%@ Language=JavaScript %>
الثورة ولدت من رحم الحداثة
حمزة الحسن
"لا شيء أصعب من تجنب خداع الذات"
ـ الفيلسوف النمساوي: لودفيغ فيتغنشتاين
ليس للفكر العربي الراهن ولا للثقافة العربية السائدة أي فضل في الثورتين التونسية والمصرية لأنهما ولدتا من رحم الحداثة الغربية، أفكاراً وتقنيات، شعارات وسلوكا، لأن الفكر العربي، عدا نماذج محصورة ومذمومة وممنوعة، أي لم تتحول في الوعي العام الى سلوك ولم تهضم كمحفزات ومنشطات يقظة، لم يقم بمراجعة تؤدي الى قطيعة بنيوية مع الماضي، ولأنه فكر سياسي مسطح، لا يصلح كفكر مؤسسي منفتح على الحرية والحياة والشغف والعلم والمغامرة. من حسن هذا الجيل الحداثي الجديد انه كان على مسافة بعيدة من أطنان الخطابات السياسية المكررة، وإلا لتحول الى جيل تأملي عصابي ذاهل في حين يتحول جسده الى ميدان رمي أو الى وليمة لحشرات السجون وعذابات المنافي.
تقنيات الثورة العربية الجديدة من منتجات الحداثة الغربية، وشعاراتها قائمة على مبادئ الثورات الانسانية كفكرة الديمقراطية المجردة بلا ايديولوجيا مسبقة او سرديات تفسيرية نمطية كبرى للحياة والتاريخ، وتوزيع الثروة بلا شروط، والاخاء الديني والعرقي والمذهبي بلا تصنيفات او اختزال، وقيادة السلطة بلا مخطط مفروض ونسق مسبق سوى القانون والتعددية وبرامج الصحة والخدمات والتعليم والحقوق والواجبات بلا لاهوت منسوخ، والتقنيات هي الفيسبوك والتويتر والكاميرا والفضائيات والخلوي والصورة والاغنية والخ: من دون خطاب نقدي ضد الاجيال، خرج هؤلاء الشباب الى الشوارع بوسائل ومواعيد وشعارات خاصة. ألا يعني ذلك احتجاجاً واحتقاراً لخطاب سياسي تقليدي اجتراري لم ينتج غير الخراب؟
الجيل نفسه الذي قام بالثورة هنا وهناك ينتمي وعيا وثقافة وفكرا وتقنية الى الحداثة الغربية بعد هزيمة الجيل السياسي التقليدي فكريا وسياسيا وعجزه عن طرح نفسه كبديل عصري حداثي عن النظم القائمة، بل ان الجيل التقليدي يحمل ملوثات وصبغات هذه الانظمة بعد أن تقمص أساليب عملها وصار ضيفا عليها في السجون أو التفاوض أو الصراع كضيافة ضحية لجلاد يكون الحوار المشترك بينهما قصة ثأرية ونكبة واذلالاً.
ليست هذه الضيافة بالمعنى التقليدي كهوية جديدة واكتشاف آخر وتعرف على الذات وطراز حياتها، ومغامرة تقرّب ومقارنة، واحترام المسافة، لأن هذه الأنظمة تفرض على "الضيوف" اخلاق السجن في التخلي عن التجربة وعن الولع بالحياة وحرية الفرح والمكاشفة والبوح والمسرة مثل أي ضيافة كريهة في بيت جلاد مقنّع يريد من الآخر تطابقاً وخلعاً للذات والتخلي عن هويته العريقة المكتسبة والتنازل والاكراه عن وجوده والانتماء الفوري الى وجود بديل يكون الانصهار فيه نفاقاً ومحواً، ولا يكون الاختلاف فيه نشوةً وتطوراً واكتشافاً بل يكون مسخاً ونفياً والغاءً، وفي هذه الحالة يكون الحرمان بديلاً عن التفتح والبهجة والاقتراب، والعوق بديلاً عن العافية، والكآبة بديلاً عن الانشراح، لأن الهويات والانتماءات والافكار المغلقة، أنظمة أم أفراداً، هي أنفاق صرف للمياه الآسنة مغلقة على وجود كريه ومنفر ومعتم.
حين حاولت الاحزاب التقليدية في تونس ومصر التفاوض مع النظام الحاكم، أوشكت على تدمير الثورة لأن نظم الحكم هذه خبيرة في هذه الاحزاب ونواياها وهي لا تتجاوز السلطة السياسية وليس التغيير الجذري القائم على تفكيك البنى المعرفية والثقافية والاقتصادية وغيرها. فلماذا لا نكف عن حكاية التفسيرات الكونية المرهِقة والمتقعِرة والمتحذلِقة لكل الظواهر ذات التركيبة الخاصة حتى لو تعلق الامر في تقشير البصل أو اضراب عمالي أو فكرة؟
انتماء هذه الثورات للحداثة الغربية ليس خطأ أو تجاوزاً أو نقصاً بل على العكس كان تناغماً وتجاوباً وتجذراً في الجذور الانسانية الحية والمشعة والأصلية، وهي أيضا محاولة لاختصار الطريق نحو الحرية دون الحاجة الى الدخول في رطانة التنظيرات السياسية البائسة، واذا كان الجيل الجديد لا يعرف الكثير من حسن الحظ عن الفكر السياسي العربي الا عجزه وتكراره للحداثة الغربية بعد تشويه الأصل، فلقد عاد هذا الجيل الى الأصول العميقة لهذا الفكر الحداثي المنفتح على الولع والشغف والمرح والعلم والبهجة والبساطة ولا يتعارض مع الموسيقى والحب والضحك والعفوية والفردية، ولا يؤمن بالنموذج الجاهز والنسق المسبق، لأن الحرية صناعة وخلق وابداع، والنموذج عودة الى صورة ميتة، والجماهير فيه ليست كتلة صماء متلقية ولا تكون الغاءً للذات ولكنها درب اكتشاف لها وعامل اشراق وولادة، في حين أهدر الفكر السياسي العربي التقليدي الطاقة البشرية في دهاليز لا تقود إلا الى السجون والليل وترسيخ الدكتاتورية أو الهبوط على السلطة بمظلة احتلال.
14/2/2011
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
|
لا للأحتلال |
|
---|
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|