لنستمر في الدراسة . . .
الفصل الثاني
2-
لمحة تاريخية عن العراق
لقد كانت المنطقة التي يقع فيها العراق الحالي، ومنذ فجر التاريخ، مقسمة
جغرافياً إلى ثلاث مناطق: السهل الرسوبي في الجنوب وفي الشمال، والصحراء في
الغرب، والمنطقة الجبلية في الشمال والشمال الشرقي. ولقد أطلق المؤرخ اليوناني
بوليبوس
Polybus
(202-120 ق. م.) اسم ميزوبوتاميا
Mesopotamia
على هذه المنطقة، وهي كلمة يونانية (إغريقية) مكونة من مقطعين، الأول (ميزو)
مشتق من (ميزوس) وتعني وسط / مابين، أما المقطع الآخر (بوتاميا) فإنه مشتق من
كلمة (بوتاموس)، وتعني نهر، فأصبح المصطلح المعروف ميزوبوتاميا منذ ذلك الحين
وحتى الآن ببلاد مابين النهرين. علماً أن من المحتمل ظهور استعمال هذا المصطلح
قبل هذا التاريخ، وفي زمن الاسكندر الكبير (المقدوني)، (356-323 ق. م.)، والذي
احتل بابل في سنة (331 ق. م.). إن التوراة قد سمّت السهل الجنوبي، والمفروض قبل
هذا التاريخ، بأرض (شينار وشنعار)، وهي الكلمة الأكدية المكونة من مقطعين، أول
(شينا) ويعني إثنان، والمقطع الثاني (نار) وتعني نهر، وبهذا تعني (أرض
النهرين). هذا وأن الإمبراطورية الأكدية تعتبر أول إمبراطورية في التاريخ،
أسسها سرجون الأكدي، واستمرت 140 سنة (2371-2230 ق. م.)، وكانت عاصمتها أكد قرب
اليوسفية الحالية، وشملت مع ما شملت جميع حوضي النهرين وروافدهما(22).
أما المؤرخ اليوناني هيرودوتس
Herodotus
(484-425 ق. م.)، والذي يسمى "أبو التاريخ"، فلقد صدر كتابه "التاريخ
The Histories"
في (9) أجزاء متضمناً زيارته لهذه المنطقة، واستخدم فيه مصطلح بلاد بابل أو
"بابيلونيا" على القسم الجنوبي من السهل الرسوبي، وأن كلمة بابل لم تأت من
"بلبلة الألسن" كما تقول التوراة !!، وإنما من (باب – إيلو) أو (باب – إيليم)
والتي تعني في اللغة البابلية (باب الآلهة). كما أطلق هيرودوتس مصطلح (أسّريا)
على القسم الشمالي من السهل الرسوبي، وهي بلاد آشور.
لقد انتشر مصطلح ميزوبوتاميا بشكل واسع في العالم، وبالأخص في أوربا، وذلك بعد
ترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية في الاسكندرية (والمسماة بالترجمة
السبعينية)، في العهد السلوقي / البطليموسي، في القرن الثاني قبل الميلاد، حيث
ترجم المصطلح التوراتي (أرام نهرايم
Aram Nahraim)
إلى المصطلح ميزوبوتاميا. علماً أن مصطلح (أرام نهرايم) هو اسم لدولة أرامية
ظهرت في منطقة الفرات الأوسط (شمال سوريا) في أواخر القرن الثالث عشر قبل
الميلاد، والنهران المقصودان هما الفرات ورافده الخابور أو البليخ أو كليهما
معاً، واختفت هذه الدولة من الوجود عندما قضى عليها الآشوريون في القرن التاسع
قبل الميلاد.
في الواقع التاريخي فإن بلاد النهرين تسمية أقدم من ذلك بكثير، إذ حسب رأي
الدكتور أحمد سوسة، فإن "الكأس الفوار"، وهو شعار الساميين في العراق، حيث توجد
لوحات عديدة تبين الآله (أنكي)، إله المياه في مشهد ديني جالساً على عرشه
حاملاً بيده "الكأس / الإناء الفوار"، والذي يجري منه وبوضوح مجريان للماء
(دجلة والفرات)، كما أن هناك روافد أخرى، ويقدمها الإله إنكي إلى بني البشر(23).
أما بخصوص مصطلح "عراق"، فهناك اختلاف في أصل هذه الكلمة، فهي في اللغة العربية
قد تعني شاطئ البحر، وبهذا سميت هذه الأرض (عراق) لقربها من البحر (الخليج)، أو
لأنها على شاطئ دجلة والفرات، وكان أهل الحجاز يسمون البلاد القريبة من البحر
(عراقاً). وفي اللغة العربية أيضاً (أعرق أو تعرق) الشجر، إذا امتدت عروقه في
الأرض، وسمي (العراق) لكثرة عروق الأشجار في الأرض. كما وأن العراق أصل كل شيء،
والعريق: الرجل كريم الأصل. والعراق يطلق على شاطئ البحر والنهر طولاً. ويعتقد
بعض العلماء أن لفظة العراق جاءت من اللفظة الفارسية (إيراه)، أو (إيراك) وتعني
البلاد السفلى أو المنخفضة أو الجنوبية. وهناك آخرون يعتقدون أن أصلها تراث
رافديني قديم، أي أن العراق اشتقت من كلمة (أوروك
Oruk)،
أو (أنوك
Onuk).
ويذكر بعض المؤرخين أن أول استعمال لكلمة (العراق) كان قد جاء في العهد الكيشي
في وثيقة يرجع تاريخها إلى حدود القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وجاء فيها اسم
إقليم على هيئة (أريقا) الذي تحول حسب رأي المؤرخ أومستد إلى (عراق). أما زمن
شيوع مصطلح العراق، فلقد كان في بدء الأدوار الأخيرة للعهد الساساني بين
القرنين الخامس والسادس الميلادي، حيث بدأ استعماله يظهر في الشعر العربي
الجاهلي للدلالة على الجزء الجنوبي والوسطي من السهل الرسوبي، أما القسم
الشمالي من السهل الرسوبي فلقد كان يعرف بمنطقة الجزيرة ليشمل أيضاً حوضي نهري
الفرات ودجلة في تركيا الحالية، بالإضافة إلى شمال غرب العراق الحالي. ولقد
تطور مصطلح العراق، في العهد السلجوقي، ليشمل الأقسام الجنوبية والوسطى
والشمالية، علاوة على ذلك يشمل ما جاور العراق من المناطق الجبلية في إيران
وحتى همدان.
لقد أطلق العرب على السهل الجنوبي أرض السواد لكثرة غابات النخيل والزراعة
الكثيفة، ولكن للشاعر الرقيق الحزين "سميع داود" رأي آخر في تسمية العراق بأرض
السواد، إذ يخاطب، في مجموعته الشعرية "مراثي ميزوبوتاميا"، العراق وبحرقة
العراقيين المؤلمة التي تسمع أنينها كل دقيقة، تتجاوب مع الشاعر ...
فما دُعيتُ لفرطِ
ظلال نخيلٍ
ولكن للأسى
أرضَ السوادِ
لنرجع مرة أخرى إلى التاريخ فالحاضر كئيب كئيب كئيب ...
أما الحدود الحالية للعراق فلقد تبلورت في العهد العثماني (القرن التاسع عشر
الميلادي)، وفي بداية القرن العشرين، على إثر اتفاقية سايكس بيكو والاحتلال
البريطاني والمساومة على ولاية الموصل مع الفرنسيين والأتراك (والتي كانت تشمل
أيضاً إقليم كردستان العراق الحالي)، وذلك في العقدين الثاني والثالث من القرن
العشرين.
من أعلاه نرى أن اسم العراق، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بدجلة والفرات وشط العرب
والروافد، ولا يأتي اسم العراق إلاّ ويأتي معه تعبير النهرين أو ما بينهما.
هذا وأن اسم العراق (أو بلاد مابين النهرين) يربط دائماً، من قبل المؤرخين عبر
التاريخ، بالزراعة ومشاريع الري وخصوبة الأرض، والخير الزراعي الوفير. إن
المؤرخ اليوناني هيرودتس (484-425 ق. م.)، والذي أشرنا إليه سابقاً، يصف بابل
عن اطلاع مباشر - كما يقول في كتبه التاريخية(24) - فيقول بأنها:
"المدينة التي لا تضاهيها مدينة أخرى في العالم . . . يخترقها الفرات من الوسط
ودورها تتألف من ثلاثة إلى أربعة طوابق، بشوارع مستقيمة"، وهنا يتحدث عن بابل
التي كانت قد سقطت في سنة (541 ق. م.) على يد كورش الفارسي، أي أن ذلك بعد أكثر
من ستة عقود من سقوطها. والمهم أن ندون هنا ما ذكره هيرودتس حول خصوبة الأرض في
وادي الرافدين، حيث يقول: "إن أسيريا (آشور) وكمنطقة منتجة للحبوب، فإنها
الأغنى في العالم . . . إذ أن خصوبة حقول الحبوب، جعل عائدية - غلة - المحصول،
تصل إلى 200 مرة من الحبوب المزروعة، وفي سنوات نادرة تصل إلى 300 مرة". من
الواضح أن هكذا غلة أمر لا يصدق، ولهذا شكك المحللون والمؤرخون في القرن
العشرين في هذه الأرقام، كما كانوا قد شككوا من وصفه لبابل وأسوارها وأبراجها،
واعتبروا أن الكثير من تاريخ هيرودتس مبالغ فيه جداً، وحتى قيل أن ما كتبه عن
بابل هو ليس نتيجة رؤية العين - كما يدعي في تاريخه - وإنما نتيجة السماع من
الغير، وهنا يكمن سبب "المبالغة" الواضحة في كتبه التاريخية. من الملاحظ أن
معدل الغلة للحبوب (وبضمنها الحنطة) قد ارتفع، كمعدل وعلى نطاق العالم، من 1.06
طن في الهكتار (أي حوالي 265 كغم للدونم) في سنة 1950، إلى ما يقارب (2.80) طن
للهكتار (أي حوالي 700 كغم للدونم)،وذلك في سنة 2002. إن الطفرة في الإنتاج
الزراعي بدأت في السبعينيات من القرن الماضي، وبما يسمى "الثورة الزراعية"،
وذلك على ضوء التطوير الجيني للبذور وإنتاج ما يسمى بالمحصول "القزم"، واستخدام
الأسمدة والمبيدات ومعالجة الأرض والمياه، واستخدام الطرق الزراعية العلمية
الحديثة. علماً أن إنتاجية محصول الحنطة في الهكتار الواحد وصلت كمعدل في سنة
2002، في فرنسا (6.8) طن وهي أعلى مستوى معدل في العالم، (والذي يعني أن في بعض
المناطق الفرنسية كان قد بلغ الإنتاج 10-11 طن للهكتار)، وفي المكسيك (5.0) طن،
وفي الصين (3.8) طن، وفي الولايات المتحدة (2.7) طن، وفي كندا (2) طن، وفي
أستراليا (1.7) طن. أي أن أعلى معدل إنتاجية هي (6.8) طن للهكتار (وتعادل 1700
كغم للدونم)، وهذا الرقم العالي للمعدل من الغلة يقل كثيراً عن نصف معدل الغلة
في بلاد الرافدين والتي تحدث عنها هيرودتس. علماً أن الغلة للحنطة في العراق في
الوقت الحاضر تقارب طن واحد في الهكتار، أي (250 كغم للدونم في الأراضي
الإروائية، وتنخفض إلى حوالي 155 كغم للدونم في الأراضي الديمية).
إن ما يجلب النظر أن "سترابو"
المؤرخ الروماني / اليوناني، والذي توفي في سنة (25) بعد الميلاد، يرجع ليقول:
"أن إنتاجية الشعير في بابل لا يمكن أن يضاهيها أي مكان في العالم إذ تصل إلى
200 - 300 مرة"، وها أمر أيضاً لا يصدق. ولكن في كل الأحوال فإن أرض الرافدين
وطرق الزراعة فيها، والمشاريع الزراعية الضخمة من سدود وقنوات، وتفوق أدوات
وطرق الإنتاج، جعلت هذه المنطقة أشهر مناطق العالم طراً من الناحية الزراعية.
وهذا الأمر استمر من العصور القديمة إلى العصور العباسية وحتى تحت ظروف
الاحتلالات المختلفة، إذ أنه كان "سلة غذاء العالم". ومن يريد من القراء التوسع
في الاطلاع على المشاريع الضخمة التي تمت قبل آلاف السنين، واستمرت عبر
الحضارات المختلفة لآلاف السنين، وكذلك للاطلاع على مشاريع وطرق السيطرة على
الفيضانات، (مع الفشل في أحيان كثيرة)، فهناك الكثير الكثير من المؤرخين
والمختصين الذين كتبوا عن ذلك، ولعل أحد أهم من كتب عن ذلك هو العراقي الدكتور
أحمد سوسة، والذي ولد في مدينة الحلة (قرب بابل) عام 1900، وحصل على
البكالوريوس والدكتوراه في الهندسة المدنية من الجامعات الأميركية المرموقة في
عام 1930، وعمل في دوائر الري والزراعة وبمناصب عالية ليكون أحد خبراء الري
المهمين. وكان لدى الدكتور سوسة حب منقطع النظير لوطنه ولتاريخه وآثاره، وقدرة
عالية على البحث والتقصي، أهلته لينتج مؤلفات عديدة تجاوزت الخمسين، في الري
والهندسة والزراعة والجغرافية وتاريخ الحضارات القديمة وبالأخص العراقية. ومن
أهم مؤلفاته كتابه الضخم والمرجع الكبير وهو بعنوان: "الري والحضارة في وادي
الرافدين"، وكذلك كتابه الموسوعي القيم "فيضانات بغداد في التاريخ" والذي يقع
في ثلاثة أجزاء. ولعل كتابه الأهم هو "تاريخ حضارة وادي الرافدين في ضوء مشاريع
الري الزراعية والمكتشفات الآثارية والمصادر التاريخية"، والذي يقع في جزئين
ضخمين، وصدر بعد وفاته في سنة 1983، وتحت إشراف ابنته الدكتورة عالية أحمد سوسة
والتي استشهدت في العملية الإرهابية التي طالت مقر الأمم المتحدة في أواخر سنة
2003، في الوقت الذي كانت فيه الأمم المتحدة ومجلس الأمن يقفان ضد الاحتلال، أو
على الأقل ليس مع الاحتلال. إن كتاب الدكتور أحمد سوسة هذا، يتحدث بالتفصيل عن
تطور مشاريع الري والزراعة في العراق منذ فجر التاريخ وإلى العصر الحديث،
مروراً بالحضارات القديمة وحضارة بغداد العباسية. لقد كان أحمد سوسة يستخدم
دائماً مصطلح "بلاد الرافدين"، وفي اعتقادنا، أنه كان الأحرى به استعمال مصطلح
"بلاد النهرين"، إلاّ إذا كان المقصود من مصطلحه، هو أن دجلة والفرات يعتبران
رافدين لشط العرب.
ولمن يريد أن يقرأ عن التطور الحضاري نتيجة الري والزراعة وما جاء معهما من ترف
جعل بغداد حاضرة العالم، وجعلت المنطقة من شمال بغداد إلى البصرة مزارع مستمرة،
أو كما يقال: "أن تجاوب الديكة مستمر، فإن صاح ديك في بغداد، فإن ديكة البساتين
والمزارع والضياع تستمر بالتجاوب فيما بينها حتى مدينة البصرة"، فيمكنه أن يرى
ذلك بوضوح من خلال قراءة ديوان أبي نؤاس، ناهيك عن مئات الكتب الأخرى التي صدرت
في ذلك الزمان والشائع منها مثل ألف ليلة وليلة أو الأغاني لأبي فرج الأصفهاني
أو كتب التوحيدي. فالشاعر المجدد - في ذلك الزمان - أبو نؤاس ينظم وبلغة حضارية
جديدة روائع الشعر التي تصف الحالة آنذاك حيث الزراعة مستمرة من الموصل حتى
البصرة، وما يتخللها من أماكن اللهو والثقافة والضياع العامرة والأديرة الكثيرة
أيام الحضارة العباسية.
ثم يأتي المفكر العراقي اللامع عبد الفتاح إبراهيم لينشر في عام 1932 كتابه
السياسي الاقتصادي القيم "على طريق الهند" (25)، أي "العراق" على
طريق الهند ليحلل حالة الأهمية الزراعية الكبيرة في تفكير الاستعمار البريطاني.
إن البريطانيين كانوا يعتقدون ويعملون لأن يكون للعراق دور بارز ومفيد للاقتصاد
البريطاني (بضمنه الهند)، وبالأخص فيما يتعلق بإنتاج القطن والحبوب. لقد أدخلت
الحروب الصليبية القطن إلى أوربا، وتوسعت صناعته بصورة كبيرة منذ بدايات الثورة
الصناعية في بداية القرن التاسع عشر، معتمدة في ذلك الوقت وبصورة رئيسية على
القطن الخام الأميركي في سد احتياجات بريطانيا وبقية دول أوربا. ولكن عندما
انسلخت أميركا عن جسم الإمبراطورية البريطانية بعد ثورة الاستقلال، أدى ذلك إلى
قلق كبير لدى أصحاب صناعة النسيج ذوي النفوذ العالي داخل النظام البريطاني،
وخصوصاً أثناء الحرب الأهلية الأميركية واضطراب زراعة القطن فيها، وذلك لاحتمال
مزاحمة صناعة النسيج في الولايات المتحدة باستخدام القطن الخام في مصانعها
بدلاً من تصديره. لهذا اهتمت بريطانيا بزراعة القطن في المستعمرات البريطانية
الأخرى، وفي مناطق نفوذها مثل مصر، علماً أن النسيج القطني أصبح يمثل 80% من
مجمل صناعة النسيج العالمي، وإن مصانع لانكشر البريطانية (في مدينة مانجستر وما
حولها)، كانت تستهلك أكثر من 52% (من القطن) الذي تستهلكه جميع الدول الأوربية،
وأصبحت صادرات المنتجات القطنية أهم الصادرات البريطانية وفي غالبيته إلى
الهند، وأصبحت مدينة مانجستر تصنع الملابس القطنية وجميع أهالي شبه القارة
الهندية يشتريها ويلبسها.
لقد نشرت الرأسمالية البريطانية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،
أخباراً تفيد بأن العراق هو بلد الخصوبة والإنتاج الزراعي العالي، وذلك لتسهيل
تمويل احتلاله في دوائر البرلمان البريطاني. في نفس الوقت كانت هناك منافسة
حادة بين الدول الاستعمارية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا، لاحتلال العراق
والوصول إلى الهند
والمياه
الدافئة. لقد اعتمدت الدعاية البريطانية كثيراً على ما قاله هيرودوتس سابقاً
حول الإمكانية الزراعية العالية للعراق، وعلى ما يقوله الداعية الألماني
روهرباخ، حيث أن ألمانيا كانت تنافس بريطانيا وبضراوة لاحتلال العراق. يقول
روهرباخ: "إن العراق وحده يستطيع أن يمول ألمانيا بكل ما تحتاج إليه من قطن
وحبوب، وأن العراق وسوريا الشمالية وبلاد الأناضول تستطيع أن تصدر من الحبوب
سنوياً ما يزيد على ما تصدره روسيا، وأن العراق سيكون في المستقبل القريب من
أكبر مخازن الحبوب في العالم". في ذلك الوقت كانت ألمانيا تعمل على بناء علاقة
وثيقة مع الدول العثمانية، وتشيد خط سكة حديد برلين - بغداد - بصرة، وهي أول من
أظهر إمكانية وجود النفط في العراق في منطقة مسار خط السكك الحديدية في الموصل.
وكان السير وليم ويلكوكس البريطاني يطنب في وصف خصوبة أرض العراق وقدرتها
الزراعية، حيث يقول: "لو تم ضبط فيضان دجلة والفرات ضبطاً متقناً لبلغ وادي
النهرين شأواً لا مثيل له في التاريخ، ولرأينا الناس يأتون من الغرب ومن الشرق
فيجعلون ارض شنعار منافساً لأرض مصر". علماً أن وليم ويلكوكس كان أكبر الثقاة
في حينه في شؤون الزراعة في الهند ومصر والعراق، وقام بمشاريع ري بين الأعوام
(1872-1883) أكسبته شهرة عظيمة. لقد عمل في مصر في الأعوام (1883- 1893)، ووضع
تصاميم خزان أسوان الذي اعتبر أعظم خزان مائي في الشرق في حينه، ومن ثم استخدم
كمستشار في وزارة الأشغال العامة في الدولة العثمانية منذ عام 1909، فوضع تصميم
سدة الهندية وأشرف على إنشائها في 1911- 1913، وكان قد أصدر، مابين عام 1903 و
1905، ما يزيد عن ستة أطروحات لمشاريع مهمة في شؤون الزراعة والري في العراق،
مشيراً إلى ضرورة هجرة الفلاحين من مصر والهند إلى العراق !، واقترح بناء أربعة
سدود، اثنان منها على دجلة بالقرب من الكوت وبلدروز، واثنان على الفرات
والصقلاوية. ولقد أيده اللورد كيرزن في خطابه في مجلس العموم البريطاني في 6
كانون الثاني 1915، ليشجع على احتلال العراق قائلاً: "إن العراق البلاد التي
كانت تموج يوماً بمزارع الحبوب، ويحيا فيها عدد من السكان حياة موفورة، قد
أصبحت الآن صحراء قاحلة، ولكن آمل أن تسترجع في عهدها الجديد ماضي مجدها لتعود
هذه الصحراء كما كانت جنة نضرة" (25). وما أن استقر الأمر للاحتلال
البريطاني في العراق سنة 1917 حتى باشر، وفي مختلف أنحاء العراق، بالعناية
بشؤون الزراعة والري، وإجراء التجارب الزراعية العديدة، ودراسة أصناف الحبوب
الملائمة. ودراسة الآفات الزراعية ومكافحتها، كما اهتم البريطانيون بدراسة
زراعة القطن.
وبرغم أن الدراسات أثبتت إمكانية التوسع الزراعي في العراق، ولكن النتائج لم
تكن بمستوى الطموح، وتوضح أن النزاع الاستعماري على العراق كان سبب موقعه
الجغرافي للوصول إلى الهند وبقية آسيا، ومن ثم ظهرت أهمية النفط لبريطانيا خلال
الحرب العالمية الأولى، وثم اكتشف النفط في العراق !!!.
إن جميع ما كتب أعلاه هو شيء من التاريخ !!. ذكرناه عسى أن تنفع الذكرى !!.
فلقد "استقل" العراق، وتم اكتشاف النفط، وقام بمشاريع الري ودرء الفيضانات
ونصبت السدود، وذلك بعد الزيادة في إنتاج النفط في الخمسينيات من القرن الماضي،
وتم تشكيل مجلس الاعمار، ويجد القارئ جميع هذه الأعمال في مختلف الدراسات
والكتب. ولكن ما تبين في الدراسات الزراعية التي تمت في السبعينيات من القرن
الماضي، أن هذه المشاريع كانت محددة جداً، إذ لم تتقدم الزراعة في العراق وإنما
تراجعت، واعتمد الاقتصاد العراقي ومعيشة الناس على النفط بصورة شبه كاملة،
الأمر الذي يذكرنا بما قاله وزير النفط السعودي السابق زكي يماني: "كنت أتمنى
أننا وجدنا ماءاً في السعودية بدلاً من النفط" !!.
سنرى في الفقرة اللاحقة، من أن دراسات جادة قد تمت في السبعينيات من القرن
الماضي لتحسين وتطوير الوضع الزراعي للوصول إلى الاكتفاء الذاتي للغذاء، ولكن
سنرى بنفس الوقت أن هذه الدراسات قد أصبحت أيضاً "جزءاً من التاريخ" !!، إذ لم
تنفذ، وكما نرى الآن وبعد أكثر من ثلاثة عقود من إجرائها ووجوب تنفيذها، فإن
العراق يعاني "عطشاً غير مسبوق"، ونحن في أواخر العقد الأول من القرن الحادي
والعشرين !!.
عودة الى
الفهرست >>
<<
التالي
السابق >>
<<
الفصل الثالث
3
- دراسات الري والزراعة منذ سبعينيات القرن الماضي
________________________________________________
(22) "تاريخ
تسمية العراق"، حسين الجراح، موقع المرصد العرقي في 29/7/2009.
(23) "تاريخ
حضارة وادي الرافدين في ضوء مشاريع الري الزراعية والمكتشفات الآثارية والمصادر
التاريخية"، الدكتور أحمد سوسة، 1983.
(24) تاريخ
هيرودوتس/ الكتاب الأول.
(25) "على طريق
الهند". عبد الفتاح إبراهيم.