<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن محاكم الأشباح

 

 

عزلة شلش:

 

الاكراه على الكلام جريمة كالاكراه على الصمت

 

 

حمزة الحسن

 

لا أحد يستطيع استعارة قلب الآخر لينوح أو يعشق أو يموت به، ولا أحد يمكنه أن يغني أو يصرخ أو يئن بحنجرة غيره، ولا أحد يستطيع استعارة دمع الآخر للبكاء او الفرح، ومن غير الممكن أن نقترض جسد الآخر لكي نقفز أو نرقص أو نموت، ولم يحدث أن حلم أحدنا وكالة عن غيره، أو احتضر بالانابة عن آخرين، لأن الدمع والقلب والصراخ والغناء والاحتضار والحب والكراهية والرقص والوجع ملكية شخصية كالدورة الدموية والنبض والشهوة والأمل والحنين.

 

من حق الكاتب شلش أن يحقد على وطنه أو يحبه أو يرفضه أو يهجره، فلا عقد بيننا وبينه أن يحب ويكره ويكتب وينوح كما نريد، وليس شلش الكاتب أو أي شلش آخر من أدوات تصليح المنزل نحمله في صندوق في الوقت الذي نريد، وليس هو أيضا ثور تزاوج نسوقه أمامنا في الوقت الذي نشاء ويكون هو مستعداً في كل الأحوال لاداء الدور نفسه، وليس هو مهرجا بالايجار لكي يقدم لنا العرض نفسه في كل المسارح والعروض والفصول بصرف النظر عن حالته النفسية والجسدية والفكرية والعاطفية وتجاربه الشخصية، وليس مسمارا في انتظار المطرقة لكي يدق على كل حائط، وليس هو أيضا جرس كنيسة: نحن هنا ندافع، فقط، عن حق شلش في أن يتكلم وعن حقه في أن يصمت، لأن الاكراه على الكلام كالاكراه على الصمت جريمة قانونية واخلاقية.

 

الذين يزعمون ان شلش يشتم الشعب العراقي، لا يعرفون بناء على عقلية انتهازية وسطحية وسيكوباتية وانزوائية، طبيعة العشاق حين يغضبون من حبهم، ويتناسون هم انفسهم ان شتم الشعب العراقي الوحيد والحقيقي هو المتاجرة بدمه وعرقه ومحنته وقبض المال من الشرق والغرب باسمه، والفارق بين غضب شلش على شعبه وحقدهم هم على شعبهم هو كالفارق بين غضب العاشق اليائس( قالها في النهاية انه يائس من هذا الحب) وغضب التاجر والانتهازي من نهاية الكوارث.

 

ليس الكاتب شلش أو اي كاتب آخر راقص تعرية يؤدي الوصلة التي نريد في الوقت الذي نريد ونضحك وننتشي في حين يذهب هو خلف المسرح لكي ينزف من السعال والوحدة والألم. ليس الكاتب شلش أو اي شلش آخر مبولة عمومية ندخلها عند الحاجة ونخرج منها عند الحاجة، وليس هو بورديل أو حديقة أو مزارا ندخله متى نشاء ونغادره متى نشاء، وليس هو بندقية معلقة على الجدران نستعملها في كل وقت ونركنها في كل وقت، وليس هو حفاظة اطفال تمتص دموعنا الوطنية والسياسية والتاريخية والحربية، وليس هو نشيدا وطنيا نعزفه متى نشاء وننساه متى نشاء.

 

الذين يتعاملون مع الكاتب من هذه الزوايا لا يعرفون الكاتب الحقيقي ولا علاقة لهم بالكتابة الا كعلاقة المعطف بالمشجب أو الحائط بالمسمار أو الجثة بالتابوت، علاقة سطحية بلا مشاعر ولا وفكر، وهم يعتقدون عن تصور معروف ان الكاتب اليوم هو حامل راية الوطن والمدافع عنه بالطريقة التقليدية القديمة، وهو بواق القبيلة شرا أو خيرا وهو دليل الثوار الى القصر، والسفن الى المرافئ، والجنازات الى المقبرة: ليس هذا هو شلش وليس هذا هو الكاتب الحقيقي.

 

أن يعلن الكاتب حقده على وطنه أو حبه له أو يأسه منه أو ضجره أو حزنه، هذه قضية شخصية تتعلق بالكاتب نفسه لأننا لسنا محطة وقود نعمل اربع وعشرين ساعة بالايقاع نفسه، ولسنا صيدلية خافرة مفتوحة طوال الليل ومستعدة للعمل، ولسنا مركز شرطة أو مقبرة مفتوحة للجميع، ولسنا شبابيك اضرحة جاهزة لتقديم البركات في كل وقت، أو غرفة انعاش لكل محتضر، أو ماء سبيل لكل شارب ، أو وليمة عامة، أو حائطا لبول السكارى، أو ثكنة عسكرية، او كنيسة: نحن من اجيال مختلفة، ومن ثقافات وقوميات وتجارب وعوائل وسلالات وراثية مختلفة، ومن الطبيعي ان تختلف ردود افعالنا ازاء الاحداث الكبرى والصغرى، لأننا لسنا جوقة تردد النشيد نفسه حسب الطلب ونعاني ونحب ونكره بطريقة متشابهة إلا اذا كنا عصابة أو مافيا أو حزباً شمولياً.

 

من حق شلش او اي شلش آخر أن يغضب أو يحب أو يكره هذا الوطن على طريقته ويعلن ذلك بوضوح طفل يرفض عرضا في الدخول في علاقة زور مع دمية أو حيوان أو في صداقة مفروضة أو حكاية مضجرة، ولكي يعلن ذلك فهو لا يحتاج الى مختار محلة يوقع على ذلك، ولا ضابط أمن المنطقة، ولا موافقة شيخ العشيرة، أو رئيس التحرير، أو جمهور القراء الذين يتفرجون على شلش وغيره عن بعد ولا يرون نزف وأحزان الصقور الجريحة العائدة الى الاعشاش في موتها الاخير أو في خيبة الحلم أو حلم الخيبة.

 

بكل براءة، بكل صدق، بكل نقاء، بكل وضوح، قال إنه تحرر من هذا المرض الذي هو الوطن ولم يعد يشغله ذلك وشرح الاسباب وهي كثيرة ومن بين هذه الاسباب ان الكتابة لم تعد كتابة بل صارت حالة دجل، والسياسة لم تعد سياسة بل صارت تجارة، وهذا الدين" المعاش" والممارس ليس دينا لكنه صار حفلة زور أو حفلة زار: فلماذا نصادر حق شلش في الغضب والجنون والتخلي ونعاقبه على كراهية هذا الوطن كما نعاقب جنديا هرب من ساحة حرب لا يؤمن بها؟ ثم من قال ان شلش شفي من مرض حب العراق؟ ألا يقول الاطفال والعشاق في لحظات الغضب واليأس: سنحرق العالم؟ مع ذلك لم يحترق عود ثقاب.

 

ثم ماذا فعل هذا الجمهور الذي ينتظر من شلش أن يغني أو يرقص أو يحتج أو ينزف كل الوقت وهو الجمهور نفسه الذي يمارس جريمة قتل شلش وغيره علنا وفي وضح النهار من دون أن يرفع صوتا أو اصبعا أو يعلن احتقاره في الأقل أمام انتهاك حياة الكتّاب؟ صحيح ان شلش يلبد في الظلام ويطلق النار هنا وهناك خلف اسم مستعار في حين يقف غيره في العلن والضوء بطول قامته من الدكتاتورية الى اليوم ويتلقى السهام والعواصف وصرخات الويل والثبور، لكن هذا الحصن لم يوفر له الأمان الكافي، وهذه العتمة التي يختفي خلفها لم توفر له مساحة حرية كافية للاستمرار، لأن كل ما كان يهمه هو أن يُقرأ بنظافة ويُفسر بنظافة والأهم من كل ذلك أن يُسمع بنظافة، وليس في هذا الحفل الصاخب من المزورين والنصابين والادعياء والقراء الصامتين والمتواطئين على جريمة اغتيال الكاتب الحقيقي بل التحريض بالصمت أحيانا وبالدعم المكشوف في بعض الأحيان على رمي المفرقعات تحت قدميه لكي لا أحد يسمعه، أو رميه بالزبل والتهم المرتجلة المصنعة على عجل وبصورة آلية لكي لا يغني، بل وتلويث عائلته وثلاثة اجيال من اجل ألا يقول كلمة في معركة هذا الوطن.

 

ماذا فعل هذا الجمهور المزيف الذي يحتج على شلش واحتج هو عليه حين اتهمه بالنفاق، على سبيل المثال فحسب، حين فتح أحد أشهر النصابين والمعتوهين والادعياء مواقع جنسية عنا وعن الزوجة وعن الطفلة وعن الجدة المتوفاة وعنا شخصيا وعلى مدى سنوات وبمئات التهم السوقية المرتجلة من مريض بالكذب القهري التسلطي نتاج عقدة الشعور بالدونية وفي مقالات منشورة أمام الجمهور المزيف نفسه من الكتبة الادعياء من دون أن يرفع أحد صوته محتجا أو خجلا أو استنكافا من هذه الدناءة خاصة ونحن في معركة تحرر وطني كبرى تقتضي التضامن والتسامي ورفع شأن الاخلاقي على السياسي، والنبل على الرياء؟ ماذا فعل هذا الجمهور؟ لم يفعل شيئاً عدا التفرج: بل ان هذا النموذج، وهو ايضا ظاهرة اخلاقية ثقافية سياسية على مر العصور، يكافأ بنشر مقالاته في أمكنة بارزة في بعض المنابر في نوع من التكريم وللاستمرارية، في حين ان مثل هذا الامر لا يمكن أن يحدث في دول عربية ولا نقول غربية لأن الاساءة الاخلاقية المستمرة بهذا الرخص والسهولة والمجانية لا تعكس انهيارا اخلاقيا مروعا لهذا النصاب أو غيره فحسب، بل تعكس ايضا الانهيار الاخلاقي لشريحة واسعة من الجمهور العام، والطريف في الأمر ان هذا النصّاب وبعد كل حملة سوقية على ثلاثة اجيال من عائلة واحدة، يروح ينصب خيمة عزاء لهذا الامام أو ذاك لمناسبة وفاته أو جرحه، للتغطية وكقنابل دخان على جرائمه،، في نوع من الستربتيز الذي يستحقه هذا الجمهور ويستحق أكثر منه. هذا الصنف الذي يمارس احتقاره للجمهور ببيعه بضاعة مغشوشة( والنص في علم اللسانيات يسمى سلعة) يعرف جيدا نوعية هذا الجمهور.ألم يقل الدكتاتور إنه فخور بمعرفة هذا الشعب أكثر من كل علماء النفس؟ هذا الشعب لا يحتاج الى عباقرة لاختراقه بل يحتاج الى نصابين.

 

من حق شلش أن يكره أو يحب هذا الوطن ويعتزل الكتابة لأن الكتابة الحقيقية كالنشوة والمتعة والألم والغضب والجنون والاحتضار والموسيقى والأنين مسألة خاصة جداً، والكاتب الحقيقي ليس قرداً مدربا على الرقص في كل الحفلات، وليس مهرجاً مستعدا لتقديم العروض في كل الاوقات، وليس كلب حراسة ينبح أمام باب الدار في كل الأوقات، والذين يريدون من شلش ومن غيره أن يصبح جواد سباق في ساحات الخيل لا يعرفون، أيضا، على قول شاعر عربي، أحزان الخيول العائدة من ميادين السباق أو يشاهدون دموعها النازفة في الليل في الاسطبلات وهي تتذكر صراخ الجمهور المحتفل والمبتهج.

 

علاقة شلش بهذا الوطن مثل كل علاقة حب خائبة: هذا الطفل البريء الذي كان يبتهج ويصرخ ويحتفل ويغضب من أجل الوطن، من أجل هذا الحب، اكتشف، على طريقته الخاصة، ان هذا الوطن محاط ومسيج ومحاصر بالادعياء والنصابين والانتهازيين والانذال الذين وجدوا في السياسة والكتابة مرتعا، فأعلن بصراحة كراهيته لهذا الحب وانه شفي من هذا المرض. ماذا جرى لكي نحاسبه على هذه الصدمة؟ لم يتحمل أن يكون عازفا في جوقة مزورة، ولا مبخرا في مأتم عام، بل اعلن بكل جرأة الاطفال الكبار انسحابه من هذا الحب القاسي الفاشل مثل كل عشاق التاريخ: شلش قرر أن يغادر المسرح الضاج بالمهرجين ويدير ظهره الى الحفل ويترك المكان بكل هدوء مثل أي عاشق مصدوم يرى حبه، راقصاً، في حفل زور علني ومفتوح، وبكل اختصار قرر أن يصمت عن هذا الحب وعن الكتابة ، وأن يعيش خيبته بصمت العوسج وجرأة الصبّار في وجه الريح، وغضب الاطفال حين يكتشفون بشاعة الدمى التي عشقوها.

www.alaazal.com

hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالة للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا