مثقفينا... النجدة!
2- الدين والسياسة وكردستان
صائب خليل
طرحنا في الحلقة الأولى من هذه المقالة ("مثقفينا .. النجدة! .. القصف المعادي يسحقنا – الجزء الأول") (1) خطورة الوضع ومستوى الإدراك للمواطن داخل العراق بسبب قصف إعلامي شديد يهدف إلى تشويش الصورة على المواطن، ودعونا للمثقفين إلى المساهمة في تشكيل "قصف ثقافي مضاد" للقصف الإعلامي المعادي للشعب في عدد من النقاط الأساسية مثل الطائفية والفساد والإعلام، وفي هذه الحلقة الثانية نستمر في طرح "جبهات صراع" أخرى بين محبي العراق وأعدائه، ونطرح هنا مواضيع: الدين والسياسة والعلاقة مع كردستان، ونستمر بدعوتنا بقوة بالمساهمة في مقاومة ذلك القصف في كل منها.
الدين:المتدين مقابل العلماني – متى تبدأ حرب الإبادة؟
السؤال عن دور الدين والمتدينين وكيفية التعامل بينهم من جهة، وبين نظام علماني في أساسه، لكنه يتسع لمعتقدات الفرد، سؤال معقد ومطروح من قبل الطرفين، المتدينين والعلمانيين. ورغم إننا نقسم الأطراف إلى قسمين هنا، لكن ما أمامنا هو بالحقيقة طيف مستمر يخلو من اي فاصل واضح، يبدأ بالمتدينين المتطرفين والسلفيين ثم المعتدلين وصولاً إلى المتدينين الذين يؤمنون بفصل الدين عن الدولة ثم المشككين الذين لم يستقروا على إيمان بعد، واخيراً الملحدين، وحتى هذه تقسيمات غير دقيقة.
يجب أن يفهم الجميع أولا أن حق الحياة والمشاركة السياسية يشمل جميع هذه الأطياف، وهذه نقطة في غاية الخطورة وغاية الخلل في نفس الوقت في العراق. فالمتدين يرى – سواء أقر بذلك أو لم يقر، بأن عليه أن يتخلص من كل "المشككين والملحدين"! وتنطلق نظرته من المواقف الإسلامية في صدر الإسلام حيث كانت القضية حياة أو موت بين الطرفين، رغم أنها لم تعد كذلك، وصارت بتغير الظروف، مسألة حياة مشتركة أو موت مشترك. كل شيء يشير إلى ذلك، حتى طريقة الإستيلاء على السلطة بالديمقراطية يختلف عن الإستيلاء عليها عن طريق السيف، وبالتالي يفرض طريقة أخرى للتعامل معها ومع الخاسر.
الجانب الآخر – العلماني- ليس أقل سوءاً في نظرته ، وإن لم يكن يقر بها. فالعلمانيين والملحدين يتصرفون مع الدين والمتدينين وكأن بينهم وبين هؤلاء حرب إبادة، وأنه لا داعي للبحث عن نقاط الإلتقاء وتطويرها. أنظروا إلى مواقف العلمانيين تجدونها منصبة للسخرية من الدين وتسفيهه وتسفيه أصحابه وهم يعلمون جيداً أن هذا الإتجاه لن يقنع متدين واحد بالتخلي عن دينه مهما بذل فيه من جهد، فما الذي ينتظرونه من ذلك سوى زيادة العداء والإستقطاب بين الطرفين؟ وهل من الصعب أن نرى أن هناك جهات يهمها بالذات أن يحدث هذا؟
الحقيقة التي يجب أن يدركها كل طرف هي أن البلاد لن تخلو أبداً من "المزعجين" له من الطرف الآخر، وأن لا مفر له من إيجاد طريقة للتعامل مع هؤلاء، طريقة واقعية يمكن الحياة معها ويمكن التوصل إليها. ومن لا يتحمل أن يرى أحداً من الجانب المقابل فعليه أن يترك البلاد بنفسه، فلا توجد طريقة لإخلاء أية بلاد من كل المؤمنين أو من كل الملحدين.
لقد سعت مواقع إعلامية مشبوهة عديدة إلى الدفع على العكس من هذا، نحو الصراع الأشد والفرقة التي لا رتق لها، وإلى زيادة الإستقطاب ودفع كل جهة إلى اليأس من إمكانية الحياة مع الجهة الأخرى، رغم أنها فرصتها الوحيدة في الحياة، وأن الطرفين يدفعان إلى طريق يعلمان تماماً أنه مسدود، ورغم ذلك يسيران فيه كالمنوم مغناطيسياً، الذي تم إقناعه أنه عملية تصفية قادمة للطرف الآخر!
إن هذا الوهم خطير ومن واجب المثقفين أن يدركوا نتائجه وأن يحاربوه. علينا، سواء كنا في الجانب المتدين أو العلماني – الإلحادي، أن نبحث كيف نقنع الطرفين بأن سياستهما لا مستقبل لها وأن لا مفر من قبول حقيقة وجود الآخر والبحث عن طريقة للتعايش معه رغم الخلاف. هذه الجبهة الخطيرة بحاجة لجهود كبيرة واعية وأذهان قادرة على الإقناع، فالشرخ الذي يجب ردمه عميق.
الدين: المسلمون والمسيحيون وداعش
بعد أن انتهت الخطوة الأولى، وتم عرض "داعش" كأحط ما أنتجت البشرية من مختلين أخلاقيين وعقليين، جاءت الخطوة الثانية، فنجد اليوم أن هناك قصف إعلامي شديد ومركز ومباشر يهدف إلى إقناع الجميع وبشكل خاص غير المسلمين أن الإسلام هو داعش، وأن داعش تمثل الإسلام الحقيقي وأن الإسلام يحتوي في داخله بذرة قد تنفجر في اي وقت لتزهر أمثال داعش. ونجد من بين المروجين لمثل هذا الإتجاه كتاب حتى في الجانب المسيحي الشديد التضرر من داعش، والذي يفترض فيه أن يبذل كتابه اقصى الجهد لإقناع المسلمين بأن داعش لا تمثل الإسلام الذي يعتنقون! لكن هؤلاء يسيرون وراء تنفيذ مهماتهم حتى لو ادى الأمر إلى فضيحتهم وإلى ضرر المسيحيين الذين يدعون الدفاع عنهم.
هذه الكذبة – أن داعش هي الإسلام - لا تفتقد إلى بعض الحقيقة، وكل كذبة مؤثرة، لا بد أن تستند إلى بعض الحقائق الصغيرة لتنفخ فيها كما يقول البروفسور جومسكي. فهناك نصوص فيها بذرة العنف والضغط والإجبار في الإسلام (مثلما هناك الكثير بالعكس). لكننا لو بحثنا في أي دين آخر لوجدنا ذات البذرة، وأن الفرق الوحيد هو أن احداً لا يكلف بنفخ الحياة فيها. ففي العهد القديم من الإنجيل من نصوص العنف ما يشيب له الولدان ويجعل أعنف نصوص القرآن قصص أطفال لطيفة بالمقارنة، ويمكنك أن تبحث في كوكل عن (violence in Bible) لتتأكد بنفسك. لكن المسيحيين "الحقيقيين" لا يتبعونها، بل العكس. هذه البذرات إذن ليست خطرة بذاتها ولم يحدث أن انفجرت إلا بظروف غامضة ومثيرة للشبهة مثل ظروف نشوء داعش وبروزها. وبالتالي فداعش لا تمثل الإسلام ولا متطرفي الإسلام، إلا بقدر ما يمثل العهد القديم المسيحية، وليس صحيحاً ان نتوقع من المسلم أن يتصرف كداعشي إلا بقدر ما نتوقع من المسيحي أن يتصرف وفق نصوص العهد القديم فيبيد المدن ويقضى على كل كائن يتنفس فيها!
يتعرض المسيحيون في العراق إلى قصف إعلامي شديد معادي للإسلام يهدف إلى تشويه صورته لديهم باقصى قدر ممكن. ويقود هذا القصف جهات إعلامية متخصصة ومجهولة الهوية، اخترقت المجتمع المسيحي وجندت بعض افراده. ويحتمي هؤلاء خلف الشعور العام بالتعاطف مع المسيحيين، والجو السياسي والثقافي الذي يفسر أي رد على أي مسيحي بأنه هجوم على المسيحيين. المسلمون يتجنبون الخوض في هذا الأمر احتراماً للمسيحيين، والمسيحيون المدركين لحقيقة الأمر يلتزمون الصمت التام، فتنمو المؤامرة بلا أية عوائق. هذه الجبهة بحاجة إلى كتاب جادين صبورين يعطونها الوقت ويدرسون حقائق ما يجري فيها والرد بدقة وبقوة في نفس الوقت. وخير من يفعل ذلك هم المسيحيون أنفسهم، فعندما يرد مسيحي فسيكون محصن ضد الإتهام بمعاداة المسيحيية، بينما يزاح أي رد من كاتب مسلم بتهمة التحيز ويشكك بمصداقيته حتى لو كان علمانيا.
السياسة: الفدرالية والمركزية
هناك دعوات قوية جداً داخل بعض الكتل وخاصة الكردستانية وشخصيات متفرقة ، تدعوا دائماً إلى ترك المركزية وتشبيهها بنظام البعث والدكتاتورية، فهل يمكننا أن نذهب بتحطيم المركزية إلى أبعد مدى نريد؟ أم أن في هذا إشكال معين وأنه يجب أن تكون هناك مركزية بدرجة كافية وأنها ضرورية لبقاء البلد موحداً بدرجة أو بأخرى؟ ما هي القرارات التي من الأنسب أن تعطى للمحافظات وأيها أن تبقى للمركز؟ أين الخط الخطر الذي إن تجاوزناه ندخل منطقة غير مأمونة ضائعة القرار؟ وكيف يمكن بالمقابل أن نمارس مركزية كافية دون خطر تحولها إلى دكتاتورية؟ يجب أن نفهم أن ليست كل الدعوات إلى الفدرالية واللامركزية هي دعوات بريئة، وقد لا تكون الدعوات إلى المركزية كلها بريئة أيضاً. المواطن بحاجة إلى من ينير له اجوبة هذه الأسئلة المحيرة.
السياسة: اليسار وأين يقف
مفهوم اليسار ضائع في العراق (وغير العراق) وخير مؤشر على هذا الضياع أن نجد قيادياً في أعلى قيادات الحزب الشيوعي العراقي يصرح بأنه يؤمن بحرية السوق أو الليبرالية! وأن نرى اليسار ينسى المحور الأساسي لوجوده، المحور الإقتصادي المستند على أساس أخلاقي من العدالة التي تحذر من الظلم الرأسمالي وخطره، ويركز كل جهده على مهاجمة الدين، وخاصة الدين السياسي الإسلامي والسخرية منه والتحذير منه ورفض أي من قراراته. المشكلة في هذا الإتجاه كما اسلفنا أعلاه، أنه اتجاه "عركة" لا تبشر بأي تفاهم مستقبلي كما بينا، وأنها تلهي اليسار عن محوره الأساسي الإقتصادي، وتستبدل اعداءه الطبيعيين من رأسماليين وإقطاعيين، بأعداء آخرين لا يكون التعارض بينه وبينهم بنفس القوة المبدئية. فما هي خطورة هذا الخلل وإلى أين يؤدي وأين الحل؟ أسئلة متروكة للمثقفين المتطوعين.
السياسة: ما هي الدروس المستخلصة من الربيع العربي؟
الربيع العربي الذي أنتهى بكارثة على كل المقاييس تقريباً، يجب أن يعلمنا الكثير، خاصة في العلاقة بين العلمانيين والمتدينيين، والتعامل مع مفهوم الديمقراطية. وإن استثنينا تونس التي مازالت تعد بشيء، فأن جميع البلدان التي شاركت في الربيع العربي قد تدهورت نحو الأسفل. ولا يقتصر هذا على ليبياً التي تمزقت تماماً، بل يشمل مصر مثلاً، التي تم تثبيت حكم عسكر موالي لإسرائيل بشكل أكبر من موالات عميلها السابق حسني مبارك (رمز الإذلال والإحتلال الإسرائيلي للسلطة في مصر، والذي تم إطلاق سراحه قبل يومين!). لقد تم تحطيم أحلام المصريين بحكم ديمقراطي، بل وأصيبت الديمقراطية بالجرح العميق المتمثل بالإنقلاب العسكري. واشد ما في هذا الجرح هو أن من يسمون أنفسهم "ديمقراطيين" هم الذين هللوا للإنقلاب الذي حطم الديمقراطية، لأنه خلصهم من خصومهم! وبالتالي فأن أي إيمان بالديمقراطية قد كان سابقاً لدى الفائزين الذين أزيحوا بالقوة وبحجج سخيفة، قد تبخر، مثلما حدث في الجزائر قبل بضعة عقود! ما هو الخطأ وأين وكيف حصل؟ ما الذي تخبرنا به تلك المأساة عن المخاطر على المستقبل السياسي في بلدان أخرى مثل العراق، وكيف نتجنبها؟ ما هي الدروس المستحصلة لكل من العلمانيين و المتدينين؟
العلاقة مع الإقليم
رغم كل التزمير والتطبيل الأخير لحكومة العبادي الجديدة، فالعلاقة بين العراق والإقليم علاقة كارثية بكل معنى الكلمة، وهي على عكس ما هو ظاهر، تسير نحو الأسوأ بشكل مستمر ومتسارع، وما يجري حالياً ليس اتجاهاً لإصلاحها بل هو الضربة الأخيرة لتثبيت تلك العلاقة التسلطية الإبتزازية القبيحة والمذلة بين كردستان والمركز. لقد قدم السفير بيتر كالبريث كما قال في كتابه "نهاية العراق" النصح لكردستان أن يسعوا إلى المشاكل مع بغداد وأكد لهم أن كل مشكلة ستنتهي بمكسب لهم. ومن يتابع سياسة الإقليم سيجدها تطبيق أمين لذلك المبدأ منذ البداية، وهو ما أوصل الحال بعد أكثر من عشرة سنين على تطبيق هذا المبدأ إلى الشكل القبيح للعلاقة والذي كانت خاتمته الإستيلاء على السلطة بشكل تام متمثلا بحكومة العبادي.
لقد لعب الإعلام المعادي للعراق بوصفه تلك العملية الإبتزازية بعبارات حيادية مثل "الخلاف"، دوراً في تشويش الصورة على الناس ودفعهم للإستمرار في قبول تقديم التنازلات. فعندما يحتل أحد الطرفين أراض "متنازع عليها"، ويفرض نسبة من الخزانة تزيد مرة ونصف عن حقه حسب النسبة السكانية التي يقر بها برلمانه وحين يطالب بأموال مستحقات يرفض عرض حساباتها و يستولي على الكمارك والأسلحة ويقرر السلطة المناسبة له.. فهذه ليست "خلافات" بل ابتزاز واحتلال مباشر وقهر، ومن يصفها بغير ذلك كاذب.
ولا بد أن نقول هنا أن اليسار بتأييده اللامشروط والمستمر لكل الإبتزازات الكردستانية بحق العراق، لعب دوراً سلبياً مؤسفاً وتسببت مجاملاته وعلاقاته في طمس الحقائق الصعبة وبالتالي باستمرار تدهور العلاقة دون تحذير، ووصولها إلى ما وصلت إليه من طريق مسدود.
هذه القضية بحاجة إلى من يقرأها بتمعن ويفهم تفاصيلها ليكون قادراً على اتخاذ موقف شجاع ومقنع منها، ويطرح الحلول مهما كانت صعبة الهظم على المتلقي المعتاد على الإعلام المجامل.
إنني لا ادعي الحيادية في طرحي للنقاط أعلاه، فليس هناك من مفر أن تكون خيارات الكاتب لما يعتبره خطيراً، خيارات شخصية بالدرجة الأولى. كذلك فإني لا اسعى إلى فرض رأيي في تلك النقاط ودعوة الكتاب إلى الكتابة من وجهة نظري، وليس لدي الأدوات اللازمة لمثل ذلك الفرض حتى لو أردت. لكني ألفت النظر إلى تلك النقاط آملاً إقناع المثقفين بخطورتها وضرورة المشاركة في جهد التعامل معها والرد على القصف المشبوه الذي يتعرض له المواطن من جهات تستهدف تحطيم وعيه وتدمير بلاده.
الحلقة الثالثة الأخيرة ستركز على ما يتعرض له المواطن من قصف إعلامي بشأن الموقف من أميركا وإسرائيل وكذلك مفاهيم المجتمع العراقي وما تحتاجه هذه الجبهات من رد من المثقفين.
2.12.2014