%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال |
|
---|
حول دور المثقف في الزمن العربي الصعب .. حراس الفساد المقيم (*)
الدكتور عبدالله تركماني
يبدو النظام الإقليمي العربي في حالة ضعف واضحة، إذ يجد نفسه عاجزاً عن التعاطي المجدي مع التحديات الكبرى التي تواجه الأمة العربية. فما تبقى من فلسطين يتهدده الضياع، والعراق والسودان يتشكلان من جديد، وانتفاضات البطالة والجوع تقوم في أكثر من قطر عربي، وحالة التنمية الإنسانية العربية ما فتئت تتدهور في مجالات عديدة.
وإذ يمنح التاريخ للأمم لحظات حاسمة من حياتها حتى تقف أمام الحقائق العارية لاستخلاص الدروس الكبرى لمواصلة البقاء، فإننا أمام لحظة فاصلة يتحتم فيها على الأمة العربية أن تحسن استشراف ما هو متوقع ومحتمل، بعيداً عن التمني والرجاء وعن الاستغراق في الأوهام.
لقد دخلنا منذ نهاية الحرب الباردة في العام 1989، وخاصة بعد سقوط بغداد، في مرحلة جديدة تماماً لم تعد أنساق التفكير النظامية، التي عهدناها طوال عدة عقود، تساعد في فهمها أو تخيّل مخارج ممكنة منها. إذ ثمة ثقافة بكاملها تحتاج إلى المساءلة، بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، هي ثقافة المكابرة وتبجيل الذات والثبات على الخطأ والتستر على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلاً عن القفز فوق الوقائع والخوف من المتغيّرات ومجابهة المستجدات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسسات.
وفي هذا السياق يبدو أنّ الدور الأساسي للمثقف يندرج - تحديداً - في المساهمة الجدية في صوغ الرؤى الجديدة والعمل على إشعاعها وتطبيقها في الواقع، وهذا يتطلب حساً نقدياً عميقاً وجرأة على التخلص من النماذج القديمة التي عفا عنها الزمن، وقدرة على التواصل مع قطاعات الرأي العام المختلفة، وارتفاعاً عن المصالح الآنية.
إنّ المثقف النقدي يملك أكثر من غيره حساسية للقلق بسبب بنيته التجاوزية، فمنذ مقالة الكاتب والأديب الفرنسي إميل زولا عام 1898، التي حملت العنوان الشهير " إني أتهم "، كان هذا المثقف داعية للتطور والتغيير وناقداً للتقليد والجمود . خاصة أنه كلما اشتدت خيبات الأمة، يتم التوجه إلى المثقف العربي بالسؤال عن هذه الخيبات، والمفارقة الطريفة في ذلك كله هو تضخيم الحديث عن دور المثقف واستقلاليته.
وفي الواقع، لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة أنّ العجز العربي الذي بدا واضحاً في السنوات الأخيرة يعود إلى أسباب عديدة تغور في أعماق الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية العربية، ويبدو أنّ من أهم هذه الأسباب العلاقة الخاطئة بين المستويين الثقافي والسياسي، أو القطيعة العميقة بين أصحاب الرأي وأصحاب القرار. وبالرغم من هذا الأمر الواقع، كلما انتهى مشروع عربي إلى فشل، تجد كثيراً من أصابع الاتهام تشير إلى المثقفين لتلقي على عاتقهم وزر الفشل وتجعل منهم السبب الأساس للخيبات العربية، وكأنهم القائمون الفعليون على أمور مجتمعاتهم وأصحاب الحل والربط فيها.
ويأخذ المثقفون، الحاملون لقضايا الشأن العربي العام، على أغلبية النخب الحاكمة ترهلها وفسادها وضعف إنجازاتها وتجاهلها للمصالح والحقوق الوطنية وتعلقها المتزايد بمصالحها الخاصة الفئوية وعجزها عن بناء استراتيجيات وطنية وقومية قادرة على الوقوف في وجه التحديات العاتية التي لا تكف المجتمعات العربية عن مواجهتها، خصوصاً بعد زوال الحرب الباردة وتصاعد سطوة الولايات المتحدة الأمريكية وسيطرتها العالمية والإقليمية، وبعد الاحتقانات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها العديد من الأقطار العربية. وهم يعتقدون أنّ استمرار الأوضاع كما هي ورفض التغيير وقبول مشاركة الشعب ونخبه المختلفة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية سوف يقود حتماً إلى مضاعفة آثار الكارثة القومية، وأنّ شيئاً لا يبرر أن تُترك أمور اتخاذ القرار وبلورة السياسات العامة لنخب لم تحقق نجاحاً ملحوظاً في قيادة المسيرة الوطنية والقومية وفي إدارة الموارد البشرية والمادية. وهم يعتقدون أنّ ضمان الاستقرار لا يتحقق بكبت الحريات وتأبيد القوانين الاستثنائية وإنما بالإصلاح السريع والجدي الذي يعطي للشعوب فرصة تحسين أوضاعها ومشاركتها في تحمل المسؤولية ويطمئنها على نفسها وعلى مستقبلها ويعزز ثقتها بقياداتها. أما الاستمرار على النهج القديم الذي أنتج الأوضاع الكارثية الحالية التي جعلت من العالم العربي آخر منطقة من حيث النمو في العالم أجمع فلن يقود إلا إلى انفجارات اجتماعية قريبة ستدفع الشعوب ثمناً غالياً لها، وربما أدت إلى القضاء على جميع المنجزات الجزئية التي تحققت.
إنّ تأجيل عمليات الإصلاح الداخلي للمجتمعات العربية بحجة القضايا الكبرى والمعارك القومية وبدعاوى " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة " وغيرها، إن لم يكن سذاجةً وتبسيطاً مخلاً، فهو موقف يصب – عملياً - في خانة المستفيدين والمنتفعين من تأجيل الإصلاح وتأخيره، وهم حراس الفساد المقيم الذين يتمنون مثل هذه الانشغالات الشعبية بالمعارك الكبرى بل وينفخون في نارها ليخلو لهم جو العبث بالمقدرات العامة، ملتقين في ذلك موضوعياً، ودون الحاجة إلى تفسير تآمري، مع مختلف القوى المعادية للأمة والتي تريد لها أن تستنزف قواها في معارك خارجة عن إرادتها، لئلا نرى أنموذجاً عربياً فعالاً وملموساً، قادراً على التعاطي المجدي معها في الأرض العربية.
باختصار يدور الأمر حول وحدة معركة الحرية: استقلال فلسطين والعراق وحرية المواطن العربي، التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية والثقافية وحقوق الإنسان بل كأفضل شرط لتحقيقها. فلا خلاص من الأخطار المحدقة بالأمة إلا بتفكيك بنية الاستبداد في أغلب الحكومات العربية، وإجراء إصلاحات عميقة وحقيقية: ديمقراطية حقيقية، احترام كامل لحقوق الإنسان، منع الرشوة والمحسوبية والفساد، المساواة التامة بين المواطنين مهما كانت انتماؤتهم الدينية أو القومية، المساواة التامة بين الرجل والمرأة، تعميم التعليم والمعرفة. وإذا ما فاتنا تحقيق هذا الإصلاح فلن يأتي البديل بيد " عمرو"، بل لا بديل إلا أن نرى أنفسنا وقد تردت أوضاعنا أكثر بكثير وازدادت اتساعاً الهوة بيننا وبين العالم المعاصر.
ومهما كان الحال، لا يجوز الدفاع عن الأمر الواقع العربي الراهن الذي استنفد طاقة المجتمعات العربية وجعل منها بؤرة للطغيان والإرهاب والفساد والتفاهة، ولا يجوز اللعب بأولويات الأمة، كأن يطرح البعض تأجيل البحث بموضوع الإصلاحات والالتفات إلى إصدار بيان " قوي " للتضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق الذي اختبر بيانات الرسمية العربية منذ العام 1948.
من هنا الحاجة إلى إعادة الصياغة والبناء والتركيب للحياة والمجتمعات العربية والعمل العربي المشترك على أسس جديدة باستثمار الطاقات المعطلة والانخراط في إعمال المفاهيم والقيم والنظم المجدية، التي تثمر معرفة وثروة وقدرة وقوة، بها نحسّن سمعة الأمة ونستعيد الكرامة المهدورة.
إنّ المرحلة القادمة تقتضي دون شك شحذ الوعي الاستراتيجي العربي بمفاهيم وأساليب وآليات جديدة للتعامل مع أزمات غير مسبوقة، وتحولات نوعية متسارعة، وتحديات غير مألوفة، ذلك أنّ الأمر لا يتعلق بترميم نظام متداعٍ، وإنما بالاستعداد للانتقال المتأخر من مناخ المعادلة الدولية المندثرة، إلى آفاق أخرى. المهم أن تفهم القيادات العربية أنّ لا مناص من تغيير جذري في نوعية حكمها وتحكمها، وأن تفهم الشعوب العربية أنّ حقبة التذمر ولوم الآخرين حان زوالها، وأن تفهم تيارات التطرف أنها لن تكون قادرة على إلحاق الهزيمة بأعداء الأمة عن طريق أعمالها الإرهابية، وأن تفهم تيارات الاعتدال أنّ هناك فرصة لها لتوظيف المنطقة الرمادية بين الانبطاح والممانعة.
تونس في 10/1/2011
الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
(*) – نُشرت في صحيفة " القدس العربي " – لندن 17/1/2011.
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|