<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن محاكم الأشباح
 

 

محاكم الأشباح

 

  

منحوتة الفنان مكي حسين

 

 حمزة الحسن

 

في الايام الثلاثة الماضية صدرت قائمتان: الاولى قائمة عن  مشروع برلمان ثقافي والثانية قائمة اغتيالات، والمفارقة ان نصف اعضاء قائمة البرلمان الثقافي المقترح مرشحون للاغتيال في القائمة الثانية بما في ذلك الموتى ولا ادري ما هو مبرر تكرار تهديد الموتى بالقتل وهذه البلادة الاستخبارية للمشرِّع للاغتيال أو قد يكون الامر مقصودا لارعاب الاحياء على اساس ان احدا لن ينجو بجلده حتى لو شبع موتاً وعقاباً وحساباً في الحياة الأخرى أو اي حياة في عالم آخر لأن العقاب العراقي لا علاقة له بكل الاديان والاعراف والتجارب والعوالم: في الوقت الذي يعتبر اصحاب برلمان الثقافة بعض مثقفيهم اصحاب منجز ثقافي، يعتبرهم بيان قائمة الاغتيالات مجرمين ـ هي واحدة من صور الصراع الاهلي بدأ يزحف نحو حقل الادب والثقافة بعد ان تم تدمير كل البنى.

 

قائمة الاغتيال تهدد هؤلاء بالموت من دون محاكمة لأن المشرع العراقي لهذا النوع من المحاكم ليس عنده الوقت الكافي للفحص والتدقيق والنظر في القوانين والجرائم والملفات، والزمن للتنفيذ، وأما المشرع في البرلمان الثقافي المقترح فهو الاخر قام بما يشبه المجزرة الثقافية حين صنف الكتاب والمثقفين والمطربين بين (صاحب منجز ثقافي) وبين من لا يملك هذا المنجز، كما لو ان طوابير المثقفين والشعراء والكتاب من النساء والرجال الذين عبروا الحدود أو خاض بعضهم حربا مسلحة في الجبال وكتبوا في المنافي أو في السجون وحتى في منازلهم في الوطن، كما لو ان هؤلاء خرجوا من الوطن للبحث عن القمل ورعي الابقار الهولندية او ضاعوا في الطريق أو عاشروا الجنيات.

 

لا تصلح المقارنة بين مشرِّع للاغتيال ومشرع للثقافة ولكن بصرف النظر عن هذه القضية قد يكون في بعض الحالات التشريع الثقافي أخطر بكثير من التشريع للاغتيال، واذا كان الاغتيال يطال الاجساد، فإن الاغتيال الثقافي يطال النفوس والارواح والضمائر والثقافة نفسها، وليس الجميع من مثقفين وغيرهم قادرين على هضم المواقف وفرزها وتحليل الدوافع وربما يقود هذا بعض الكتاب الوطنيين الى مشاعر الاحباط والالم كما لمسنا في بعض الردود، وفي الجانب الاخر قد يضخم التقييم المرتجل الى ان يتوهم ضفدع منسي في سبخة على وشك الهلاك الى انه صار شاهيناً، فيبرق مهللاً وشاكراً ومادحاً ومباركاً لمن نفخ فيه الروح وصار مذكوراً من ذوي المنجز الثقافي او الاجنحة القابلة للطيران مع انه مجهول حتى بالنسبة لزبال المنطقة.

 

المنجز الثقافي والسياسي والتجاري والعقاري والاقتصادي والشعري والنقدي لا يحتاج اليوم الى مشقة وجهد وعناء البحث والسهر والارق والبحلقة وتأمل الحيطان الا في حالات نادرة ومن فرقة ناجية من العاهة والتشوه تتعامل مع المنجز الثقافي كما يتعامل الموسيقي مع موسيقاه والعاشق مع حلمه والرسام مع لوحته والبدوي التائه في الصحراء مع النجوم حيث يكون الانجاز الادبي كالانجاز العاطفي،كمشهد غروب بحري، أو موسيقى تنبثق، همساً، من الرمل والمرمر والنعاس وعيون الاطفال قبل النوم: حين لا يكون المنجز متعة لا يكون اصالة، وحين لا يكون مشقة، يكون حيلة، وحين يصل المنجز الابداعي للاخرين ويصبح جزءاً من العاطفة والوجدان والخيال والذاكرة والهوية، يكون الهدف الثقافي النبيل قد تحقق من دون حاجة الى مشرعين ومصنفين لأن هذا النوع من التصنيف هو قرصنة وقفز من فوق ملكية خاصة كما يقفز شخص من فوق جدران عقار خاص جدا.

 

قائمة الاغتيال قررت اطلاق النار على حشد كبير من المثقفين دونما تمييز بين بريء ومتورط، بين عابر سبيل وبين مثقف سلطوي مؤسس ومحترف وصاحب مشروع سلطة، بين من يده في الماء ومن يده في النار، بين من خرج يحمل شهادة التلقيح ضد الجدري وبين من خرج يحمل شهادة دكتوارة في جامعة مغلقة، سياسياً، بين من فر بجلده في اول فرصة وبين من فر بالدخل القومي في اول فرصة، وأما قائمة المشروع الثقافي فكانت اكثر عقلانية وتريثا لانها اختزلت حشدا كبيرا من المثقفين ايضا  لكن مع التمييز بين من هو صاحب منجز ثقافي وبين من هو عربنجي ومدلك حمام وبروليتاري رث الشكل والملابس والمهنة والاسم ومن ليس عنده ملابس لائقة يقف بها حتى أمام مفرزة الاعدام.

 

في الحالتين هناك تصفية: يرى مثقفون انهم غير قادرين على العيش بلا دور أو حين يصادر منجزهم من قبل اشباح أو يُعتدى عليه بكل هذه المجانية والاريحية والارتجال والقسوة رغم التغطية الواهية. في الحالتين نحن أمام محكمة كافكوية من قبل اشباح. في الحالتين نحن أمام سلطة ملثمين لا يؤمنون ولا يثقون بقراراتهم وقضية مجهولة وقرارت تصدر من وراء الاقنعة. في الحالتين هناك تهمة محددة: في قائمة الاغتيال السياسي تهمة علنية هي العمل مع النظام السابق. في قائمة البرلمان الثقافي يقوم تصنيف المثقفين ليس على اساس المنجز الثقافي المزعوم بل على اساس تهمة غير مصرح بها هي معاداة الاحتلال والعملية السياسية ولا يذكر ذلك في البيان كما لو ان المليون ونصف عراقي الذين قتلوا تاهوا على ساحل مشمس أو طمرتهم عاصفة ترابية في رحلة صيد كجيش قمبيز المختفي منذ القرن الخامس قبل الميلاد.

 

من تقاليد الحزب الشيوعي البريمري العريقة والمزمنة التي حلّت محل الايديولوجيا الثورية والاشتراكية والماركسية (التي لم يقرأوها) والتنمية والفلسفة والفكر والسيادة الوطنية ان المختلف معهم يجب أن يكون واحداً من اثنين إما انه منحرف وشاذ جنسياً، أو انه عميل لنظام ما، حتى ان مناضلا شيوعيا منشقاً منفياً أعد دراسة يوما عن هذا الموضوع وخلص الى نتيحة:" لو أحصينا عدد الرفاق  ـ والرفيقات ـ الذين اتهمهم الحزب بالشذوذ الجنسي بناء على مواقف سياسية مختلفة، لصار في وسعنا القول بناء على ذلك إن هذا الحزب هو حزب المنحرفين" كما لو أن عمل حزب شيوعي مع محتل ليس أسوأ أنواع الانحراف ، هؤلاء من شدة الكمال الفكري والوطني والمعرفي والسلوكي لا يختلف معهم الا من كان غير طبيعي وغير وطني وغير بشري وغير سوي لأنهم الكمال المطلق في مواجهة النقص المطلق، وحين اسقط وعي الناس ويقظتهم هذه الثنائية الرذيلة، ولدت، كالفئران، ثنائيات جديدة وهي (مع) أو( ضد) التحرير، ثم مع أو ضد الارهاب، ضد التدخين، ضد حبوب منع الحمل، ضد السرد، ضد السكرتير العام، ضد أو مع البرنامج الحزبي، مع العملية السياسية، مع الافتتاحية، ضد او مع الفرقة الوطنية الموسيقية، مع أو ضد حبوب الكبسلة، ضد التيار، ضد التاريخ، ضد الطبقة الخ: هذه الثنائيات انتقلت بالعدوى او التلقين والتكرار الى وعي بعض النخب المثقفة، عن وعي لجوهرها غير الأخلاقي الصبياني او من دون وعي، حتى وصلنا الى هذه الثنائية الجديدة: المثقف صاحب المنجز الثقافي والمثقف اللامنجز له ولا ندري على ماذا سنستيقظ غدا، لأن جذور الفكر المانوي ولدت "هنا" منذ اول ديك صاح على الارض.

 

لا يمكن انكار اننا جميعا نصاب في فترة من فترات حياتنا وتجاربنا بهذا النوع من هوس المشاريع ولاسباب كثيرة قد يكون أكثرها حسن ظن هو ضيق النفس بواقع الحال والضيم والعذاب والانهاك، وانا بنفسي كنت قد اقترحت قبل عشرين سنة في طهران، في جلسة خمر، القيام بانقلاب مسلح ضد النظام مع انني لا استطيع تحريك شرطي مرور من مربع وقوفه في ساحة عامة ـ قبل ان يقترح جهاز المخابرات البريطاني وتحديدا فرقة "جنود الشفق والغسق " التي قامت بتدريب الحماية الرئاسية الخاصة، على النظام السابق برفع موقف شرطي المرور او الساحة الوسطية المدورة الصغيرة لكي لا تستغل كنقطة اغتيال. لكن بعد كل التجارب المهلكة والحروب والفشل والانهيارات الوطنية المستمرة يصبح استمرار هذا الهوس المشاريعي نوعا من التدمير والتفكيك لما تبقى من عناصر حية ويقظة ومشرقة في حياتنا: خارج هذه القضية المطروحة، قد يكون هذا هو أحد أهداف هذه المشاريع خاصة في هذا الصراع الاهلي العاتي والبلبلة العامة والفوضى العاصفة والانقسام الكلي وفشل بل انهيار انبل الشعارات والمشاريع والقيم والعقائد والافكار والمبادئ من القومية الى الاشتراكية والثورية والوطنية والحرية والديمقراطية والعدالة والوحدة والسرجين... والخ.

 

لا يتحمل الوضع العراقي اليوم هذا النوع من الاختزال والتصنيف والانتقائية والنزعة المشاريعية وبهذه الصورة الغامضة والملثمة بصرف النظر عن الشكوكية وافكار سوء الظن ونزعات الشك التي هي نتاج تجربة طويلة لهذا الشعب ونخبه الادبية والثقافية من تجارب وويلات وحكومات ومشاريع سابقة انتهت كلها الى دمار غير مسبوق في تاريخ الشعوب. المدهش حقا في المشروع الثقافي الجديد هو نزعة الشراسة والردود الفورية لدى اللجنة المختصة كما لو ان هؤلاء يريدون من المثقفين الصمت والسكوت والغاء النقاش في قضايا حساسة تتم باسمهم وفي موضوع مصيري وثقافي حيوي ومستقبلي وهو تشنج غريب من برلمانيين مثقفين معروضين كبديل عن برلمانيين سياسيين( الغريب ان الاخيرين لا يردون على كل الشتائم والتهم) أو ان هؤلاء يعتقدون بناء على نوايا طيبة واضحة عندهم أن تتم الموافقة، حالاً، على مشروع من هذا النوع.

 

ينسى هؤلاء ان القرآن الكريم نزل قبل اربعة عشر قرناً ولم نصبح مع ذلك مسلمين حقيقيين( فكيف ببيان صادر من ملثمين؟) رغم القرون  والحروب والفلقات وعصي المعلمين والفرق الدينية المتطرفة والصرائف والاكواخ قبل زمن الفضائيات والانترنت وسمل العيون والتعليق على الاشجار والحرق بالنار والغرف المغلقة والضرب على القفا والاصابع والجلد وغلق النوادي والمراقص في المدن المقدسة والمحاكم والمدارس في مراحلها والتقاليد والتلقين والتحذير من الشياطين والنار والافاعي يوم الحساب: مع كل ذلك كنا نمر من امام الجوامع المغلقة مرور الكرام لكننا نعوي كالذئاب الجريحة حين تغلق الحانات.

hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالة للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا