والزاب الكبير، فإنهما أيضاً
يشكلان قسما من الحدود بين العراق وتركيا، لهذا فإن المفهوم التركي للأنهار
الدولية يمكن أن يطبق أيضاً في مثل هذه الحالات، رغم رفض العراق وسوريا لهذا
المفهوم.
(2) ـ
إن حوض الفرات مستقل عن حوض دجلة، وكونهما يلتقيان في شط العرب، لا يجعل
منهما حوضاً واحداً.
باعتقادي أن تأكيد تركيا على أن حوضي الفرات ودجلة هما حوض واحد، مع ذكرها
موضوع إيصال دجلة بالفرات من خلال الثرثار ـ وكما ذكرنا سابقاً ـ يخدم غرضين.
الأول يعطيها حرية للحركة أكثر بالنسبة لتحويل مجرى مياه أحد النهرين إلى مناطق
حوض النهرالآخر. والغرض الثاني أنه سيمكنها التحاسب من على مجمل المياه
الواصلة إل سوريا والعراق سواء تم تزويد المياه من دجلة أو من الفرات. إن هذا
الأمر قد يفيد العراق في حالة وجود اتصال فعلي بين دجلة والفرات، مثلاً من خلال
الثرثار (بعد تحليته). ولكن هذا الأمر لا يفيد سوريا، إذ أن الاتصال سيكون داخل
العراق، كما وأن لسوريا مشاريعها الخاصة بالنسبة لدجلة.
(3) ـ
تؤكد سوريا على مبدأ تقسيم مياه دجلة والفرات، وأن هذا الأمر حق من الحقوق،
ويجب أن يتم ذلك من خلال اتفاقيات ثنائية أو ثلاثية، كما وأن ما يصل حدودها أو
حدود العراق من مياه دجلة و الفرات ، ليس منّة من أحد، بل حق شرعي وفق الأعراف
الدولية، ووفق بروتوكول عام 1987 الموقع بين تركيا وسوريا.
هذا وأن سوريا كانت قد وقعت بروتوكولاً مع تركيا، في تموز 1987 يتعهد فيه
الجانب التركي بتوفير (500)م3/الثانية من مياه الفرات على الحدود
التركية/السورية لتوزيعها بين القطرين العراق وسوريا، وفي الحالات التي يكون
فيها الجريان الشهري دون مستوى (500)م3/الثانية، فإن الجانب التركي يوافق على
أن يعوض الفرق خلال الشهر التالي. كما وأن الجانبين سيعملان مع الجانب العراقي
لتوزيع مياه نهري دجلة والفرات في أقرب وقت ممكن. وهذا البروتوكول خطوة متقدمة،
إذ لأول مرة يوافق الجانب التركي على مبدأ توزيع مياه دجلة والفرات، وتحديد حصة
للفرات. علماً أن البروتوكول لم يحدد الحد الأدنى للحصة في الفرات، ولكن وعد
الجانب التركي بتعويضها في الأشهر القادمة، في حالة نقصانها عن 500 م3/الثانية،
يشكل مشكلة كبيرة في حالة عدم وجود سدود أو خزانات كافية في العراق أو سوريا.
هذا ولقد تم اتفاق سوري ـ عراقي في نيسان 1988، اتفق فيه الجانبان أن تكون حصة
العراق 58% من مجمل مياه الفرات الممررة إلى سوريا، و42% إلى وسوريا.
لقد طالب الجانبان العراقي والسوري من تركيا زيادة التصريف السنوي لاحقا من
(500) إلى (700)م3/الثانية لعدم كفاية المياه لتلبية احنياجاتهما، وقد رفض
الأتراك الطلب، ورأي سليمان ديميريل أن كمية (500)م3/الثانية هي كمية عالية بحد
ذاتها، وتعتبر رقماً عشوائياً وافق عليه توركت أوزال، وهي تفيض عن حاجة سوريا
والعراق، إلاّ أنه لا يمكن أن يتراجع عنها نظراً لوجود بروتوكول 1987 الذي يحكم
العلاقة المائية بين البلدين.
علماً أن معظم الدلائل تشير إلى أن بروتوكول 1987، هو نتيجة جهود سياسية تركية
لوضع حد لأنشطة حزب العمال الكردستاني. إذ سبق وأن أعلنت تركيا في أواخر سنة
1986، بأنها اكتشفت مخططاً لتدمير سد أتاتورك من قبل مجموعة مؤلفة من (12)
عنصراً من حزب العمال الكردستاني وبدعم سوري، الأمر الذي جعل الأتراك يفكرون في
طريقة لوضع حد لنشاط هذا الحزب من داخل سوريا. لهذا زار توركت أوزال، رئيس
الوزراء التركي ألأسبق، سوريا في تموز 1987، وأبرم البروتوكول المذكور أعلاه،
كما أبرم اتفاقية أمنية تعهدت سوريا فيها بوضع حد لأنشطة حزب العمال الكردستاني
المسلحة ضد تركيا عن طريق الأراضي السورية. إضافة لذلك فإن البنك الدولي لم يكن
ليوافق على منح قروض لتركيا لإكمال سدودها، إلاّ بشرط قيام تركيا بتزويد العراق
وسوريا بكمية مياه من نهر الفرات لا تقل عن (500)م3/الثانية ، و هذا الامر لم
تكن تعرفه سوريا عندما وقعت اتفاقيتها مع تركيا في 1987 ، او يعرفه العراق
عندما وقع اتفاقيته مع سوريا في 1988 ، و المشار اليه في كل من الاتفاقيتين
سابقا .
(4)
على أثر تحديد حصة سوريا والعراق من الفرات، وعدم التمكن من الضغط على تركيا
لزيادة الحصة، وأيضاً على أثر الطلب المتزايد على الماء في حوض الفرات في
العراق، مما يزيد من الضغط على سوريا لإطلاق مياه الفرات للعراق، بدأت سوريا
بمشاريع للري على دجلة سواء باستغلال المناطق القريبة من حوض دجلة، وخصوصاً تلك
المناطق الواقعة بين مجرى دجلة وروافد الخابور، أو محاولة تحويل جزء من مياه
دجلة إلى المجرى الرئيسي للفرات أو إلى رافده في سوريا الخابور، كذلك نقل بعض
مياه الفرات إلى حوض دمشق.
إن المشروع السوري الوحيد "المنفذ" على دجلة لحد سنة 2007، هو "مشروع ري دجلة
الكبير"، حيث اقيمت محطة على نهر دجلة، بسعة (48)م3/الثانية (أي 1.5)كم3/السنة،
لتضخ المياه إلى قناة عين ديوار الموجودة حالياً، ثم شق قناة جديدة تمتد من
قناة عين ديوار بطول (25)كم لإرواء حوالي (15) ألف هكتار في محطة المالكية،
علماً يوجد سد في المالكية لاستقبال مياه دجلة بسعة (718) مليون متر مكعب،
(منها فقط 7 مليون متر مكعب في مرحلته الأولى)، ولا توجد معلومات لدي عن مدى
استكمال المشروع واستغلاله.
هذا و كانت سوريا قد أجرت دراسات في منتصف الثمانينات بمساعدة شركة بلغارية
لدراسة مدى إمكانية استفادة سوريا من مياه دجلة، ودراسة إمكانية وجود الأراضي
الزراعية الملائمة. غطت الدراسة ما يعادل (532) ألف هكتار، وأدت إلى نتيجة
مفادها أن مجمل الأراضي القابلة للزراعة تبلغ (482) ألف هكتار، منها (444) ألف
هكتار ضمن تصنيف الدرجتين الأولى والثانية حسب التصنيف الأميركي. ثم أجريت
دراسة نهائية تفصيلية لمساحة (150) ألف هكتار. ولكن وجود المجرى الصعب لدجلة في
تلك المنطقة ، والتعقيد الكبير في محطات الضخ والأنفاق اللازمة، وصغر حجم
إمكانية التخزين في المنطقة والكلف المالية الضخمة المتوقعة، كل هذه الأمور
أخرت خطط سوريا لاستكمال حتى مشروع دجلة الكبير!!.
عودة الى
الفهرست >>