<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن الركض وراء السراب

 

 

الركض وراء السراب

 

 

 

حمزة الحسن

التراشق الذي دار بين طارق عزيز وبين وطبان في المحكمة حين وصف وطبان طارق عزيز بالانتهازي ومهندس الخراب، في حين رد عليه الاخر بأنك لست أكثر من سكير ومتسكع وسالخ جلود( ألم يكن يسلخ باسم نظام سلخ شارك عزيز في قيادته؟) هو الحوار نفسه الذي دار بين الدكتاتور، على منصة الاعدام، وبين خصومه، وهو الحوار نفسه بين الزعيم النجيب عبد الكريم قاسم وبين قتلته قبل لحظات من الاعدام، وهو الحوار نفسه الذي دار بين أحزاب المؤسسة الحاكمة اليوم قبل وبعد الانتخابات وحتى الآن، وهو الحوار العراقي نفسه الذي يدور بين نخب السياسة والاحزاب والكتابة واهل القلم من كل الاطياف.

 

هناك نزوع عراقي نخبوي على الهروب الى الأمام والركض وراء السراب وتنزيه النفس وشيطنة الآخر، لأن هذه الشيطنة ضرورية للخداع الذاتي وللتبرئة ولخلق صورة ملائكية عن ذات تعاني من شرخ عميق مخفي، وللتوازن أيضا حتى لو تمت على حساب قضايا كبرى تمس حياة وشرف وكرامة وأمن الناس، وبجانب النزعة الهروبية وهي شكل من أشكال الاحتيال والتحذلق واللعب بالكلمات، هناك نزعة لا تقل خطراً، بل هي جوهر هذا الحوار المراوغ والماكر والكاذب وهي: ليست هناك نية لتوصيف الأزمة العراقية منذ أكثر من نصف قرن ان لم يكن أكثر.

 

أن يكون وطبان قد اعتذر عن جرائم، وان يكون، حسب منطق طارق عزيز، سكيرا ومتسكعا وغير ذلك( السكير افضل من منظِّر الخراب) هو تبرئة من عزيز للرجل من دون أن يشعر أو يريد: ما الذي يدفع وطبان شقيق الرئيس ووزير داخلية بصلاحيات شبه مطلقة الى السكر والتسكع لو لم يكن يعاني من أزمة نفسية عميقة في قصور رومانسية اسطورية وفي ظل نظام حكم عائلي وحشي مطلق؟ وبصرف النظر عن طبيعة هذه الأزمة النفسية وطريقتنا في التعامل معها لكنها على أية حال أزمة تتعلق بالحكم ورجاله وطريقتهم في التعاطي مع السلطة كملكية وعقار وحيازة.

 

حين يكون طارق عزيز انتهازيا ومهندس خراب، وهي وجهة نظر لا تخص وطبان وحده، فليس ذلك هو الوصف الصحيح والنهائي لأزمة الحكم المستمرة في العراق، على دقته الجزئية في مرحلة ما، لأن المأزق(والمأزق حلقة دائرية أو دوامة لا مخرج منها عكس تعبير الأزمة التي تكون قابلة للكسر) أبعد من انتهازية هذا ومن تسكع ذاك وكاولية غيره. صحيح ان الدكتاتور قال مرة في جلسة خاصة مع بعض قيادييه إن العراق صار يحكم من قبل الكاولية في تلميح لنزوع بدائي متخلف لدى الكثير من زمر الحكم يومذاك، لكن القصر الرئاسي كان هو من يحكم قبضته على البلاد وهو من كان يدفع هؤلاء الى هذا الهوس اللذائذي، وكان هؤلاء يجدون في ذلك أمناً وتزكية وملاذاً من تهمة الطموحات السياسية المهلكة، في حين اختار بعضهم تكايا الدروشة لترك الانطباع نفسه، وأما من لجأ الى الثقافة والمعرفة والبحث والاسئلة فكان مصيره الموت أو الاغتيال لأن الشاحنة هي واحدة من فرق الرئيس السرية وذراعه الطويلة في حل قضايا الطموح السياسي والاشتباه والصراع المنذر بخطر وشيك: لماذا لم يتذكر عزيز جلود العراقيين الا عند السلخ؟

 

حين لا يصلح وطبان، حسب وصف عزيز، للرعي في الغنم، فإن عزيزاً نفسه لا يصلح لهذه المهنة الشريفة أيضا، كما لا يصلح قتلة الزعيم قاسم للعمل في مشروع دواجن وليس في مشروع بناء جمهورية ودولة ومستقبل، وبعض الذين حضروا حفل اعدام الدكتاتور لا يصلحون بدورهم الا لدور حارس في مسلخ بشري: ليست هذه هي المشكلة الحقيقية وليس هذا هو التوصيف الحقيقي للأزمة السياسية العراقية المستمرة. هذه الطريقة في تعاطي هؤلاء القادة أو من يسمون على هذا النحو، وبهذا المستوى المخزي، وهذه اللغة، وهذا الوصف لمأزق سياسي عريق وعميق وشرخ معرفي بعيد الجذور، هو شكل المأزق الظاهر، السطح، الفقاعات التي تطلع من قاع البحيرة ولكنها ليست القاع: القاع في مكان آخر.

 

التوصيف الحقيقي للأزمة هو: شرخ معرفي وعقلية عقارية استحواذية وتاريخ مغلق وثقافة مسدودة تعاني من عطب بنيوي وغياب شبه كلي للفكر المعرفي في السلطة وخارجها ودوران سياسي، وفهم مغلوط للسياسة على انها الشطارة والحيلة وليست الخيارات الابهى والارقى للناس، ومفاهيم اجرامية تم ترحيلها الى مستوى التعاطي السياسي المقدس كالعنف الثوري وقوى الثورة المضادة والقيادة الثورية والاعداء الجذريين واصحاب النوايا السود والمبادرة الثورية والطليعة القائدة وأعداء الحزب والثورة والرفيق القائد والمنهاج والحتمية ومن في قلوبهم بقع سود ومن عليه علامة استفهام مزمنة وضعت من قبل حزبي أثول وأمي... والخ وهلم جرا.

 

من المؤسف ان نقول ومن باب التذكير بحقيقة أريد لها أن تكون منسية وتواضعنا يشارك في هذا الجهد القذر، ان روايتنا( سنوات الحريق) الصادرة عام 2000 قد تحدثت بالتفصيل عن أوضاع كثيرة من هذا النوع وفتحت النار على ما كان يعتبر في الثقافة الحزبية السائدة المعارضة محرمات ومقدسات لا تمس، وللتغطية على تلك الرواية ولكي لا تقع في يد المغفلين والمستغفلين والسذج واصحاب النوايا الطيبة، اندلعت عاصفة مبتذلة لم يكن الهدف منها سوى تعميق الكذب والاستغفال والتضليل والمتاجرة بدماء الابرياء من اجل مكاسب حزبية رخيصة لم يحصلوا عليها في النهاية.

 

هذه المفاهيم السياسية التي تمت (أسلمتها) اليوم وتطبيقها على نحو اخر مع حضور كلي للمأزق الذي حاولنا الاقتراب من وصفه سابقا، هي التي تمنح الجريمة السياسية طابع القانون والعمل الثوري السياسي المشروع، لذلك لا نعجب مثلا حين يتهم قتلة الزعيم عبد الكريم قاسم بالانفراد، وهو على حائط الموت، من دون مناقشة طبيعة تلك السلطة وشكلها وشرعيتها الحقيقية ومؤسساتها، وحين يتهم حضور حفل الاعدام الدكتاتور بالتهمة نفسها، وحين اعلن على حسين المجيد في وصيته الاخيرة صراحة في أن بعض قادة الحزب هم من صنف الجبناء والانتهازيين ولا يصلحون لدور القيادة كما لو كان هو من يصلح لهذا الدور، وحين يتهم وطبان طارق عزيز بالانتهازية ويصفه الاخير بالسكير المتسكع، ولا يختلف الحوار اليوم على المنابر بين الضحايا واشباه الضحايا أو بين الجلادين انفسهم عن هذا الهروب والركض وراء السراب والقاء المأزق على الاخرين وشيطنتهم ورسم صورة وردية لذات تعاني أصلا من عطب بنيوي جوهري.

 

السياسي في مؤسسة الحكم غير قادر ـ اذا كان واعياً لوجود مأزق معرفي أصلاً ـ على توصيف حقيقي معرفي وثقافي للمأزق لأنه يعيشه بل يتغذى منه، ولا المثقف السياسي قادر على هذه المهمة لأنه بين منخرط في مشروع سلطة حاكمة وبين من هو منخرط في مشروع معارضتها: في الحالتين لا يستطيع هؤلاء القيام بوصف طبيعة وجوهر المأزق لأنهم في وضعيات متقابلة متعادية متحازبة متربصة، وطبيعة هذا النوع من المواجهات لا تنتج معرفة بديلة بل تفتح سجوناً. المعرفة تخاطب وتنتج من خلال حوار مع معرفة مضادة وتاريخ الفكر والفلسفة هو تاريخ حوار وخطابات في وضعيات مختلفة: الخطاب الماركسي أُنتج خلال حوار مع الخطاب الهيغلي، علوم الاحياء الحديثة في حوار مع دارون، اريك فروم في مواجهة فرويد، المسيح في مواجهة هيرودس، جاك ديريدا في مواجهة الفلسفة الغربية كلها، فوكو في حوار مثير وشجاع ومعرفي مع فكر النهضة والمركزية الغربية وتماسك الخطاب، خطاب لوكاش النقدي في مواجهة الخطاب النقدي المتحزب الشعاراتي، خطاب السيدة زينب في قصر الخلافة بعد الفاجعة بحضور يزيد كان خطاب الثورة في مواجهة خطاب السلطة، خطاب العدالة في مواجهة خطاب الجريمة، الخطاب النازي العرقي في مواجهة عصر التنوير والثورة الفرنسية ومبادئ حقوق الانسان ...الخ: اين هي هذه المقابلات في التاريخ العراقي الحديث التي يمكن أن تنتج معرفة وفلسفة؟ خطاب طارق عزيز الخمري الكاولي في مواجهة خطاب وطبان عن الانتهازي، خطاب الزعيم قاسم في مواجهة شتائم طه الشكرجي، بذاءات برزان الشقيق في مواجهة صراخ القاضي، علاوي في مواجهة المالكي، نيوشيروان مصطفى في مواجهة الطالباني... الخ.

 

هذه هي وضعيات خطابات تاريخية منتجة وغيرها الكثير في توصيف جوهر المأزق أو الأزمة أو المعضلة أو المشكلة حسب المراحل والظروف، لكن في الحالة العراقية حين يقوم سياسيون صغار في تحويل ووصف مأزق التاريخ والسلطة والحكم واختزاله بالسكر والتسكع والكاولية والنساء أو بالتفرد والدكتاتورية وتغييب البيئة والحاضنة والظروف ونوعية الثقافة السائدة المساندة، حين يتم الوصف بهذه الطرق الصبيانية الأمية، فليس هذا سوى قمة جبل الجليد الذي يخفي الكثير في الاعماق المطمورة: الأكثر سوءاً من هذا الوصف البليد والسطحي والاجوف للمآزق الكبرى، هو تقبل الجمهور العام، بل نخب الكتابة، لهذه التوصيفات الممزقة المخجلة على انها نوع من الاعتراف النهائي الذي يبلسم الجروح ويحل الأزمات ويفتح الطريق نحو أفق جديد.

 

لكن لماذا يتم قبول هذا الوصف على انه الوصف الصحيح والنهائي لجوهر مأزق الحكم المستمر من قبل نخب الكتابة وأهل القلم ومن على هوامشهم؟ لأن هذه النخب ليست بعيدة عن المأزق نفسه بل هي شريك فيه حين ظلت تدور في فلك التوصيفات السياسية السطحية، وحين لم تبحث عن توصيف معرفي حقيقي خارج هذه الامكنة المزورة، وحين صارت تقوم بدور المعلق على مباراة الشتم والشيطنة وخطابات التبرئة، وحين صارت بوعي او بلا وعي جزءا من خطاب سياسي ملفق هامشي صبياني بالضد أو مع هذه الخطابات التي اذا لم تكن ملفقة عن عمد فهي تعكس طبيعة عقلية رجال الحكم في العراق خلال القرن الأخير وكيف ضاعت دماء الناس، هدراً.

 

خطاب وصف المأزق المعرفي لا مكان له في هذه المذبحة السياسية، واذا وجد هنا وهناك على شكل شذرات ونتف ومحاولات جريئة، فإن هذا الخطاب إما يضيع في الضجة والازدحام والجعير العام، خاصة وان الحوار لم يعد كما في السابق بين محترفين بصرف النظر عن مواقفهم السياسية لأنهم رغم ذلك حافظوا على مستوى اخلاقي في تقاليد الحوار السياسي والثقافي، وإما يتم دمجه في مخطط ارتيابي لمصادرته، لأنه الخطاب الوحيد الذي يخلخل ويزعزع ثوابت السلطة في كل مكان وزمان ويعرضها عارية على الجمهور العام: إن كلام طارق عزيز عن السكر والتسكع ورعي الغنم وغيره هو كلام يتكرر كل لحظة على منابر وأمكنة كثيرة بصيغ مختلفة ولكنها هي نفسها في الجوهر: الهروب من وصف مأزق السلطة والحرية والثقافة الى السكر، الى الغنم، الى الكاولية، الى الجنون، الى النسوان، الى الدكتاتور وحده، لأن هذا الوطن لا يتحمل تعايش ايديولوجيات، وتعايش افكار مختلفة، وتجاور عصابات في محلة واحدة، عكس كل عصور التاريخ من تعدد الآلهة في معابد بابل الى تعدد المزارات والأضرحة والأديان قبل زمن العنف الثوري والطبقي والعدو الجذري، وليس سبب ذلك في وجود عطب معرفي وشرخ عميق في ثقافة مغلقة كما يقول بعض الحكماء، بل السبب في ذلك،كما سنسمع في محاكم قادمة، هو أغنية بدوية تقول:" حمدة زعلانة وما تلبسك يا لباس...ياوللّوووو".

 hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالة للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا