<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن خيانة النخبة: الثورة التونسية المسروقة

 

 

خيانة النخبة:

 

الثورة التونسية المسروقة

 

 

حمزة الحسن

 

مرة أخرى تثبت النخبة العربية السياسية التي عاشت وتربت وتكونت في ظل الصراع مع الانظمة الحاكمة، انها ليست فقط بعيدة عن وعي شعوبها ومنفية في نصوصها وأوهامها، بل انها صورة أخرى من صور النظام الحاكم، لأن الصراع مع الوحش يترك رائحته على جسد ضحيته وسلوكه وعقليته ويقلص كثيرا من آدميته، ولأن هذه النخب لم تكن تستهدف من ذلك الصراع سوى الوجه المركزي منه وهو حيازة السلطة.

 

لذلك تقوم كثير من الانظمة الحاكمة باشباع هذه الرغبة لدى هذه النخب وتنتزع منها شرعية تمثيلها للناس وتفضح نواياها من خلال مؤسسات صورية على شكل برلمانات أو مؤسسات شكلية او تضعها في بعض الاحيان في واجهة الحكم لكن من دون صلاحيات حقيقية والغرض هو الاشباع والتلويث كما قام مثلا النظام المغربي بوضع السجين والمعارض العتيد عبد الرحمن اليوسفي على رأس وزارة وتم افساد النخبة الوطنية المعارضة الا النواة الصلبة التي فضلت العمل في الهامش وغالبيتها من نخب الادب والفكر والثقافة وبقايا اليسار المغربي كالشاعر عبد اللطيف اللعبي والسرباتي والطاهر بن جلون وغيرهم الكثير.

 

الثورة التونسية التي اشعلها بائع خضار على دكتاتور زوجته هي الاخرى بنت بائع خضار وان كانت ثورة عفوية في الظاهر، رغم ان النار تحت الرماد، هذه الثورة صودرت من قبل الدكتاتور نفسه والمؤسسة الحاكمة والدول الكبرى بدهاء وعلى مراحل ولم تكن النخب السياسية والحزبية المعارضة بعيدة عن هذه المصادرة رغم تفاوت الادوار والمبررات: اذا كانت المرحلة الاولى للمصادرة تمثلت في طرح شعار جماهيري عفوي هو رحيل الدكتاتور، فإن المرحلة الثانية تمثلت في تنفيذ هذا الشعار تحت ضغود داخلية وخارجية، رغم ان الجماهير كانت ستصعد شعاراتها الى رحيل النظام نفسه لكن الأمر أوقف عند هذا الحد حين هرب الدكتاتور لكنه ترك خلفه طريقة ادارة الدولة المعمول بها اليوم بناء على خطة مسبقة وهي ان يتولى الوزير الاول الوزارة مع كامل فريق الحكم السابق المخضرم الذي كان شريكا فاعلا في الحكم طوال مرحلة  ما بعد الاستقلال، واما المرحلة الثالثة للمصادرة هي التعجيل في تشكيل حكومة وحدة وطنية تخرج من قلب النظام السابق وبشروطه هو وتحويل الصراع اليوم الى جدل قانوني قابل للتعديل وليس صراعا سياسيا عميقا وجوهريا على الدكتاتورية الحاكمة.

 

لتنفيذ هذه الاهداف على مراحل، تم وضع الشعب التونسي، كما العراقي من قبل، في أجواء جريمة وحرائق وخوف وتهديد وذعر لكي يصبح المطلب الرئيس للناس هو البقاء على قيد الحياة وليست المشاركة في صياغة شكل وصورة وجوهر المستقبل، في حين قام النظام الدكتاتوري بدعم حلفاء مؤتمنين من الداخل والخارج، بعملية التلقيح الذاتي للنظام من الداخل وهي التضحية بالدكتاتور وتركه يبحث عن ملجأ والحفاظ على المؤسسة، وهي الطريقة نفسها التي قام بها الدكتاتور التونسي في عام  1987  حين ازاح بطلب من الغرب الرئيس السابق بورقيبة مع البقاء على المؤسسة الحاكمة نفسها.

 

هذا النموذج في التلقيح الذاتي أو تجديد أو انعاش النظام الدكتاتوري هي طريقة مألوفة وقد شهدنا على المستوى العراقي واحدة من تطبيقاتها في تموز 1979 حين اطيح بالرئيس البكر وفريقه في مذبحة معروفة، كما ان شعوبا اخرى عاشت مثل هذه التجارب: في فيتنام مثلا حين اطيح بالرئيس الفيتنامي العميل والدمية جو دنه ديم في 2تشرين الاول 1962 بقتله مع شقيقه  وتولى الحكم بعده دمية اكثر قدرة على ضبط الاوضاع والمصالح، وفي كوريا الجنوبية حين قام رئيس جهاز الأمن كيم جاي كيو في 12 كانون الاول 1979 بقتل الرئيس الكوري الجنوبي" بارك تشنج هي" بطلب من المخابرات الامريكية وتولي الحكم بعده ، وحصل ذلك في دول كثيرة في استراتيجية تعرف بالتغلغل داخل النظام الحاكم والتحكم به بناء على تحالفات استراتيجية قائمة ومؤسسة على مصالح.

 

الرئيس الفليبيني رومان غيسه الحليف للغرب وأمريكا الذي قتل في حادث طائرة هو اشهر الامثلة الفليبينية، حتى العميل الذليل الجنرال روفائيل تروخيلو في الدومنيكان تمت تصفيته من داخل المؤسسة بالتعاون مع المخابرات الامريكية لانتهاء صلاحيته( رواية ماريا فارغاس يوسا " حفلة التيس" تتحدث عن هذا الاغتيال)، وكذلك الجنرال التشيلي المأجور رينيه شنايدر في 1970، وكذلك محاولات اغتيال الدكتاتور النيكاراغوي  سوموزا من اجل استبداله بحليف منقح غير معروف يضمن المصالح نفسها، وفي الباكستان العملية نفسها حين تمت تصفية الجنرال ضياء الحق في حادث طائرة 1989 وهو الحليف القوي للغرب اول الامر لكنه اكتشف في ايامه الاخيرة وطنيته الضائعة، ومن التطبيقات العربية لهذا النوع من تلقيح النظام بصورة عنيفة أو قطع الرأس هي نهاية الملك السعودي المرحوم فيصل، ولا يتسع المجال لذكر سلسلة طويلة من اساليب تجديد الانظمة من داخلها بعد انتهاء صلاحية طاغية او بداية تحوله الوطني أو خروجه عن السيطرة وعجزه عن ضمان مصالح عليا حساسة كالقواعد العسكرية، مثلا، وفي تونس قاعدة عسكرية امريكية كما في المغرب وفي الجزائر وفي دول عربية كثيرة.

 

ان خيانة النخب العربية السياسية لشعوبها وبصورة خاصة في لحظات التحول والمنعطف ليست جديدة ومستمرة بل هي أكثر النخب انتهازية وسطحية في العالم ولا تحتاج للتخلي عن كل شعاراتها أكثر من موقع في نظام حكم واجهي من اجل اشباع رغبات متعفنة كتعويض نفسي عن سنوات الاقصاء، وجميع ثورات الاستقلال الوطني وتضحيات هذه الشعوب تمت مصادرتها من قبل هذه النخب، ولا يتطلب الأمر ذكر الامثلة لانها ماثلة في الذاكرة وبافراط.

 

الاستثناء الواضح في الثورة التونسية  هو شرارتها الشعبية التي أقصت بقوة مفهوم النخبة الملهمة او القائدة أو الطليعة الثورية أو الحزب الثوري، لأن الشعوب في لحظات الثورة لا تحتاج الى من يشرح لها معنى الظلم والذل والخنوع ولكنها تحتاج، في لحظة قطاف النصر وحصاد الثمار، الى من ينظم هذا الغضب ويحوله الى ادارة ودولة وسلطة وينعطف به من الثورة الى الدولة واستثمار النصر، لأن ثورات كثيرة تضيع وتسرق في لحظة نصرها: هنا دخلت أو أُدخلت النخبة التونسية المعارضة على الخط وصادرت الثورة لأن هذه النخبة كمثيلاتها من النخب العربية خبيرة في منطق التسوية والصفقة والتبرير والمساومة.

 

ان ما نشهده اليوم في تونس هو برنامج الدكتاتور الهارب ينفذ بمكر سياسي لا يخلو من صفاقة وعلنية ووضوح حين أوصى بتشكيل وزارة من داخل النظام قبل الفرار، ويتم إدهاش وإذهال الناس بين يوم وآخر بالقبض على هذا المسؤول أو ذاك وتقديم هؤلاء الأدوات والجلادين كصورة نهائية للنظام أمام شعب مذعور ومبهور من قسوة الدكتاتورية ومن سقوطها الدراماتيكي، في حين تغرق الجماهير في ظلام داخلي مصنوع ومبرمج بعد وضعها في تحديات مصيرية تتعلق بصميم وجودها وليس كرامتها  فحسب كما في السابق، وحين يوضع الشعب في مناخ الذعر هذا، كما حصل بعد غزو العراق، تصبح الفكرة المحورية هي النجاة، وهو منطق غريزي دفاعي عضوي مشروع. إنها الطريقة العراقية في تأسيس النظام: شعب تحت الرعب والفراغ والحرائق والمصير المجهول ونخب سياسية تبحث وتعقد في غرف مغلقة صفقات وتسويات.

 

رهان أو احلام تكرار النموذج التونسي في دول عربية اخرى رهان صعب ويحتاج الى قراءة معمقة لطبيعة هذه النظم الحاكمة وقوانينها وعلاقة الجيش بالسلطة ليس لأن هذه الأنظمة تستعين بالجيش لسحق الناس في الشوارع حتى من اجل مطالب اقتصادية بسيطة فحسب، بل لأن بعض هذه الانظمة تتداخل مع القبيلة والطائفة والمال والدين والمراجع وقرابة الدم والعائلة، وفي لحظات الثورة تزج هذا الاحتياطي في المطحنة الأهلية تحت دعاوى مزيفة وليس كالدكتاتور التونسي المعزول إلا من سلطة أمنية تهاوت بسرعة. فمن قال ان الناس لم تمت عبر التاريخ من اجل شعارات ملفقة وزائفة؟ هذه الانظمة تتآكل وتتفسخ وتتعفن على مراحل وتتعرى وتتداعى في مواجهة خارجية أو داخلية، والخطر الأكبر ان فائض الثروة النفطية يغطي على كل مساوئ وعيوب وجرائم هذه النظم الفاسدة ويعطيها الوقت والفرصة والقوة للتغطية على جرائمها كما يمنحها كتلة واسعة من حلفاء أقوياء في العالم.

 

الثورة التونسية التي أقصت مفهوم قيادة النخبة السياسية من واجهة الشارع أول الأمر، وتعرضت للرصاص والموت والتحدي، لم يكن يخطر في بالها ان هذه النخبة هي نفسها التي ستقصيها من الواجهة في لحظة النصر وتلتف مع النظام الدكتاتوري في اعادة ترتيب البيت حسب مفاهيم نخبوية بعيدة عن احلام ولغة الناس كالشراكة والدستور والقانون وصندوق الانتخاب وفترة انتقالية والخ وهلم جرا.

 

لا يمكن هنا دمج كل النخبة الوطنية التونسية في منظومة واحدة، اذ هناك صوت يلعلع، وحيدا، ومنفردا، هو صوت الحزب الشيوعي العمالي التونسي بقيادته الباسلة وفي الطليعة السيد الهمامي وزوجته المناضلة في ان ما يجري في تونس هو سرقة ثورة، النقيض الواضح للحزب الشيوعي العراقي الذي يردد منذ الاحتلال، في منطق عريق بالتبرير وقلب الحقائق، إن أفضل طريقة لتحقيق الديمقراطية في العراق هي ضرب الفاتيكان بالصواريخ.

 

16/1/2011

www.alaazal.com

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالة للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا