مثقفينا .. النجدة! .. القصف المعادي يسحقنا
الجزء الأول
صائب خليل
مقدمة
إثر مناقشة مع أحد الأصدقاء على الفيسبوك حول المواضيع التي يفترض طرحها، وهل من حق المثقفين أن يكتفوا بتبادل الصور اللطيفة والنكات والسخرية من الحكومة والمجتمع والدين، أو جو النقاش المتراخي والمتذمر الذي سرعان ما يندفع نحو تلك السخرية، شكوت له أننا الذين نكتب بجدية نتصدى لقصف شديد لم نعد وحدنا قادرين على مجابهته وإننا نخسر المعركة. فطلب مني صديقي أن اكتب مقالة أحدد فيها تلك الجبهات الإعلامية والثقافية التي تجري فيها المعركة التي أتحدث عنها، مع بضعة أسطر عن كل منها، واعداً بالدعم والمشاركة. ولهذا أكتب هذه المقالة.داعياً كل من يقرأها إلى مساعدتنا بما يستطيع وحيث يرى نفسه قادراً على الرد.
***
يتعرض المواطن في العراق (وغيره)، إلى عملية "قصف إعلامي" شديد ومركز ومدروس وعلى جبهات متعددة تجعله يدور في مكانه ولا يدري أين يلتفت ولا أين الطريق. فالإحتلال الأمريكي بإخلاصه للأجندة الإسرائيلية في العراق والشرق الأوسط عموماً، لم يكتف بالسيطرة على الجيش والقوات الأمنية وإعادة تنظيمها فقط، وإنما فعل ذلك في كل مؤسسات البلاد فلغمها بأعداء الشعب، وبشكل خاص في الإعلام. ولذلك فإنني حين أنظر إلى الصورة التي لدى المواطن العراقي بشكل عام، عن نفسه وبلده وعن العالم والقضايا الإنسانية الأساسية، أجد خللاً مقلقاً، وكأن الذي أمامي إنسان تعرض لغسيل دماغ قلب الكثير من المفاهيم المنطقية والأخلاقية إلى عكسها.
لكني حين اشاهد ما تبثه القنوات الفضائية العراقية، فإني أفهم السبب. إلا أن فهم السبب لا يحل المشكلة. فالمشكلة ليست في إيجاد الرد على كل واحدة من تلك التشويهات وإنما في حقيقة كثافة القصف الإعلامي المتمثل بالهجوم على كل تلك الجبهات مرة واحدة. أي أن المشكلة هي أن "الكثرة تغلب الشجاعة" هنا، وما لم نحصل على عدد كاف من الكتاب المستعدين لتحمل بعض الجهد الجدي للقراءة والكتابة لرد الهجوم فنحن في وضع صعب. وفيما يلي أهم الجبهات التي يجري عليها القصف المعادي وبضعة أسطر حول تصوري الشخصي لمجريات المعركة وشكل الرد المؤثر المطلوب وأين يمكن أن نجد المعلومات والتفاصيل الضرورية لكتابة مثل هذا الرد. وهذه النقاط والأسطر ليست سوى محاولة لخلق مؤشر مرشد إلى الإتجاه المناسب، وهي بالتأكيد ليست كاملة ولا المقصود منها الضغط على الكاتب لتحديد الإتجاه الذي يجب أن يكتب فيه، فكل كاتب في النهاية حر بما يرى ويكتب، لكنها اقتراحات أولية ربما تسهل عبور العتبة الفاصلة بين الكسل والبحث للوصول إلى مساهمة مفيدة في هذه المعركة.
تطوير الكتابة السياسية
قبل أن نناقش جبهات القصف، لا بأس بكلمة حول كفاءة الكتابة السياسية وكيفية رفعها. الأدب السياسي من مقالات وغيرها في العراق بشكل خاص ضعيف، لا يرقى إلى الرد المقنع على ما يجري، فكيف نطور هذه النصوص؟ ما هي الأسئلة التي تدور في ذهن المتلقي وكيف نجيب عليها بأفضل شكل؟ ما هي الحقائق المهمة التي نلاحظ تجاهل الإعلام المشبوه لها، والتي يجب أن نحفظها جيداً ونصر على إيصالها إلى كل فرد في المجتمع وأن نذكره بها؟ كيف ندعم مقولاتنا بالحقائق وكيف نبحث عن تلك الحقائق (كوكل؟) كيف نتعود ونعود القارئ على المطالبة بمصادر الإدعاءات عندما يقرأ ما يقرأه؟ كيف نجمع المعلومات أثناء قراءتنا، حيث نستطيع أن نجدها بسهولة عندما نحتاجها في الكتابة؟ كيف نحول مقالتنا من "تعبير عن غضبنا" إلى تعبير مقنع عن خطأ محدد؟ كيف نقعنع قارئاً ينطلق من فكرة مسبقة هي ضد الفكرة التي نحاول إقناعه بها؟ ما هي اسئلته وما هي حججه؟ كيف نحاصر تلك الحجج ونجعله يقر بالصحيح ، رغم تعاطفه المسبق مع وجهة نظر معاكسة؟
جبهات القصف
الطائفية
كتب عن الطائفية الكثير، لكنها بحاجة إلى تحليل علمي كمي يتصدى لها. تحليل تسنده الإحصاءات المتتالية التي ترصد تطور الطائفية وما هي الأمور التي ترفعها وإلى أي مدى ترفعها وما هي الأمور التي تخفضها وإلى أي مدى. هناك جهات متخصصة برفع الطائفية وهي تستعمل تلك الدراسات وتتلقى المعلومات الفورية عن أثر أية حركة على مستوى الشعور الطائفي لدى مختلف فطاعات الشعب وبالتالي تعرف ما يجب أن تكون حركتها التالية، وما إذا كان الشعب مستعد للخطوة التالية. طبيعي أن مثل هذه الدراسات لا يمكن أن يقوم بها الأفراد، ولا بد أن تقوم بها مؤسسات حكومية تمتلك الأدوات والدعم المادي اللازم، ويجب أن توجه إليها الكليات والمعاهد ذات التخصصات الإجتماعية، الكثير من جهودها.
الفساد
الفساد، مثل الطائفية، داء تفتقد مجابهته الدراسة العلمية ذات التحليلات الكمية، وأساليب مكافحته ورصد بؤره الأشد خبثاً وقوة. من الواضح أن بعض الفساد يصل إلى أعلى السلطات الحكومية ، وأنصع دليل على ذلك نجاة وزير الشباب في حكومة المالكي من المحاسبة وقبول كتلة دولة القانون للمهمة غير الشريفة بالدفاع عنه ودون أن يحتج على ذلك اي من اعضائها، علما أن قضية الرجل كانت ناصعة الفساد كمثل وضوح فساد فرج الحيدري. وكذلك علينا أن نذكر أن الجيش الأمريكي قام بإخلاء أكبر الفاسدين حازم الشعلان بعد أن أنقذه من أيدي الشرطة بعد إدانته بالفساد، وقام بتسفيره إلى أميركا، مثلما قام بتسفير آخرين. هذا يعني أن ما وراء الفساد ليس الطمع المعتاد فقط، بل هناك قوى هائلة تحرص على سلامته واستمراره، وتعتبره أداة أساسية في مخططها، ومن يكتب عن هذا الموضوع يجب أن لا ينسى هذا الأمر، ولا يكتفي بإدانة "الطمع" الإنساني المعروف، فما يحدث في العراق تجاوز هذا بكثير، وبشكل لا يستطيع الطمع وحده تفسيره.
الإرهاب
القصة الرسمية للإرهاب مليئة بالثغرات وعلامات الإستفهام، وقد طرحنا الكثير منها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، موضوع عملية كنيسة سيدة النجاة الإرهابية، وموضوع المجندين البريطانيين الذين القي القبض عليهما في البصرة إنها حقائق قام الإعلام بالتهرب منها بشكل مفضوح يكشف حقيقة تبعية هذا الإعلام وعلاقته بالإرهاب ذاته. من يكتب عن الإرهاب متجاهلاً تلك الحقائق لا يقوم في الحقيقة إلا بدعم الإرهاب بمساهمته في تضليل الرأي العام أسوة بوسائل الإعلام المعتادة التي تكتفي بلعنه وإلقاء ذنبه على المتطرفين المسلمين. ولقد اتخذت وسائل الإعلام هذا الخط عن إصرار، ولا يبدو أن أية حقائق تكشف مهما كانت خطيرة، قادرة على إقناعهم بأن الأمر ليس بهذه البساطة وأن وراء الإرهاب أيدي أخرى تماماً. هذا التزييف يجب أن يتوقف وأن يوجه القصف الإعلامي إلى وجهته الصحيحة لتعرف الناس من هو عدوها.
الإعلام
كل يوم نكتشف أن الإعلام العراقي ليس سوى فرقة تدمير أخرى تركها المحتل في البلاد بعد أن أسسها ودعمها بالمال. وأهداف الإعلام العراقي متعددة أهمها أن تبقى الناس لا تعرف طريقها في أي شيء، وأن يخلط العدو بالصديق بشكل لا يمكن تمييزه. وثاني الأهداف هو إعماء الناس عن حقيقة الدور الأمريكي في بلادها بشكل خاص، وقلب هذا الدور على رأسه، وإن لم يكن ممكناً فتحييده. جرائم أميركا تتحول بفضل هذا الإعلام أما إلى "إنجازات" أحياناً أو "أخطاء" في أحسن الظروف. فصناعة الإرهاب التي بدأها نيكروبونتي في العراق تسمى "محاربة إرهاب" وكذلك يسمى دعم الأمريكان للإرهاب اليوم، وعودة عسكرهم لاحتلال البلاد. وهناك أيضاً قصف إعلامي رهيب لشيطنة إيران، خاصة بين السنة، لتأمين من كان ممكناً أن يكون الصديق المنقذ الأكبر للعراق من مصيره الذي يسير إليه. كذلك ينشط الإعلام بشكل غير مباشر غالباً لشيطنة الإسلام.
نقطة مهمة من أهداف هذا الإعلام المعادي للشعب، هو تحول النقاشات إلى صراع ديكة وبالتالي ضمان عدم وصولها إلى نتائج إيجابية لحل الخلافات واكتشاف الصحيح والإتجاه إلى التعاون. إن خير مثال على "صراع الديكة" هو برنامج الإتجاه المعاكس، والذي يمثل السابقة الأقدم لهذا الأسلوب في تحويل أي خلاف داخل الأمة العربية إلى استقطاب شديد. ومما لا شك فيه أن وراء الإعلام العراقي اليوم، ذات الأيدي التي صنعت الجزيرة وصنعت اتجاهها المعاكس ودكتورها فيصل القاسم. ويمكننا أن نرى "فروخ" الإتجاه المعاكس الأحدث في الجانب العراقي، بشكل مفضوح تماماً أحياناً، ويؤكد أن مقدم هذا البرنامج قد درس على يد ذات الجهة التي دربت فيصل القاسم.
نحن بحاجة إلى من يكتب وينبه ويكرر لساستنا الذين يظهرون في الإعلام على ضرورة تحويل النقاش إلى عنصر تقارب حتى حينما يكون حاداً. أن يبحث كل من الطرفين عن ما يدعم موقفه وليس عما يحطم المقابل، وهناك فرق كبير بين الأثنين أحياناً. أن يبحث كل منهما عن الحجة التي تحرج المقابل وتدعوه إلى تبني الموقف الصحيح، وليس تحطيمه. إن فيصل القاسم يفعل العكس تماماً، ولا أذكر مرة واحدة كانت نتيجة الجدل فيها التوصل إلى ما هو الصحيح وما هو الخطأ، بل يخرج الطرفان من الصراع الجدلي وقد اقتنع كل منهما بقوة أكبر بصحة موقفه وبأن المقابل لا أمل به. والهدف المقصود طبعاً ليس الأثنان اللذان يحثهما فيصل القاسم بشكل يكاد يكون مفضوحاً على التماسك بالأيدي، بل الجمهور الذي يتابعهما ويستثار بوحي من استثارتهما ويتخذ المواقف بوحي من موقفيهما. لم يخل الإتجاه المعاكس من عراقيان يتكافشان ويدعوان المكونات العراقية إلى الإسترشاد بهما في كيف يجب أن تكون العلاقة بين تلك المكونات. إن "الإتجاه المعاكس" برنامج إسرائيلي يكشف ما تريده إسرائيل بوضوح، ويمكننا في الحقيقة ان نسترشد به لنعرف ما هو الصحيح – وأن نتجه إلى عكس ما يفعله تماماً.
النقطة الأكثر خطورة في الإعلام هي أن هناك جهد واضح لعزل مكونات المجتمع العراقي عن بعضها إعلامياً، وجعل كل منها تستمع وتشاهد وتقرأ من جهة مختلفة، فتكون لدى كل منها "قصة مختلفة" عن الأخرى وهذا ما كتبت عنه مراراً. وليس العزل الإعلامي إلا مكمل للعزل المكاني الذي بدأ بالتهجير، وكلاهما يصبان في هدف تحطيم العراق إلى أجزاء صغيرة. لقد لاحظت مثلاً أن كتاباتي تواجه بالهجوم الشديد في بعض المواقع الشيعية (على اساس أني سني) وفي المواقع المسيحية (على أساس أني مسلم) حتى حين أكتب ما هو ليس ضد الشيعة أو المسيحيين بل في صالحهما، داعياً في نفس الوقت إلى تقارب هذه المكونات، آتياً بوجهتي النظر لأية قضية لتسهيل على كل طرف رؤية كيف يفكر الآخر. لقد كانت المقالة الوحيدة التي منعها لي موقع "عراق القانون" الذي كشف عن حقيقته تدريجياً، مقالة بريئة تحتوي وجهتي النظر الشيعية والسنية من احداث بهرز، ولم يكن فيها أي تهجم على اي طرف يبرر هذا المنع! فيبدو أنه من المؤذي لأجندة من يقود الإعلام، مجرد وجود كاتب سني يمكن ان يستمع إليه الشيعة أو مسلم يمكن أن يستمع إليه المسيحيون. فمكونات الشعب العراقي لا يجب أن يسمح لها أن تستمع إلى ما تقوله المكونات الأخرى، لأن هذا قد يكشف اكاذيب ذلك الإعلام، مثلما يكشفه تعايش هذه المكونات في منطقة جغرافية واحدة، يرون بعضهم ويكلمون بعضهم ويكتشفون أن ليس بينهم أية عفاريت أو شياطين كما يريد الإعلام إقناعهم. إن "إغلاق" أداة الإعلام على مكون واحد يتيح لها أن تتحول إلى مركز تفريخ الأحقاد على المكونات الأخرى واجترار الأكاذيب والمبالغة بها دون أن تجد من يعترض، وتتحول "النقاشات" إلى "قشبة" و "نميمة" و "مسبات" يفرح بها كل الموجودين ويزدادون انفصالاً عن بقية المكونات. لذلك نحن بحاجة ماسة إلى سنة يكتبون في مواقع شيعية وبالعكس ومسلمون يكتبون في مواقع مسيحية وبالعكس، ونتمنى أن يتصدى لذلك من يستطيع.
نتوقف هنا على أن نكمل في الأجزاء التالية بقية جبهات القصف الإعلامي الموجهة إلى عقل المواطن وإدراكه ونكرر سعينا إلى لفت الإنتباه إلى هذه الزوايا وكشف الحال الصعبة والخطيرة في كل قضية والقاء بعض الضوء على احتمالاتها الخطرة وتشجيع البحث عن حقائقها ومعالجتها بشجاعة ومبدأية. أننا بحاجة لدعمكم في النشر – نشر هذه الدعوة وهذه المقالة وما سيأتي – وفي شحذ بعض الهمة معنا لبذل بعض الجهد في القراءة الجادة ثم الكتابة الجادة المحددة والمؤثرة، فالقصف شديد، ومدفعيتنا قليلة متناثرة لا تدري أين تلتفت، وعلى أي قصف ترد، وبدون أن ننجح في إقناع عدد كاف منكم، بخطورة القادم وبضرورة بذل الجهد لتفادي الكارثة، فأن هزيمتنا مسألة وقت.