<%@ Language=JavaScript %> قيس عبد الله الرابع عشر من تموز والتحليل العاطفي للتاريخ
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

الرابع عشر من تموز والتحليل العاطفي للتاريخ

 

 

قيس عبد الله

 

مقدمة

 

كان الإفضاء الأخير للرابع عشر من تموز عام ثمانية وخمسين في العراق احتلال البلد وسقوط الدولة وتمزق مجتمعها وعجزها عن الدفاع عن نفسها. وبعد ما يزيد على نصف القرن عليها، لا يزال الرأي الغالب يقول إن هذه الثورة قد أسقطت عام ثلاثة وستين، وانها انتهت بنهاية قائدها، ولم تحقق أهدافها من ثم. ولكن نظرة إلى بيانها الأول المبتسر تكشف عن عموميات تجاوزتها هذه الثورة منذ أيامها الأول، إضافة إلى تقصير واضح في الوفاء بالتزاماتها، حيث لم تهمل الثورة إجراء انتخاب رئيس الجمهورية كما وعدت فحسب، بل إنها همشت مجلس السيادة ومنحت رئيس الوزراء وحده سلطة القرار. هذه الثورة ألغت الإقطاع  لصالح الطبقة الوسطى الدنيا وحلفائها العمال والفلاحين، أضافة لإلغاء قانون العشائر وسن قانون الاصلاح الزراعي، وحررت الاقتصاد الوطني من التبعية لبريطانيا وعززت العلاقات مع المعسكر الاشتراكي بعد الانسحاب من حلف بغداد، وسلكت سياسة نفطية تحررية انتهت بسن القانون رقم ثمانين الذي حدد عمليات شركات النفط الأجنبية ومهد للتأميم فيما بعد، وأرست أسس الصناعة الوطنية على أساس سيطرة الدولة، مما عزز وجداناً عراقياً اشتراكي التوجه، بمعنى أن تغيير رئيس وزرائها لم يقض على توجهها بعد رسوخ قيمها وإجراءاتها التي لم يتراجع عنها غير الاحتلال.

لكن كانت للثورة ايضاً نواقصها، إن من حيث سلوك قادتها أم من حيث سلوك القوى التي ناضلت عشرات السنين وقدمت الضحايا الغالية على طريقها، والتي لم تكن ترى في العسكريين الذين قادوها غير أداة تنفيذها. وبعد نصف قرن من انطلاقها وتعثرها وانتكاسها، لا يزال قطبا الحركة الوطنية العراقية، الوطنيون والقوميون، يرون أنها سرقت من منافسهم الذي صار خصماً ثم عدواً، جارّين وراءهم القطاعات العريضة من العراقيين حتى انتهى الأمر إلى ما نعرف.

أنهى انقلاب شباط حكم الفريق عبد الكريم قاسم بدموية نادرة؛ وقد اقترن إعدامه الفوري بتصفية الحزب الشيوعي في حرق للأخضر واليابس، مما صفى الكثيرين من الأبرياء، وتجاوز عن كثير من المذنبين وأغلبهم من الغوغاء التي ظلت تنفلت كلما حدث خرق في تماسك النظام، وكما هو حاصل الآن. حكم حزب البعث بالشكل الذي نعرفه وأصدر حكمه على نفسه وعلى نظرته لحكومة الرابع عشر من تموز، لكن الذي يهمنا هنا رأي الجهة الأخرى التي أسندت رئيس الوزراء دون تحفظ حتى لحظاته الأخيرة، والتي لا تزال تصور عهده على أنه جنة خالية من الأفاعي، خال من الضغوط السياسية والإرهاب، وأنه النقاء الكامل، في حنين انتقائي، إن يكن يستند إلى شرعية وجدانية شأن كل من يرى في ثورة تموز جزء عزيزاً من تاريخه الوطني والشخصي، لكنه يفتقد للنظرة الموضوعية مما يهدد ببقائنا في نفس النفق أبد الآبدين.       

نحاول هنا النظر إلى هذه الثورة من وجهة نظر معتدلة على اساس المعايشة الشخصية لها، ومن وجة نظر الذين تعرضوا لاضطهادها وإرهابها، وبالذات على يد حلفائها الشيوعيين أو باسمهم. والقليلون يعرفون أن قد كان حتى للأطفال نصيبهم من الاضطهاد وقتها، على يد معلمين أغرار على الأغلب وتلاميذ أكبر سناً، لكن ذلك لم يقد إلى تصفية ذويهم كما حصل على عهد صدام حسين حسب معايشات شخصية ايضاً مما يبرر قبول الرأيين. وقبل الحديث عن ذلك، من المهم القول إن الزهو وفقدان التوازن والانفعال يلازم لحظات التحرر الكبرى، شأن التسرع في الأحكام والأخطاء الفادحة، وحتى الجرائم، والوضع يتحول إلى كارثة بغياب القيادة كما حدث لدينا رغم إصرار الكثيرين على نعت رئيس وزرائها بأنه قائدها. وربما يكون من المفيد التمعن في وجهة نظر من تدعوهم الأدبيات السياسية "المستقلين"، أي الذين لم ينتموا للأحزاب السياسية العراقية أو تركوها مبكراً، وظلوا على علاقات طيبة بأشخاص من الطرفين، وكثيراً ما كانوا يحسبون على هذه الجهات مما جعلهم موضع اضطهاد أو شك على الأقل في جميع العهود، إن لم يكن بسبب صداقاتهم، فبسبب عائلتهم أو حيهم، أو غيرها. هذه الفئة موجودة فعلاً، ورغم أنها نشأت في إحدى البيئتين، فإن الوضع العراقي المتشابك يقود إلى أن ينتتمي المرء لحي وعشيرة وحزب وطبقة ومهنة ونقابة وغيرها  في آن واحد. هذه الفئة ترى النقاط الإيجابية في جميع الأطراف، ولا تسوقها العقيدة إلى غض النظر عن عيوب معسكرها، أو تبرير أخطائه. وليس الغرض هنا لا الامتداح ولا القدح، فقد سئمنا ذلك طوال نصف قرن، والهدف هو رؤية تاريخنا بوضوح كشرط أولي لأي مشروع مستقبلي، دون الخطاب الناري البائس الذي أوردنا موارد الهلاك، مع الوعي بأن الوقوف على الحياد بين العدو والصديق انتهازية إن لم يكن خيانة، لكن الوضع هنا  يتعلق بمناقشة ما لنا وما علينا كعراقيين.

 

***

قيادة الثورة

نبدأ بمقولة كون عبد الكريم قاسم قائد الثورة. الواقع يقول إن الثورة كانت من تهيئة تنظيم الضباط الأحرار وقد أسسه رفعت الحاج سري، وأن عبد الكريم قاسم انتمى إليه عام سبعة وخمسين حسب أكثر الروايات تواتراً، هذا إذا تجاهلنا رواية القوميين – وهي رواية غير موثوقة تقول إن عبد السلام عارف فرضه على التنظيم_ لكن المعروف أنه اختير رئيساً بسبب رتبته، مما جعل القوميين يروجون لزميله في الرتبة ناجي طالب. لكن من المرجح كثيراً أن عبد السلام عارف هو من أطلق عبارة ’’ماكو زعيم إلا كريم،، التي صارت شعاراً للمظاهرات. ثم أن التنفيذ أوكل للقطعات التي تسنح لها فرصة الانقلاب، وهذا ما قام به فوج عبد السلام عارف، وهو الذي احتل العاصمة وأسقط النظام وأذاع بيان الثورة. فما باب تنصيب عبد الكريم قاسم قائدأ لها وقد حضر من جلولاء بعد نجاحها وإذاعة وزارتها لتسلم سلطتها؟ هل كان لها أن تنجح لولا التعبئة الشعبية الفعالة طوال عقود بقيادة الأحزاب السياسية التي توجت جهدها بجبهة الاتحاد الوطني عام سبعة وخمسين؟ ليس أدنى شك في كون مسيرة حكومتها حتى انقلاب شباط كانت بقيادة الزعيم كما صار يدعى من شعبه، وهذا شيء غير قيادة الثورة بصورة مطلقة مما يغمط حقوقاً تاريخية كثيرة.

حقيقة قائدي الانقلاب

مع أن التغيير جرى على النموذج المصري، فإن منفذي الانقلاب لم يعلنوه باسم المجموعة وإنما باسم القائد العام للقوات المسلحة، مما دعى خصوم رئيس الوزراء ونائبه للترويج لمؤامرة استبعدت مجلس قيادة ثورة مفترض. ثم أن إلغاء مجلس النواب وحكر السلطة على العسكريين وتركيزها في شخص رئيس الوزراء هو الذي أسس للديكتاتورية والعسف والدماء، وليس هنا مجال لسلامة الطوية ونحن نرى ما قادت إليه مؤسساتنا. وبعد كل شيء، هل هناك مايخشاه العسكري المتربي على الأمر والطاعة خشيته المناقشة وتدخل المدنيين؟

ولعل أبرز مثال على عسف منفذي الانقلاب أن حكومة الثورة التي تشكلت على أساس مشاركة القوى السياسية كافة، منحت حقائب وزارية للبعثيين وحزب الاستقلال والوطني الديموقراطي والقوميين والأكراد، إلا أنها استثنت الشيوعيين. معروف عن عبد السلام عارف مقته لهؤلاء، لكن عبد الكريم قاسم لم يكن يميل للقوميين وقد وافق على استيزارهم، فمن هي القوى التي كانت تحرص على استبعاد الشيوعيين؟

وقد فهم عبد السلام عارف أنه وصديقه شريكا حكم ولا حرج بين الأصدقاء، لذلك بدأ جولات في مدن العراق الرئيسية ألقى فيها كلمات مرتجلة غير مسؤولة مما أحرج الجميع وخفض من رصيده، إضافة إلى أن تحفظ قاسم ودقته في التعامل هدد سلطته من قبل عارف، وبدا واضحاً أن الصديقين ليسا متفقين على كل شيء.

تقول مصادر أرخت للثورة إن الضباط استشاروا عبد الناصر قبل تنفيذها عن طريق فائق السامرائي الذي صار أحد وزرائها وأن الأول وعد بمؤازرتها، غير أن رئيس وزرائها لم يكن متحمساً لذلك بعد نجاحها. ولقد فهم عارف أن الثورة قامت لضم العراق فوراً للجمهورية العربية المتحدة بقيادة ناصر، بينما كان قاسم يريد تنفيذ برنامج وطني عراقي ولا بأس من التعاون مع ناصر. هنا انحاز القوميون والبعثيون إلى عارف، والشيوعيون والوطنيون إلى قاسم، وكان الخلاف من العمق، والتصلب من الشدة بحيث كان الانشقاق محتماً. لقد كانت القوى الوطنية متفقة على إسقاط الملكية التي قيدت الشعب واضطهدته وكمت أفواهه عقوداً طويلة، لذلك كان رفع الغطاء عن واقع يغلي، إيذاناً بتفجير جميع تناقضات المجتمع العراقي مرة واحدة، وطرح مسألة مشروع قيادة الدولة بصورة عملية لأول مرة. ولا شك أن في العراق الكثيرين جداً من العقلاء والمتزنين، لكن الإعصار كان شديداً، و"حداثة النعمة" في أقصاها، والخبرة في أدنى مستوياتها، ولو لم يبدأ هذا الطرف بالاستحواذ لبدأ الطرف الآخر، بسبب الراديكالية المبدأية فيهما، وبسبب صداميتهما بحكم ظروف عملهما ضد نظام معادٍ قاسٍ. النتيجة هي إقصاء عارف واستقالة ممثلي معسكره من الوزارة، وسيطرة قاسم وتقريب اليساريين وسيطرتهم على تنظيم المقاومة الشعبية وإقصاء القوميين عنه.

أطراف الحركة الوطنية

فيما كانت الوحدة العربية أولى أولويات البعثيين، كان مشروع الشيوعيين هو دعم حكومة الطبقة الوسطى ودفعها نحو استكمال الاستقلال الوطني وإنجاز البنية التحتية بصورة حرفية بناء على التعاليم الماركسية اللينينية، رغم أن لينين حسمها في أشهر قليلة وبدأ ببناء حكم السوفييت بقيادة الحزب الشيوعي. ومهما تكن سلامة موقف الحزب الشيوعي أو عدمها، فقد كان خطأه القاتل هو المماهاة بين شخص عبد الكريم قاسم –العسكري المحترف- والطبقة الوسطى والحركة التحررية قائدتي التغيير الفعليتين، ثم الارتباط مصيرياً به وغض الطرف عن أخطائه وتحمل مسؤلياتها بدلاً عنه، ولو على حساب علاقتهم بالقوى الوطنية الأخرى، مما عزا كل إنجازات النضال الوطني منذ نشوء العراق الحديث إلى شخص عسكري بدأ نشاطه بعد نجاح الانقلاب.

ثم أن تسليم قيادة الثورة جثث العائلة المالكة الى الغوغاء وجرها في الشوارع ومباركة الشعب لذلك، جعل من المبادرة للعقاب طقساً مقبولاً في البلد الذي يميل مواطنوه إلى العدالة الذاتية كما في أسلوب "البسط" السائد بصورة ملحوظة، وكان هذا الأسلوب هو الأخف في التعامل مع المخالفين في البداية، وصار الأكثر رواجاً وقد أرخي الحبل للأخذ بالثأر. وفي الجو العصابي السائد كان المخالف عميلاً وخائناً وجزاءه السحل، وكانت اللازمة: "هذا جزاء الخونة.."، وكانت إحدى التكملات: "بالحبال سحلوهم". كانت الأخرى: "ماكو مؤامرة تصير" وإحدى التكملات: " والحبال موجودة". لم يكن الوضع خريف عام ثمانية وخمسين لا هادئاً ولا آمناً، ومع مجيء الشتاء حدثت حوادث سحل متفرقة في أكثر من مدينة عراقية. لقد أسست هذه الفترة القصيرة من تاريخ العراق للتوقيف دون توجيه تهمة رسمية ولكن بدعوى الانتساب للتيار القومي، ولأيام أو أسابيع، كل ذلك قبل التآمر والمجازر وما أشبه. وإذ كان البعثيون يهتفون بشعار القومية العربية الخالدة، كان الشيوعيون يقرنون هذا الهتاف بسقوط القومية العربية المزيفة.

طبيعة الحكم

ظل عبد الكريم قاسم ضابطاً مسلكياً لم يظهر بلباس مدني طوال سني حكمه، وظل يحصل على ترقياته في موعدها في كانون الثاني كل أربع سنوات. ومع أن الجهاز الحكومي كان مدنياً، وربما كان أكفأ جهاز شهده العصر الجمهوري ضم أفضل ما لدى الطبقة الوسطى من كفاءات، فقد كان المقربون من الزعيم وأصحاب السلطة الحقيقية من العسكريين فقط، ومن ذوي الميول اليسارية أو الشيوعيين على الخصوص. وحتى سقوط التجربة عام ثلاثة وستين كان للعراق حاكم عسكري عام. لكن ذلك اقترن أيضاً بكون محاسبة مسؤولي العهد الملكي جاء عن طريق محكمة عسكرية دعيت " المحكمة العسكرية العليا الخاصة" والتي اشتهرت فيما بعد باسم محكمة الشعب. ولا نتردد هنا في القول إن هذه المحكمة كانت نقطة سوداء في تاريخ ثورة تموز، وكان دورها رئيسياً في التبرير لما حل بالنظام. ومن الحق أن المحكمة كانت أصولية وعلنية وقانونية، لكن رئيسها تجاوز كل الحدود إن في شتمه للمتهمين قبل إدانتهم، أو في السوقية في الشتم: "خسيس..درنفيس"، وحين نعت أحدهم بالكلب، فقد رد المتهم النعت عليه، وعلى الهواء. لكن الأسوأ أن المحكمة كانت تغص بالمحرضين والهتافين والغوغاء، وحتى الحبال، بحيث أن جوها كان عدوانياً متحيزاً لا يسمح بأية عدالة مهما كانت أصولية إجرءاتها. والملاحظ أن قاسم لم ينتقد سلوك رئيس المحكمة بل تبنى إجراءاتها. ثم أنه لم يعترض على سلوك الشيوعيين الذي كان تحريضياً متطرفاً، وإن كانت التحريضات اللامسؤولة تصدر عن صحيفة صوت الأحرار لا عن اتحاد الشعب صحيفة الحزب الرسمية. ومن المهم ملاحظة البادرة غير الطبيعية والتي كانت من سمات هذه المرحلة فقط، وهي تكليف الانضباط العسكري بملاحقة القوميين وحتى قمع المظاهرات، ثم في استخدام الثكنات مراكز توقيف.

 لكن التوتر بلغ ذروته في إصرار الحزب الشيوعي على عقد مؤتمر للسلام في مدينة الموصل المعادية مما اعتبره القوميون استفزازاً خاصة أن الإعلام صار معادياً صراحة للجمهورية العربية المتحدة والبعثيين وصار لفظ "عفلقي" شتيمة واتهاماً، رغم عدم وضوح ذنب هذا الرجل غير تأسيس حزب ككثير غيره، ورغم أن هناك زعماً بأن مؤسس البعث هو زكي الأرسوزي لا عفلق. بالمقابل كانت إذاعة صوت العرب ومذيعها أحمد سعيد لا تكتفي بصب الزيت على النار، بل توغل في تأجيج النيران، بدعاياتها وأغانيها وتمثيلياتها، وتدعو صراحة للإطاحة بالنظام. ثم أن وفد السلام الذي أقله ما دعي بقطار السلام جاء بعد أقل من اسبوعين على احتفال الفئات القومية في الموصل بالذكرى الأولى للوحدة العربية مما رافقه اصطدامات بين الطرفين وصراع على المدينة كما كان صراعهما في كل مجالات العمل. ثم أن مسيرات الشيوعيين في المدينة وشعاراتهم الاستفزازية، ثم مقاطعة الموصليين لهم وإغلاق المطاعم والمتاجر بوجههم، بعدها الصدام ومقتل رئيس منظمة أنصار السلام كامل قزانجي فجر العنف، ثم أن احتلال الحامية العسكرية للمدينة وإعلان العقيد الشواف للتمرد بالتعاون مع البعثيين (أفادت تقارير بضلوع الجمهورية العربية المتحدة في التمرد). قاد إلى قصف المعسكر والمدينة من قبل القوة الجوية وقتل العقيد الشواف وفشل تجربته، ثم استباحة المدينة لثلاثة أيام متواصلة جرت فيها عمليات سحل على نطاق واسع، يقدرها القوميون بالمئات، بينما أشار اليساريون إلى ما بين الخمسين والمائة. والمهم أن هناك مصادر تزعم أن الشواف قصد بغداد أكثر من مرة ورجا الزعيم أن يمنع عقد المؤتمر في المدينة، ومن الواضح أن الكثير من هذه الأعمال كانت بدوافع عائلية أو شخصية أو مصلحية، لكن القوميين عزوها للحزب الشيوعي، وهذا انشغل بحملة واسعة من إدانة هذه الحركة وتجريم قادتها والتحرض ضدهم، ولم يصدر إدانة رسمية لها ولم ينشر تحقيقاً موضوعياً يورخ لها رغم أن مرتكبيها هم من الغوغاء في الغالب. لكن أحداً لم يوجه الاتهام لا للحكومة المركزية ولا لزعيمها، والأهم كثيراً أن أحداً لم يسأل السؤال البسيط المختصر: لماذا لم تحمِ قوى الأمن الحكومية التابعة للزعيم مدينة الموصل المستباحة المنكوبة؟ إذا إضفنا لذلك مجزرة كركوك في تموز من نفس العام نعرف في أي مأزق وضع الحزب الشيوعي نفسه.

مصير الخصوم

بقدر ما كان مثول مدنيين أمام محكمة عسكرية أمراً مقبولاً من الجميع وقتها، فإن أحكامها قوبلت بالترحيب. لكن حكومة الثورة نفذت الإعدام بثلاثة فقط من الملكيين في نفس يوم أعدام أربعة عشر من الجمهوريين المدانين بالتآمر فيما عرف بحركة الشواف (مما حدا بالقوميين لاعتبار تزامن التنفيذ مقصوداً لتدنيس سمعة الضباط)، من ضمنهم مؤسس تنظيم الضباط الأحرار رفعت الحاج سري، ومعروف أنه والزعيم ناظم الطبقجلي (عضو لجنة قيادة التنظيم) لم يشرعا في التنفيذ حيث كان الأول مديراً للاستخبارات في بغداد والثاني قائد فرقة في كركوك، وكان تسعة عسكريين ومدني واحد قد أعدموا قبلها بنفس التهمة ليتجاوز عددهم العشرين مقابل الثلاثة المذكورين. كانت تهمة هؤلاء التأمر على الجمهورية الفتية، وكانت تهمة مسؤولي العهد الملكي التآمر على سلامة الوطن، وكان أول من حوكم أمير اللواء الركن غازي الداغستاني، والذي حكم بالإعدام، ليطلق سراحه بعد عامين ونيف. ومن الملاحظ أن عبد الكريم قاسم لم يصادق على حكم الإعدام بحق صديقه عبد السلام عارف، والأهم أنه لم يصادق كذلك على أحكام الإعدام بحق البعثيين الذين نفذوا عملية اغتيال بحقه ألحقت به إصابات جدية. كان هناك رأي يقول إن زيارة ملك المغرب محمد الخامس حملت معها ضغوطاً من جهات خارجية لوقف التنفيذ، لكن عملية أعدام الضباط كانت بنفس الجدية. فهل كان الزعيم يخشى العسكريين دون المدنيين؟

لكن الحملة ضد عبد الناصر ودولته والتشهير به واتهامه بالطمع بثروات العراق (طريفة البلح في جيب والبرتول في جيب _بالجيم المصرية)، وشعار "شيلوا سفارتكم، ما نريد وحدتكم" وجدت التعبير عنها في قطع جميع العلاقات حتى الأفلام ومجلات الأطفال، في حين ظلت العلاقات مع الغرب على حالها، لتعود هذه العلاقات بعد أقل من عام بعد أن كان الشق في الصف الوطني قد أعاق تطور الدولة بشكل جدي بعد أن أنجز الشعب ثورة فريدة فاجأت حتى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

ما أن كسرت شوكة القوميين وتكفل الشيوعيون بهم وألقيت على عاتقهم جرائر مجازر الموصل وحوادث السحل والاضطهاد حتى أرخت الحكومة الحبل للقوميين وبدأت بمحاكمة الشيوعيين والحكم على الكثيرين منهم بالاعدام مقترنة بحملات انتقام واغتيالات من جانب القوميين لم تتدخل فيها الحكومة كالعادة، ثم ليعلن الزعيم موقفه الواضح من الشيوعيين ومهاجمتهم في خطابه الشهير في كنيسة مار يوسف ببغداد ربيع نفس العام، مما دفع كثيراً من المراقبين، وخاصة من الصف القومي إلى اتهامه باستخدام الشيوعيين لتصفية القوميين وبالعكس بعدها بقصد تصفية الخصوم لبعضهم والاستفراد بالسلطة. ثم أن الزعيم امتثل آخر الأمر للمطالب الملحة للشيوعيين بإشراكهم في الحكم حيث شهد العام الول للثورة الأهزوجة التي كانت تصدح في المظاهرات والمسيرات: "عاش زعيمي.. عبداللكريمي.. حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي" حين منح ممثلتهم السيدة نزيهة الدليمة حقيبة وزارة البلديات بعد أن صاروا مطاردين متهمين من زعيمهم ومن رفاقهم في جبهة الاتحاد الوطني. لقد انقلب ما دعاه خصومهم بالمد الأحمر إلى جزر خطير كان من ضمن مخطط لقصم ظهر الشيوعية في أعز قلاعها، حين أصدرت المرجعية الدينية بتبريك الحكومة وخصومها فتواها بكون الشيوعية كفراً وإلحاداً، وإكماله بالتصفيية الشاملة عام ثلاثة وستين. أما أحكام الإعدام بحق الشيوعيين وحلفائهم فلم تنفذ كذلك، لكن البعثيين كانوا أوفياء لحكم قاسم في هذه النقطة اليتيمة فقط حين تشفوا بأعدائهم ونفذوا بهم أحكام قضاته بعد الإطاحة به.

لكن عبد الكريم قاسم كان رجلاً نزيهاً مستقيماً متقشفاً في حياته. ومع كل التجاوزات فقد ظل القانون مطبقاً في عهده حسب الأصول، وقد شهدت محاكم عهده الحكم لمواطن ضد وزير، كما أن المستفيدين الرئيسيين من حكمه كانوا العمال والفلاحين والكسبة وصغار الموظفين. وليس من حقنا هنا وقد أدلينا بشهادة حول سلبيات عهد الثورة فقط (دون منجزاتها الضخمة) أن نطلق أحكاماً، فهذا من شأن المؤرخين، أضف لذلك أن رجال ثورة تموز بحسناتهم وسيئاتهم كانوا جميعاً من صنع الأحداث، وضمن السياق التاريخي للبلد والمنطقة.

لكن عبد الكريم قاسم، وثورة تموز لم يكونا هما الوحيدين الذين عوملا بعاطفية ولا موضوعية، فزعيم العراق مثلاً لم يعبئ الأمة كلها ويقدها لعقد ونصف  نحو محو العدو الصهيوني من الوجود كما فعل ناصر، ثم يعجز عن الصمود لساعات قليلة ويدفع بمائتي مليون إلى الهاوية التي نراها الآن دون أن يفقد عرشه في ضمائر مستعدة أن تتسامح مع الكارثة وتنزه قائدها، ولم يرفع عبد الكريم قاسم شعار اللاءات الثلاثة (لا صلح لا تفاوض لا اعتراف) كما فعل عرفات ليعترف ويتصالح قبل أن يفاوض، ولم يعانق الملك حسين جزار أيلول الأسود، ولم يزر أرملة العدو الإرهابي رابين للتعزية باغتياله، دون أن يفقد موقعه كرمز. وهذا حال قادة الأمة في قرنها العشرين منذ ثورة الحجاز حتى احتلال العراق وتقسيم السودان، وكأن أجدادنا لم يصنعوا تاريخاً كاملاً قائماً على هدم أصنام مكة.

لنلاحظ أن الثورة الواعدة الحالية، والتي لا تزال مستمرة ومنتصرة ومبدئية في مصر، لم ترفع قائداً أوحد ولم تنطلق باسم ناصر ولم تنتقصه: لقد تجاوزته، وصار من اللائق الآن أن تنظر إلى إنجازاته كجزء من سياق تاريخي.

وفي بلدنا المحتل تقوم الدعوة منذ انطلاق مقاومة الغزو عسكرياً وسلمياً إلى تجاوز وضع التشرذم والتحارب والشقاق، لكن من الخطل تصور ذلك على أساس قسر الخصم على الاعتراف بجرائم لا نهاية لها وتبرئتنا حتى من الزلات البسيطة جملة وتفصيلاً. إن أي مشروع لا يتجاوز خطاب الأمس سيظل يراوح في مكانه –الأمس-، وهذا هو السبب في إحباط المقاومة الإسلامية لمشروع الشرق الأوسط الجديد وتقسيم البلد وإجبار جيش العدو على الرحيل  تحت جنح الظلام وتكبيد بقاياه الخسائر الفادحة لحد الآن، فيما يساوم القوميون سراً ويشكلون الصحوات علناً بينما يشارك اليساريون في حكم المحاصصة الطائفية ولا يتوقفون عن التنظير في المنافي.

ومن حق الجيل الذي تنفس نسيم الانعتاق في ثورته عام ثمانية وخمسين أن لا يمنحها غيره لأي كان إلا بصفته جزء من شعب مهد وخطط لها ونفذها جيشه الذي كان أول ضحايا الاحتلال. ومن حقه أن يرفع تحيته لها في ذكراها العطرة.

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا